کتابخانه تفاسیر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 139
ملك ذلك بتمليك اللّه سبحانه و تعالى إياه لا يملكه من ذاته و لا يملك مثل ما يضر اللّه تعالى به من البلايا و المصائب، و ما ينفع به من الصحة و السعة و إنما قال ما نظرا إلى ما هو عليه في ذاته توطئة لنفي القدرة عنه رأسا، و تنبيها على أنه من هذا الجنس و من كان له حقيقة تقبل المجانسة و المشاركة فبمعزل عن الألوهية، و إنما قدم الضر لأن التحرز عنه أهم من تحري النفع. وَ اللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ بالأقوال و العقائد فيجازي عليها إن خيرا فخير و إن شرا فشر.
[سورة المائدة (5): آية 77]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِ أي غلوا باطلا فترفعوا عيسى عليه الصلاة و السلام إلى أن تدعوا له الألوهية، أو تضعوه فتزعموا أنه لغير رشدة. و قيل الخطاب للنصارى خاصة. وَ لا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ يعني أسلافهم و أئمتهم الذين قد ضلوا قبل مبعث محمد صلّى اللّه عليه و سلّم في شريعتهم.
وَ أَضَلُّوا كَثِيراً ممن شايعهم على بدعهم و ضلالهم. وَ ضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ عن قصد السبيل الذي هو الإسلام بعد مبعثه صلّى اللّه عليه و سلّم لما كذبوه و بغوا عليه، و قيل الأول إشارة إلى ضلالهم عن مقتضى العقل و الثاني إشارة إلى ضلالهم عما جاء به الشرع.
[سورة المائدة (5): الآيات 78 الى 79]
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ أي لعنهم اللّه في الزبور و الإنجيل على لسانهما. و قيل إن أهل أيلة لما اعتدوا في السبت لعنهم اللّه تعالى على لسان داود فمسخهم اللّه تعالى قردة، و أصحاب المائدة لما كفروا دعا عليهم عيسى عليهم السلام و لعنهم فأصبحوا خنازير و كانوا خمسة آلاف رجل. ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ أي ذلك اللعن الشنيع المقتضي للمسخ بسبب عصيانهم و اعتدائهم ما حرم عليهم.
كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ أي لا ينهى بعضهم بعضا عن معاودة منكر فعلوه، أو عن مثل منكر فعلوه، أو عن منكر أرادوا فعله و تهيؤوا له، أو لا ينتهون عنه من قولهم تناهى عن الأمر و انتهى عنه إذا امتنع. لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ تعجيب من سوء فعلهم مؤكد بالقسم.
[سورة المائدة (5): الآيات 80 الى 81]
تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ من أهل الكتاب. يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا يوالون المشركين بغضا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و المؤمنين. لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أي لبئس شيئا قدموه ليردوا عليه يوم القيامة أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ فِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ هو المخصوص بالذم، و المعنى موجب سخط اللّه و الخلود في العذاب، أو علة الذم و المخصوص محذوف أي لبئس شيئا ذلك لأنه كسبهم السخط و الخلود.
وَ لَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ النَّبِيِ يعني نبيهم و إن كانت الآية في المنافقين فالمراد نبينا عليه السلام. وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ إذ الإيمان يمنع ذلك. وَ لكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ خارجون عن دينهم أو متمردون في نفاقهم.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 140
[سورة المائدة (5): آية 82]
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لشدة شكيمتهم و تضاعف كفرهم و انهماكهم في اتباع الهوى، و ركونهم إلى التقليد و بعدهم عن التحقيق، و تمرنهم على تكذيب الأنبياء و معاداتهم. وَ لَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى للين جانبهم ورقة قلوبهم و قلة حرصهم على الدنيا و كثرة اهتمامهم بالعلم و العمل و إليه أشار بقوله: ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَ رُهْباناً وَ أَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ عن قبول الحق إذا فهموه، أو يتواضعون و لا يتكبرون كاليهود. و فيه دليل على أن التواضع و الإقبال على العلم و العمل و الإعراض عن الشهوات محمود و إن كانت من كافر.
