کتابخانه تفاسیر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 109
قوله و على الذين هادوا حرمنا. وَ بِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً ناسا كثيرا أو صدا كثيرا.
وَ أَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَ قَدْ نُهُوا عَنْهُ كان الربا محرما عليهم كما هو محرم علينا، و فيه دليل على دلالة النهي على التحريم. وَ أَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ بالرشوة و سائر الوجوه المحرمة. وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً دون من تاب و آمن.
[سورة النساء (4): آية 162]
لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ كعبد الله بن سلام و أصحابه. وَ الْمُؤْمِنُونَ أي منهم أو من المهاجرين و الأنصار. يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ خبر المبتدأ وَ الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ نصب على المدح إن جعل يؤمنون الخبر لأولئك، أو عطف على ما أنزل إليك و المراد بهم الأنبياء عليهم الصلاة و السلام أي: يؤمنون بالكتب و الأنبياء. و قرئ بالرفع عطفا على الرَّاسِخُونَ أو على الضمير في يُؤْمِنُونَ أو على أنه مبتدأ و الخبر أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ . وَ الْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ رفعه لأحد الأوجه المذكورة. وَ الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ قدم عليه الإيمان بالأنبياء و الكتب و ما يصدقه من اتباع الشرائع لأنه المقصود بالآية. أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً على جمعهم بين الإيمان الصحيح و العمل الصالح و قرأ حمزة سيؤتيهم بالياء.
[سورة النساء (4): آية 163]
إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَ النَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ جواب لأهل الكتاب عن اقتراحهم أن ينزل عليهم كتابا من السماء، و احتجاج عليهم بأنّ أمره في الوحي كسائر الأنبياء عليهم الصلاة و السلام. وَ أَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ وَ عِيسى وَ أَيُّوبَ وَ يُونُسَ وَ هارُونَ وَ سُلَيْمانَ خصهم بالذكر مع اشتمال النبيين عليهم تعظيما لهم، فإن إبراهيم أول أولي العزم منهم و عيسى آخرهم، و الباقين أشرف الأنبياء و مشاهيرهم. وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً و قرأ حمزة زَبُوراً بالضم و هو جمع زبر. بمعنى مزبور.
[سورة النساء (4): الآيات 164 الى 165]
وَ رُسُلًا نصب بمضمر دل عليه أوحينا إليك كأرسلنا أو فسره: قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ أي من قبل هذه السورة أو اليوم. وَ رُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَ كَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً و هو منتهى مراتب الوحي خص به موسى من بينهم، و قد فضل اللّه محمدا صلّى اللّه عليه و سلّم بأن أعطاه مثل ما أعطى كل واحد منهم.
رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ نصب على المدح أو بإضمار أرسلنا، أو على الحال و يكون رسلا موطئا لما بعده كقولك مررت بزيد رجلا صالحا. لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ فيقولوا لولا أرسلت إلينا رسولا فينبهنا و يعلمنا ما لم نكن نعلم، و فيه تنبيه على أن بعثة الأنبياء عليهم الصلاة و السلام إلى الناس ضرورة لقصور الكل عن إدراك جزيئات المصالح و الأكثر عن إدراك كلياتها، و اللام متعلقة بأرسلنا أو بقوله مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ ، و حُجَّةٌ اسم كان و خبره لِلنَّاسِ أو عَلَى اللَّهِ و الآخر حال، و لا يجوز تعلقه بحجة لأنه مصدر و بعد ظرف لها أو صفة. وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً لا يغلب فيما يريد. حَكِيماً فيما دبر من أمر النبوة و خص كل نبي بنوع من الوحي و الإعجاز.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 110
[سورة النساء (4): آية 166]
لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ استدراك عن مفهوم ما قبله فكأنه لما تعنتوا عليه بسؤال كتاب ينزل عليهم من السماء، و احتج عليهم بقوله إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قال: إنهم لا يشهدون و لكن اللّه يشهد، أو أنهم أنكروه و لكن اللّه يثبته و يقرره. بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ من القرآن المعجز الدال على نبوتك.
روي أنه لما نزل إنا أوحينا إليك قالوا ما نشهد لك فنزلت.
أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ أنزله ملتبسا بعلمه الخاص به، و هو العلم بتأليفه على نظم يعجز عنه كل بليغ، أو بحال من يستعد للنبوة و يستأهل نزول الكتاب عليه، أو بعلمه الذي يحتاج إليه الناس في معاشهم و معادهم، فالجار و المجرور على الأولين حال من الفاعل و على الثالث حال من المفعول، و الجملة كالتفسير لما قبلها وَ الْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ أيضا بنبوتك. و فيه تنبيه على أنهم يودون أن يعلموا صحة دعوى النبوة على وجه يستغني عن النظر و التأمل، و هذا النوع من خواص الملك و لا سبيل للإنسان إلى العلم بأمثال ذلك سوى الفكر و النظر، فلو أتى هؤلاء بالنظر الصحيح لعرفوا نبوتك و شهدوا بها كما عرفت الملائكة و شهدوا. وَ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً أي و كفى بما أقام من الحجج على صحة نبوتك عن الاستشهاد بغيره.
[سورة النساء (4): الآيات 167 الى 169]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيداً لأنهم جمعوا بين الضلال و الإضلال و لأن المضل يكون أغرق في الضلال و أبعد من الانقلاع عنه.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ظَلَمُوا محمدا عليه الصلاة و السلام بإنكار نبوته، أو الناس بصدهم عما فيه صلاحهم و خلاصهم أو بأعم من ذلك. و الآية تدل على أن الكفار مخاطبون بالفروع إذ المراد بهم الجامعون بين الكفر و الظلم. لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً .
إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لجري حكمه السابق و وعده المحتوم على أن من مات على كفره فهو خالد في النار و خالدين حال مقدرة. وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً لا يصعب عليه و لا يستعظمه.
[سورة النساء (4): آية 170]
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ لما قرر أمر النبوة و بين الطريق الموصل إلى العلم بها و وعيد من أنكرها، خاطب الناس عامة بالدعوة و إلزام الحجة و الوعد بالإجابة و الوعيد على الرد. فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ أي إيمانا خيرا لكم أو ائتوا أمرا خيرا لكم مما أنتم عليه. و قيل تقديره يكن الإيمان خيرا لكم و منعه البصريون لأن كان لا يحذف مع اسمه إلا فيما لا بد منه و لأنه يؤدي إلى حذف الشرط و جوابه. وَ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يعني و إن تكفروا فهو غني عنكم لا يتضرر بكفركم كما لا ينتفع بإيمانكم، و نبه على غناه بقوله: لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ و هو يعم ما اشتملتا عليه و ما تركبتا منه.
وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً بأحوالهم. حَكِيماً فيما دبر لهم.
[سورة النساء (4): آية 171]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 111
يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ الخطاب للفريقين، غلت اليهود في حط عيسى عليه الصلاة و السلام حتى رموه بأنه ولد من غير رشدة، و النصارى في رفعه حتى اتخذوه إلها. و قيل الخطاب للنصارى خاصة فإنه أوفق لقوله: وَ لا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَ يعني تنزيهه عن الصاحبة و الولد. إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ أوصلها إليها و حصلها فيها. وَ رُوحٌ مِنْهُ و ذو روح صدر منه لا بتوسط ما يجري مجرى الأصل و المادة له، و قيل سمي روحا لأنه كان يحيي الأموات أو القلوب فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ لا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ أي الآلهة ثلاثة اللّه و المسيح و مريم، و يشهد عليه قوله تعالى: أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ أو اللّه ثلاثة إن صح أنهم يقولون اللّه ثلاثة أقانيم الأب و الابن و روح القدس، و يريدون بالأب الذات، و بالابن العلم، و بروح القدس الحياة. انْتَهُوا عن التثليث. خَيْراً لَكُمْ نصبه كما سبق. إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ أي واحد بالذات لا تعدد فيه بوجه ما. سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ أي أسبحه تسبيحا من أن يكون له ولد، فإنه يكون لمن يعادله مثل، و يتطرق إليه فناء. لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ملكا و خلقا لا يماثله شيء من ذلك فيتخذه ولدا. وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا تنبيه على غناه عن الولد فإن الحاجة إليه ليكون وكيلا لأبيه و اللّه سبحانه و تعالى قائم بحفظ الأشياء كاف في ذلك مستغن عمن يخلقه أو يعينه.
