کتابخانه تفاسیر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 106
إِنْ تُبْدُوا خَيْراً طاعة وبرا. أَوْ تُخْفُوهُ أو تفعلوه سرا. أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ لكم المؤاخذة عليه، و هو المقصود و ذكر إبداء الخير و إخفائه تشبيب له، و لذلك رتب عليه قوله. فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً أي يكثر العفو عن العصاة مع كمال قدرته على الانتقام فأنتم أولى بذلك، و هو حث للمظلوم على العفو بعد ما رخص له في الانتظار حملا على مكارم الأخلاق.
[سورة النساء (4): الآيات 150 الى 151]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَ رُسُلِهِ بأن يؤمنوا باللّه و يكفروا برسله.
وَ يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَ نَكْفُرُ بِبَعْضٍ نؤمن ببعض الأنبياء و نكفر ببعضهم. وَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا طريقا وسطا بين الإيمان و الكفر، و لا واسطة: إذ الحق لا يختلف فإن الإيمان باللّه سبحانه و تعالى لا يتم إلا بالإيمان برسله و تصديقهم فيما بلغوا عنه تفصيلا أو إجمالا، فالكافر ببعض ذلك كالكافر بالكل في الضلال كما قال اللّه تعالى: فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ .
أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ هم الكاملون في الكفر لا عبرة بإيمانهم هذا. حَقًّا مصدر مؤكد لغيره أو صفة لمصدر الكافرين بمعنى: هم الذين كفروا كفرا حقا أي يقينا محققا. وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً .
[سورة النساء (4): آية 152]
وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أضدادهم و مقابلوهم، و إنما دخل بين على أحد و هو يقتضي متعددا لعمومه من حيث إنه وقع في سياق النفي. أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ الموعودة لهم و تصديره بسوف لتأكيد الوعد و الدلالة على أنه كائن لا محالة و إن تأخر. و قرأ حفص عن عاصم و قالون عن يعقوب بالياء على تلوين الخطاب. وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً لما فرط منهم. رَحِيماً عليهم بتضعيف حسناتهم.
[سورة النساء (4): آية 153]
يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ نزلت في أحبار اليهود قالوا: إن كنت صادقا فائتنا بكتاب من السماء جملة كما أتى به موسى عليه السلام، و قيل: كتابا محررا بخط سماوي على ألواح كما كانت التوراة، أو كتابا نعاينه حين ينزل، أو كتابا إلينا بأعياننا بأنك رسول اللّه. فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ جواب شرط مقدر أي: إن استكبرت ما سألوه منك فقد سألوا موسى عليه السلام أكبر منه، و هذا السؤال و إن كان من آبائهم أسند إليهم لأنهم كانوا آخذين بمذهبهم تابعين لهديهم. و المعنى إن عرقهم راسخ في ذلك و أن ما اقترحوه عليك ليس بأول جهالاتهم و خيالاتهم. فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً عيانا أي أرناه نره جهرة، أو مجاهرين معاينين له. فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ نار جاءت من قبل السماء فأهلكتهم. بِظُلْمِهِمْ بسبب ظلمهم و هو تعنتهم و سؤالهم، ما يستحيل في تلك الحال التي كانوا عليها و ذلك لا يقتضي امتناع الرؤية مطلقا. ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ هذه الجناية الثانية التي اقترفها أيضا أوائلهم، و البينات،
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 107
المعجزات، و لا يجوز حملها على التوراة إذ لم تأتهم بعد. فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَ آتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً تسلطا ظاهرا عليهم حين أمرهم بأن يقتلوا أنفسهم توبة عن اتخاذهم.
[سورة النساء (4): آية 154]
وَ رَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ بسبب ميثاقهم ليقبلوه. وَ قُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً على لسان موسى و الطور مطل عليهم. وَ قُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ على لسان داود عليه الصلاة و السلام، و يحتمل أن يراد على لسان موسى حين طلل الجبل عليهم، فإنه شرع السبت و لكن كان الاعتداء فيه و المسخ به في زمن داود عليه الصلاة و السلام، و قرأ ورش عن نافع لا تَعْدُوا على أن أصله لا تتعدوا فأدغمت التاء في الدال، و قرأ قالون بإخفاء حركة العين و تشديد الدال و النص عنه بالإسكان. وَ أَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً على ذلك و هو قولهم سمعنا و أطعنا.
