کتابخانه تفاسیر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 118
المشركين و هذه في اليهود، أو لمزيد الاهتمام بالعدل و المبالغة في إطفاء ثائرة الغيظ.
[سورة المائدة (5): الآيات 9 الى 10]
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ إنما حذف ثاني مفعولي وعد استغناء بقوله لَهُمْ مَغْفِرَةٌ فإنه استئناف يبينه. و قيل الجملة في موضع المفعول فإن الوعد ضرب من القول و كأنه قال: وعدهم هذا القول.
وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ هذا من عادته تعالى، أن يتبع حال أحد الفريقين حال الآخر وفاء بحق الدعوة، و فيه مزيد وعد للمؤمنين و تطييب لقلوبهم.
[سورة المائدة (5): آية 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ
روي (أن المشركين رأوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و أصحابه بعسفان، قاموا إلى الظهر معا فلما صلوا ندموا ألا كانوا أكبوا عليهم و هموا أن يوقعوا بهم إذا قاموا إلى العصر، فرد اللّه عليهم كيدهم بأن أنزل عليهم صلاة الخوف).
و الآية إشارة إلى ذلك و قيل إشارة إلى ما
روي (أنه عليه الصلاة و السلام أتى قريظة و معه الخلفاء الأربعة يستقرضهم لدية مسلمين قتلهما عمرو بن أمية الضمري يحسبهما مشركين، فقالوا: نعم يا أبا القاسم اجلس حتى نطعمك و نقرضك فأجلسوه و هموا بقتله، فعمد عمرو بن جحاش إلى رحى عظيمة يطرحها عليه، فأمسك اللّه يده فنزل جبريل فأخبره فخرج).
و
قيل (نزل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم منزلا و علق سلاحه بشجرة و تفرق الناس عنه، فجاء أعرابي فسل سيفه و قال: من يمنعك مني؟ فقال:
اللّه! فأسقطه جبريل من يده، فأخذه الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم و قال: من يمنعك مني فقال لا أحد أشهد أن لا إله إلا اللّه و أشهد أن محمدا رسول اللّه) فنزلت
إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ بالقتل و الإهلاك، يقال بسط إليه يده إذا بطش به و بسط إليه لسانه إذا شتمه. فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ منعها أن تمد إليكم ورد مضرتها عنكم.
وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ فإنه الكافي لإيصال الخير و دفع الشر.
[سورة المائدة (5): آية 12]
وَ لَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَ بَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً شاهدا من كل سبط ينقب عن أحوال قومه و يفتش عنها، أو كفيلا يكفل عليهم بالوفاء بما أمروا به.
روي أن بني إسرائيل لما فرغوا من فرعون و استقروا بمصر، أمرهم اللّه سبحانه و تعالى بالمسير إلى أريحاء من أرض الشام، و كان يسكنها الجبابرة الكنعانيون و قال: إني كتبتها لكم دارا و قرارا فاخرجوا إليها و جاهدوا من فيها فإني ناصركم، و أمر موسى عليه الصلاة و السلام أن يأخذ من كل سبط كفيلا عليهم بالوفاء بما أمروا به، فأخذ عليهم الميثاق و اختار منهم النقباء و سار بهم فلما دنا من أرض كنعان بعث النقباء يتجسسون الأخبار، و نهاهم أن يحدثوا قومهم، فرأوا أجراما عظيمة و بأسا شديدا فهابوا و رجعوا و حدثوا قومهم و نكث الميثاق إلا كالب بن يوفنا من سبط يهوذا، و يوشع بن نون
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 119
من سبط افرائيم بن يوسف.
وَ قالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ بالنصرة لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَ آتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَ آمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَ عَزَّرْتُمُوهُمْ أي نصرتموهم و قويتموهم و أصله الذب و منه التعزيز. وَ أَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً بالإنفاق في سبيل الخير و قرضا يحتمل المصدر و المفعول. لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ جواب للقسم المدلول عليه باللام في لئن ساد مسد جواب الشرط. وَ لَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ بعد ذلك الشرط المؤكد المعلق به الوعد العظيم. مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ ضلالا لا شبهة فيه و لا عذر معه بخلاف من كفر قبل ذلك، إذ قد يمكن أن يكون له شبهة و يتوهم له معذرة.