[سورة النساء (4): آية 172]
لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ لن يأنف، من نكفت الدمع إذا نحيته بإصبعك كيلا يرى أثره عليك. أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ من أن يكون عبدا له فإن عبوديته شرف يتباهى به، و إنما المذلة و الاستنكاف في عبودية غيره.
روي (أن وفد نجران قالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: لم تعيب صاحبنا؟ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: و من صاحبكم؟ قالوا: عيسى عليه السلام، قال عليه السلام: و أي شيء أقول. قالوا: تقول إنه عبد الله و رسوله، قال إنه ليس بعار أن يكون عبد الله، قالوا: بلى) فنزلت
وَ لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ عطف على المسيح أي و لا يستنكف الملائكة المقربون أن يكونوا عبيدا للّه، و احتج به من زعم فضل الملائكة على الأنبياء عليهم الصلاة و السلام. و قال مساقه لرد قول النصارى في رفع المسيح عن مقام العبودية و ذلك يقتضي أن يكون المعطوف أعلى درجة من المعطوف عليه حتى يكون عدم استنكافهم كالدليل على عدم استنكافه، و جوابه أن الآية للرد على عبدة المسيح و الملائكة فلا يتجه ذلك و إن سلم اختصاصها بالنصارى فلعله أراد بالعطف المبالغة باعتبار التكثير دون التكبير كقولك: أصبح الأمير لا يخالفه رئيس و لا مرؤوس، و إن أراد به التكبير فغايته تفضيل المقربين من الملائكة و هم الكروبيون الذين هو حول العرش، أو من أعلى منهم رتبة من الملائكة أعلى المسيح من الأنبياء عليهم الصلاة و السلام و ذلك لا يستلزم فضل أحد الجنسين على الآخر مطلقا و النزاع فيه وَ مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَ يَسْتَكْبِرْ و من يرتفع عنها، و الاستكبار دون الاستنكاف و لذلك عطف عليه و إنما يستعمل من حيث لا استحقاق بخلاف التكبر فإنه قد يكون بالاستحقاق. فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً فيجازيهم.
[سورة النساء (4): آية 173]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 112
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَ أَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَ اسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَ لا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً تفصيل للمجازاة العامة المدلول عليها من فحوى الكلام، و كأنه قال فسيحشرهم إليه جميعا يوم يحشر العباد للمجازاة، أو لمجازاتهم فإن إثابة مقابليهم و الإحسان إليهم تعذيب لهم بالغم و الحسرة.
[سورة النساء (4): الآيات 174 الى 175]
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً عنى بالبرهان المعجزات و بالنور القرآن، أي قد جاءكم دلائل العقل و شواهد النقل و لم يبق لكم عذر و لا علة، و قيل: البرهان الدين أو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أو القرآن.
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ اعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ في ثواب قدره بإزاء إيمانه و عمله رحمة منه لا قضاء لحق واجب وَ فَضْلٍ إحسان زائد عليه وَ يَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ إلى اللّه سبحانه و تعالى. و قيل إلى الموعود. صِراطاً مُسْتَقِيماً هو الإسلام و الطاعة في الدنيا، و طريق الجنة في الآخرة. يَسْتَفْتُونَكَ أي في الكلالة حذفت لدلالة الجواب عليه.
روي (أن جابر بن عبد الله كان مريضا فعاده رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقال: إني كلالة فكيف أصنع في مالي) فنزلت
و هي آخر ما نزل من الأحكام.
[سورة النساء (4): آية 176]
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ سبق تفسيرها في أول السورة. إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَ لَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ ارتفع امْرُؤٌ بفعل يفسره الظاهر، و ليس له ولد صفة له أو حال من المستكن في هلك، و الواو في وَ لَهُ يحتمل الحال و العطف، و المراد بالأخت الأخت من الأبوين أو الأب لأنه جعل أخوها عصبة و ابن الأم لا يكون عصبة، و الولد على ظاهره فإن الأخت و إن ورثت مع البنت عند عامة العلماء غير ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما. لكنها لا ترث النصف. وَ هُوَ يَرِثُها أي و المرء يرث أخته إن كان الأمر بالعكس. إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ ذكرا كان أو أنثى إن أريد بيرثها يرث جميع مالها، و إلا فالمراد به الذكر إذ البنت لا تحجب الأخ، و الآية كما لم تدل على سقوط الإخوة بغير الولد لم تدل على عدم سقوطهم به و قد دلت السنة على أنهم لا يرثون مع الأب و كذا مفهوم قوله: قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إن فسرت بالميت. فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ الضمير لمن يرث بالأخوة و تثنيته محمولة على المعنى، و فائدة الإخبار عنه باثنتين التنبيه على أن الحكم باعتبار العدد دون الصغر و الكبر و غيرهما. وَ إِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالًا وَ نِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ أصله و إن كانوا إخوة و أخوات فغلب المذكر. يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا أي يبين اللّه لكم ضلالكم الذي من شأنكم إذا خليتم و طباعكم لتحترزوا عنه و تتحروا خلافه، أو يبين لكم الحق و الصواب كراهة أن تضلوا. و قيل لئلا تضلوا فحذف لا و هو قول الكوفيين. وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فهو عالم بمصالح العباد في المحيا و الممات.
عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم: «من قرأ سورة النساء فكأنما تصدق على كل مؤمن و مؤمنة، و ورث ميراثا و أعطي من الأجر كمن اشترى محررا، و برئ من الشرك و كان في مشيئة اللّه تعالى من الذين يتجاوز عنهم».
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 113
(5) سورة المائدة
مدنية و آيها مائة و عشرون آية
[سورة المائدة (5): آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ الوفاء هو القيام بمقتضى العهد و كذلك الإيفاء و العقد العهد الموثق قال الحطيئة:
قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم
شدّوا العناج و شدّوا فوقه الكربا
و أصله الجمع بين الشيئين بحيث يعسر الانفصال، و لعل المراد بالعقود ما يعم العقود التي عقدها اللّه سبحانه و تعالى على عباده و ألزمها إياهم من التكاليف، و ما يعقدون بينهم من عقود الأمانات و المعاملات و نحوها مما يجب الوفاء به، أو يحسن إن حملنا الأمر على المشترك بين الوجوب و الندب. أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ تفصيل للعقود، و البهيمة كل حي لا يميز. و قيل كل ذات أربع، و إضافتها إلى الأنعام للبيان كقولك: ثوب خز، و معناه البهيمة من الأنعام. و هي الأزواج الثمانية و ألحق بها الظباء و يقر الوحش. و قيل هما المراد بالبهيمة و نحوهما مما يماثل الأنعام في الاجترار و عدم الأنياب، و إضافتها إلى الأنعام لملابسة الشبه. إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ إلا محرم ما يتلى عليكم كقوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ أو إلا ما يتلى عليكم تحريمه. غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ حال من الضمير في لَكُمْ و قيل من واو أَوْفُوا و قيل استثناء و فيه تعسف و الصَّيْدِ يحتمل المصدر و المفعول. وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ حال مما استكن في مُحِلِّي ، و ال حُرُمٌ جمع حرام و هو المحرم. إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ من تحليل أو تحريم.
[سورة المائدة (5): آية 2]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ يعني مناسك الحج، جمع شعيرة و هي اسم ما أشعر أي جعل شعارا سمى به أعمال الحج و مواقفه لأنها علامات الحج و أعلام النسك. و قيل دين اللّه لقوله سبحانه و تعالى:
وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ أي دينه. و قيل فرائضه التي حدها لعباده. وَ لَا الشَّهْرَ الْحَرامَ بالقتال فيه أو بالنسيء. وَ لَا الْهَدْيَ ما أهدي إلى الكعبة، جمع هدية كجدي في جمع جدية السرح. وَ لَا الْقَلائِدَ أي ذوات القلائد من الهدي، و عطفها على الهدي للاختصاص فإنها أشرف الهدي، أو القلائد أنفسها و النهي عن إحلالها مبالغة في النهي عن التعرض للهدي، و نظيره قوله تعالى: وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ* . و القلائد جمع قلادة
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 114
و هي ما قلد به الهدي من نعل أو لحاء شجر أو غيرهما ليعلم به أنه هدي فلا يتعرض له. وَ لَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قاصدين لزيارته. يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَ رِضْواناً أن يثيبهم و يرضى عنهم، و الجملة في موضع الحال من المستكن في آمين و ليست صفة له، لأنه عامل و المختار أن اسم الفاعل الموصوف لا يعمل، و فائدته استنكار تعرض من هذا شأنه و التنبيه على المانع له. و قيل معناه يبتغون من اللّه رزقا بالتجارة و رضوانا بزعمهم إذ روي أن الآية نزلت عام القضية في حجاج اليمامة لما هم المسلمون أن يتعرضوا لهم بسبب أنه كان فيهم الحطيم بن شريح بن ضبيعة، و كان قد استاق سرح المدينة و على هذا فالآية منسوخة. و قرئ «تبتغون» على خطاب المؤمنين وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا إذن في الاصطياد بعد زوال الإحرام و لا يلزم من إرادة الإباحة هاهنا من الأمر دلالة الأمر الآتي بعد الحظر على الإباحة مطلقا. و قرئ بكسر الفاء على إلقاء حركة