[سورة النساء (4): آية 155]
فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ أي فخالفوا و نقضوا ففعلنا بهم ما فعلنا بنقضهم، و ما مزيدة للتأكيد و الباء متعلقة بالفعل المحذوف، و يجوز أن تتعلق بحرمنا عليهم طيبات فيكون التحريم بسبب النقض، و ما عطف عليه إلى قوله فبظلم لا بما دل عليه قوله: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها مثل لا يؤمنون لأنه رد لقولهم قلوبنا غلف فيكون من صلة و قولهم المعطوف على المجرور فلا يعمل في جاره. وَ كُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ بالقرآن أو بما جاء في كتابهم. وَ قَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَ قَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ أوعية للعلوم، أو في أكنة مما تدعونا إليه. بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فجعلها محجوبة عن العلم، أو خذلها و منعها التوفيق للتدبر في الآيات و التذكر في المواعظ. فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا منهم كعبد اللّه بن سلام، أو إيمانا قليلا إذ لا عبرة به لنقصانه.
[سورة النساء (4): آية 156]
وَ بِكُفْرِهِمْ وَ قَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (156)
وَ بِكُفْرِهِمْ بعيسى عليه الصلاة و السلام، و هو معطوف على بكفرهم لأنه من أسباب الطبع، أو على قوله: فَبِما نَقْضِهِمْ و يجوز أن يعطف مجموع هذا و ما عطف عليه على مجموع ما قبله و يكون تكرير ذكر الكفر إيذانا بتكرر كفرهم، فإنهم كفروا بموسى ثم بعيسى ثم بمحمد عليهم الصلاة و السلام. وَ قَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً يعني نسبتها إلى الزنا.
[سورة النساء (4): الآيات 157 الى 158]
وَ قَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ أي بزعمه و يحتمل أنهم قالوه استهزاء، و نظيره أن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون و أن يكون استئنافا من اللّه سبحانه و تعالى بمدحه، أو وضعا للذكر الحسن مكان ذكرهم القبيح. وَ ما قَتَلُوهُ وَ ما صَلَبُوهُ وَ لكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ
روي (أن رهطا من اليهود سبوه و أمه فدعا عليهم فمسخهم اللّه تعالى قردة و خنازير، فاجتمعت اليهود على قتله فأخبره اللّه تعالى بأنه يرفعه إلى السماء، فقال لأصحابه: أيكم يرضى أن يلقى عليه شبهي فيقتل و يصلب و يدخل الجنة، فقام رجل منهم فألقى اللّه عليه
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 108
شبهه فقتل و صلب. و قيل (كان رجلا ينافقه فخرج ليدل عليه، فألقى اللّه عليه شبهه فأخذ و صلب و قتل)
و قيل: (دخل طيطانوس اليهودي بيتا كان هو فيه فلم يجده، و ألقى اللّه عليه شبهه فلما خرج ظن أنه عيسى فأخذ و صلب. و أمثال ذلك من الخوارق التي لا تستبعد في زمان النبوة، و إنما ذمهم اللّه سبحانه و تعالى بما دل عليه الكلام من جراءتهم على اللّه سبحانه و تعالى، و قصدهم قتل نبيه المؤيد بالمعجزات الباهرة، و تبجحهم به لا بقولهم هذا على حسب حسبانهم، و شُبِّهَ مسند إلى الجار و المجرور كأنه قيل و لكن وقع لهم التشبيه بين عيسى و المقتول أو في الأمر على قول من قال: لم يقتل أحد و لكن أرجف بقتله فشاع بين الناس، أو إلى ضمير المقتول لدلالة إنا قتلنا على أن ثم قتيلا. وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ في شأن عيسى عليه الصلاة و السلام، فإنه لما وقعت تلك الواقعة اختلف الناس فقال بعض اليهود: إنه كان كاذبا فقتلناه حقا، و تردد آخرون فقال بعضهم: إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا، و قال بعضهم: الوجه وجه عيسى و البدن بدن صاحبنا، و قال من سمع منه أن اللّه سبحانه و تعالى يرفعني إلى السماء: أنه رفع إلى السماء. و قال قوم: صلب الناسوت و صعد اللاهوت. لَفِي شَكٍّ مِنْهُ لفي تردد، و الشك كما يطلق على ما لا يترجح أحد طرفيه يطلق على مطلق التردد، و على ما يقابل العلم و لذلك أكده بقوله: ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِ استثناء منقطع أي لكنهم يتبعون الظن، و يجوز أن يفسر الشك بالجهل و العلم بالاعتقاد الذي تسكن إليه النفس جزما كان أو غيره فيتصل الاستثناء. وَ ما قَتَلُوهُ يَقِيناً قتلا يقينا كما زعموه بقولهم إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ ، أو متيقنين. و قيل معناه ما علموه يقينا كقول الشاعر:
كذاك تخبر عنها العالمات بها
و قد قتلت بعلمي ذلكم يقينا
من قولهم قتلت الشيء علما و نحرته علما إذا تبالغ في علمك.
بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ رد و إنكار لقتله و إثبات لرفعه. وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً لا يغلب على ما يريده.
حَكِيماً فيما دبره لعيسى عليه الصلاة و السلام.
[سورة النساء (4): آية 159]
وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ أي و ما من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن به، فقوله لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ جملة قسمية وقعت صفة لأحد و يعود إليه الضمير الثاني، و الأول لعيسى عليه الصلاة و السلام.
و المعنى ما من اليهود و النصارى أحد إلا ليؤمنن بأن عيسى عبد الله و رسوله قبل أن يموت و لو حين أن تزهق روحه و لا ينفعه إيمانه و يؤيد ذلك أنه قرئ. «إلا ليؤمنن به قبل موتهم» بضم النون لأن أحدا في معنى الجمع، و هذا كالوعيد لهم و التحريض على معاجلة الإيمان به قبل أن يضطروا إليه و لم ينفعهم إيمانهم. و قيل الضميران لعيسى عليه أفضل الصلاة و السلام، و المعنى: أنه إذا نزل من السماء آمن به أهل الملل جميعا.
روي: أنه عليه الصلاة و السلام ينزل من السماء حين يخرج الدجال فيهلكه و لا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا يؤمن به، حتى تكون الملة واحدة و هي ملة الإسلام، و تقع الأمنة حتى ترتع الأسود مع الإبل، و النمور مع البقر، و الذئاب مع الغنم، و تلعب الصبيان بالحيات. و يلبث في الأرض أربعين سنة ثم يتوفى و يصلي عليه المسلمون و يدفنونه،
وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً فيشهد على اليهود بالتكذيب و على النصارى بأنهم دعوه ابن اللّه.
[سورة النساء (4): الآيات 160 الى 161]
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا أي فبأي ظلم منهم. حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ يعني ما ذكره في
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 109
قوله و على الذين هادوا حرمنا. وَ بِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً ناسا كثيرا أو صدا كثيرا.
وَ أَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَ قَدْ نُهُوا عَنْهُ كان الربا محرما عليهم كما هو محرم علينا، و فيه دليل على دلالة النهي على التحريم. وَ أَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ بالرشوة و سائر الوجوه المحرمة. وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً دون من تاب و آمن.
[سورة النساء (4): آية 162]
لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ كعبد الله بن سلام و أصحابه. وَ الْمُؤْمِنُونَ أي منهم أو من المهاجرين و الأنصار. يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ خبر المبتدأ وَ الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ نصب على المدح إن جعل يؤمنون الخبر لأولئك، أو عطف على ما أنزل إليك و المراد بهم الأنبياء عليهم الصلاة و السلام أي: يؤمنون بالكتب و الأنبياء. و قرئ بالرفع عطفا على الرَّاسِخُونَ أو على الضمير في يُؤْمِنُونَ أو على أنه مبتدأ و الخبر أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ . وَ الْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ رفعه لأحد الأوجه المذكورة. وَ الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ قدم عليه الإيمان بالأنبياء و الكتب و ما يصدقه من اتباع الشرائع لأنه المقصود بالآية. أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً على جمعهم بين الإيمان الصحيح و العمل الصالح و قرأ حمزة سيؤتيهم بالياء.
