کتابخانه تفاسیر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 130
و وعيد للمبادرين و المقصرين. فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ بالجزاء الفاصل بين المحق و المبطل و العامل و المقصر.
[سورة المائدة (5): آية 49]
وَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ عطف على الكتاب أي أنزلنا إليك الكتاب و الحكم، أو على الحق أي أنزلناه بالحق و بأن احكم، و يجوز أن يكون جملة بتقدير و أمرنا أن أحكم. وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَ احْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ أي أن يضلوك و يصرفوك عنه، و أن بصلته بدل من هم بدل الاشتمال أي احذر فتنتهم، أو مفعول له أي احذرهم مخافة أن يفتنوك.
روي (أن أحبار اليهود قالوا: اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه، فقالوا: يا محمد قد عرفت أنا أحبار اليهود و أنا إن اتبعناك اتبعنا اليهود كلهم، إن بيننا و بين قومنا خصومة فنتحاكم إليك فتقضي لنا عليهم و نحن نؤمن بك و نصدقك، فأبى ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم) فنزلت.
فَإِنْ تَوَلَّوْا عن الحكم المنزل و أرادوا غيره. فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ يعني ذنب التولي عن حكم اللّه سبحانه و تعالى، فعبر عنه بذلك تنبيها على أن لهم ذنوبا كثيرة و هذا مع عظمه واحد منها معدود من جملتها، و فيه دلالة على التعظيم كما في التنكير و نظيره قول لبيد:
أو يرتبط بعض النّفوس جمامها وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ لمتمردون في الكفر معتدون فيه.
[سورة المائدة (5): آية 50]
أَ فَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)
أَ فَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ الذي هو الميل و المداهنة في الحكم، و المراد بالجاهلية الملة الجاهلية التي هي متابعة الهوى. و قيل نزلت في بني قريظة و النضير طلبوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أن يحكم بما كان يحكم به أهل الجاهلية من التفاضل بين القتلى. و قرئ برفع الحكم على أنه مبتدأ، و يَبْغُونَ خبره، و الراجع محذوف حذفه في الصلة في قوله تعالى: أَ هذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا و استضعف ذلك في غير الشعر و قرئ «أ فحكم الجاهلية» أي يبغون حاكما كحكام الجاهلية يحكم بحسب شهيتهم. و قرأ ابن عامر «تبغون» بالتاء على قل لهم أ فحكم الجاهلية تبغون. وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ أي عندهم، و اللام للبيان كما في قوله تعالى: هَيْتَ لَكَ أي هذا الاستفهام لقوم يوقنون فإنهم هم الذين يتدبرون الأمور و يتحققون الأشياء بأنظارهم فيعلمون أن لا أحسن حكما من اللّه سبحانه و تعالى.
[سورة المائدة (5): آية 51]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصارى أَوْلِياءَ فلا تعتمدوا عليهم و لا تعاشروهم معاشرة الأحباب. بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إيماء على علة النهي، أي فإنهم متفقون على خلافكم يوالي بعضهم بعضا لاتحادهم في الدين و إجماعهم على مضادتكم. وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ أي و من والاهم منكم فإنه من جملتهم، و هذا التشديد في وجوب مجانبتهم كما
قال عليه الصلاة و السلام: «لا تتراءى ناراهما»
، أو لأن الموالي لهم كانوا منافقين. إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي الذين ظلموا أنفسهم بموالاة الكفار أو المؤمنين بموالاة أعدائهم.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 131
[سورة المائدة (5): آية 52]
فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يعنى ابن أبي و أضرابه. يُسارِعُونَ فِيهِمْ أي في موالاتهم و معاونتهم.
يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ يعتذرون بأنهم يخافون أن تصيبهم دائرة من دوائر الزمان بأن ينقلب الأمر و تكون الدولة للكفار.
