کتابخانه تفاسیر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 154
قدر على خلق المواد و جمعها و إيداع الحياة فيها و إبقائها ما يشاء كان أقدر على جمع تلك المواد و إحيائها ثانيا، فالآية الأولى دليل التوحيد و الثانية دليل البعث، و الامتراء الشك و أصله المري و هو استخراج اللبن من الضرع.
[سورة الأنعام (6): آية 3]
وَ هُوَ اللَّهُ الضمير للّه سبحانه و تعالى و اللَّهُ خبره. فِي السَّماواتِ وَ فِي الْأَرْضِ متعلق باسم اللَّهُ و المعنى هو المستحق للعبادة فيهما لا غير، كقوله سبحانه و تعالى: وَ هُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَ فِي الْأَرْضِ إِلهٌ أو بقوله: يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَ جَهْرَكُمْ و الجملة خبر ثان، أو هي الخبر و اللَّهُ بدل، و يكفي لصحة الظرفية كون المعلوم فيهما كقولك رميت الصيد في الحرم إذا كنت خارجه و الصيد فيه أو ظرف مستقر وقع خبرا، بمعنى أنه سبحانه و تعالى لكمال علمه بما فيهما كأنه فيهما، و يعلم سركم و جهركم بيان و تقرير له و ليس متعلقا بالمصدر لأن صفته لا تتقدم عليه. وَ يَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ من خير أو شر فيثيب عليه و يعاقب، و لعله أريد بالسر و الجهر ما يخفى و ما يظهر من أحوال الأنفس و بالمكتسب أعمال الجوارح.
[سورة الأنعام (6): الآيات 4 الى 5]
وَ ما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ مِنْ الأولى مزيدة للاستغراق و الثانية للتبعيض، أي: ما يظهر لهم دليل قط من الأدلة أو معجزة من المعجزات أو آية من آيات القرآن. إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ تاركين للنظر فيه غير ملتفتين إليه.
فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ يعني القرآن و هو كاللازم مما قبله كأنه قيل: إنهم لما كانوا معرضين عن الآيات كلها كذبوا به لما جاءهم، أو كالدليل عليه على معنى أنهم لما أعرضوا عن القرآن و كذبوا به و هو أعظم الآيات فكيف لا يعرضون عن غيره، و لذلك رتب عليه بالفاء. فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي سيظهر لهم ما كانوا به يستهزئون عند نزول العذاب بهم في الدنيا و الآخرة، أو عند ظهور الإسلام و ارتفاع أمره.
[سورة الأنعام (6): آية 6]
أَ لَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ أي من أهل زمان، و القرن مدة أغلب أعمار الناس و هي سبعون سنة. و قيل ثمانون. و قيل القرن أهل عصر فيه نبي أو فائق في العلم. قلت المدة أو كثرت و اشتقاقه من قرنت. مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ جعلنا لهم فيها مكانا و قررناهم فيها و أعطيناهم من القوى و الآلات ما تمكنوا بها من أنواع التصرف فيها. ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ ما لم نجعل لكم من السعة و طول المقام يا أهل مكة ما لم نعطكم من القوة و السعة في المال و الاستظهار في العدد و الأسباب. وَ أَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ أي المطر أو السحاب، أو المظلة فطن مبدأ المطر منها. مِدْراراً أي مغزارا. وَ جَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فعاشوا في الخصب و الريف بين الأنهار و الثمار. فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ أي لم يغن ذلك عنهم شيئا.
وَ أَنْشَأْنا و أحدثنا. مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ بدلا منهم، و المعنى أنه سبحانه و تعالى كما قدر على أن يهلك من قبلكم كعاد و ثمود و ينشئ مكانهم يعمر بهم بلاده يقدر أن يفعل ذلك بكم.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 155
[سورة الأنعام (6): الآيات 7 الى 8]
وَ لَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ مكتوبا في ورق. فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ فمسوه، و تخصيص اللمس لأن التزوير لا يقع فيه فلا يمكنهم أن يقولوا إنما سكرت أبصارنا، و لأنه يتقدمه الإبصار حيث لا مانع، و تقييده بالأيدي لدفع التجوز فإنه قد يتجوز به للفحص كقوله: وَ أَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ تعنتا و عنادا.
