کتابخانه تفاسیر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 146
تسألوا عنها في زمان الوحي تظهر لكم، و هما كمقدمتين تنتجان ما يمنع السؤال و هو أنه مما يغمهم و العاقل لا يفعل ما يغمه، و أشياء اسم جمع كطرفاء غير أنه قلبت لامه فجعلت لفعاء. و قيل أفعلاء حذفت لامه جمع لشيء على أن أصله شيئ كهين، أو شيء كصديق فخفف. و قيل أفعال جمع له من غير تغيير كبيت و أبيات و يرده منع صرفه. عَفَا اللَّهُ عَنْها صفة أخرى أي عن أشياء عفا اللّه عنها و لم يكلف بها. إذ
روي أنه لما نزلت وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ قال سراقة بن مالك: أكل عام فأعرض عنه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم حتى أعاد ثلاثا فقال: «لا و لو قلت نعم لوجبت، و لو وجبت لما استطعتم فاتركوني ما تركتكم» فنزلت
أو استئناف أي عفا اللّه عما سلف من مسألتكم فلا تعودوا لمثلها. وَ اللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ لا يعاجلكم بعقوبة ما يفرط منكم، و يعفو
عن كثير و عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما (أنه عليه الصلاة و السلام كان يخطب ذات يوم و هو غضيان من كثرة ما يسألون عنه مما لا يعنيهم فقال: لا أسأل عن شيء إلا أجبت، فقال رجل: أين أبي فقال في النار، و قال آخر من أبي فقال: حذافة و كان يدعى لغيره) فنزلت.
قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ الضمير للمسألة التي دل عليها تسألوا و لذلك لم يعد بعن أو لأشياء بحذف الجار.
مِنْ قَبْلِكُمْ متعلق بسألها و ليس صفة لقوم، فإن ظرف الزمان لا يكون صفة للجثة و لا حالا منها و لا خبرا عنها. ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ أي بسببها حيث لم يأمروا بما سألوا جحودا.
[سورة المائدة (5): آية 103]
ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَ لا سائِبَةٍ وَ لا وَصِيلَةٍ وَ لا حامٍ رد و إنكار لما ابتدعه أهل الجاهلية و هو أنهم إذا نتجت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر بحروا أذنها أي شقّوها و خلوا سبيلها، فلا تركب و لا تحلب، و كان الرجل منهم يقول: إن شفيت فناقتي سائبة و يجعلها كالبحيرة في تحريم الانتفاع بها، و إذا ولدت الشاة أنثى فهي لهم و إن ولدت ذكرا فهو لآلهتهم و إن ولدتهما قالوا وصلت الأنثى أخاها فلا يذبح لها الذكر، و إذا نتجت من صلب الفحل عشرة أبطن حرموا ظهره و لم يمنعوه من ماء و لا مرعى و قالوا: قد حمي ظهره، و معنى ما جعل ما شرع و وضع، و لذلك تعدى إلى مفعول واحد و هو البحيرة و من مزيدة. وَ لكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ بتحريم ذلك و نسبته إلى اللّه سبحانه و تعالى. وَ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ أي الحلال من الحرام و المبيح من المحرم، أو الآمر من الناهي و لكنهم يقلدون كبارهم و فيه أن منهم من يعرف بطلان ذلك و لكن يمنعهم حب الرياسة و تقليد الآباء أن يعترفوا به.
[سورة المائدة (5): آية 104]
وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَ إِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا بيان لقصور عقولهم و انهماكهم في التقليد و أن لا سند لهم سواه. أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ لا يَهْتَدُونَ الواو للحال و الهمزة دخلت عليها لإنكار الفعل على هذه الحال، أي أحسبهم ما وجدوا عليه آباءهم و لو كانوا جهلة ضالين، و المعنى أن الاقتداء إنما يصح بمن علم أنه عالم مهتد و ذلك لا يعرف إلا بالحجة فلا يكفي التقليد.
[سورة المائدة (5): آية 105]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ أي احفظوها و الزموا إصلاحها، و الجار مع المجرور جعل اسما
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 147
لالزموا و لذلك نصب أنفسكم. و قرئ بالرفع على الابتداء. لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ لا يضركم الضلال إذا كنتم مهتدين، و من الاهتداء أن ينكر المنكر حسب طاقته كما
قال عليه الصلاة و السلام «من رأى منكم منكرا و استطاع أن يغيره بيده فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه».
