کتابخانه تفاسیر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 133
[سورة المائدة (5): آية 57]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَ لَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ الْكُفَّارَ أَوْلِياءَ نزلت في رفاعة بن زيد و سويد بن الحرث أظهرا الإسلام ثم نافقا، و كان رجال من المسلمين يوادونهما. و قد رتب النهي عن موالاتهم على اتخاذهم دينهم هزوا و لعبا إيماء إلى العلة و تنبيها على أن من هذا شأنه بعيد عن الموالاة جدير بالمعاداة و البغضاء، و فصل المستهزئين بأهل الكتاب و الكفار على قراءة من جره و هم أبو عمرو و الكسائي و يعقوب، و الكفار و إن عم أهل الكتاب يطلق على المشركين خاصة لتضاعف كفرهم، و من نصبه عطفه على الذين اتخذوا على أن النهي عن موالاة من ليس على الحق رأسا سواء من كان ذا دين تبع فيه الهوى و حرفه عن الصواب كأهل الكتاب و من لم يكن كالمشركين. وَ اتَّقُوا اللَّهَ بترك المناهي. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ لأن الإيمان حقا يقتضي ذلك. و قيل إن كنتم مؤمنين بوعده و وعيده.
[سورة المائدة (5): آية 58]
وَ إِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَ لَعِباً أي اتخذوا الصلاة، أو المنادة و فيه دليل على أن الأذان مشروع للصلاة.
روي: أن نصرانيا بالمدينة كان إذا سمع المؤذن يقول أشهد أن محمدا رسول اللّه، قال:
أحرق اللّه الكاذب، فدخل خادمه ذات ليلة بنار و أهله نيام فتطاير شررها في البيت فأحرقه و أهله.
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ فإن السفه يؤدي إلى الجهل بالحق و الهزء به، و العقل يمنع منه.
[سورة المائدة (5): آية 59]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا هل تنكرون منا و تعيبون، يقال نقم منه كذا إذا أنكره و انتقم إذا كافأه. و قرئ تَنْقِمُونَ بفتح القاف و هي لغة. إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ الإيمان بالكتب المنزّلة كلها. وَ أَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ عطف على أَنْ آمَنَّا و كأن المستثنى لازم الأمرين و هو المخالفة أي: ما تنكرون منا إلا مخالفتكم حيث دخلنا الإيمان و أنتم خارجون منه، أو كان الأصل و اعتقاد أن أكثركم فاسقون فحذف المضاف، أو على ما أي: و ما تنقمون منا إلا الإيمان باللّه و بما أنزل و بأن أكثركم فاسقون، أو على علة محذوفة و التقدير هل تنقمون منا إلا أن آمنا لقلة إنصافكم و فسقكم، أو نصب بإضمار فعل يدل عليه هل تنقمون أي: و لا تنقمون أن أكثركم فاسقون، أو رفع على الابتداء و الخبر محذوف أي:
و فسقكم ثابت معلوم عندكم و لكن حب الرياسة و المال يمنعكم عن الإنصاف. و الآية خطاب ليهود سألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم عمن يؤمن به فقال: أؤمن بِاللَّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْنا إلى قوله: وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فقالوا حين سمعوا ذكر عيسى: لا نعلم دينا شرا من دينكم.