وَ قالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ هلا أنزل معه ملك يكلمنا أنه نبي كقوله: لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً . وَ لَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ جواب لقولهم و بيان هو المانع مما اقترحوه و الخلل فيه، و المعنى أن الملك لو أنزل بحيث عاينوه كما اقترحوا لحق إهلاكهم فإن سنة اللّه قد جرت بذلك فيمن قبلهم. ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ بعد نزوله طرفة عين.
[سورة الأنعام (6): آية 9]
وَ لَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَ لَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (9)
وَ لَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَ لَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ جواب ثان إن جعل الهاء للمطلوب، و إن جعل للرسول فهو جواب اقتراح ثان، فإنهم تارة يقولون لولا أنزل عليه ملك، و تارة يقولون لو شاء ربنا لأنزل ملائكة. و المعنى و لو جعلنا قرينا لك ملكا يعاينونه أو الرسول ملكا لمثلناه رجلا كما مثل جبريل في صورة دحية الكلبي، فإن القوة البشرية لا تقوى على رؤية الملك في صورته، و إنما رآهم كذلك الأفراد من الأنبياء عليهم الصلاة و السلام بقوتهم القدسية، و للبسنا جواب محذوف أي و لو جعلناه رجلا للبسنا أي: لخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم فيقولون ما هذا إلا بشر مثلكم. و قرئ «لبسنا» بلام واحدة و «للبّسنا» بالتشديد للمبالغة.
[سورة الأنعام (6): الآيات 10 الى 11]
وَ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ تسلية لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم عما يرى من قومه. فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ فأحاط بهم الذي كانوا يستهزئون به حيث أهلكوا لأجله، أو فنزل بهم وبال استهزائهم.
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ كيف أهلكهم اللّه بعذاب الاستئصال كي تعتبروا، و الفرق بينه و بين قوله: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا* أن السير ثمة لأجل النظر و لا كذلك ها هنا، و لذلك قيل معناه إباحة السير للتجارة و غيرها و إيجاب النظر في آثار الهالكين.
[سورة الأنعام (6): الآيات 12 الى 13]
قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ خلقا و ملكا، و هو سؤال تبكيت. قُلْ لِلَّهِ تقريرا لهم و تنبيها على أنه المتعين للجواب بالإنفاق، بحيث لا يمكنهم أن يذكروا غيره. كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ التزمها تفضلا و إحسانا و المراد بالرحمة ما يعم الدارين و من ذلك الهداية إلى معرفته، و العلم بتوحيده بنصب الأدلة، و إنزال الكتب و الإمهال على الكفر. لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ استئناف و قسم للوعيد على إشراكهم و إغفالهم
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 156
النظر أي: ليجمعنكم في القبور مبعوثين إلى يوم القيامة، فيجازيكم على شرككم. أو في يوم القيامة و إلى بمعنى في. و قيل بدل من الرحمة بدل البعض فإنه من رحمته بعثه إياكم و إنعامه عليكم. لا رَيْبَ فِيهِ في اليوم أو الجمع. الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بتضييع رأس مالهم. و هو الفطرة الأصلية و العقل السليم، و موضع الذين نصب على الذم أو رفع على الخبر أي: و أنتم الذين أو على الابتداء و الخبر. فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ و الفاء للدلالة على أن عدم إيمانهم مسبب عن خسرانهم، فإن إبطال العقل باتباع الحواس و الوهم و الانهماك في التقليد و إغفال النظر أدى بهم إلى الإصرار على الكفر و الامتناع من الإيمان وَ لَهُ عطف على للّه. ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَ النَّهارِ من السكنى و تعديته بفي كما في قوله تعالى: وَ سَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ و المعنى ما اشتملا عليه، أو من السكون أي ما سكن فيهما و تحرك فاكتفى بأحد الضدين عن الآخر. وَ هُوَ السَّمِيعُ لكل مسموع. الْعَلِيمُ بكل معلوم فلا يخفى عليه شيء، و يجوز أن يكون وعيدا للمشركين على أقوالهم و أفعالهم.