[سورة النساء (4): آية 163]
إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَ النَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ جواب لأهل الكتاب عن اقتراحهم أن ينزل عليهم كتابا من السماء، و احتجاج عليهم بأنّ أمره في الوحي كسائر الأنبياء عليهم الصلاة و السلام. وَ أَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ وَ عِيسى وَ أَيُّوبَ وَ يُونُسَ وَ هارُونَ وَ سُلَيْمانَ خصهم بالذكر مع اشتمال النبيين عليهم تعظيما لهم، فإن إبراهيم أول أولي العزم منهم و عيسى آخرهم، و الباقين أشرف الأنبياء و مشاهيرهم. وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً و قرأ حمزة زَبُوراً بالضم و هو جمع زبر. بمعنى مزبور.
[سورة النساء (4): الآيات 164 الى 165]
وَ رُسُلًا نصب بمضمر دل عليه أوحينا إليك كأرسلنا أو فسره: قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ أي من قبل هذه السورة أو اليوم. وَ رُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَ كَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً و هو منتهى مراتب الوحي خص به موسى من بينهم، و قد فضل اللّه محمدا صلّى اللّه عليه و سلّم بأن أعطاه مثل ما أعطى كل واحد منهم.
رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ نصب على المدح أو بإضمار أرسلنا، أو على الحال و يكون رسلا موطئا لما بعده كقولك مررت بزيد رجلا صالحا. لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ فيقولوا لولا أرسلت إلينا رسولا فينبهنا و يعلمنا ما لم نكن نعلم، و فيه تنبيه على أن بعثة الأنبياء عليهم الصلاة و السلام إلى الناس ضرورة لقصور الكل عن إدراك جزيئات المصالح و الأكثر عن إدراك كلياتها، و اللام متعلقة بأرسلنا أو بقوله مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ ، و حُجَّةٌ اسم كان و خبره لِلنَّاسِ أو عَلَى اللَّهِ و الآخر حال، و لا يجوز تعلقه بحجة لأنه مصدر و بعد ظرف لها أو صفة. وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً لا يغلب فيما يريد. حَكِيماً فيما دبر من أمر النبوة و خص كل نبي بنوع من الوحي و الإعجاز.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 110
[سورة النساء (4): آية 166]
لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ استدراك عن مفهوم ما قبله فكأنه لما تعنتوا عليه بسؤال كتاب ينزل عليهم من السماء، و احتج عليهم بقوله إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قال: إنهم لا يشهدون و لكن اللّه يشهد، أو أنهم أنكروه و لكن اللّه يثبته و يقرره. بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ من القرآن المعجز الدال على نبوتك.
روي أنه لما نزل إنا أوحينا إليك قالوا ما نشهد لك فنزلت.
أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ أنزله ملتبسا بعلمه الخاص به، و هو العلم بتأليفه على نظم يعجز عنه كل بليغ، أو بحال من يستعد للنبوة و يستأهل نزول الكتاب عليه، أو بعلمه الذي يحتاج إليه الناس في معاشهم و معادهم، فالجار و المجرور على الأولين حال من الفاعل و على الثالث حال من المفعول، و الجملة كالتفسير لما قبلها وَ الْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ أيضا بنبوتك. و فيه تنبيه على أنهم يودون أن يعلموا صحة دعوى النبوة على وجه يستغني عن النظر و التأمل، و هذا النوع من خواص الملك و لا سبيل للإنسان إلى العلم بأمثال ذلك سوى الفكر و النظر، فلو أتى هؤلاء بالنظر الصحيح لعرفوا نبوتك و شهدوا بها كما عرفت الملائكة و شهدوا. وَ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً أي و كفى بما أقام من الحجج على صحة نبوتك عن الاستشهاد بغيره.
[سورة النساء (4): الآيات 167 الى 169]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيداً لأنهم جمعوا بين الضلال و الإضلال و لأن المضل يكون أغرق في الضلال و أبعد من الانقلاع عنه.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ظَلَمُوا محمدا عليه الصلاة و السلام بإنكار نبوته، أو الناس بصدهم عما فيه صلاحهم و خلاصهم أو بأعم من ذلك. و الآية تدل على أن الكفار مخاطبون بالفروع إذ المراد بهم الجامعون بين الكفر و الظلم. لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً .
إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لجري حكمه السابق و وعده المحتوم على أن من مات على كفره فهو خالد في النار و خالدين حال مقدرة. وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً لا يصعب عليه و لا يستعظمه.
[سورة النساء (4): آية 170]
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ لما قرر أمر النبوة و بين الطريق الموصل إلى العلم بها و وعيد من أنكرها، خاطب الناس عامة بالدعوة و إلزام الحجة و الوعد بالإجابة و الوعيد على الرد. فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ أي إيمانا خيرا لكم أو ائتوا أمرا خيرا لكم مما أنتم عليه. و قيل تقديره يكن الإيمان خيرا لكم و منعه البصريون لأن كان لا يحذف مع اسمه إلا فيما لا بد منه و لأنه يؤدي إلى حذف الشرط و جوابه. وَ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يعني و إن تكفروا فهو غني عنكم لا يتضرر بكفركم كما لا ينتفع بإيمانكم، و نبه على غناه بقوله: لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ و هو يعم ما اشتملتا عليه و ما تركبتا منه.
وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً بأحوالهم. حَكِيماً فيما دبر لهم.
[سورة النساء (4): آية 171]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 111
يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ الخطاب للفريقين، غلت اليهود في حط عيسى عليه الصلاة و السلام حتى رموه بأنه ولد من غير رشدة، و النصارى في رفعه حتى اتخذوه إلها. و قيل الخطاب للنصارى خاصة فإنه أوفق لقوله: وَ لا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَ يعني تنزيهه عن الصاحبة و الولد. إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ أوصلها إليها و حصلها فيها. وَ رُوحٌ مِنْهُ و ذو روح صدر منه لا بتوسط ما يجري مجرى الأصل و المادة له، و قيل سمي روحا لأنه كان يحيي الأموات أو القلوب فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ لا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ أي الآلهة ثلاثة اللّه و المسيح و مريم، و يشهد عليه قوله تعالى: أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ أو اللّه ثلاثة إن صح أنهم يقولون اللّه ثلاثة أقانيم الأب و الابن و روح القدس، و يريدون بالأب الذات، و بالابن العلم، و بروح القدس الحياة. انْتَهُوا عن التثليث. خَيْراً لَكُمْ نصبه كما سبق. إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ أي واحد بالذات لا تعدد فيه بوجه ما. سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ أي أسبحه تسبيحا من أن يكون له ولد، فإنه يكون لمن يعادله مثل، و يتطرق إليه فناء. لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ملكا و خلقا لا يماثله شيء من ذلك فيتخذه ولدا. وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا تنبيه على غناه عن الولد فإن الحاجة إليه ليكون وكيلا لأبيه و اللّه سبحانه و تعالى قائم بحفظ الأشياء كاف في ذلك مستغن عمن يخلقه أو يعينه.
[سورة النساء (4): آية 172]
لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ لن يأنف، من نكفت الدمع إذا نحيته بإصبعك كيلا يرى أثره عليك. أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ من أن يكون عبدا له فإن عبوديته شرف يتباهى به، و إنما المذلة و الاستنكاف في عبودية غيره.