روي (أن عبادة بن الصامت رضي اللّه تعالى عنه قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: إن لي موالي من اليهود كثيرا عددهم، و إني أبرأ إلى اللّه و إلى رسوله من ولايتهم و أوالي اللّه و رسوله، فقال ابن أبي: إني رجل أخاف الدوائر و لا أبرأ من ولاية موالي) فنزلت.
فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم على أعدائه و إظهار المسلمين. أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ يقطع شأفة اليهود من القتل و الإجلاء، أو الأمر بإظهار أسرار المنافقين و قتلهم. فَيُصْبِحُوا أي هؤلاء المنافقون. عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ على ما استبطنوه من الكفر و الشك في أمر الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم، فضلا عما أظهروه مما أشعر على نفاقهم.
[سورة المائدة (5): آية 53]
وَ يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا بالرفع قراءة عاصم و حمزة و الكسائي على أنه كلام مبتدأ و يؤيده قراءة ابن كثير و نافع و ابن عامر مرفوعا بغير واو على أنه جواب قائل يقول فماذا يقول المؤمنون حينئذ، و بالنصب قراءة أبي عمرو و يعقوب عطفا على أن يأتي باعتبار المعنى، و كأنه قال: عسى أن يأتي اللّه بالفتح و يقول الذين آمنوا، أو يجعله بدلا من اسم اللّه تعالى داخلا في اسم عسى مغنيا عن الخبر بما تضمنه من الحدث، أو على الفتح بمعنى عسى اللّه أن يأتي بالفتح و بقول المؤمنين فإن الإتيان بما يوجبه كالإتيان به. أَ هؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ يقول المؤمنين بعضهم لبعض تعجبا من حال المنافقين و تبجحا بما منّ اللّه سبحانه و تعالى عليهم من الإخلاص أو يقولونه لليهود، فإن المنافقين حلفوا لهم بالمعاضدة كما حكى اللّه تعالى عنهم وَ إِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ و جهد الأيمان أغلظها، و هو في الأصل مصدر و نصبه على الحال على تقدير و أقسموا باللّه يجهدون جهد أيمانهم، فحذف الفعل و أقيم المصدر مقامه و لذلك ساغ كونها معرفة أو على المصدر لأنه بمعنى أقسموا. حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ إما من جملة المقول أو من قول اللّه سبحانه و تعالى شهادة لهم بحبوط أعمالهم، و فيه معنى التعجب كأنه قيل أحبط أعمالهم فما أخسرهم.
[سورة المائدة (5): آية 54]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ قرأه على الأصل نافع و ابن عامر و هو كذلك في الإمام، و الباقون بالإدغام و هذا من الكائنات التي أخبر اللّه تعالى عنها قبل وقوعها، و قد ارتد من العرب في أواخر عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم ثلاث فرق: بنو مدلج و كان رئيسهم ذا الحمار الأسود العنسي، تنبأ باليمن و استولى على بلاده ثم قتله فيروز الديلمي ليلة قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم من غدها و أخبر الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم في تلك الليلة فسرّ المسلمون و أتى الخبر في أواخر ربيع الأول.
و بنو حنيفة أصحاب مسيلمة تنبأ و كتب إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: من مسيلمة رسول اللّه إلى محمد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أما بعد فإن الأرض نصفها لي و نصفها لك، فأجاب من محمد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم إلى مسيلمة الكذاب أما بعد فإن الأرض للّه يورثها من يشاء من عباده و العاقبة للمتقين، فحاربه أبو بكر رضي اللّه تعالى عنه بجند من المسلمين و قتله وحشي قاتل حمزة. و بنو أسد قوم طليحة بن خويلد تنبأ
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 132
فبعث إليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم خالدا فهرب بعد القتال إلى الشام ثم أسلم و حسن إسلامه.