همزة الوصل عليها و هو ضعيف جدا. و قرئ «أحللتم» يقال حل المحرم و أحل وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ لا يحملنكم أو لا يكسبنكم. شَنَآنُ قَوْمٍ شدة بغضهم و عداوتهم و هو مصدر أضيف إلى المفعول أو الفاعل. و قرأ ابن عامر و إسماعيل عن نافع و ابن عياش عن عاصم بسكون النون و هو أيضا مصدر كليان أو نعت بمعنى: بغيض قوم و فعلان في النعت أكثر كعطشان و سكران. أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ لأن صدوكم عنه عام الحديبية. و قرأ ابن كثير و أبو عمرو بكسر الهمزة على أنه شرط معترض أغنى عن جوابه لا يجرمنكم. أَنْ تَعْتَدُوا بالانتقام، و هو ثاني مفعولي يجر منكم فإنه يعدى إلى واحد و إلى اثنين ككسب. و من قرأ يَجْرِمَنَّكُمْ بضم الياء جعله منقولا من المتعدي إلى مفعول بالهمزة إلى مفعولين. وَ تَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوى على العفو و الإغضاء و متابعة الأمر و مجانبة الهوى. وَ لا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ للتشفي و الانتقام. وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ فانتقامه أشد.
[سورة المائدة (5): آية 3]
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ بيان ما يتلى عليكم، و الميتة ما فارقه الروح من غير تذكية. وَ الدَّمُ أي الدم المسفوح لقوله تعالى: أَوْ دَماً مَسْفُوحاً و كان أهل الجاهلية يصبونه في الأمعاء و يشوونها. وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ أي رفع الصوت لغير اللّه به كقولهم: باسم اللات و العزى عند ذبحه. وَ الْمُنْخَنِقَةُ أي التي ماتت بالخنق. وَ الْمَوْقُوذَةُ المضروبة بنحو خشب، أو حجر حتى تموت من وقذته إذا ضربته.
وَ الْمُتَرَدِّيَةُ التي تردت من علو أو في بئر فماتت. وَ النَّطِيحَةُ التي نطحتها أخرى فماتت بالنطح و التاء فيها للنقل. وَ ما أَكَلَ السَّبُعُ و ما أكل منه السبع فمات، و هو يدل على أن جوارح الصيد إذا أكلت مما اصطادته لم تحل. إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ إلا ما أدركتم ذكاته و فيه حياة مستقرة من ذلك. و قيل الاستثناء مخصوص بما أكل السبع. و الذكاة في الشرع لقطع الحلقوم و المريء بمحدد. وَ ما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ النصب واحد الأنصاب و هي أحجار كانت منصوبة حول البيت يذبحون عليها و يعدون ذلك قربة. و قيل هي الأصنام و على بمعنى اللام أو على أصلها بتقدير و ما ذبح مسمى على الأصنام. و قيل هو جمع و الواحد نصاب. وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ أي و حرم عليكم الاستقسام بالأزلام، و ذلك أنهم إذا قصدوا فعلا ضربوا ثلاثة أقداح. مكتوب على أحدها، أمرني ربي. و على الآخر: نهاني ربي. و الثالث غفل، فإن خرج الأمر مضوا على ذلك و إن خرج الناهي تجنبوا عنه و إن خرج الغفل أجالوها ثانيا، فمعنى الاستقسام طلب معرفة ما قسم لهم دون ما لم يقسم لهم بالأزلام. و قيل: هو استقسام الجزور بالأقداح على الأنصباء المعلومة و واحد الأزلام زلم كجمل و زلم
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 115
كصرد. ذلِكُمْ فِسْقٌ إشارة إلى الاستقسام، و كونه فسقا لأنه دخول في علم الغيب و ضلال باعتقاد أن ذلك طريق إليه، و افتراء على اللّه سبحانه و تعالى إن أريد بربي اللّه، و جهالة و شرك إن أريد به الصنم أو الميسر المحرم أو إلى تناول ما حرم عليهم. الْيَوْمَ لم يرد به يوما بعينه و إنما أراد الزمان الحاضر و ما يتصل به من الأزمنة الآتية. و قيل أراد يوم نزولها و قد نزلت بعد عصر يوم الجمعة في عرفة حجة الوداع. يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ أي من إبطاله و رجوعكم عنه بتحليل هذه الخبائث و غيرها أو من أن يغلبوكم عليه. فَلا تَخْشَوْهُمْ أن يظهروا عليكم. وَ اخْشَوْنِ و أخلصوا الخشية لي. الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ بالنصر و الإظهار على الأديان كلها، أو بالتنصيص على قواعد العقائد و التوقيف على أصول الشرائع و قوانين الاجتهاد.
وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي بالهداية و التوفيق أو بإكمال الدين أو بفتح مكة و هدم منار الجاهلية. وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً اخترته لكم دينا من بين الأديان و هو الدين عند اللّه لا غير. فَمَنِ اضْطُرَّ متصل بذكر المحرمات و ما بينهما اعتراض لما يوجب التجنب عنها، و هو أن تناولها فسوق و حرمتها من جملة الدين الكامل و النعمة التامة و الإسلام المرضي. و المعنى: فمن اضطر إلى تناول شيء من هذه المحرمات. فِي مَخْمَصَةٍ مجاعة غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ غير مائل له و منحرف إليه بأن يأكلها تلذذا أو مجاوزا حد الرخصة كقوله: غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ* . فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لا يؤاخذه بأكله.
[سورة المائدة (5): آية 4]
يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ لما تضمن السؤال معنى القول أوقع على الجملة، و قد سبق الكلام في ما ذا و إنما قال لهم و لم يقل لنا على الحكاية، لأن يَسْئَلُونَكَ بلفظ الغيبة و كلا الوجهين سائغ في أمثاله، و المسؤول ما أحل لهم من المطاعم كأنهم لما تلي عليهم ما حرم عليهم سألوا عما أحل لهم. قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ ما لم تستخبثه الطباع السليمة و لم تنفر عنه و من مفهومه حرم مستخبثات العرب، أو ما لم يدل نص و لا قياس على حرمته. وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ عطف على الطَّيِّباتُ إن جعلت ما موصولة على تقدير و صيد ما علمتم، و جملة شرطية إن جعلت شرطا و جوابها فَكُلُوا و الْجَوارِحِ كواسب الصيد على أهلها من سباع ذوات الأربع و الطير مُكَلِّبِينَ معلمين إياه الصيد، و المكلب مؤدب الجوارح و مضرّ بها بالصيد. مشتق من الكلب، لأن التأديب يكون أكثر فيه و آثر، أو لأن كل سبع يسمى كلبا
لقوله عليه الصلاة و السلام «اللهم سلط عليه كلبا من كلابك»
و انتصابه على الحال من علمتم و فائدتها المبالغة في التعليم.
تُعَلِّمُونَهُنَ حال ثانية أو استئناف. مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ من الحيل و طرق التأديب، فإن العلم بها إلهام من اللّه تعالى أو مكتسب بالعقل الذي هو منحة منه سبحانه و تعالى، أو مما علمكم اللّه أن تعلموه من اتباع الصيد بإرسال صاحبه، و أن ينزجر بزجره و ينصرف بدعائه و يمسك عليه الصيد و لا يأكل منه. فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ و هو ما لم تأكل منه
لقوله عليه الصلاة و السلام لعدي بن حاتم «و إن أكل منه فلا تأكل إنما أمسك على نفسه»
. و إليه ذهب أكثر الفقهاء و قال بعضهم: لا يشترط ذلك في سباع الطير لأن تأديبها إلى هذا الحد متعذر، و قال آخرون لا يشترط مطلقا. وَ اذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ الضمير لما علمتم و المعنى: سموا عليه عند إرساله أو لما أمسكن بمعنى سموا عليه إذا أدركتم ذكاته. وَ اتَّقُوا اللَّهَ في محرماته. إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ فيؤاخذكم بما جل و دق.
[سورة المائدة (5): آية 5]