[سورة المائدة (5): آية 13]
فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ طردناهم من رحمتنا، أو مسخناهم أو ضربنا عليهم الجزية. وَ جَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً لا تنفعل عن الآيات و النذر. و قرأ حمزة و الكسائي «قسية» و هي إما مبالغة قاسِيَةً أو بمعنى رديئة من قولهم درهم قسي إذا كان مغشوشا، و هو أيضا من القسوة فإن المغشوش فيه يبس و صلابة و قرئ «قسية» بإتباع القاف للسين. يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ استئناف لبيان قسوة قلوبهم، فإنه لا قسوة أشد من تغيير كلام اللّه سبحانه و تعالى و الافتراء عليه، و يجوز أن يكون حالا من مفعول لَعَنَّاهُمْ لا من القلوب إذ لا ضمير له فيه. وَ نَسُوا حَظًّا و تركوا نصيبا وافيا. مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ من التوراة، أو من اتباع محمد صلّى اللّه عليه و سلّم، و المعنى أنهم حرفوا التوراة و تركوا حظهم مما أنزل عليهم فلم ينالوه، و قيل معناه أنهم حرفوها فزلت بشؤمه أشياء منها عن حفظهم، لما روي أن ابن مسعود قال: قد ينسى المرء بعض العلم بالمعصية و تلا هذه الآية.
وَ لا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ خيانة منهم، أو فرقة خائنة أو خائن و التاء للمبالغة. و المعنى أن الخيانة و الغدر من عادتهم و عادة أسلافهم لا تزال ترى ذلك منهم. إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ لم يخونوا و هم الذين آمنوا منهم، و قيل استثناء من قوله: وَ جَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اصْفَحْ إن تابوا و آمنوا أو عاهدوا و التزموا الجزية. و قيل: مطلق نسخ بآية السيف. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ تعليل للأمر بالصفح و حث عليه و تنبيه على أن العفو عن الكافر الخائن إحسان فضلا عن العفو عن غيره.
[سورة المائدة (5): آية 14]
وَ مِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ أي و أخذنا من النصارى ميثاقهم كما أخذنا ممن قبلهم، و قيل تقديره و من الذين قالوا إنا نصارى قوم أخذنا، و إنما قال قالوا إنا نصارى ليدل على أنهم سموا أنفسهم بذلك ادعاء لنصرة اللّه سبحانه و تعالى. فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا فألزمنا من غري بالشيء إذا لصق به. بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ بين فرق النصارى، و هم نسطورية و يعقوبية و ملكانية، أو بينهم و بين اليهود. وَ سَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ بالجزاء و العقاب.
[سورة المائدة (5): آية 15]
يا أَهْلَ الْكِتابِ يعني اليهود و النصارى، و وحد الكتاب لأنه للجنس. قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 120
كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ كنت محمد صلّى اللّه عليه و سلّم و آية الرجم في التوراة و بشارة عيسى عليه الصلاة و السلام بأحمد صلّى اللّه عليه و سلّم في الإنجيل. وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ مما تخفونه لا يخبر به إذا لم يضطر إليه أمر ديني، أو عن كثير منكم فلا يؤخذاه بجرمه. قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَ كِتابٌ مُبِينٌ يعني القرآن فإنه الكاشف لظلمات الشك و الضلال و الكتاب الواضح الإعجاز. و قيل يريد بالنور محمد صلّى اللّه عليه و سلّم.
[سورة المائدة (5): آية 16]
يَهْدِي بِهِ اللَّهُ وحد الضمير لأن المراد بهما واحد، أو لأنهما كواحد في الحكم. مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ من اتبع رضاه بالإيمان منهم. سُبُلَ السَّلامِ طرق السلامة من العذاب، أو سبل اللّه. وَ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ من أنواع الكفر إلى الإسلام. بِإِذْنِهِ بإرادته أو توفيقه. وَ يَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ طريق هو أقرب الطرق إلى اللّه سبحانه و تعالى و مؤد إليه لا محالة.