و في عهد أبي بكر رضي اللّه عنه سبع فزارة قوم عيينة بن حصن، و غطفان قوم فرة بن سلمة القشيري و بنو سليم قوم الفجاءة بن عبد يا ليل، و بنو يربوع قوم مالك بن نويرة، و بعض تميم قوم سجاح بنت المنذر المتنبئة زوجة مسيلمة، و كندة قوم الأشعث بن قيس، و بنو بكر بن وائل بالبحرين قوم الحطم بن زيد و كفى اللّه أمرهم على يده، و في إمرة عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه غسان قوم جبلة بن الأيهم تنصر و سار إلى الشام. فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ قيل هم أهل اليمن لما
روي (أنه عليه الصلاة و السلام أشار إلى أبي موسى الأشعري و قال:
هم قوم هذا).
و
قيل الفرس لأنه عليه الصلاة و السلام سئل عنهم فضرب يده على عاتق سلمان و قال: هذا و ذووه.
و قيل الذين جاهدوا يوم القادسية ألفان من النخع و خمسة آلاف من كندة و بجيلة، و ثلاثة آلاف من أفناء الناس. و الراجع إلى من محذوف تقديره فسوف يأتي اللّه بقوم مكانهم و محبة اللّه تعالى للعباد إرادة الهدى و التوفيق لهم في الدنيا و حسن الثواب في الآخرة، و محبة العباد له إرادة طاعته و التحرز عن معاصيه. أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ عاطفين عليهم متذللين لهم، جمع ذليل لا ذلول فإن جمعه ذلل، و استعماله مع على إما لتضمنه معنى العطف و الحنو أو للتنبيه على أنهم مع علو طبقتهم و فضلهم على المؤمنين خاضعون لهم أو للمقابلة. أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ شداد متغلبين عليهم من عزه إذا غلبه، و قرئ بالنصب على الحال.
يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ صفة أخرى لقوم، أو حال من الضمير في أعزة. وَ لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ عطف على يجاهدون بمعنى أنهم الجامعون بين المجاهدة في سبيل اللّه و التصلب في دينه، أو حال بمعنى أنهم مجاهدون و حالهم خلاف حال المنافقين، فإنهم يخرجون في جيش المسلمين خائفين ملامة أوليائهم من اليهود فلا يعملون شيئا يلحقهم فيه لوم من جهتهم، و اللومة المرة من اللوم و فيها و في تنكير لائم مبالغتان. ذلِكَ إشارة إلى ما تقدم من الأوصاف. فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ يمنحه و يوفق له وَ اللَّهُ واسِعٌ كثير الفضل.
عَلِيمٌ بمن هو أهله.
[سورة المائدة (5): الآيات 55 الى 56]
إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا لما نهى عن موالاة الكفرة ذكر عقيبه من هو حقيق بها، و إنما قال وَلِيُّكُمُ اللَّهُ و لم يقل أولياؤكم للتنبيه على أن الولاية للّه سبحانه و تعالى على الأصالة و لرسوله صلّى اللّه عليه و سلّم و للمؤمنين على التبع. الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ صفة للذين آمنوا فإنه جرى مجرى الاسم، أو بدل منه و يجوز نصبه و رفعه على المدح. وَ هُمْ راكِعُونَ متخشعون في صلاتهم و زكاتهم، و قيل هو حال مخصوصة بيؤتون، أي يؤتون الزكاة في حال ركوعهم في الصلاة حرصا على الإحسان و مسارعة إليه، و إنها نزلت في علي رضي اللّه عنه حين سأله سائل و هو راكع في صلاته، فطرح له خاتمه. و استدل بها الشيعة على إمامته زاعمين أن المراد بالولي المتولي للأمور و المستحق للتصرف فيها، و الظاهر ما ذكرناه مع أن حمل الجمع على الواحد أيضا خلاف الظاهر و إن صح أنه نزل فيه فلعله جيء بلفظ الجمع لترغيب الناس في مثل فعله فيندرجوا فيه، و على هذا يكون دليل على أن الفعل القليل في الصلاة لا يبطلها و أن صدقة التطوع تسمى زكاة.