[سورة الأنعام (6): آية 14]
قُلْ أَ غَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا إنكار لاتخاذ غير اللّه وليا لا لاتخاذ الولي. فلذلك قدم و أولى الهمزة و المراد بالولي المعبود لأنه رد لمن دعاه إلى الشرك. فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ مبدعهما، و عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما: ما عرفت معنى الفاطر حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما، أنا فطرتها أي ابتدأتها. و جره على الصفة للّه فإنه بمعنى الماضي و لذلك قرئ «فطر» و قرئ بالرفع و النصب على المدح.
وَ هُوَ يُطْعِمُ وَ لا يُطْعَمُ يرزق و لا يرزق، و تخصيص الطعام لشدة الحاجة إليه. و قرئ «و لا يطعم» بفتح الياء و بعكس الأول على أن الضمير لغير اللّه، و المعنى كيف أشرك بمن هو فاطر السموات و الأرض ما هو نازل عن رتبة الحيوانية، و ببنائهما لفاعل على أن الثاني من أطعم بمعنى استطعم، أو على معنى أنه يطعم تارة و لا يطعم أخرى كقوله: يَقْبِضُ وَ يَبْصُطُ . قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ لأن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم سابق أمته في الدين. وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ و قيل لي و لا تكوننّ، و يجوز عطفه على قل.
[سورة الأنعام (6): الآيات 15 الى 16]
قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ مبالغة أخرى في قطع أطماعهم، و تعريض لهم بأنهم عصاة مستوجبون للعذاب، و الشرط معترض بين الفعل و المفعول به و جوابه محذوف دل عليه الجملة.
مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ أي يصرف العذاب عنه. و قرأ حمزة و الكسائي و يعقوب و أبو بكر عن عاصم يُصْرَفْ على أن الضمير فيه للّه سبحانه و تعالى. و قد قرئ بإظهاره و المفعول به محذوف، أو يومئذ بحذف المضاف. فَقَدْ رَحِمَهُ نجاه و أنعم عليه. وَ ذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ أي الصرف أو الرحمة.
[سورة الأنعام (6): الآيات 17 الى 18]
وَ إِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ ببلية كمرض و فقر. فَلا كاشِفَ لَهُ فلا قادر على كشفه. إِلَّا هُوَ وَ إِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ بنعمة كصحة و غنى. فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فكان قادرا على حفظه و إدامته فلا يقدر غيره على دفعه كقوله تعالى: فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ .
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 157
وَ هُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ تصوير لقهره و علوه بالغلبة و القدرة. وَ هُوَ الْحَكِيمُ في أمره و تدبيره.
الْخَبِيرُ بالعباد و خفايا أحوالهم.
[سورة الأنعام (6): آية 19]
قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً نزلت حين قالت قريش: يا محمد لقد سألنا عنك اليهود و النصارى، فزعموا أن ليس لك عندهم ذكر و لا صفة فأرنا من يشهد لك أنك رسول اللّه. و الشيء يقع على كل موجود، و قد سبق القول فيه في سورة «البقرة». قُلِ اللَّهُ أي اللّه أكبر شهادة ثم ابتدأ شَهِيدٌ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ أي هو شهيد بيني و بينكم، و يجوز أن يكون اللّه شهيد هو الجواب لأنه سبحانه و تعالى إذا كان الشهيد كان أكبر شيء شهادة. وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ أي بالقرآن، و اكتفى بذكر الإنذار عن ذكر البشارة. وَ مَنْ بَلَغَ عطف على ضمير المخاطبين، أي لأنذركم به يا أهل مكة و سائر من بلغه من الأسود و الأحمر، أو من الثقلين، أو لأنذركم به أيها الموجودون و من بلغه إلى يوم القيامة، و فيه دليل على أن أحكام القرآن تعم الموجودين وقت نزوله و من بعدهم، و أنه لا يؤاخذ بها من لم تبلغه. أَ إِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى تقرير لهم مع إنكار و استبعاد. قُلْ لا أَشْهَدُ بما تشهدون. قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ أي بل أشهد أن لا إله إلا هو. وَ إِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ يعني الأصنام.
