کتابخانه تفاسیر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 116
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَ طَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ يتناول الذبائح و غيرها، و يعم الذين أوتوا الكتاب اليهود و النصارى، و استثنى علي رضي اللّه تعالى عنه نصارى بني تغلب و قال: ليسوا على النصرانية، و لم يأخذوا منها إلا شرب الخمر. و لا يلحق بهم المجوس في ذلك و إن ألحقوا بهم في التقرير على الجزية
لقوله عليه الصلاة و السلام: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب، غير ناكحي نسائهم و لا آكلي ذبائحهم»
وَ طَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ فلا عليكم أن تطعموهم و تبيعوه منهم و لو حرم عليهم لم يجز ذلك. وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ أي الحرائر أو العفائف، و تخصيصهن بعث على ما هو الأولى. وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ و إن كن حربيات و قال ابن عباس لا تحل الحربيات. إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ مهورهن و تقييد الحل بإيتائها لتأكيد وجوبها و الحث على ما هو الأولى. و قيل المراد بإيتائها التزامها مُحْصِنِينَ أعفاء بالنكاح.
غَيْرَ مُسافِحِينَ غير مجاهرين بالزنا. وَ لا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ مسرين به، و الخدن الصديق يقع على الذكر و الأنثى. وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ يريد بالإيمان شرائع الإسلام و بالكفر إنكاره و الامتناع عنه.
[سورة المائدة (5): آية 6]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ أي إذا أردتم القيام كقوله تعالى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ عبر عن إرادة الفعل المسبب عنها للإيجاز و التنبيه على أن من أراد العبادة ينبغي أن يبادر إليها، بحيث لا ينفك الفعل عن الإرادة، أو إذا قصدتم الصلاة لأن التوجه إلى الشيء و القيام إليه قصد له، و ظاهر الآية يوجب الوضوء على كل قائم إلى الصلاة و إن لم يكن محدثا، و الإجماع على خلافه لما
روي «أنه عليه الصلاة و السلام صلى الصلوات الخمس بوضوء واحد يوم الفتح فقال عمر رضي اللّه تعالى عنه: صنعت شيئا لم تكن تصنعه فقال عمدا فعلته»
فقيل مطلق أريد به التقييد، و المعنى إذا قمتم إلى الصلاة محدثين. و قيل الأمر فيه للندب. و قيل كان ذلك أول الأمر ثم نسخ و هو ضعيف
لقوله عليه الصلاة و السلام: «المائدة من آخر القرآن نزولا فأحلوا حلالها و حرموا حرامها».
فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ أمروا الماء عليها و لا حاجة إلى الدلك خلافا لمالك. وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ الجمهور على دخول المرفقين في المغسول و لذلك قيل: إِلَى بمعنى مع كقوله تعالى: وَ يَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ أو متعلقة بمحذوف تقديره: و أيديكم مضافة إلى المرافق، و لو كان كذلك لم يبق لمعنى التحديد و لا لذكره مزيد فائدة، لأن مطلق اليد يشتمل عليها.
و قيل: إلى تفيد الغاية مطلقا و أما دخولها في الحكم أو خروجها منه فلا دلالة لها عليه و إنما يعلم من خارج و لم يكن في الآية، و كانت الأيدي متناولة لها فحكم بدخولها احتياطا. و قيل إلى من حيث أنها تفيد الغاية تقتضي خروجها و إلا لم تكن غاية لقوله تعالى: فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ و قوله تعالى: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ لكن لما لم تتميز الغاية ها هنا عن ذي الغاية وجب إدخالها احتياطا. وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ الباء مزيدة. و قيل للتبعيض، فإنه الفارق بين قولك مسحت المنديل و بالمنديل، و وجهه أن يقال إنها تدل على تضمين الفعل معنى الإلصاق فكأنه قيل: و ألصقوا المسح برءوسكم، و ذلك لا يقتضي الاستيعاب بخلاف ما
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 117
لو قيل: و امسحوا رؤوسكم فإنه كقوله: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ و اختلف العلماء في قدر الواجب. فأوجب الشافعي رضي اللّه تعالى عنه: أقل ما يقع عليه الاسم أخذا باليقين. و أبو حنيفة رضي اللّه تعالى عنه: مسح ربع الرأس، لأنه عليه الصلاة و السلام مسح على ناصيته و هو قريب من الربع. و مالك رضي اللّه تعالى عنه:
مسح كله أخذا بالاحتياط. وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ نصبه نافع و ابن عامر و حفص و الكسائي و يعقوب عطفا على وجوهكم و يؤيده: السنة الشائعة، و عمل الصحابة، و قول أكثر الأئمة، و التحديد، إذ المسح لم يحد.