وَ مَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا و من يتخذهم أولياء. فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ أي فإنهم هم الغالبون، و لكن وضع الظاهر موضع المضمر تنبيها على البرهان عليه فكأنه قيل: و من يتول هؤلاء فهم حزب اللّه و حزب اللّه هم الغالبون و تنويها بذكرهم و تعظيما لشأنهم و تشريفا لهم بهذا الاسم، و تعريضا لمن يوالي غير هؤلاء بأنه حزب الشيطان. و أصل الحزب القوم يجتمعون لأمر حزّ بهم.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 133
[سورة المائدة (5): آية 57]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَ لَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ الْكُفَّارَ أَوْلِياءَ نزلت في رفاعة بن زيد و سويد بن الحرث أظهرا الإسلام ثم نافقا، و كان رجال من المسلمين يوادونهما. و قد رتب النهي عن موالاتهم على اتخاذهم دينهم هزوا و لعبا إيماء إلى العلة و تنبيها على أن من هذا شأنه بعيد عن الموالاة جدير بالمعاداة و البغضاء، و فصل المستهزئين بأهل الكتاب و الكفار على قراءة من جره و هم أبو عمرو و الكسائي و يعقوب، و الكفار و إن عم أهل الكتاب يطلق على المشركين خاصة لتضاعف كفرهم، و من نصبه عطفه على الذين اتخذوا على أن النهي عن موالاة من ليس على الحق رأسا سواء من كان ذا دين تبع فيه الهوى و حرفه عن الصواب كأهل الكتاب و من لم يكن كالمشركين. وَ اتَّقُوا اللَّهَ بترك المناهي. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ لأن الإيمان حقا يقتضي ذلك. و قيل إن كنتم مؤمنين بوعده و وعيده.
[سورة المائدة (5): آية 58]
وَ إِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَ لَعِباً أي اتخذوا الصلاة، أو المنادة و فيه دليل على أن الأذان مشروع للصلاة.
روي: أن نصرانيا بالمدينة كان إذا سمع المؤذن يقول أشهد أن محمدا رسول اللّه، قال:
أحرق اللّه الكاذب، فدخل خادمه ذات ليلة بنار و أهله نيام فتطاير شررها في البيت فأحرقه و أهله.
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ فإن السفه يؤدي إلى الجهل بالحق و الهزء به، و العقل يمنع منه.
[سورة المائدة (5): آية 59]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا هل تنكرون منا و تعيبون، يقال نقم منه كذا إذا أنكره و انتقم إذا كافأه. و قرئ تَنْقِمُونَ بفتح القاف و هي لغة. إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ الإيمان بالكتب المنزّلة كلها. وَ أَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ عطف على أَنْ آمَنَّا و كأن المستثنى لازم الأمرين و هو المخالفة أي: ما تنكرون منا إلا مخالفتكم حيث دخلنا الإيمان و أنتم خارجون منه، أو كان الأصل و اعتقاد أن أكثركم فاسقون فحذف المضاف، أو على ما أي: و ما تنقمون منا إلا الإيمان باللّه و بما أنزل و بأن أكثركم فاسقون، أو على علة محذوفة و التقدير هل تنقمون منا إلا أن آمنا لقلة إنصافكم و فسقكم، أو نصب بإضمار فعل يدل عليه هل تنقمون أي: و لا تنقمون أن أكثركم فاسقون، أو رفع على الابتداء و الخبر محذوف أي:
و فسقكم ثابت معلوم عندكم و لكن حب الرياسة و المال يمنعكم عن الإنصاف. و الآية خطاب ليهود سألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم عمن يؤمن به فقال: أؤمن بِاللَّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْنا إلى قوله: وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فقالوا حين سمعوا ذكر عيسى: لا نعلم دينا شرا من دينكم.