[سورة المائدة (5): آية 83]
وَ إِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ عطف على لا يَسْتَكْبِرُونَ و هو بيان لرقة قلوبهم و شدة خشيتهم و مسارعتهم إلى قبول الحق و عدم تأبيهم عنه، و الفيض انصباب عن امتلاء، فوضع موضع الامتلاء للمبالغة، أو جعلت أعينهم من فرط البكاء كأنها تفيض بأنفسها. مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِ من الأولى للابتداء و الثانية لتبيين ما عرفوا، أو للتبعيض بأنه بعض الحق. و المعنى أنهم عرفوا بعض الحق فأبكاهم فكيف إذا عرفوا كله. يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا بذلك أو بمحمد. فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ ، من الذين شهدوا بأنه حق، أو بنبوته، أو من أمته الذين هم شهداء على الأمم يوم القيامة.
[سورة المائدة (5): آية 84]
وَ ما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ ما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَ نَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ استفهام إنكار و استبعاد لانتفاء الإيمان مع قيام الداعي و هو الطمع في الانخراط مع الصالحين، و الدخول في مداخلهم أو جواب سائل قال لم آمنتم؟ و لا نُؤْمِنُ حال من الضمير و العامل ما في اللام من معنى الفعل، أي أي شيء حصل لنا غير مؤمنين باللّه، أي بوحدانيته فإنهم كانوا مثلثين. أو بكتابه و رسوله فإن الإيمان بهما إيمان به حقيقة و ذكره توطئة و تعظيما، و نطمع عطف على نؤمن أو خبر محذوف، و الواو للحال أي و نحن نطمع و العامل فيها عامل الأولى مقيدا بها أو نؤمن.
[سورة المائدة (5): الآيات 85 الى 86]
فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا أي عن اعتقاد من قولك هذا قول فلان أي معتقده. جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ الذين أحسنوا النظر و العمل، أو الذين اعتادوا الإحسان في الأمور. و الآيات الأربع
روي (أنها نزلت في النجاشي و أصحابه بعث إليه الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم بكتابه فقرأه، ثم دعا جعفر بن أبي طالب و المهاجرين معه و أحضر الرهبان و القسيسين، فأمر جعفرا أن يقرأ عليهم القرآن فقرأ سورة مريم فبكوا و آمنوا بالقرآن)
و
قيل نزلت في ثلاثين أو سبعين رجلا من قومه وفدوا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقرأ عليهم سورة يس فبكوا و آمنوا.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 141
وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ عطف التكذيب بآيات اللّه على الكفر، و هو ضرب منه لأن القصد إلى بيان حال المكذبين و ذكرهم في معرض المصدقين بها جمعا بين الترغيب و الترهيب.
[سورة المائدة (5): الآيات 87 الى 88]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ أي ما طاب و لذ منه كأنه لما تضمن ما قبله مدح النصارى على ترهبهم و الحث على كسر النفس و رفض الشهوات عقبه النهي عن الإفراط في ذلك و الاعتداء عما حد اللّه سبحانه و تعالى بجعل الحلال حراما فقال: وَ لا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ و يجوز أن يراد به و لا تعتدوا حدود ما أحل اللّه لكم إلى ما حرم عليكم، فتكون الآية ناهية عن تحريم ما أحل و تحليل ما حرم داعية إلى القصد بينهما.
روي (أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم وصف القيامة لأصحابه يوما و بالغ في إنذارهم، فرقوا و اجتمعوا في بيت عثمان بن مظعون و اتفقوا على أن لا يزالوا صائمين قائمين، و أن لا يناموا على الفرش و لا يأكلوا اللحم و الودك، و لا يقربوا النساء و الطيب، و يرفضوا الدنيا و يلبسوا المسوح، و يسيحوا في الأرض، و يجبوا مذاكيرهم. فبلغ ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقال لهم: إني لم أومر بذلك إن لأنفسكم عليكم حقا فصوموا و أفطروا، و قوموا و ناموا، فإني أقوم و أنام و أصوم و أفطر، و آكل اللحم و الدسم، و آتي النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني) فنزلت.
وَ كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً أي كلوا ما حل لكم و طاب مما رزقكم اللّه، فيكون حلالا مفعول كلوا و مما حال منه تقدمت عليه لأنه نكرة، و يجوز أن تكون من ابتدائية متعلقة بكلوا، و يجوز أن تكون مفعولا و حلالا حال من الموصول، أو العائد المحذوف، أو صفة لمصدر محذوف و على الوجوه لو لم يقع الرزق على الحرام لم يكن لذكر الحلال فائدة زائدة. وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ .
[سورة المائدة (5): آية 89]
لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ هو ما يبدو من المرء بلا قصد كقول الرجل: لا و اللّه و بلى و اللّه، و إليه ذهب الشافعي رضي اللّه تعالى عنه، و قيل الحلف على ما يظن أنه كذلك و لم يكن، و إليه ذهب أبو حنيفة رحمه اللّه تعالى و في أيمانكم صلة يؤاخذكم أو اللغو لأنه مصدر أو حال منه. وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ بما وثقتم الأيمان عليه بالقصد و النية، و المعنى و لكن يؤاخذكم بما عقدتم إذا حنثتم أو بنكث ما عقدتم فحذف للعلم به. و قرأ حمزة و الكسائي و ابن عياش عن عاصم عَقَّدْتُمُ بالتخفيف، و ابن عامر برواية ابن ذكوان «عاقدتم» و هو من فاعل بمعنى فعل. فَكَفَّارَتُهُ فكفارة نكثه أي الفعلة التي تذهب إثمه و تستره، و استدل بظاهره على جواز التكفير بالمال قبل الحنث و هو عندنا خلافا للحنفية
لقوله عليه الصلاة و السلام «من حلف على يمين و رأي غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه و ليأت الذي هو خير».
إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ من أقصده في النوع أو القدر، و هو مد لكل مسكين عندنا و نصف صاع عند الحنفية، و ما محله النصب لأنه صفة مفعول محذوف تقديره: أن تطعموا عشرة مساكين طعاما من أوسط ما تطعمون، أو الرفع على البدل من إطعام، و أهلون كأرضون. و قرئ «أهاليكم» بسكون الياء على لغة من يسكنها في الأحوال الثلاث كالألف، و هو جمع أهل كالليالي في جمع ليل و الأراضي في جمع أرض.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 142
و قيل هو جمع أهلاة. أَوْ كِسْوَتُهُمْ عطف على إطعام أو من أوسط إن جعل بدلا و هو ثوب يغطي العورة.
و قيل ثوب جامع قميص أو رداء أو إزار. و قرئ بضم الكاف و هو لغة كقدوة في قدوة و كأسوتهم بمعنى أو كمثل ما تطعمون أهليكم إسرافا كان أو تقتيرا تواسون بينهم و بينهم إن لم تطعموهم الأوسط، و الكاف في محل الرفع و تقديره: أو إطعامهم كأسوتهم. أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ أو إعتاق إنسان، و شرط الشافعي رضي اللّه تعالى عنه في الإيمان قياسا على كفارة القتل، و معنى أو إيجاب إحدى الخصال الثلاث مطلقا و تخيير المكلف في التعيين. فَمَنْ لَمْ يَجِدْ أي واحدا منها. فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فكفارته صيام ثلاثة أيام، و شرط فيه أبو حنيفة رضي اللّه تعالى عنه التتابع لأنه قرئ «ثلاثة أيام متتابعات»، و الشواذ ليست بحجة عندنا إذا لم تثبت كتابا و لم ترو سنة. ذلِكَ أي المذكور. كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ و حنثتم. وَ احْفَظُوا أَيْمانَكُمْ بأن تضنوا بها و لا تبذلوها لكل أمر، أو بأن تبروا فيها ما استطعتم و لم يفت بها خير، أو بأن تكفروها إذا حنثتم.
كَذلِكَ أي مثل ذلك البيان. يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ أعلام شرائعه. لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمة التعليم أو نعمة الواجب شكرها فإن مثل هذا التبيين يسهل لكم المخرج منه.
[سورة المائدة (5): آية 90]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ أي الأصنام التي نصبت للعبادة. وَ الْأَزْلامُ سبق تفسيرها في أول السورة. رِجْسٌ قذر تعاف عنه العقول، و أفرده لأنه خبر للخمر، و خبر المعطوفات محذوف أو لمضاف محذوف كأنه قال: إنما تعاطي الخمر و الميسر. مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ لأنه مسبب عن تسويله و تزيينه. فَاجْتَنِبُوهُ الضمير للرجس أو لما ذكر أو للتعاطي. لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ لكي تفلحوا بالاجتناب عنه.