و جره الباقون على الجوار و نظيره كثير في القرآن و الشعر كقوله تعالى: عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ* وَ حُورٌ عِينٌ بالجر في قراءة حمزة و الكسائي، و قولهم جحر ضب خرب. و للنحاة باب في ذلك، و فائدته التنبيه على أنه ينبغي أن يقتصد في صب الماء عليها و يغسل غسلا يقرب من المسح، و في الفصل بينه و بين أخويه إيماء على وجوب الترتيب. و قرئ بالرفع على «و أرجلكم» مغسولة. وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا فاغتسلوا. وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ سبق تفسيره، و لعل تكريره ليتصل الكلام في بيان أنواع الطهارة. ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ أي ما يريد الأمر بالطهارة للصلاة أو الأمر بالتيمم تضييقا عليكم. وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ لينظفكم، أو ليطهركم عن الذنوب فإن الوضوء تكفير للذنوب، أو ليطهركم بالتراب إذا أعوزكم التطهير بالماء. فمفعول يُرِيدُ في الموضعين محذوف و اللام للعلة. و قيل مزيدة و المعنى: ما يريد اللّه أن يجعل عليكم من حرج حتى لا يرخص لكم في التيمم، و لكن يريد أن يطهركم و هو ضعيف لأن أن لا تقدر بعد المزيدة. وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ ليتم بشرعه ما هو مطهرة لأبدانكم و مكفرة لذنوبكم نعمته عليكم في الدين، أو ليتم برخصه إنعامه عليكم بعزائمه. لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمته. و الآية مشتملة على سبعة أمور كلها مثنى:
طهارتان أصل و بدل، و الأصل اثنان مستوعب و غير مستوعب، و غير المستوعب باعتبار الفعل غسل و مسح و باعتبار المحل محدود و غير محدود، و أن آلتهما مائع و جامد، و موجبهما حدث أصغر و أكبر، و أن المبيح للعدول إلى البدل مرض أو سفر، و أن الموعود عليهما تطهير الذنوب و إتمام النعمة.
[سورة المائدة (5): آية 7]
وَ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ بالإسلام لتذكركم المنعم و ترغبكم في شكره. وَ مِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَ أَطَعْنا يعني الميثاق الذي أخذه على المسلمين حين بايعهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم على السمع و الطاعة في العسر و اليسر، و المنشط و المكره، أو ميثاقه ليلة العقبة أو بيعة الرضوان. وَ اتَّقُوا اللَّهَ في إنساء نعمته و نقض ميثاقه. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي بخفياتها فيجازيكم عليها فضلا عن جليات أعمالكم.
[سورة المائدة (5): آية 8]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا عداه بعلى لتضمنه معنى الحمل، و المعنى لا يحملنكم شدة بغضكم للمشركين على ترك العدل فيهم فتعتدوا عليهم بارتكاب ما لا يحل، كمثلة و قذف و قتل نساء و صبية و نقض عهد تشفيا مما في قلوبكم. اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى أي العدل أقرب للتقوى، صرح لهم بالأمر بالعدل و بين أنه بمكان من التقوى بعد ما نهاهم عن الجور و بين أنه مقتضى الهوى، و إذا كان هذا للعدل مع الكفار فما ظنك بالعدل مع المؤمنين. وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ فيجازيكم به، و تكرير هذا الحكم إما لاختلاف السبب كما قيل إن الأولى نزلت في
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 118
المشركين و هذه في اليهود، أو لمزيد الاهتمام بالعدل و المبالغة في إطفاء ثائرة الغيظ.
[سورة المائدة (5): الآيات 9 الى 10]
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ إنما حذف ثاني مفعولي وعد استغناء بقوله لَهُمْ مَغْفِرَةٌ فإنه استئناف يبينه. و قيل الجملة في موضع المفعول فإن الوعد ضرب من القول و كأنه قال: وعدهم هذا القول.
وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ هذا من عادته تعالى، أن يتبع حال أحد الفريقين حال الآخر وفاء بحق الدعوة، و فيه مزيد وعد للمؤمنين و تطييب لقلوبهم.
[سورة المائدة (5): آية 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ
روي (أن المشركين رأوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و أصحابه بعسفان، قاموا إلى الظهر معا فلما صلوا ندموا ألا كانوا أكبوا عليهم و هموا أن يوقعوا بهم إذا قاموا إلى العصر، فرد اللّه عليهم كيدهم بأن أنزل عليهم صلاة الخوف).
و الآية إشارة إلى ذلك و قيل إشارة إلى ما
روي (أنه عليه الصلاة و السلام أتى قريظة و معه الخلفاء الأربعة يستقرضهم لدية مسلمين قتلهما عمرو بن أمية الضمري يحسبهما مشركين، فقالوا: نعم يا أبا القاسم اجلس حتى نطعمك و نقرضك فأجلسوه و هموا بقتله، فعمد عمرو بن جحاش إلى رحى عظيمة يطرحها عليه، فأمسك اللّه يده فنزل جبريل فأخبره فخرج).
و
قيل (نزل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم منزلا و علق سلاحه بشجرة و تفرق الناس عنه، فجاء أعرابي فسل سيفه و قال: من يمنعك مني؟ فقال:
اللّه! فأسقطه جبريل من يده، فأخذه الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم و قال: من يمنعك مني فقال لا أحد أشهد أن لا إله إلا اللّه و أشهد أن محمدا رسول اللّه) فنزلت
إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ بالقتل و الإهلاك، يقال بسط إليه يده إذا بطش به و بسط إليه لسانه إذا شتمه. فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ منعها أن تمد إليكم ورد مضرتها عنكم.
وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ فإنه الكافي لإيصال الخير و دفع الشر.
[سورة المائدة (5): آية 12]
وَ لَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَ بَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً شاهدا من كل سبط ينقب عن أحوال قومه و يفتش عنها، أو كفيلا يكفل عليهم بالوفاء بما أمروا به.
روي أن بني إسرائيل لما فرغوا من فرعون و استقروا بمصر، أمرهم اللّه سبحانه و تعالى بالمسير إلى أريحاء من أرض الشام، و كان يسكنها الجبابرة الكنعانيون و قال: إني كتبتها لكم دارا و قرارا فاخرجوا إليها و جاهدوا من فيها فإني ناصركم، و أمر موسى عليه الصلاة و السلام أن يأخذ من كل سبط كفيلا عليهم بالوفاء بما أمروا به، فأخذ عليهم الميثاق و اختار منهم النقباء و سار بهم فلما دنا من أرض كنعان بعث النقباء يتجسسون الأخبار، و نهاهم أن يحدثوا قومهم، فرأوا أجراما عظيمة و بأسا شديدا فهابوا و رجعوا و حدثوا قومهم و نكث الميثاق إلا كالب بن يوفنا من سبط يهوذا، و يوشع بن نون
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 119
من سبط افرائيم بن يوسف.
وَ قالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ بالنصرة لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَ آتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَ آمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَ عَزَّرْتُمُوهُمْ أي نصرتموهم و قويتموهم و أصله الذب و منه التعزيز. وَ أَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً بالإنفاق في سبيل الخير و قرضا يحتمل المصدر و المفعول. لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ جواب للقسم المدلول عليه باللام في لئن ساد مسد جواب الشرط. وَ لَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ بعد ذلك الشرط المؤكد المعلق به الوعد العظيم. مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ ضلالا لا شبهة فيه و لا عذر معه بخلاف من كفر قبل ذلك، إذ قد يمكن أن يكون له شبهة و يتوهم له معذرة.