[سورة المائدة (5): آية 60]
قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ أي من ذلك المنقوم. مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ جزاء ثابتا عند اللّه سبحانه و تعالى، و المثوبة مختصة بالخير كالعقوبة بالشر فوضعت هاهنا موضعها على طريقة قوله:
تحيّة بينهم ضرب وجيع
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 134
و نصبها على التمييز عن بشر. مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَ غَضِبَ عَلَيْهِ وَ جَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَ الْخَنازِيرَ بدل من بشر على حذف مضاف أي بشر من أهل ذلك من لعنه اللّه، أو بشر من ذلك دين من لعنه اللّه، أو خبر محذوف أي هو من لعنه اللّه و هم اليهود أبعدهم اللّه من رحمته و سخط عليهم بكفرهم و انهماكهم في المعاصي بعد وضوح الآيات، و مسخ بعضهم قردة و هم أصحاب السبت، و بعضهم خنازير و هم كفار أهل مائدة عيسى عليه الصلاة و السلام. و قيل كلا المسخين في أصحاب السبت مسخت شبانهم قردة و مشايخهم خنازير. وَ عَبَدَ الطَّاغُوتَ عطف على صلة من و كذا عَبَدَ الطَّاغُوتَ على البناء للمفعول، و رفع الطَّاغُوتَ و عَبَدَ بمعنى صار معبودا، فيكون الراجع محذوفا أي فيهم أو بينهم، و من قرأ «و عابد الطاغوت» أو عَبَدَ على أنه نعت كفطن و يقظ أو عبدة أو عَبَدَ الطَّاغُوتَ على أنه جمع كخدم أو أن أصله عبدة فحذف التاء للإضافة عطفه على القردة، و من قرأ وَ عَبَدَ الطَّاغُوتَ بالجر عطفه على من، و المراد مِنْ الطاغوت العجل و قيل الكهنة و كل من أطاعوه في معصية اللّه تعالى. أُولئِكَ أي الملعونون. شَرٌّ مَكاناً جعل مكانهم شرا ليكون أبلغ في الدلالة على شرارتهم، و قيل مَكاناً منصرفا. وَ أَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ قصد الطريق المتوسط بين غلو النصارى و قدح اليهود، و المراد من صيغتي التفضيل الزيادة مطلقا لا بالإضافة إلى المؤمنين في الشرارة و الضلالة.
[سورة المائدة (5): الآيات 61 الى 62]
وَ إِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا نزلت في يهود نافقوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أو في عامة المنافقين. وَ قَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَ هُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ أي يخرجون من عندك كما دخلوا لم يؤثر فيهم ما سمعوا منك، و الجملتان حالان من فاعل قالوا و بالكفر و به حالان من فاعلي دخلوا و خرجوا، و قد و إن دخلت لتقريب الماضي من الحال ليصح أن يقع حالا أفادت أيضا لما فيها من التوقع أن أمارة النفاق كانت لائحة عليهم، و كان الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم يظنه و لذلك قال: وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ أي من الكفر، و فيه وعيد لهم.
وَ تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ أي من اليهود أو من المنافقين. يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ أي الحرام و قيل الكذب لقوله: عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَ الْعُدْوانِ الظلم، أو مجاوزة الحد في المعاصي. و قيل الْإِثْمِ ما يختص بهم و العدوان ما يتعدى إلى غيرهم. وَ أَكْلِهِمُ السُّحْتَ أي الحرام خصه بالذكر للمبالغة. لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ لبئس شيئا عملوه.
[سورة المائدة (5): آية 63]
لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَ الْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَ أَكْلِهِمُ السُّحْتَ تحضيض لعلمائهم على النهي عن ذلك فإن لولا إذا دخل على الماضي أفاد التوبيخ و إذا دخل على المستقبل أفاد التحضيض. لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ أبلغ من قوله لبئس ما كانوا يعملون من حيث إن الصنع عمل الإنسان بعد تدرب فيه و تروّ و تحري إجادة، و لذلك ذم به خواصهم و لأن ترك الحسبة أقبح من مواقعه المعصية، لأن النفس تلتذ بها و تميل إليها و لا كذلك ترك الإنكار عليها فكان جديرا بأبلغ الذم.