و الآية نزلت لما كان المؤمنون يتحسرون على الكفرة و يتمنون إيمانهم، و قيل كان الرجل إذا أسلم قالوا له سفهت آباءك فنزلت. و لا يَضُرُّكُمْ يحتمل الرفع على أنه مستأنف و يؤيده أن قرئ «لا يضيركم» و الجزم على الجواب أو النهي لكنه ضمت الراء اتباعا لضمة الضاد المنقولة إليها من الراء المدغمة و تنصره قراءة من قرأ لا يَضُرُّكُمْ بالفتح، و لا يَضُرُّكُمْ بكسر الضاد و ضمها من ضاره يضيره و يضوره. إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وعد و وعيد للفريقين و تنبيه على أن أحدا لا يؤاخذ بذنب غيره.
[سورة المائدة (5): آية 106]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ أي فيما أمرتم شهادة بينكم، و المراد بالشهادة الإشهاد في الوصية و إضافتها إلى الظرف على الاتساع و قرئ «شهادة» بالنصب و التنوين على ليقم. إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إذا شارفه و ظهرت أماراته و هو ظرف للشهادة. حِينَ الْوَصِيَّةِ بدل منه و في إبداله تنبيه على أن الوصية مما ينبغي أن لا يتهاون فيه أو ظرف حضر. اثْنانِ فاعل شهادة و يجوز أن يكون خبرها على حذف المضاف.
ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أي من أقاربكم أو من المسلمين و هما صفتان لاثنان. أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ عطف على اثنان، و من فسر الغير بأهل الذمة جعله منسوخا فإن شهادته على المسلم لا تسمع إجماعا. إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ أي سافرتم فيها. فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ أي قاربتم الأجل. تَحْبِسُونَهُما تقفونهما و تصبرونهما صفة لآخران و الشرط بجوابه المحذوف المدلول عليه بقوله أو آخران من غيركم اعتراض، فائدته الدلالة على أنه ينبغي أن يشهد اثنان منكم فإن تعذر كما في السفر فمن غيركم، أو استئناف كأنه قيل كيف نعمل إن ارتبنا بالشاهدين فقال تحبسونهما. مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ صلاة العصر، لأنه وقت اجتماع الناس و تصادم ملائكة الليل و ملائكة النهار. و قيل أي صلاة كانت. فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ إن ارتاب الوارث منكم. لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً مقسم عليه، و إن ارتبتم اعتراض يفيد اختصاص القسم بحال الارتياب. و المعنى لا نستبدل بالقسم أو باللّه عرضا من الدنيا أي لا نحلف باللّه كاذبا لطمع. وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى و لو كان المقسم له قريبا منا، و جوابه أيضا محذوف أي لا نشتري. وَ لا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ أي الشهادة التي أمرنا اللّه بإقامتها، و عن الشعبي أنه وقف على شهادة ثم ابتدأ اللّه بالمد على حذف حرف القسم و تعويض حرف الاستفهام منه، و روي عنه بغيره كقولهم اللّه لأفعلن. إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ أي إن كتمنا. و قرئ «لملاثمين» بحذف الهمزة و إلقاء حركتها على اللام و إدغام النون فيها.
[سورة المائدة (5): آية 107]
فَإِنْ عُثِرَ فإن اطلع. عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً أي فعلا ما أوجب إثما كتحريف. فَآخَرانِ فشاهدان آخران. يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ من الذين جنى عليهم و هم الورثة. و قرأ حفص اسْتَحَقَ على البناء للفاعل و هو الأوليان. الْأَوْلَيانِ الأحقان بالشهادة لقرابتهما و معرفتهما و هو خبر محذوف أي: هما الأوليان أو خبر آخَرانِ أو مبتدأ خبره آخران، أو بدل منهما أو من الضمير في يقومان.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 148
و قرأ حمزة و يعقوب و أبو بكر عن عاصم الْأَوَّلِينَ* على أنه صفة للذين، أو بدل منه أي من الأولين الذين استحق عليهم. و قرئ «الأولين» على التثنية و انتصابه على المدح و الأولان و إعرابه إعراب الأوليان.
فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما أصدق منها و أولى بأن تقبل. وَ مَا اعْتَدَيْنا و ما تجاوزنا فيها الحق. إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ الواضعين الباطل موضع الحق، أو الظالمين أنفسهم إن اعتدينا. و معنى الآيتين أن المحتضر إذا أراد الوصية ينبغي أن يشهد عدلين من ذوي نسبه أو دينه على وصيته، أو يوصي إليهما احتياطا فإن لم يجدهما بأن كان في سفر فآخرين من غيرهم، ثم إن وقع نزاع و ارتياب أقسما على صدق ما يقولان بالتغليظ في الوقت، فإن اطلع على أنهما كذبا بأمارة أو مظنة حلف آخران من أولياء الميت، و الحكم منسوخ إن كان الاثنان شاهدين فإنه لا يخلف الشاهد و لا يعارض يمينه بيمين الوارث و ثابت إن كانا وصيين و رد اليمين إلى الورثة إما لظهور خيانة الوصيين فإن تصديق الوصي باليمين لأمانته أو لتغيير الدعوى. إذ
روي أن تميما الداري و عدي بن يزيد خرجا إلى الشام للتجارة و كانا حينئذ نصرانيين و معهما بديل مولى عمرو بن العاص و كان مسلما، فلما قدموا الشام مرض بديل فدون ما معه في صحيفة و طرحها في متاعه و لم يخبرهما به، و أوصى إليهما بأن يدفعا متاعه إلى أهله و مات، ففتشاه و أخذا منه إناء من فضة فيه ثلاثمائة مثقال منقوشا بالذهب فغيباه، فأصاب أهله الصحيفة فطالبوهما بالإناء فجحدا فترافعوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فنزلت
: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا* الآية، فحلفهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بعد صلاة العصر عند المنبر و خلى سبيلهما، ثم وجد الإناء في أيديهما فأتاهما بنو سهم في ذلك فقالا: قد اشتريناه منه و لكن لم يكن لنا عليه بينة فكرهنا أن نقربه فرفعوهما إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فنزلت فَإِنْ عُثِرَ فقام عمرو بن العاص و المطلب بن أبي وداعة السهميان فحلفا و استحقاه. و لعل تخصيص العدد فيهما لخصوص الواقعة.
[سورة المائدة (5): آية 108]
ذلِكَ* أي الحكم الذي تقدم أو تحليف الشاهد. أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها على نحو ما حملوها من غير تحريف و خيانة فيها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ أن ترد اليمين على المدعين. بعد أيمانهم فيفتضحوا بظهور الخيانة و اليمين الكاذبة و إنما جمع الضمير لأنه حكم يعم الشهود كلهم. وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اسْمَعُوا ما توصون به سمع إجابة. وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ* أي فإن لم تتقوا و لم تسمعوا كنتم قوما فاسقين وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ* أي لا يهديهم إلى حجة أو إلى طريق الجنة. فقوله تعالى:
[سورة المائدة (5): آية 109]
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ ظرف له. و قيل بدل من مفعول و اتقوا بدل الاشتمال، أو مفعول و اسمعوا على حذف المضاف أي و اسمعوا خبر يوم جمعهم، أو منصوب بإضمار اذكر. فَيَقُولُ* أي للرسل. ما ذا أُجِبْتُمْ* أي إجابة أجبتم، على أن ماذا في موضع المصدر، أو بأي شيء أجبتم فحذف الجار، و هذا السؤال لتوبيخ قومهم كما أن سؤال الموؤدة لتوبيخ الوائد و لذلك قالُوا لا عِلْمَ لَنا أي لا علم لنا بما لست تعلمه.
إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ* فتعلم ما نعلمه مما أجابونا و أظهروا لنا و ما لا نعلم مما أضمروا في قلوبهم، و فيه التشكي منهم و رد الأمر إلى علمه بما كابدوا منهم. و قيل المعنى لا علم لنا إلى جنب علمك، أو لا علم لنا بما أحدثوا بعدنا و إنما الحكم للخاتمة. و قرئ «علام» بالنصب على أن الكلام قد تم بقوله إِنَّكَ أَنْتَ* ، أي إنك أنت الموصوف بصفاتك المعروفة و علام منصوب على الاختصاص أو النداء. و قرأ أبو بكر و حمزة الغيوب بكسر الغين حيث وقع.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 149
[سورة المائدة (5): آية 110]
إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَ عَلى والِدَتِكَ بدل من يوم يجمع و هو على طريقة وَ نادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ و المعنى أنه سبحانه و تعالى يوبخ الكفرة يومئذ بسؤال الرسل عن إجابتهم و تعديد ما أظهر عليهم من الآيات فكذبتهم طائفة و سموهم سحرة، و غلا آخرون فاتخذوهم آلهة. أو نصب بإضمار اذكر. إِذْ أَيَّدْتُكَ قويتك و هو ظرف لنعمتي أو حال منه و قرئ «آيدتك». بِرُوحِ الْقُدُسِ* بجبريل عليه الصلاة و السلام، أو بالكلام الذي يحيا به الدين، أو النفس حياة أبدية و يطهر من الآثام و يؤيده قوله: تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَ كَهْلًا أي كائنا في المهد و كهلا، و المعنى تكلمهم في الطفولة و الكهولة على سواء، و المعنى إلحاق حاله في الطفولية بحال الكهولية في كمال العقل و التكلم، و به استدل على أنه سينزل فإنه رفع قبل أن يكتهل. وَ إِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَ تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَ إِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي سبق تفسيره في سورة «آل عمران». و قرأ نافع و يعقوب طائرا و يحتمل الإفراد و الجمع كالباقر. وَ إِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ يعني اليهود حين هموا بقتله. إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ ظرف لكففت. فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أي ما هذا الذي جئت به إلا سحر مبين. و قرأ حمزة و الكسائي إلا «ساحر» فالإشارة إلى عيسى عليه الصلاة و السلام.
[سورة المائدة (5): الآيات 111 الى 112]
وَ إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أي أمرتهم على ألسنة رسلي. أَنْ آمِنُوا بِي وَ بِرَسُولِي يجوز أن تكون أن مصدرية و أن تكون مفسرة. قالُوا آمَنَّا وَ اشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ مخلصون.
إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ منصوب بالذكر، أو ظرف لقالوا فيكون تنبيها على أن ادعاءهم الإخلاص مع قولهم. هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ لم يكن بعد عن تحقيق و استحكام معرفة. و قيل هذه الاستطاعة على ما تقتضيه الحكمة و الإرادة لا على ما تقتضيه القدرة. و قيل المعنى هل يطيع ربك أي هل يجيبك، و استطاع بمعنى أطاع كاستجاب و أجاب. و قرأ الكسائي تستطيع ربك أي سؤال ربك، و المعنى هل تسأله ذلك من غير صارف. و المائدة الخوان إذا كان عليه الطعام، من ماد الماء يميد إذا تحرك، أو من ماد إذا أعطاه كأنها تميد من تقدم إليه و نظيرها قولهم شجرة مطعمة. قالَ اتَّقُوا اللَّهَ من أمثال هذا السؤال. إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ* بكمال قدرته و صحة نبوتي، أو صدقتم في ادعائكم الإيمان.
[سورة المائدة (5): الآيات 113 الى 114]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 150
قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها تمهيد عذر و بيان لما دعاهم إلى السؤال و هو أن يتمتعوا بالأكل منها.
وَ تَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا بانضمام علم المشاهدة إلى علم الاستدلال بكمال قدرته سبحانه و تعالى. وَ نَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا في ادعاء النبوة، أو أن اللّه يجيب دعوتنا. وَ نَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ إذا استشهدتنا أو من الشاهدين للعين دون السامعين للخبر.
قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ* لما رأى أن لهم غرضا صحيحا في ذلك، أو أنهم لا يقلعون عنه فأراد إلزامهم الحجة بكمالها. اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً أي يكون يوم نزولها عيدا نعظمه.