و اعلم أنه سبحانه و تعالى أكد تحريم الخمر و الميسر في هذه الآية، بأن صدر الجملة ب إِنَّما و قرنهما بالأنصاب و الأزلام، و سماهما رجسا، و جعلهما من عمل الشيطان تنبيها على أن الاشتغال بهما شرّ بحت أو غالب، و أمر بالاجتناب عن عينهما و جعله سببا يرجى منه الفلاح، ثم قرر ذلك بأن بين ما فيهما من المفاسد الدنيوية و الدينية المقتضية للتحريم فقال تعالى:
[سورة المائدة (5): الآيات 91 الى 92]
إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ عَنِ الصَّلاةِ و إنما خصهما بإعادة الذكر و شرح ما فيهما من الوبال تنبيها على أنهما المقصود بالبيان، و ذكر الأنصاب و الأزلام للدلالة على أنهما مثلهما في الحرمة و الشرارة
لقوله عليه الصلاة و السلام «شارب الخمر كعابد الوثن».
و خص الصلاة من الذكر بالإفراد للتعظيم، و الإشعار بأن الصاد عنها كالصاد عن الإيمان من حيث إنها عماده و الفارق بينه و بين الكفر، ثم أعاد الحث على الانتهاء بصيغة الاستفهام مرتبا على ما تقدم من أنواع الصوارف فقال: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ إيذانا بأن الأمر في المنع و التحذير بلغ الغاية و أن الأعذار قد انقطعت.
وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ فيما أمرا به. وَ احْذَرُوا ما نهيا عنه أو مخالفتهما. فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 143
فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أي فاعلموا أنكم لم تضروا الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم بتوليكم، فإنما عليه البلاغ و قد أدى، و إنما ضررتم به أنفسكم.
[سورة المائدة (5): آية 93]
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا مما لم يحرم عليهم لقوله: إِذا مَا اتَّقَوْا وَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي اتقوا المحرم و ثبتوا على الإيمان و الأعمال الصالحة. ثُمَّ اتَّقَوْا ما حرم عليهم بعد كالخمر. وَ آمَنُوا بتحريمه. ثُمَّ اتَّقَوْا ثم استمروا و ثبتوا على اتقاء المعاصي. وَ أَحْسَنُوا و تحروا الأعمال الجميلة و اشتغلوا بها.
روي (أنه لما نزل تحريم الخمر قالت الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم: يا رسول اللّه فكيف بإخواننا الذين ماتوا و هم يشربون الخمر و يأكلون الميسر) فنزلت.
و يحتمل أن يكون هذا التكرير باعتبار الأوقات الثلاثة، أو باعتبار الحالات الثلاث استعمال الإنسان التقوى و الإيمان بينه و بين نفسه و بينه و بين الناس و بينه و بين اللّه تعالى، و لذلك بدل الإيمان بالإحسان في الكرة الثالثة إشارة إلى ما قاله عليه الصلاة و السلام في تفسيره، أو باعتبار المراتب الثلاث المبدأ و الوسط و المنتهى، أو باعتبار ما يتقي فإنه ينبغي أن يترك المحرمات توقيا من العقاب و الشبهات تحرزا عن الوقوع في الحرام، و بعض المباحات تحفظا للنفس عن الخسة و تهذيبا لها عن دنس الطبيعة. وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ فلا يؤاخذهم بشيء، و فيه أن من فعل ذلك صار محسنا و من صار محسنا صار للّه محبوبا.
[سورة المائدة (5): آية 94]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَ رِماحُكُمْ نزلت في عام الحديبية ابتلاهم اللّه سبحانه و تعالى بالصيد، و كانت الوحوش تغشاهم في رحالهم بحيث يتمكنون من صيدها أخذا بأيديهم و طعنا برماحهم و هم محرمون، و التقليل و التحقير في بشيء للتنبيه على أنه ليس من العظائم التي تدحض الأقدام كالابتلاء ببذل الأنفس و الأموال، فمن لم يثبت عنده كيف يثبت عند ما هو أشد منه. لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ ليتميز الخائف من عقابه و هو غائب منتظر لقوة إيمانه ممن لا يخافه لضعف قلبه و قلة إيمانه، فذكر العلم و أراد وقوع المعلوم و ظهوره أو تعلق العلم. فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ بعد ذلك الابتلاء بالصيد.
فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ فالوعيد لاحق به، فإن من لا يملك جأشه في مثل ذلك و لا يراعي حكم اللّه فيه فكيف به فيما تكون النفس أميل إليه و أحرص عليه.