[سورة المائدة (5): آية 64]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 135
وَ قالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ أي هو ممسك يقتر بالرزق و غل اليد و بسطها مجاز عن البخل و الجود و لا قصد فيه إلى إثبات يد و غل و بسط و لذلك يستعمل حيث لا يتصور ذلك كقوله:
جاد الحمى بسط اليدين بوابل
شكرت نداه تلاعه و وهاده
و نظيره من المجازات المركبة: شابت لمة الليل. و قيل معناه إنه فقير لقوله تعالى: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَ نَحْنُ أَغْنِياءُ . غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَ لُعِنُوا بِما قالُوا دعاء عليهم بالبخل و النكد أو بالفقر و المسكنة، أو بغل الأيدي حقيقة يغلون أسارى في الدنيا و مسحوبين إلى النار في الآخرة فتكون المطابقة من حيث اللفظ و ملاحظة الأصل كقولك: سبني سب اللّه دابره. بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ ثنى اليد مبالغة في الرد و نفي البخل عنه تعالى و إثباتا لغاية الجود، فإن غاية ما يبذله السخي من ماله أن يعطيه بيديه، و تنبيها على منح الدنيا و الآخرة و على ما يعطي للاستدراج و ما يعطي للإكرام. يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ تأكيد لذلك أي هو مختار في إنفاقه يوسع تارة و يضيق أخرى على حسب مشيئته و مقتضى حكمته، لا على تعاقب سعة و ضيق في ذات يد، و لا يجوز جعله حالا من الهاء للفصل بينهما بالخبر و لأنها مضاف إليها، و لا من اليدين إذ لا ضمير لهما فيه و لا من ضميرهما لذلك. و الآية نزلت في فنحاص بن عازوراء فإنه قال ذلك لما كف اللّه عن اليهود ما بسط عليهم من السعة بشؤم تكذيبهم محمدا صلّى اللّه عليه و سلّم و أشرك فيه الآخرون لأنهم رضوا بقوله: وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَ كُفْراً أي هم طاغون كافرون و يزدادون طغيانا و كفرا بما يسمعون من القرآن كما يزداد المريض مرضا من تناول الغذاء الصالح للأصحاء. وَ أَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ فلا تتوافق قلوبهم و لا تتطابق أقوالهم. كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ كلما أرادوا حرب الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم و إثارة شر عليه ردهم اللّه سبحانه و تعالى بأن أوقع بينهم منازعة كف بها عنه شرهم، أو كلما أرادوا حرب أحد غلبوا فإنهم لما خالفوا حكم التوراة سلط اللّه عليهم بختنصر ثم أفسدوا فسلط عليهم فطرس الرومي، ثم أفسدوا فسلط عليهم المجوس، ثم أفسدوا فسلط عليهم المسلمين، و للحرب صلة أوقدوا أو صفة نارا.
وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أي للفساد و هو اجتهادهم في الكيد و إثارة الحروب و الفتن و هتك المحارم.
وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ فلا يجازيهم إلا شرا.
[سورة المائدة (5): الآيات 65 الى 66]
وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا بمحمد صلّى اللّه عليه و سلّم و بما جاء به. وَ اتَّقَوْا ما عددنا من معاصيهم و نحوه.
لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ التي فعلوها و لم نؤاخذهم بها. وَ لَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ و جعلناهم داخلين فيها.
و فيه تنبيه على عظم معاصيهم و كثرة ذنوبهم، و أن الإسلام يجب ما قبله، و إن جل و أن الكتابي لا يدخل الجنة ما لم يسلم.
وَ لَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ بإذاعة ما فيهما من نعت محمد عليه الصلاة و السلام و القيام بأحكامها. وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ يعني سائر الكتب المنزلة فإنها من حيث إنهم مكلفون بالإيمان بها كالمنزل إليهم، أو القرآن لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ لوسع عليهم أرزاقهم بأن يفيض عليهم بركات من السماء و الأرض، أو يكثر ثمرة الأشجار و غلة الزروع، أو يرزقهم الجنان اليانعة الثمار. فيجتنونها من رأس الشجر و يلتقطون ما تساقط على الأرض بين بذلك أن ما كف عنهم بشؤم كفرهم و معاصيهم لا لقصور الفيض، و لو أنهم آمنوا و أقاموا ما أمروا به لوسع عليهم و جعل لهم خير الدارين. مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 136
عادلة غير غالية و لا مقصرة، و هم الذين آمنوا بمحمد صلّى اللّه عليه و سلّم. و قيل مقتصدة متوسطة في عداوته. وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ أي بئس ما يعملونه، و فيه معنى التعجب أي ما أسوأ عملهم و هو المعاندة و تحريف الحق و الإعراض عنه و الإفراط في العداوة.
[سورة المائدة (5): آية 67]
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ جميع ما أنزل إليك غير مراقب أحدا و لا خائف مكروها.
وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ و إن لم تبلغ جميعه كما أمرتك. فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ فما أديت شيئا منها، لأن كتمان بعضها يضيع ما أدي منها كترك بعض أركان الصلاة، فإن غرض الدعوة ينتقض به، أو فكأنك ما بلغت شيئا منها كقوله: فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً من حيث أن كتمان البعض و الكل سواء في الشفاعة و استجلاب العقاب.