[سورة المائدة (5): آية 60]
قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ أي من ذلك المنقوم. مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ جزاء ثابتا عند اللّه سبحانه و تعالى، و المثوبة مختصة بالخير كالعقوبة بالشر فوضعت هاهنا موضعها على طريقة قوله:
تحيّة بينهم ضرب وجيع
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 134
و نصبها على التمييز عن بشر. مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَ غَضِبَ عَلَيْهِ وَ جَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَ الْخَنازِيرَ بدل من بشر على حذف مضاف أي بشر من أهل ذلك من لعنه اللّه، أو بشر من ذلك دين من لعنه اللّه، أو خبر محذوف أي هو من لعنه اللّه و هم اليهود أبعدهم اللّه من رحمته و سخط عليهم بكفرهم و انهماكهم في المعاصي بعد وضوح الآيات، و مسخ بعضهم قردة و هم أصحاب السبت، و بعضهم خنازير و هم كفار أهل مائدة عيسى عليه الصلاة و السلام. و قيل كلا المسخين في أصحاب السبت مسخت شبانهم قردة و مشايخهم خنازير. وَ عَبَدَ الطَّاغُوتَ عطف على صلة من و كذا عَبَدَ الطَّاغُوتَ على البناء للمفعول، و رفع الطَّاغُوتَ و عَبَدَ بمعنى صار معبودا، فيكون الراجع محذوفا أي فيهم أو بينهم، و من قرأ «و عابد الطاغوت» أو عَبَدَ على أنه نعت كفطن و يقظ أو عبدة أو عَبَدَ الطَّاغُوتَ على أنه جمع كخدم أو أن أصله عبدة فحذف التاء للإضافة عطفه على القردة، و من قرأ وَ عَبَدَ الطَّاغُوتَ بالجر عطفه على من، و المراد مِنْ الطاغوت العجل و قيل الكهنة و كل من أطاعوه في معصية اللّه تعالى. أُولئِكَ أي الملعونون. شَرٌّ مَكاناً جعل مكانهم شرا ليكون أبلغ في الدلالة على شرارتهم، و قيل مَكاناً منصرفا. وَ أَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ قصد الطريق المتوسط بين غلو النصارى و قدح اليهود، و المراد من صيغتي التفضيل الزيادة مطلقا لا بالإضافة إلى المؤمنين في الشرارة و الضلالة.
[سورة المائدة (5): الآيات 61 الى 62]
وَ إِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا نزلت في يهود نافقوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أو في عامة المنافقين. وَ قَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَ هُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ أي يخرجون من عندك كما دخلوا لم يؤثر فيهم ما سمعوا منك، و الجملتان حالان من فاعل قالوا و بالكفر و به حالان من فاعلي دخلوا و خرجوا، و قد و إن دخلت لتقريب الماضي من الحال ليصح أن يقع حالا أفادت أيضا لما فيها من التوقع أن أمارة النفاق كانت لائحة عليهم، و كان الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم يظنه و لذلك قال: وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ أي من الكفر، و فيه وعيد لهم.
وَ تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ أي من اليهود أو من المنافقين. يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ أي الحرام و قيل الكذب لقوله: عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَ الْعُدْوانِ الظلم، أو مجاوزة الحد في المعاصي. و قيل الْإِثْمِ ما يختص بهم و العدوان ما يتعدى إلى غيرهم. وَ أَكْلِهِمُ السُّحْتَ أي الحرام خصه بالذكر للمبالغة. لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ لبئس شيئا عملوه.
[سورة المائدة (5): آية 63]
لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَ الْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَ أَكْلِهِمُ السُّحْتَ تحضيض لعلمائهم على النهي عن ذلك فإن لولا إذا دخل على الماضي أفاد التوبيخ و إذا دخل على المستقبل أفاد التحضيض. لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ أبلغ من قوله لبئس ما كانوا يعملون من حيث إن الصنع عمل الإنسان بعد تدرب فيه و تروّ و تحري إجادة، و لذلك ذم به خواصهم و لأن ترك الحسبة أقبح من مواقعه المعصية، لأن النفس تلتذ بها و تميل إليها و لا كذلك ترك الإنكار عليها فكان جديرا بأبلغ الذم.