[سورة المائدة (5): آية 13]
فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ طردناهم من رحمتنا، أو مسخناهم أو ضربنا عليهم الجزية. وَ جَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً لا تنفعل عن الآيات و النذر. و قرأ حمزة و الكسائي «قسية» و هي إما مبالغة قاسِيَةً أو بمعنى رديئة من قولهم درهم قسي إذا كان مغشوشا، و هو أيضا من القسوة فإن المغشوش فيه يبس و صلابة و قرئ «قسية» بإتباع القاف للسين. يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ استئناف لبيان قسوة قلوبهم، فإنه لا قسوة أشد من تغيير كلام اللّه سبحانه و تعالى و الافتراء عليه، و يجوز أن يكون حالا من مفعول لَعَنَّاهُمْ لا من القلوب إذ لا ضمير له فيه. وَ نَسُوا حَظًّا و تركوا نصيبا وافيا. مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ من التوراة، أو من اتباع محمد صلّى اللّه عليه و سلّم، و المعنى أنهم حرفوا التوراة و تركوا حظهم مما أنزل عليهم فلم ينالوه، و قيل معناه أنهم حرفوها فزلت بشؤمه أشياء منها عن حفظهم، لما روي أن ابن مسعود قال: قد ينسى المرء بعض العلم بالمعصية و تلا هذه الآية.
وَ لا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ خيانة منهم، أو فرقة خائنة أو خائن و التاء للمبالغة. و المعنى أن الخيانة و الغدر من عادتهم و عادة أسلافهم لا تزال ترى ذلك منهم. إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ لم يخونوا و هم الذين آمنوا منهم، و قيل استثناء من قوله: وَ جَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اصْفَحْ إن تابوا و آمنوا أو عاهدوا و التزموا الجزية. و قيل: مطلق نسخ بآية السيف. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ تعليل للأمر بالصفح و حث عليه و تنبيه على أن العفو عن الكافر الخائن إحسان فضلا عن العفو عن غيره.
[سورة المائدة (5): آية 14]
وَ مِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ أي و أخذنا من النصارى ميثاقهم كما أخذنا ممن قبلهم، و قيل تقديره و من الذين قالوا إنا نصارى قوم أخذنا، و إنما قال قالوا إنا نصارى ليدل على أنهم سموا أنفسهم بذلك ادعاء لنصرة اللّه سبحانه و تعالى. فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا فألزمنا من غري بالشيء إذا لصق به. بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ بين فرق النصارى، و هم نسطورية و يعقوبية و ملكانية، أو بينهم و بين اليهود. وَ سَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ بالجزاء و العقاب.
[سورة المائدة (5): آية 15]
يا أَهْلَ الْكِتابِ يعني اليهود و النصارى، و وحد الكتاب لأنه للجنس. قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 120
كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ كنت محمد صلّى اللّه عليه و سلّم و آية الرجم في التوراة و بشارة عيسى عليه الصلاة و السلام بأحمد صلّى اللّه عليه و سلّم في الإنجيل. وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ مما تخفونه لا يخبر به إذا لم يضطر إليه أمر ديني، أو عن كثير منكم فلا يؤخذاه بجرمه. قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَ كِتابٌ مُبِينٌ يعني القرآن فإنه الكاشف لظلمات الشك و الضلال و الكتاب الواضح الإعجاز. و قيل يريد بالنور محمد صلّى اللّه عليه و سلّم.
[سورة المائدة (5): آية 16]
يَهْدِي بِهِ اللَّهُ وحد الضمير لأن المراد بهما واحد، أو لأنهما كواحد في الحكم. مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ من اتبع رضاه بالإيمان منهم. سُبُلَ السَّلامِ طرق السلامة من العذاب، أو سبل اللّه. وَ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ من أنواع الكفر إلى الإسلام. بِإِذْنِهِ بإرادته أو توفيقه. وَ يَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ طريق هو أقرب الطرق إلى اللّه سبحانه و تعالى و مؤد إليه لا محالة.
[سورة المائدة (5): آية 17]
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ هم الذين قالوا بالاتحاد منهم، و قيل لم يصرح به أحد منهم و لكن لما زعموا أن فيه لاهوتا و قالوا لا إله إلا اللّه واحد لزمهم أن يكون هو المسيح فنسب إليهم لازم قولهم توضيحا لجهلهم و تفضيحا لمعتقدهم. قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً فمن يمنع من قدرته و إرادته شيئا. إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ عيسى ابْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً احتج بذلك على فساد عقولهم و تقريره: أن المسيح مقدور مقهور قابل للفناء كسائر الممكنات و من كان كذلك فهو بمعزل عن الألوهية. وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ إزاحة لما عرض لهم من الشبهة في أمره، و المعنى أنه سبحانه و تعالى قادر على الإطلاق يخلق من غير أصل كما خلق السموات و الأرض، و من أصل كخلق ما بينهما فينشئ من أصل ليس من جنسه كآدم و كثير من الحيوانات، و من أصل يجانسه إما من ذكر وحده كما خلق حواء أو من أنثى وحدها كعيسى، أو منهما كسائر الناس.