و قرأ نافع و ابن عامر و أبو بكر رِسالاتِهِ بالجمع و كسر التاء. وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ عدة و ضمان من اللّه سبحانه و تعالى بعصمة روحه صلّى اللّه عليه و سلّم من تعرض الأعادي و إزاحة لمعاذيره. إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ لا يمكنهم مما يريدون بك. و
عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم: «بعثني اللّه برسالاته فضقت بها ذرعا فأوحى اللّه تعالى إليّ إن لم تبلغ رسالتي عذبتك و ضمن لي العصمة فقويت».
و
عن أنس رضي اللّه تعالى عنه، كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يحرس حتى نزلت، فأخرج رأسه من قبة أدم فقال: انصرفوا يا أيها الناس فقد عصمني اللّه من الناس.
و ظاهر الآية يوجب تبليغ كل ما أنزل و لعل المراد به تبليغ ما يتعلق به مصالح العباد، و قصد بإنزاله اطلاعهم عليه فإن من الأسرار الإلهية ما يحرم افشاؤه.
[سورة المائدة (5): آية 68]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ أي دين يعتد به و يصح أن يسمى شيئا لأنه باطل. حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ و من إقامتها الإيمان بمحمد صلّى اللّه عليه و سلّم و الإذعان لحكمه، فإن الكتب الإلهية بأسرها آمرة بالإيمان بمن صدقه و المعجزة ناطقة بوجوب الطاعة له، و المراد إقامة أصولها و ما لم ينسخ من فروعها. وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَ كُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ فلا تحزن عليهم لزيادة طغيانهم و كفرهم بما تبلغه إليهم، فإن ضرر ذلك لاحق بهم لا يتخطاهم و في المؤمنين مندوحة لك عنهم.
[سورة المائدة (5): آية 69]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ الصَّابِئُونَ وَ النَّصارى سبق تفسيره في سورة «البقرة» و الصابئون رفع على الابتداء و خبره محذوف و النية به التأخير عما في حيز إن و التقدير: إن الذين آمنوا و الذين هادوا و النصارى حكمهم كذا و الصابئون كذلك كقوله:
فإنّي و قيّار بها لغريب و قوله:
و إلّا فاعلموا أنّا و أنتم
بغاة ما بقينا في شقاق
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 137
أي فاعلموا أنا بغاة و أنتم كذلك، و هو كاعتراض دل به على أنه لما كان الصابئون مع ظهور ضلالهم و ميلهم عن الأديان كلها يتاب عليهم إن صح منهم الإيمان و العمل الصالح، كان غيرهم أولى بذلك. و يجوز أن يكون و النصارى معطوفا عليه و من آمن خبرهما و خبر إن مقدر دل عليه ما بعده كقوله:
نحن بما عندنا و أنت بما
عندك راض و الرّأي مختلف
و لا يجوز عطفه على محل إن و اسمها فإنه مشروط بالفراغ من الخبر، إذ لو عطف عليه قبله كان الخبر خبر المبتدأ و خبر إن معا فيجتمع عليه عاملان و لا على الضمير في هادوا لعدم التأكيد و الفصل، و لأنه يوجب كون الصابئين هودا. و قيل إن بمعنى نعم و ما بعدها في موضع الرفع بالابتداء. و قيل الصَّابِئُونَ منصوب بالفتحة و ذلك كما جوز بالياء جوز بالواو. مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ عَمِلَ صالِحاً في محل الرفع بالابتداء و خبره. فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ و الجملة خبر إن أو خبر المبتدأ كما مر و الراجع محذوف، أي:
من آمن منهم، أو النصب على البدل من اسم إن و ما عطف عليه. و قرئ و «الصابئين» و هو الظاهر و «الصابيون» بقلب الهمزة ياء و «الصابون» بحذفها من صبأ بإبدال الهمزة ألفا، أو من صبوت لأنهم صبوا إلى اتباع الشهوات و لم يتبعوا شرعا و لا عقلا.