[سورة المائدة (5): آية 95]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ أي محرمون جمع حرام كرداح و ردح، و لعله ذكر القتل دون الذبح و الذكاة للتعميم، و أراد بالصيد ما يؤكل لحمه لأنه الغالب فيه عرفا و يؤيده
قوله عليه الصلاة و السلام «خمس يقتلن في الحل و الحرم، الحدأة و الغراب و العقرب و الفأرة و الكلب العقور». و في رواية أخرى «الحية»
بدل «العقرب»، مع ما فيه من التنبيه على جواز قتل كل مؤذ، و اختلف في أن هذا النهي هل
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 144
يلغي حكم الذبح فيلحق مذبوح المحرم بالميتة و مذبوح الوثني أو لا فيكون كالشاة المغصوبة إذا ذبحها الغاصب. وَ مَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً ذاكرا لإحرامه عالما بأنه حرام عليه قبل ما يقتله، و الأكثر على أن ذكره ليس لتقييد وجوب الجزاء فإن إتلاف العامد و المخطئ واحد في إيجاب الضمان، بل لقوله: وَ مَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ و لأن الآية نزلت فيمن تعمد إذ
روي: أنه عنّ لهم في عمرة الحديبية حمار وحش فطعنه أبو اليسر برمحه فقتله. فنزلت.
فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ برفع الجزاء، و المثل قراءة الكوفيين و يعقوب بمعنى فعليه أي فواجبه جزاء يماثل ما قتل من النعم، و عليه لا يتعلق الجار بجزاء للفصل بينهما بالصفة فإن متعلق المصدر كالصلة له فلا يوصف ما لم يتم بها، و إنما يكون صفته و قرأ الباقون على إضافة المصدر إلى المفعول و إقحام مثل كما في قولهم مثلي لا يقول كذا، و المعنى فعليه أن يجزى مثل ما قتل. و قرئ «فجزاء مثل ما قتل»، بنصبهما على فليجز جزاء، أو فعليه أن يجزي جزاء يماثل ما قتل و فجزاؤه مثل ما قتل، و هذه المماثلة باعتبار الخلقة و الهيئة عند مالك و الشافعي رضي اللّه تعالى عنهما، و القيمة عند أبي حنيفة رحمه اللّه تعالى و قال: يقوم الصيد حيث صيد فإن بلغت القيمة ثمن هدي تخير بين أن يهدي ما قيمته قيمته و بين أن يشتري بها طعاما فيعطي كل مسكين نصف صاع من بر أو صاعا من غيره، و بين أن يصوم عن طعام كل مسكين يوما و إن لم تبلغ تخير بين الإطعام و الصوم و اللفظ للأول أوفق. يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ صفة جزاء و يحتمل أن يكون حالا من ضميره في خبره أو منه إذا أضفته، أو وصفته و رفعته بخبر مقدر لمن و كما أن التقويم يحتاج إلى نظر و اجتهاد يحتاج إلى المماثلة في الخلقة و الهيئة إليها، فإن الأنواع تتشابه كثيرا.
و قرئ «ذو عدل» على إرادة الجنس أو الإمام. هَدْياً حال من الهاء في به أو من جزاء و إن نون لتخصصه بالصفة، أو بدل من مثل باعتبار محله أو لفظه فيمن نصبه. بالِغَ الْكَعْبَةِ وصف به هديا لأن إضافته لفظية و معنى بلوغه الكعبة ذبحه بالحرم و التصدق به، و قال أبو حنيفة يذبح بالحرم و يتصدق به حيث شاء. أَوْ كَفَّارَةٌ عطف على جزاء إن رفعته و إن نصبته فخبر محذوف. طَعامُ مَساكِينَ عطف بيان أو بدل منه، أو خبر محذوف أي هي طعام. و قرأ نافع و ابن عامر كفارة طَعامُ بالإضافة للتبيين كقولك: خاتم فضة، و المعنى عند الشافعي أو أن يكفر بإطعام مساكين ما يساوي قيمة الهدي من غالب قوت البلد فيعطي كل مسكين مدا. أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً أو ما ساواه من الصوم فيصوم عن طعام كل مسكين يوما، و هو في الأصل مصدر أطلق للمفعول. و قرئ بكسر العين و هو ما عدل بالشيء في المقدر كعدلي الحمل و ذلك إشارة إلى الطعام، و صياما تمييز للعدل. لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ متعلق بمحذوف أي فعليه الجزاء أو الطعام أو الصوم ليذوق ثقل فعله و سوء عاقبة هتكه لحرمة الإحرام، أو الثقل الشديد على مخالفة أمر اللّه تعالى و أصل الوبل الثقل و منه الطعام الوبيل. عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ من قتل الصيد محرما في الجاهلية أو قبل التحريم، أو في هذه المرة. وَ مَنْ عادَ إلى مثل هذا. فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ فهو ينتقم اللّه منه و ليس فيه ما يمنع الكفارة على العائد كما حكي عن ابن عباس و شريح. وَ اللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ مما أصر على عصيانه.