روي (أن وفد نجران قالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: لم تعيب صاحبنا؟ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: و من صاحبكم؟ قالوا: عيسى عليه السلام، قال عليه السلام: و أي شيء أقول. قالوا: تقول إنه عبد الله و رسوله، قال إنه ليس بعار أن يكون عبد الله، قالوا: بلى) فنزلت
وَ لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ عطف على المسيح أي و لا يستنكف الملائكة المقربون أن يكونوا عبيدا للّه، و احتج به من زعم فضل الملائكة على الأنبياء عليهم الصلاة و السلام. و قال مساقه لرد قول النصارى في رفع المسيح عن مقام العبودية و ذلك يقتضي أن يكون المعطوف أعلى درجة من المعطوف عليه حتى يكون عدم استنكافهم كالدليل على عدم استنكافه، و جوابه أن الآية للرد على عبدة المسيح و الملائكة فلا يتجه ذلك و إن سلم اختصاصها بالنصارى فلعله أراد بالعطف المبالغة باعتبار التكثير دون التكبير كقولك: أصبح الأمير لا يخالفه رئيس و لا مرؤوس، و إن أراد به التكبير فغايته تفضيل المقربين من الملائكة و هم الكروبيون الذين هو حول العرش، أو من أعلى منهم رتبة من الملائكة أعلى المسيح من الأنبياء عليهم الصلاة و السلام و ذلك لا يستلزم فضل أحد الجنسين على الآخر مطلقا و النزاع فيه وَ مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَ يَسْتَكْبِرْ و من يرتفع عنها، و الاستكبار دون الاستنكاف و لذلك عطف عليه و إنما يستعمل من حيث لا استحقاق بخلاف التكبر فإنه قد يكون بالاستحقاق. فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً فيجازيهم.
[سورة النساء (4): آية 173]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 112
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَ أَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَ اسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَ لا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً تفصيل للمجازاة العامة المدلول عليها من فحوى الكلام، و كأنه قال فسيحشرهم إليه جميعا يوم يحشر العباد للمجازاة، أو لمجازاتهم فإن إثابة مقابليهم و الإحسان إليهم تعذيب لهم بالغم و الحسرة.
[سورة النساء (4): الآيات 174 الى 175]
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً عنى بالبرهان المعجزات و بالنور القرآن، أي قد جاءكم دلائل العقل و شواهد النقل و لم يبق لكم عذر و لا علة، و قيل: البرهان الدين أو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أو القرآن.
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ اعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ في ثواب قدره بإزاء إيمانه و عمله رحمة منه لا قضاء لحق واجب وَ فَضْلٍ إحسان زائد عليه وَ يَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ إلى اللّه سبحانه و تعالى. و قيل إلى الموعود. صِراطاً مُسْتَقِيماً هو الإسلام و الطاعة في الدنيا، و طريق الجنة في الآخرة. يَسْتَفْتُونَكَ أي في الكلالة حذفت لدلالة الجواب عليه.
روي (أن جابر بن عبد الله كان مريضا فعاده رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقال: إني كلالة فكيف أصنع في مالي) فنزلت
و هي آخر ما نزل من الأحكام.
[سورة النساء (4): آية 176]
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ سبق تفسيرها في أول السورة. إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَ لَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ ارتفع امْرُؤٌ بفعل يفسره الظاهر، و ليس له ولد صفة له أو حال من المستكن في هلك، و الواو في وَ لَهُ يحتمل الحال و العطف، و المراد بالأخت الأخت من الأبوين أو الأب لأنه جعل أخوها عصبة و ابن الأم لا يكون عصبة، و الولد على ظاهره فإن الأخت و إن ورثت مع البنت عند عامة العلماء غير ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما. لكنها لا ترث النصف. وَ هُوَ يَرِثُها أي و المرء يرث أخته إن كان الأمر بالعكس. إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ ذكرا كان أو أنثى إن أريد بيرثها يرث جميع مالها، و إلا فالمراد به الذكر إذ البنت لا تحجب الأخ، و الآية كما لم تدل على سقوط الإخوة بغير الولد لم تدل على عدم سقوطهم به و قد دلت السنة على أنهم لا يرثون مع الأب و كذا مفهوم قوله: قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إن فسرت بالميت. فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ الضمير لمن يرث بالأخوة و تثنيته محمولة على المعنى، و فائدة الإخبار عنه باثنتين التنبيه على أن الحكم باعتبار العدد دون الصغر و الكبر و غيرهما. وَ إِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالًا وَ نِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ أصله و إن كانوا إخوة و أخوات فغلب المذكر. يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا أي يبين اللّه لكم ضلالكم الذي من شأنكم إذا خليتم و طباعكم لتحترزوا عنه و تتحروا خلافه، أو يبين لكم الحق و الصواب كراهة أن تضلوا. و قيل لئلا تضلوا فحذف لا و هو قول الكوفيين. وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فهو عالم بمصالح العباد في المحيا و الممات.