[سورة المائدة (5): آية 70]
لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا ليذكروهم و ليبينوا لهم أمر دينهم. كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ بما يخالف هواهم من الشرائع و مشاق التكاليف. فَرِيقاً كَذَّبُوا وَ فَرِيقاً يَقْتُلُونَ جواب الشرط و الجملة صفة رسلا و الراجع محذوف أي رسول منهم. و قيل الجواب محذوف دل عليه ذلك و هو استئناف، و إنما جيء ب يَقْتُلُونَ موضع قتلوا على حكاية الحال الماضية استحضارا لها و استفظاعا للقتل و تنبيها على أن ذلك من ديدنهم ماضيا و مستقبلا و محافظة على رؤوس الآي.
[سورة المائدة (5): آية 71]
وَ حَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ أي و حسب بنو إسرائيل أن لا يصيبهم بلاء و عذاب بقتل الأنبياء و تكذيبهم.
و قرأ أبو عمرو و حمزة و الكسائي و يعقوب لا تكون بالرفع على أنّ أن المخففة من الثقيلة، و أصله أنه لا تكون فتنة فخففت أن و حذف ضمير الشأن فصار: أن لا تكون و إدخال فعل الحسبان عليها و هي للتحقيق تنزيل له منزلة العلم لتمكنه في قلوبهم، و أن أو أن بما في حيزها ساد مسد مفعوليه. فَعَمُوا عن الدين أو الدلائل و الهدى. وَ صَمُّوا عن استماع الحق كما فعلوا حين عبدوا العجل. ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أي ثم تابوا فتاب اللّه عليهم. ثُمَّ عَمُوا وَ صَمُّوا كرة أخرى. و قرئ بالضم فيهما على أن اللّه تعالى عماهم و صمهم أي رماهم بالعمى و الصمم، و هو قليل و اللغة الفاشية أعمى و أصم. كَثِيرٌ مِنْهُمْ بدل من الضمير، أو فاعل و الواو علامة الجمع كقولهم: أكلوني البراغيث، أو خبر مبتدأ محذوف أي العمى و الصم كثير منهم.
و قيل مبتدأ و الجملة قبله خبره و هو ضعيف لأن تقديم الخبر في مثله ممتنع. وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ فيجازيهم على وفق أعمالهم.
[سورة المائدة (5): آية 72]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 138
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَ قالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ أي إني عبد مربوب مثلكم فاعبدوا خالقي و خالقكم. إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ أي في عبادته أو فيما يختص به من الصفات و الأفعال. فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ يمنع من دخولها كما يمنع المحرم عليه من المحرم فإنها دار الموحدين. وَ مَأْواهُ النَّارُ فإنها المعدة للمشركين. وَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ أي و ما لهم أحد ينصرهم من النار، فوضع الظاهر موضع المضمر تسجيلا على أنهم ظلموا بالإشراك و عدلوا عن طريق الحق، و هو يحتمل أن يكون من تمام كلام عيسى عليه الصلاة و السلام و أن يكون من كلام اللّه تعالى نبه به على أنهم قالوا ذلك تعظيما لعيسى صلّى اللّه عليه و سلّم، و تقربا إليه و هو معاديهم بذلك و مخاصمهم فيه فما ظنك بغيره.
[سورة المائدة (5): الآيات 73 الى 74]
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ أي أحد ثلاثة، و هو حكاية عما قاله النسطورية و الملكانية منهم القائلون بالأقانيم الثلاثة و ما سبق قول اليعقوبية القائلين بالاتحاد. وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ و ما في الوجود ذات واجب مستحق للعبادة من حيث إنه مبدئ جميع الموجودات إلا إله واحد، موصوف بالوحدانية متعال عن قبول الشركة و من مزيدة للاستغراق. وَ إِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ و لم يوحدوا. لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي ليمسن الذين بقوا منهم على الكفر، أو ليمسن الذين كفروا من النصارى، وضعه موضع ليمسنهم تكريرا للشهادة على كفرهم و تنبيها على أن العذاب على من دام على الكفر و لم ينقلع عنه فلذلك عقبه بقوله:
أَ فَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَهُ أي أفلا يتوبون بالانتهاء عن تلك العقائد و الأقوال الزائغة و يستغفرونه بالتوحيد و التنزيه عن الاتحاد و الحلول بعد هذا التقرير و التهديد. وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ يغفر لهم و يمنحهم من فضله إن تابوا. و في هذا الاستفهام تعجيب من إصرارهم.