[سورة المائدة (5): آية 17]
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ هم الذين قالوا بالاتحاد منهم، و قيل لم يصرح به أحد منهم و لكن لما زعموا أن فيه لاهوتا و قالوا لا إله إلا اللّه واحد لزمهم أن يكون هو المسيح فنسب إليهم لازم قولهم توضيحا لجهلهم و تفضيحا لمعتقدهم. قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً فمن يمنع من قدرته و إرادته شيئا. إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ عيسى ابْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً احتج بذلك على فساد عقولهم و تقريره: أن المسيح مقدور مقهور قابل للفناء كسائر الممكنات و من كان كذلك فهو بمعزل عن الألوهية. وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ إزاحة لما عرض لهم من الشبهة في أمره، و المعنى أنه سبحانه و تعالى قادر على الإطلاق يخلق من غير أصل كما خلق السموات و الأرض، و من أصل كخلق ما بينهما فينشئ من أصل ليس من جنسه كآدم و كثير من الحيوانات، و من أصل يجانسه إما من ذكر وحده كما خلق حواء أو من أنثى وحدها كعيسى، أو منهما كسائر الناس.
[سورة المائدة (5): آية 18]
وَ قالَتِ الْيَهُودُ وَ النَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَ أَحِبَّاؤُهُ أشياع ابنيه عزيرا و المسيح كما قيل لأشياع ابن الزبير الخبيبون أو المقربون عنده قرب الأولاد من والدهم و قد سبق لنحو ذلك مزيد بيان في سورة «آل عمران».
قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ أي فإن صح ما زعمتم فلم يعذبكم بذنوبكم فإن من كان بهذا المنصب لا يفعل ما يوجب تعذيبه، و قد عذبكم في الدنيا بالقتل و الأسر و المسخ و اعترفتم بأنه سيعذبكم بالنار أياما معدودات.
بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ ممن خلقه اللّه تعالى. يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ و هم من آمن به و برسله. وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ و هم من كفر، و المعنى أنه يعاملكم معاملة سائر الناس لا مزية لكم عنده. وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما كلها سواء في كونها خلقا و ملكا له. وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ فيجازي المحسن بإحسانه و المسيء بإساءته.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 121
[سورة المائدة (5): آية 19]
يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ أي الدين، و حذف لظهوره، أو ما كتمتم و حذف لتقدم ذكره و يجوز أن لا يقدر مفعول على معنى يبذل لكم البيان و الجملة في موضع الحال أي جاءكم رسولنا مبينا لكم. عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ متعلق بجاءكم أي جاءكم على حين فتور من الإرسال و انقطاع من الوحي، أو يبين حال من الضمير فيه. أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَ لا نَذِيرٍ كراهة أن تقولوا ذلك و تعتذروا به. فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَ نَذِيرٌ متعلق بمحذوف أي لا تعتذروا ب ما جاءَنا فقد جاءكم. وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيقدر على الإرسال تترى كما فعل بين موسى و عيسى عليهما الصلاة و السلام، إذ كان بينهما ألف و سبعمائة سنة و ألف نبي، و على الإرسال على فترة كما فعل بين عيسى و محمد عليهما الصلاة و السلام كان بينهما ستمائة أو خمسمائة و تسع و ستون سنة و أربعة أنبياء ثلاثة من بني إسرائيل و واحد من العرب خالد بن سنان العبسي، و في الآية امتنان عليهم بأن بعث إليهم حين انطمست آثار الوحي و كانوا أحوج ما يكونون إليه.
[سورة المائدة (5): آية 20]
وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ فأرشدكم و شرفكم بهم و لم يبعث في أمة ما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء. وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً أي و جعل منكم أو فيكم، و قد تكاثر فيهم الملوك تكاثر الأنبياء بعد فرعون حتى قتلوا يحيى و هموا بقتل عيسى، و قيل: لما كانوا مملوكين في أيدي القبط فأنقذهم اللّه و جعلهم مالكين لأنفسهم و أمورهم سماهم ملوكا. وَ آتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ من فلق البحر، و تظليل الغمام، و إنزال المن و السلوى و نحوها مما آتاهم اللّه، و قيل: المراد بالعالمين عالمي زمانهم.