[سورة المائدة (5): آية 64]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 135
وَ قالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ أي هو ممسك يقتر بالرزق و غل اليد و بسطها مجاز عن البخل و الجود و لا قصد فيه إلى إثبات يد و غل و بسط و لذلك يستعمل حيث لا يتصور ذلك كقوله:
جاد الحمى بسط اليدين بوابل
شكرت نداه تلاعه و وهاده
و نظيره من المجازات المركبة: شابت لمة الليل. و قيل معناه إنه فقير لقوله تعالى: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَ نَحْنُ أَغْنِياءُ . غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَ لُعِنُوا بِما قالُوا دعاء عليهم بالبخل و النكد أو بالفقر و المسكنة، أو بغل الأيدي حقيقة يغلون أسارى في الدنيا و مسحوبين إلى النار في الآخرة فتكون المطابقة من حيث اللفظ و ملاحظة الأصل كقولك: سبني سب اللّه دابره. بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ ثنى اليد مبالغة في الرد و نفي البخل عنه تعالى و إثباتا لغاية الجود، فإن غاية ما يبذله السخي من ماله أن يعطيه بيديه، و تنبيها على منح الدنيا و الآخرة و على ما يعطي للاستدراج و ما يعطي للإكرام. يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ تأكيد لذلك أي هو مختار في إنفاقه يوسع تارة و يضيق أخرى على حسب مشيئته و مقتضى حكمته، لا على تعاقب سعة و ضيق في ذات يد، و لا يجوز جعله حالا من الهاء للفصل بينهما بالخبر و لأنها مضاف إليها، و لا من اليدين إذ لا ضمير لهما فيه و لا من ضميرهما لذلك. و الآية نزلت في فنحاص بن عازوراء فإنه قال ذلك لما كف اللّه عن اليهود ما بسط عليهم من السعة بشؤم تكذيبهم محمدا صلّى اللّه عليه و سلّم و أشرك فيه الآخرون لأنهم رضوا بقوله: وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَ كُفْراً أي هم طاغون كافرون و يزدادون طغيانا و كفرا بما يسمعون من القرآن كما يزداد المريض مرضا من تناول الغذاء الصالح للأصحاء. وَ أَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ فلا تتوافق قلوبهم و لا تتطابق أقوالهم. كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ كلما أرادوا حرب الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم و إثارة شر عليه ردهم اللّه سبحانه و تعالى بأن أوقع بينهم منازعة كف بها عنه شرهم، أو كلما أرادوا حرب أحد غلبوا فإنهم لما خالفوا حكم التوراة سلط اللّه عليهم بختنصر ثم أفسدوا فسلط عليهم فطرس الرومي، ثم أفسدوا فسلط عليهم المجوس، ثم أفسدوا فسلط عليهم المسلمين، و للحرب صلة أوقدوا أو صفة نارا.
وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أي للفساد و هو اجتهادهم في الكيد و إثارة الحروب و الفتن و هتك المحارم.
وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ فلا يجازيهم إلا شرا.
[سورة المائدة (5): الآيات 65 الى 66]
وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا بمحمد صلّى اللّه عليه و سلّم و بما جاء به. وَ اتَّقَوْا ما عددنا من معاصيهم و نحوه.
لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ التي فعلوها و لم نؤاخذهم بها. وَ لَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ و جعلناهم داخلين فيها.
و فيه تنبيه على عظم معاصيهم و كثرة ذنوبهم، و أن الإسلام يجب ما قبله، و إن جل و أن الكتابي لا يدخل الجنة ما لم يسلم.