[سورة المائدة (5): آية 75]
مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أي ما هو إلا رسول كالرسل قبله خصه اللّه سبحانه و تعالى بالآيات كما خصهم بها، فإن إحياء الموتى على يده فقد أحيا العصا و جعلها حية تسعى على يد موسى عليه السلام و هو أعجب، و إن خلقه من غير أب فقد خلق آدم من غير أب و أم و هو أغرب. وَ أُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كسائر النساء اللاتي يلازمن الصدق، أو يصدقن الأنبياء عليهم الصلاة و السلام. كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ و يفتقران إليه افتقار الحيوانات، بين أولا أقصى ما لهما من الكمال و دل على أنه لا يوجب لهما ألوهية لأن كثيرا من الناس يشاركهما في مثله، ثم نبه على نقصهما و ذكر ما ينافي الربوبية و يقتضي أن يكونا من عداد المركبات الكائنة الفاسدة، ثم عجب لمن يدعي الربوبية لهما مع أمثال هذه الأدلة الظاهرة فقال:
انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ كيف يصرفون عن استماع الحق و تأمله و ثم لتفاوت ما بين العجبين أي إن بياننا للآيات عجب و إعراضهم عنها أعجب.
[سورة المائدة (5): آية 76]
قُلْ أَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً يعني عيسى عليه الصلاة و السلام، و هو و إن
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 139
ملك ذلك بتمليك اللّه سبحانه و تعالى إياه لا يملكه من ذاته و لا يملك مثل ما يضر اللّه تعالى به من البلايا و المصائب، و ما ينفع به من الصحة و السعة و إنما قال ما نظرا إلى ما هو عليه في ذاته توطئة لنفي القدرة عنه رأسا، و تنبيها على أنه من هذا الجنس و من كان له حقيقة تقبل المجانسة و المشاركة فبمعزل عن الألوهية، و إنما قدم الضر لأن التحرز عنه أهم من تحري النفع. وَ اللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ بالأقوال و العقائد فيجازي عليها إن خيرا فخير و إن شرا فشر.
[سورة المائدة (5): آية 77]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِ أي غلوا باطلا فترفعوا عيسى عليه الصلاة و السلام إلى أن تدعوا له الألوهية، أو تضعوه فتزعموا أنه لغير رشدة. و قيل الخطاب للنصارى خاصة. وَ لا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ يعني أسلافهم و أئمتهم الذين قد ضلوا قبل مبعث محمد صلّى اللّه عليه و سلّم في شريعتهم.
وَ أَضَلُّوا كَثِيراً ممن شايعهم على بدعهم و ضلالهم. وَ ضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ عن قصد السبيل الذي هو الإسلام بعد مبعثه صلّى اللّه عليه و سلّم لما كذبوه و بغوا عليه، و قيل الأول إشارة إلى ضلالهم عن مقتضى العقل و الثاني إشارة إلى ضلالهم عما جاء به الشرع.
[سورة المائدة (5): الآيات 78 الى 79]
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ أي لعنهم اللّه في الزبور و الإنجيل على لسانهما. و قيل إن أهل أيلة لما اعتدوا في السبت لعنهم اللّه تعالى على لسان داود فمسخهم اللّه تعالى قردة، و أصحاب المائدة لما كفروا دعا عليهم عيسى عليهم السلام و لعنهم فأصبحوا خنازير و كانوا خمسة آلاف رجل. ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ أي ذلك اللعن الشنيع المقتضي للمسخ بسبب عصيانهم و اعتدائهم ما حرم عليهم.
كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ أي لا ينهى بعضهم بعضا عن معاودة منكر فعلوه، أو عن مثل منكر فعلوه، أو عن منكر أرادوا فعله و تهيؤوا له، أو لا ينتهون عنه من قولهم تناهى عن الأمر و انتهى عنه إذا امتنع. لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ تعجيب من سوء فعلهم مؤكد بالقسم.
[سورة المائدة (5): الآيات 80 الى 81]
تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ من أهل الكتاب. يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا يوالون المشركين بغضا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و المؤمنين. لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أي لبئس شيئا قدموه ليردوا عليه يوم القيامة أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ فِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ هو المخصوص بالذم، و المعنى موجب سخط اللّه و الخلود في العذاب، أو علة الذم و المخصوص محذوف أي لبئس شيئا ذلك لأنه كسبهم السخط و الخلود.