و قيل العيد السرور العائد و لذلك سمي يوم العيد عيدا. و قرئ «تكن» على جواب الأمر. لِأَوَّلِنا وَ آخِرِنا بدل من لنا بإعادة العامل أي عيدا لمتقدمينا و متأخرينا. روي: أنها نزلت يوم الأحد فلذلك اتخذه النصارى عيدا. و قيل يأكل منها أولنا و آخرنا. و قرئ «لأولانا و أخرانا» بمعنى الأمة أو الطائفة. وَ آيَةً* عطف على عِيداً . مِنْكَ صفة لها أي آية كائنة منك دالة على كمال قدرتك و صحة نبوتي. وَ ارْزُقْنا المائدة و الشكر عليها. وَ أَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ أي خير من يرزق لأنه خالق الرزق و معطيه بلا عوض.
[سورة المائدة (5): آية 115]
قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ إجابة إلى سؤالكم. و قرأ نافع و ابن عامر و عاصم مُنَزِّلُها بالتشديد.
فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً أي تعذيبا و يجوز أن يجعل مفعولا به على السعة. لا أُعَذِّبُهُ الضمير للمصدر، أو للعذاب إن أريد ما يعذب به على حذف حرف الجر. أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ* أي من عالمي زمانهم أو العالمين مطلقا فإنهم مسخوا قردة و خنازير، و لم يعذب بمثل ذلك غيرهم.
روي: أنها نزلت سفرة حمراء بين غمامتين و هم ينظرون إليها حتى سقطت بين أيديهم، فبكى عيسى عليه الصلاة و السلام و قال: اللهم اجعلني من الشاكرين اللهم اجعلها رحمة و لا تجعلها مثلة و عقوبة، ثم قام فتوضأ و صلّى و بكى، ثم كشف المنديل و قال: بسم اللّه خير الرازقين، فإذا سمكة مشوية بلا فلوس و لا شوك تسيل دسما و عند رأسها ملح و عند ذنبها خل و حولها من ألوان البقول ما خلا الكراث، و إذا خمسة أرغفة على واحد منها زيتون و على الثاني عسل و على الثالث سمن و على الرابع جبن و على الخامس قديد فقال شمعون: يا روح اللّه أمن طعام الدنيا أم من طعام الآخرة قال: ليس منهما و لكن اخترعه اللّه سبحانه و تعالى بقدرته كلوا ما سألتم و اشكروا يمددكم اللّه و يزدكم من فضله، فقالوا: يا روح اللّه لو أريتنا من هذه الآية آية أخرى فقال: يا سمكة احيي بإذن اللّه تعالى فاضطربت ثم قال لها عودي كما كنت فعادت مشوية ثم طارت المائدة، ثم عصوا بعدها فمسخوا.
و قيل كانت تأتيهم أربعين يوما غبا يجتمع عليها الفقراء و الأغنياء و الصغار و الكبار يأكلون حتى إذا فاء الفيء طارت و هم ينظرون في ظلها، و لم يأكل منها فقير إلا غني مدة عمره، و لا مريض إلا بريء و لم يمرض أبدا، ثم أوحى اللّه تعالى إلى عيسى عليه السلام أن اجعل مائدتي في الفقراء و المرضى دون الأغنياء و الأصحاء، فاضطرب الناس لذلك فمسخ منهم ثلاثة و ثمانون رجلا. و قيل لما وعد اللّه إنزالها بهذه الشريطة استعفوا و قالوا: لا نريد فلم تنزل. و عن مجاهد أن هذا مثل ضربه اللّه لمقترحي المعجزات. و عن بعض الصوفية: المائدة هاهنا عبارة عن حقائق المعارف، فإنها غذاء الروح كما أن الأطعمة غذاء البدن و على هذا فلعل الحال أنهم رغبوا في حقائق لم يستعدوا للوقوف عليها، فقال لهم عيسى عليه الصلاة و السلام: إن حصلتم الإيمان فاستعملوا التقوى حتى تتمكنوا من الاطلاع عليها، فلم يقلعوا عن السؤال و ألحوا فيه فسأل لأجل اقتراحهم، فبين اللّه سبحانه و تعالى أن إنزاله سهل و لكن فيه خطر و خوف عاقبة، فإن السالك إذا انكشف له ما هو أعلى من مقامه لعله لا يحتمله و لا يستقر له فيضل به ضلالا بعيدا.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 151
[سورة المائدة (5): آية 116]
وَ إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ يريد به توبيخ الكفرة و تبكيتهم، و من دون اللّه صفة لإلهين أو صلة اتخذوني، و معنى دون إما المغايرة فيكون فيه تنبيه على أن عبادة اللّه سبحانه و تعالى مع عبادة غيره كلا عبادة، فمن عبده مع عبادتهما كأنه عبدهما و لم يعبده أو القصور، فإنهم لم يعتقدوا أنهما مستقلان باستحقاق العبادة و إنما زعموا أن عبادتهما توصل إلى عبادة اللّه سبحانه و تعالى و كأنه قيل: اتخذوني و أمي إلهين متوصلين بنا إلى اللّه سبحانه و تعالى. قالَ سُبْحانَكَ* أنزهك تنزيها من أن يكون لك شريك. ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍ ما ينبغي لي أن أقول قولا لا يحق لي أن أقوله. إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَ لا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ تعلم ما أخفيه في نفسي كما تعلم ما أعلنه، و لا أعلم ما تخفيه من معلوماتك. و قوله في نفسك للمشاكلة و قيل المراد بالنفس الذات. إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ* تقرير للجملتين باعتبار منطوقه و مفهومه.