وَ لَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ بإذاعة ما فيهما من نعت محمد عليه الصلاة و السلام و القيام بأحكامها. وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ يعني سائر الكتب المنزلة فإنها من حيث إنهم مكلفون بالإيمان بها كالمنزل إليهم، أو القرآن لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ لوسع عليهم أرزاقهم بأن يفيض عليهم بركات من السماء و الأرض، أو يكثر ثمرة الأشجار و غلة الزروع، أو يرزقهم الجنان اليانعة الثمار. فيجتنونها من رأس الشجر و يلتقطون ما تساقط على الأرض بين بذلك أن ما كف عنهم بشؤم كفرهم و معاصيهم لا لقصور الفيض، و لو أنهم آمنوا و أقاموا ما أمروا به لوسع عليهم و جعل لهم خير الدارين. مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 136
عادلة غير غالية و لا مقصرة، و هم الذين آمنوا بمحمد صلّى اللّه عليه و سلّم. و قيل مقتصدة متوسطة في عداوته. وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ أي بئس ما يعملونه، و فيه معنى التعجب أي ما أسوأ عملهم و هو المعاندة و تحريف الحق و الإعراض عنه و الإفراط في العداوة.
[سورة المائدة (5): آية 67]
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ جميع ما أنزل إليك غير مراقب أحدا و لا خائف مكروها.
وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ و إن لم تبلغ جميعه كما أمرتك. فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ فما أديت شيئا منها، لأن كتمان بعضها يضيع ما أدي منها كترك بعض أركان الصلاة، فإن غرض الدعوة ينتقض به، أو فكأنك ما بلغت شيئا منها كقوله: فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً من حيث أن كتمان البعض و الكل سواء في الشفاعة و استجلاب العقاب.
و قرأ نافع و ابن عامر و أبو بكر رِسالاتِهِ بالجمع و كسر التاء. وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ عدة و ضمان من اللّه سبحانه و تعالى بعصمة روحه صلّى اللّه عليه و سلّم من تعرض الأعادي و إزاحة لمعاذيره. إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ لا يمكنهم مما يريدون بك. و
عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم: «بعثني اللّه برسالاته فضقت بها ذرعا فأوحى اللّه تعالى إليّ إن لم تبلغ رسالتي عذبتك و ضمن لي العصمة فقويت».
و
عن أنس رضي اللّه تعالى عنه، كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يحرس حتى نزلت، فأخرج رأسه من قبة أدم فقال: انصرفوا يا أيها الناس فقد عصمني اللّه من الناس.
و ظاهر الآية يوجب تبليغ كل ما أنزل و لعل المراد به تبليغ ما يتعلق به مصالح العباد، و قصد بإنزاله اطلاعهم عليه فإن من الأسرار الإلهية ما يحرم افشاؤه.
[سورة المائدة (5): آية 68]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ أي دين يعتد به و يصح أن يسمى شيئا لأنه باطل. حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ و من إقامتها الإيمان بمحمد صلّى اللّه عليه و سلّم و الإذعان لحكمه، فإن الكتب الإلهية بأسرها آمرة بالإيمان بمن صدقه و المعجزة ناطقة بوجوب الطاعة له، و المراد إقامة أصولها و ما لم ينسخ من فروعها. وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَ كُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ فلا تحزن عليهم لزيادة طغيانهم و كفرهم بما تبلغه إليهم، فإن ضرر ذلك لاحق بهم لا يتخطاهم و في المؤمنين مندوحة لك عنهم.
[سورة المائدة (5): آية 69]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ الصَّابِئُونَ وَ النَّصارى سبق تفسيره في سورة «البقرة» و الصابئون رفع على الابتداء و خبره محذوف و النية به التأخير عما في حيز إن و التقدير: إن الذين آمنوا و الذين هادوا و النصارى حكمهم كذا و الصابئون كذلك كقوله:
فإنّي و قيّار بها لغريب و قوله:
و إلّا فاعلموا أنّا و أنتم