[سورة المائدة (5): آية 18]
وَ قالَتِ الْيَهُودُ وَ النَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَ أَحِبَّاؤُهُ أشياع ابنيه عزيرا و المسيح كما قيل لأشياع ابن الزبير الخبيبون أو المقربون عنده قرب الأولاد من والدهم و قد سبق لنحو ذلك مزيد بيان في سورة «آل عمران».
قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ أي فإن صح ما زعمتم فلم يعذبكم بذنوبكم فإن من كان بهذا المنصب لا يفعل ما يوجب تعذيبه، و قد عذبكم في الدنيا بالقتل و الأسر و المسخ و اعترفتم بأنه سيعذبكم بالنار أياما معدودات.
بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ ممن خلقه اللّه تعالى. يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ و هم من آمن به و برسله. وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ و هم من كفر، و المعنى أنه يعاملكم معاملة سائر الناس لا مزية لكم عنده. وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما كلها سواء في كونها خلقا و ملكا له. وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ فيجازي المحسن بإحسانه و المسيء بإساءته.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 121
[سورة المائدة (5): آية 19]
يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ أي الدين، و حذف لظهوره، أو ما كتمتم و حذف لتقدم ذكره و يجوز أن لا يقدر مفعول على معنى يبذل لكم البيان و الجملة في موضع الحال أي جاءكم رسولنا مبينا لكم. عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ متعلق بجاءكم أي جاءكم على حين فتور من الإرسال و انقطاع من الوحي، أو يبين حال من الضمير فيه. أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَ لا نَذِيرٍ كراهة أن تقولوا ذلك و تعتذروا به. فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَ نَذِيرٌ متعلق بمحذوف أي لا تعتذروا ب ما جاءَنا فقد جاءكم. وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيقدر على الإرسال تترى كما فعل بين موسى و عيسى عليهما الصلاة و السلام، إذ كان بينهما ألف و سبعمائة سنة و ألف نبي، و على الإرسال على فترة كما فعل بين عيسى و محمد عليهما الصلاة و السلام كان بينهما ستمائة أو خمسمائة و تسع و ستون سنة و أربعة أنبياء ثلاثة من بني إسرائيل و واحد من العرب خالد بن سنان العبسي، و في الآية امتنان عليهم بأن بعث إليهم حين انطمست آثار الوحي و كانوا أحوج ما يكونون إليه.
[سورة المائدة (5): آية 20]
وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ فأرشدكم و شرفكم بهم و لم يبعث في أمة ما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء. وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً أي و جعل منكم أو فيكم، و قد تكاثر فيهم الملوك تكاثر الأنبياء بعد فرعون حتى قتلوا يحيى و هموا بقتل عيسى، و قيل: لما كانوا مملوكين في أيدي القبط فأنقذهم اللّه و جعلهم مالكين لأنفسهم و أمورهم سماهم ملوكا. وَ آتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ من فلق البحر، و تظليل الغمام، و إنزال المن و السلوى و نحوها مما آتاهم اللّه، و قيل: المراد بالعالمين عالمي زمانهم.
[سورة المائدة (5): الآيات 21 الى 22]
يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ أرض بيت المقدس سميت بذلك لأنها كانت قرار الأنبياء عليهم الصلاة و السلام و مسكن المؤمنين. و قيل: الطور و ما حوله. و قيل: دمشق و فلسطين و بعض الأردن. و قيل الشام. الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ قسمها لكم أو كتب في اللوح أنها تكون مسكنا لكم، و لكن إن آمنتم و أطعتم لقوله لهم بعد ما عصوا فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ . وَ لا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ و لا ترجعوا مدبرين خوفا من الجبابرة قيل لما سمعوا حالهم من النقباء بكوا و قالوا: ليتنا متنا بمصر تعالوا نجعل علينا رأسا ينصرف بنا إلى مصر، أو لا ترتدوا عن دينكم بالعصيان و عدم الوثوق على اللّه سبحانه و تعالى. فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ ثواب الدارين، و يجوز في فتنقلبوا الجزم على العطف و النصب على الجواب.
قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ متغلبين لا تتأتى مقاومتهم، و الجبار فعال من جبره على الأمر بمعنى أجبره و هو الذي يجبر الناس على ما يريده. وَ إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ إذ لا طاقة لنا بهم.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 122
[سورة المائدة (5): آية 23]
قالَ رَجُلانِ كالب و يوشع مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أي يخافون اللّه سبحانه و تعالى و يتقونه. و قيل كان رجلان من الجبابرة أسلما و سارا إلى موسى عليه الصلاة و السلام، فعلى هذا الواو لبني إسرائيل و الراجع إلى الموصول محذوف أي من الذين يخافهم بنو إسرائيل، و يشهد له أنه قرئ «الّذين يخافون» بالضم أي المخوفين، و على المعنى الأول يكون هذا من الإخافة أي من الذين يخوفون من اللّه عز و جل بالتذكير أو يخوفهم الوعيد. أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا بالإيمان و التثبيت و هو صفة ثانية لرجلان أو اعتراض. ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ باب قريتهم أي باغتوهم و ضاغطوهم في المضيق و امنعوهم من الإصحار. فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ لتعسر الكر عليهم في المضايق من عظم أجسامهم، و لأنهم أجسام لا قلوب فيها، و يجوز أن يكون علمهما بذلك من إخبار موسى عليه الصلاة و السلام و قوله: كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ أو مما علما من عادة اللّه سبحانه و تعالى في نصرة رسله، و ما عهدا من صنعه لموسى عليه الصلاة و السلام في قهر أعدائه. وَ عَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي مؤمنين به و مصدقين بوعده.
[سورة المائدة (5): الآيات 24 الى 25]
قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً نفوا دخولهم على التأكيد و التأبيد. ما دامُوا فِيها بدل من أبدا بدل البعض. فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ قالوا ذلك استهانة باللّه و رسوله و عدم مبالاة بهما، و قيل تقديره اذهب أنت و ربك يعينك.
قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَ أَخِي قاله شكوى بثه و حزنه إلى اللّه سبحانه و تعالى لما خالفه قومه و أيس منهم، و لم يبق معه موافق يثق به غير هارون عليه السلام و الرجلان المذكوران و إن كانا يوافقانه لم يثق عليهما لما كابد من تلون قومه، و يجوز أن يراد بأخي من يواخيني في الدين فيدخلان فيه، و يحتمل نصبه عطفا على نفسي، أو على اسم إن و رفعه عطفا على الضمير في لا أَمْلِكُ ، أو على محل إن و اسمها، و جره عند الكوفيين عطفا على الضمير في نفسي. فَافْرُقْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ بأن تحكم لنا بما نستحقه و تحكم عليهم بما يستحقونه، أو بالتبعيد بيننا و بينهم و تخليصنا من صحبتهم.
[سورة المائدة (5): آية 26]
قالَ فَإِنَّها فإن الأرض المقدسة. مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ لا يدخلونها و لا يملكونها بسبب عصيانهم.
أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ عامل الظرف إما محرمة فيكون التحريم موقتا غير مؤبد فلا يخالف ظاهر قوله الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ، و يؤيد ذلك ما
روي: أن موسى عليه الصلاة و السلام سار بعده بمن بقي من بني إسرائيل ففتح أريحاء، و أقام بها ما شاء اللّه ثم قبض
و قيل: إنه قبض في التيه و لما احتضر أخبرهم بأن يوشع بعده نبي و أن اللّه سبحانه و تعالى أمره بقتال الجبابرة، فسار بهم يوشع و قتل الجبابرة و صار الشام كله لبني إسرائيل، و إما يتيهون أي يسيرون فيها متحيرين لا يرون طريقا فيكون التحريم مطلقا، و قد قيل لم يدخل الأرض المقدسة أحد ممن قال إنا لن ندخلها بل هلكوا في التيه، و إنما قاتل الجبابرة أولادهم.