[سورة المائدة (5): الآيات 117 الى 118]
ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ تصريح بنفي المستفهم عنه بعد تقديم ما يدل عليه. أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ عطف بيان للضمير في به، أو بدل منه و ليس من شرط البدل جواز طرح المبدل منه مطلقا ليلزم بقاء الموصول بلا راجع، أو خبر مضمر أو مفعوله مثل هو أو أعني، و لا يجوز إبداله من ما أمرتني به فإن المصدر لا يكون مفعول القول و لا أن تكون أن مفسرة لأن الأمر مسند إلى اللّه سبحانه و تعالى، و هو لا يقول اعبدوا اللّه ربي و ربكم و القول لا يفسر بل الجملة تحكي بعده إلا أن يؤول القول بالأمر فكأن قيل: ما أمرتهم إلا بما أمرتني به أن اعْبُدُوا اللَّهَ* . وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ أي رقيبا عليهم أمنعهم أن يقولوا ذلك و يعتقدوه، أو مشاهدا لأحوالهم من كفر و إيمان. فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي بالرفع إلى السماء لقوله: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَ رافِعُكَ و التوفي أخذ الشيء وافيا، و الموت نوع منه قال اللّه تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها . كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ المراقب لأحوالهم فتمنع من أردت عصمته من القول به بالإرشاد إلى الدلائل و التنبيه عليها بإرسال الرسل و إنزال الآيات. وَ أَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ مطلع عليه مراقب له.
إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ أي إن تعذبهم فإنك تعذب عبادك و لا اعتراض على المالك المطلق فيما يفعل بملكه، و فيه تنبيه على أنهم استحقوا ذلك لأنهم عبادك و قد عبدوا غيرك. وَ إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فلا عجز و لا استقباح فإنك القادر القوي على الثواب و العقاب، الذي لا يثيب و لا يعاقب إلا عن حكمة و صواب فإن المغفرة مستحسنة لكل مجرم، فإن عذبت فعدل و إن غفرت ففضل. و عدم غفران الشرك بمقتضى الوعيد فلا امتناع فيه لذاته ليمنع الترديد و التعليق بأن.
[سورة المائدة (5): الآيات 119 الى 120]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 152
قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ و قرأ نافع يَوْمِ* بالنصب على أنه ظرف لقال و خبر هذا محذوف، أو ظرف مستقر وقع خبرا و المعنى هذا الذي مر من كلام عيسى واقع يوم ينفع. و قيل إنه خبر و لكن بني على الفتح بإضافته إلى الفعل و ليس بصحيح، لأن المضاف إليه معرب و المراد بالصدق الصدق في الدنيا فإن النافع ما كان حال التكليف. لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ بيان للنفع. لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما فِيهِنَّ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تنبيه على كذب النصارى و فساد دعواهم في المسيح و أمه، و إنما لم يقل و من فيهن تغليبا للعقلاء و قال وَ ما فِيهِنَ اتباعا لهم غير أولي العقل إعلاما بأنهم في غاية القصور عن معنى الربوبية و النزول عن رتبة العبودية، و إهانة لهم و تنبيها على المجانسة المنافية للألوهية، و لأن ما يطلق متناولا للأجناس كلها فهو أولى بإرادة العموم.