[سورة المائدة (5): آية 96]
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ ما صيد منه مما لا يعيش إلا في الماء، و هو حلال كله
لقوله عليه الصلاة و السلام في البحر «هو الطهور ماؤه الحل ميتته».
و قال أبو حنيفة لا يحل منه إلا السمك. و قيل يحل السمك و ما يؤكل نظيره في البر. وَ طَعامُهُ ما قذفه أو نضب عنه. و قيل الضمير للصيد و طعامه أكله. مَتاعاً لَكُمْ تمتيعا لكم نصب على الغرض. وَ لِلسَّيَّارَةِ أي و لسيارتكم يتزودونه قديدا. وَ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ أي ما صيد فيه، أو الصيد فيه فعلى الأول يحرم على المحرم أيضا ما صاده الحلال و إن لم يكن له فيه مدخل،
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 145
و الجمهور على حلة
لقوله عليه الصلاة و السلام «لحم الصيد حلال لكم، ما لم تصطادوه أو يصد لكم»
ما دُمْتُمْ حُرُماً أي محرمين و قرئ بكسر الدال من دام يدام. وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ .
[سورة المائدة (5): آية 97]
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ صيرها، و إنما سمي البيت كعبة لتكعبه. الْبَيْتَ الْحَرامَ عطف بيان على جهة المدح، أو المفعول الثاني قِياماً لِلنَّاسِ انتعاشا لهم أي سبب انتعاشهم في أمر معاشهم و معادهم يلوذ به الخائف و يأمن فيه الضعيف، و يربح فيه التجار و يتوجه إليه الحجاج و العمار، أو ما يقوم به أمر دينهم و دنياهم. و قرأ ابن عامر «قيما» على أنه مصدر على فعل كالشبع أعل عينه كما أعل في فعله و نصبه على المصدر أو الحال. وَ الشَّهْرَ الْحَرامَ وَ الْهَدْيَ وَ الْقَلائِدَ سبق تفسيرها و المراد بالشهر الشهر الذي يؤدى فيه الحج، و هو ذو الحجة لأنه المناسب لقرنائه و قيل الجنس. ذلِكَ إشارة إلى الجعل، أو إلى ما ذكر من الأمر بحفظ حرمة الإحرام و غيره. لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ فإن شرع الأحكام لدفع المضار قبل وقوعها و جلب المنافع المترتبة عليها، دليل حكمة الشارع و كمال علمه. وَ أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ تعميم بعد تخصيص و مبالغة بعد إطلاق.
[سورة المائدة (5): الآيات 98 الى 99]
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وعيد و وعد لمن انتهك محارمه و لمن حافظ عليها، أو لمن أصر عليه و لمن أقلع عنه.
ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ تشديد في إيجاب القيام بما أمر به أي الرسول أتى بما أمر به من التبليغ و لم يبق لكم عذر في التفريط. وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما تَكْتُمُونَ من تصديق و تكذيب و فعل و عزيمة.
[سورة المائدة (5): آية 100]
قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَ الطَّيِّبُ حكم عام في نفي المساواة عند اللّه سبحانه و تعالى بين الرديء من الأشخاص و الأعمال و الأموال و جيدها، رغب به في مصالح العمل و حلال المال. وَ لَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فإن العبرة بالجودة و الرداءة دون القلة و الكثرة، فإن المحمود القليل خير من المذموم الكثير، و الخطاب لكل معتبر و لذلك قال: فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ أي فاتقوه في تحري الخبيث و إن كثر، و آثروا الطيب و إن قل. لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ راجين أن تبلغوا الفلاح.
روي: أنها نزلت في حجاج اليمامة لما هم المسلمون أن يوقعوا بهم فنهوا عنه و إن كانوا مشركين.
[سورة المائدة (5): الآيات 101 الى 102]