[سورة المائدة (5): الآيات 21 الى 22]
يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ أرض بيت المقدس سميت بذلك لأنها كانت قرار الأنبياء عليهم الصلاة و السلام و مسكن المؤمنين. و قيل: الطور و ما حوله. و قيل: دمشق و فلسطين و بعض الأردن. و قيل الشام. الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ قسمها لكم أو كتب في اللوح أنها تكون مسكنا لكم، و لكن إن آمنتم و أطعتم لقوله لهم بعد ما عصوا فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ . وَ لا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ و لا ترجعوا مدبرين خوفا من الجبابرة قيل لما سمعوا حالهم من النقباء بكوا و قالوا: ليتنا متنا بمصر تعالوا نجعل علينا رأسا ينصرف بنا إلى مصر، أو لا ترتدوا عن دينكم بالعصيان و عدم الوثوق على اللّه سبحانه و تعالى. فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ ثواب الدارين، و يجوز في فتنقلبوا الجزم على العطف و النصب على الجواب.
قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ متغلبين لا تتأتى مقاومتهم، و الجبار فعال من جبره على الأمر بمعنى أجبره و هو الذي يجبر الناس على ما يريده. وَ إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ إذ لا طاقة لنا بهم.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 122
[سورة المائدة (5): آية 23]
قالَ رَجُلانِ كالب و يوشع مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أي يخافون اللّه سبحانه و تعالى و يتقونه. و قيل كان رجلان من الجبابرة أسلما و سارا إلى موسى عليه الصلاة و السلام، فعلى هذا الواو لبني إسرائيل و الراجع إلى الموصول محذوف أي من الذين يخافهم بنو إسرائيل، و يشهد له أنه قرئ «الّذين يخافون» بالضم أي المخوفين، و على المعنى الأول يكون هذا من الإخافة أي من الذين يخوفون من اللّه عز و جل بالتذكير أو يخوفهم الوعيد. أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا بالإيمان و التثبيت و هو صفة ثانية لرجلان أو اعتراض. ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ باب قريتهم أي باغتوهم و ضاغطوهم في المضيق و امنعوهم من الإصحار. فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ لتعسر الكر عليهم في المضايق من عظم أجسامهم، و لأنهم أجسام لا قلوب فيها، و يجوز أن يكون علمهما بذلك من إخبار موسى عليه الصلاة و السلام و قوله: كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ أو مما علما من عادة اللّه سبحانه و تعالى في نصرة رسله، و ما عهدا من صنعه لموسى عليه الصلاة و السلام في قهر أعدائه. وَ عَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي مؤمنين به و مصدقين بوعده.
[سورة المائدة (5): الآيات 24 الى 25]
قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً نفوا دخولهم على التأكيد و التأبيد. ما دامُوا فِيها بدل من أبدا بدل البعض. فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ قالوا ذلك استهانة باللّه و رسوله و عدم مبالاة بهما، و قيل تقديره اذهب أنت و ربك يعينك.
قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَ أَخِي قاله شكوى بثه و حزنه إلى اللّه سبحانه و تعالى لما خالفه قومه و أيس منهم، و لم يبق معه موافق يثق به غير هارون عليه السلام و الرجلان المذكوران و إن كانا يوافقانه لم يثق عليهما لما كابد من تلون قومه، و يجوز أن يراد بأخي من يواخيني في الدين فيدخلان فيه، و يحتمل نصبه عطفا على نفسي، أو على اسم إن و رفعه عطفا على الضمير في لا أَمْلِكُ ، أو على محل إن و اسمها، و جره عند الكوفيين عطفا على الضمير في نفسي. فَافْرُقْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ بأن تحكم لنا بما نستحقه و تحكم عليهم بما يستحقونه، أو بالتبعيد بيننا و بينهم و تخليصنا من صحبتهم.
[سورة المائدة (5): آية 26]
قالَ فَإِنَّها فإن الأرض المقدسة. مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ لا يدخلونها و لا يملكونها بسبب عصيانهم.
أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ عامل الظرف إما محرمة فيكون التحريم موقتا غير مؤبد فلا يخالف ظاهر قوله الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ، و يؤيد ذلك ما
روي: أن موسى عليه الصلاة و السلام سار بعده بمن بقي من بني إسرائيل ففتح أريحاء، و أقام بها ما شاء اللّه ثم قبض
و قيل: إنه قبض في التيه و لما احتضر أخبرهم بأن يوشع بعده نبي و أن اللّه سبحانه و تعالى أمره بقتال الجبابرة، فسار بهم يوشع و قتل الجبابرة و صار الشام كله لبني إسرائيل، و إما يتيهون أي يسيرون فيها متحيرين لا يرون طريقا فيكون التحريم مطلقا، و قد قيل لم يدخل الأرض المقدسة أحد ممن قال إنا لن ندخلها بل هلكوا في التيه، و إنما قاتل الجبابرة أولادهم.
روي: أنهم لبثوا أربعين سنة في ستة فراسخ يسيرون من الصباح إلى المساء، فإذا هم بحيث ارتحلوا عنه، و كان الغمام
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 123
يظلهم من الشمس و عمود من نور يطلع بالليل فيضيء لهم، و كان طعامهم المن و السلوى و ماؤهم من الحجر الذي يحملونه، و الأكثر على أن موسى و هارون كانا معهم في التيه إلا أنه كان ذلك روحا لهما و زيادة في درجتهما، و عقوبة لهم، و أنهما ماتا فيه مات هارون، و موسى بعده بسنة. ثم دخل يوشع أريحاء بعد ثلاثة أشهر و مات النقباء فيه بغتة غير كالب و يوشع.
فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ خاطب به موسى عليه الصلاة و السلام لما ندم على الدعاء عليهم و بين أنهم أحقاء بذلك لفسقهم.
[سورة المائدة (5): الآيات 27 الى 28]
وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ قابيل و هابيل، أوحى اللّه سبحانه و تعالى إلى آدم أن يزوج كل واحد منهما توأمة الآخر، فسخط منه قابيل لأن توأمته كانت أجمل، فقال لهما آدم: قربا قربانا فمن أيكما قبل تزوجها، فقبل قربان هابيل بأن نزلت نار فأكلته، فازداد قابيل سخطا و فعل ما فعل. و قيل لم يرد لهما ابني آدم لصلبه و أنهما رجلان من بني إسرائيل و لذلك قال: كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ . بِالْحَقِ صفة مصدر محذوف أي تلاوة ملتبسة بالحق، أو حال من الضمير في اتل، أو من نبأ أي ملتبسا بالصدق موافقا لما في كتب الأولين إِذْ قَرَّبا قُرْباناً ظرف لنبأ، أو حال منه، أو بدل على حذف مضاف أي و اتل عليهم نبأهما نبأ ذلك الوقت، و القربان اسم ما يتقرب به إلى اللّه سبحانه و تعالى من ذبيحة أو غيرها، كما أن الحلوان اسم ما يحلى به أي يعطى، و هو في الأصل مصدر و لذلك لم يثن و قيل تقديره إذ قرب كل واحد منهما قربانا. قيل كان قابيل صاحب زرع و قرب أردأ قمح عنده، و هابيل صاحب ضرع و قرب جملا سمينا. فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَ لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ لأنه سخط حكم اللّه سبحانه و تعالى و لم يخلص النية في قربانه و قصد إلى أخس ما عنده. قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ نوعده بالقتل لفرط الحسد له على تقبل قربانه و لذلك. قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ في جوابه أي إنما أتيت من قبل نفسك بترك التقوى لا من قبلي فلم تقتلني، و فيه إشارة إلى أن الحاسد ينبغي أن يرى حرمانه من تقصيره و يجتهد في تحصيل ما به صار المحسود محظوظا، لا في إزالة حظه فإن ذلك مما يضره و لا ينفعه، و أن الطاعة لا تقبل إلا من مؤمن متق.
لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ قيل: كان هابيل أقوى منه و لكن تحرج عن قتله و استسلم له خوفا من اللّه سبحانه و تعالى لأن الدفع لم يبح بعد، أو تحريا لما هو الأفضل
قال عليه الصلاة و السلام: «كن عبد الله المقتول و لا تكن عبد الله القاتل».
و إنما قال:
ما أَنَا بِباسِطٍ في جواب لَئِنْ بَسَطْتَ للتبري عن هذا الفعل الشنيع رأسا، و التحرز من أن يوصف به و يطلق عليه و لذلك أكد النفي بالباء.
[سورة المائدة (5): الآيات 29 الى 30]
إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَ إِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَ ذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ تعليل ثان للامتناع عن المعارضة و المقاومة، و المعنى إنما استسلم لك إرادة أن تحمل إثمي لو بسطت إليك يدي، و إثمك ببسطك يدك إلي و نحوه المستبان ما قالا فعلى البادئ ما لم يعتد المظلوم. و قيل معنى بإثمي بإثم قتلي، و بإثمك الذي لم يتقبل من أجله قربانك، و كلاهما في موضع الحال أي ترجع ملتبسا بالإثمين حاملا لهما، و لعله لم يرد معصية أخيه و شقاوته بل قصده بهذا الكلام إلى أن ذلك إن كان لا محالة واقفا فأريد أن يكون لك لا لي،
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 124
فالمراد بالذات أن لا يكون له لا أن يكون لأخيه و يجوز أن يكون المراد بالإثم عقوبته و إرادة عقاب العاصي جائزة.
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فسهلته له و وسعته من طاع له المرتع إذا اتسع. و قرئ «فطاوعت» على أنه فاعل بمعنى فعل، أو على أن قَتْلَ أَخِيهِ كأنه دعاها إلى الإقدام عليه فطاوعته، و له لزيادة الربط كقولك حفظت لزيد ماله. فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ دينا و دنيا، إذ بقي مدة عمره مطرودا محزونا. قيل قتل هابيل و هو ابن عشرين سنة عند عقبة حراء. و قيل: بالبصرة في موضع المسجد الأعظم.
[سورة المائدة (5): آية 31]
فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ
روي أنه لما قتله تحير في أمره و لم يدر ما يصنع به إذ كان أول ميت من بني آدم، فبعث اللّه غرابين فاقتتلا فقتل أحدهما الآخر، فحفر له بمنقاره و رجليه ثم ألقاه في الحفرة
و الضمير في ليري، للّه سبحانه و تعالى، أو للغراب، و كيف حال من الضمير في يُوارِي و الجملة ثاني مفعولي يرى،! و المراد بسوأة أخيه جسده الميت فإنه مما يستقبح أن يرى. قالَ يا وَيْلَتى كلمة جزع و تحسر و الألف فيها بدل من ياء المتكلم. و المعنى يا ويلتي احضري فهذا أوانك، و الويل و الويلة الهلكة. أَ عَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي لا أهتدي إلى مثل ما أهتدى إليه، و قوله: فَأُوارِيَ عطف على أَكُونَ و ليس جواب الاستفهام إذ ليس المعنى هاهنا لو عجزت لواريت، و قرئ بالسكون على فأنا أواري أو على تسكين المنصوب تخفيفا. فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ على قتله لما كابد فيه من التحير في أمره و حمله على رقبته سنة أو أكثر على ما قيل، و تلمذه للغراب و اسوداد لونه و تبري أبويه منه، إذ
روي أنه لما قتله اسود جسده فسأله آدم عن أخيه فقال ما كنت عليه وكيلا فقال بل قتلته و لذلك اسود جسدك و تبرأ منه و مكث بعد ذلك مائة سنة لا يضحك و عدم الظفر بما فعله من أجله.
[سورة المائدة (5): آية 32]
مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بسببه قضينا عليهم، و أجل في الأصل مصدر أجل شرا إذا جناه استعمل في تعليل الجنايات كقولهم، من جراك فعلته، أي من أن جررته أي جنيته ثم اتسع فيه فاستعمل في كل تعليل، و من ابتدائية متعلقة بكتبنا أي ابتداء الكتب و نشؤه من أجل ذلك. أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أي بغير قتل نفس يوجب الاقتصاص. أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ أو بغير فساد فيها كالشرك أو قطع الطريق.