[سورة الأنعام (6): الآيات 20 الى 21]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ يعرفون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بحليته المذكورة في التوراة و الإنجيل. كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ بحلاهم. الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ من أهل الكتاب و المشركين. فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ لتضييعهم ما به يكتسب الإيمان.
وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً كقولهم: الملائكة بنات اللّه، و هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه. أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ كأن كذبوا بالقرآن و المعجزات و سموها سحرا. و إنما ذكر (أو) و هم و قد جمعوا بين الأمرين تنبيها على أن كلا منهما وحده بالغ غاية الإفراط في الظلم على النفس. إِنَّهُ الضمير للشأن. لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ فضلا عمن لا أحد أظلم منه.
[سورة الأنعام (6): الآيات 22 الى 23]
وَ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً منصوب بمضمر تهويلا للأمر. ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ أي آلهتكم التي جعلتموها شركاء للّه، و قرأ يعقوب «يحشرهم» و يقول بالياء. الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أي تزعمونهم شركاء، فحذف المفعولان و المراد من الاستفهام التوبيخ، و لعله يحال بينهم و بين آلهتهم حينئذ ليفقدوها في الساعة التي علقوا بها الرجاء فيها، و يحتمل أن يشاهدوهم و لكن لما لم ينفعوهم فكأنهم غيب عنهم.
ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا أي كفرهم، و المراد عاقبته و قيل معذرتهم التي يتوهمون أن يتخلصوا بها، من فتنت الذهب إذا خلصته. و قيل جوابهم و إنما سماه فتنة لأنه كذب، أو لأنهم قصدوا به الخلاص.
و قرأ ابن كثير و ابن عامر و حفص عن عاصم لم تكن بالتاء و فِتْنَتُهُمْ بالرفع على أنها الاسم، و نافع و أبو
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 158
عمرو و أبو بكر عنه بالتاء و النصب على أن الاسم أَنْ قالُوا ، و التأنيث للخبر كقولهم من كانت أمك و الباقون بالياء و النصب. وَ اللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ يكذبون و يحلفون عليه مع علمهم بأنه لا ينفعهم من فرط الحيرة و الدهشة، كما يقولون: رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها . و قد أيقنوا بالخلود. و قيل معناه ما كنا مشركين عند أنفسنا و هو لا يوافق قوله.
[سورة الأنعام (6): الآيات 24 الى 25]
انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أي بنفي الشرك عنها، و حمله على كذبهم في الدنيا تعسف يخل بالنظم و نظير ذلك قوله: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ و قرأ حمزة و الكسائي ربّنا بالنصب على النداء أو المدح. وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ من الشركاء.
وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حين تتلو القرآن، و المراد أبو سفيان و الوليد و النضر و عتبة و شيبة و أبو جهل و أضرابهم، اجتمعوا فسمعوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يقرأ القرآن فقالوا للنضر ما يقول، فقال: و الذي جعلها بيته ما أدري ما يقول إلا أنه يحرك لسانه و يقول أساطير الأولين مثل ما حدثتكم عن القرون الماضية، فقال أبو سفيان إني لأرى حقا فقال أبو جهل كلا. وَ جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أغطية جمع كنان و هو ما يستر الشيء. أَنْ يَفْقَهُوهُ كراهة أن يفقهوه. وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً يمنع من استماعه، و قد مر تحقيق ذلك في أول «البقرة».
وَ إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها لفرط عنادهم و استحكام التقليد فيهم. حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ أي بلغ تكذيبهم الآيات إلى أنهم جاءوك يجادلونك، و حتى هي التي تقع بعدها الجمل لا عمل لها، و الجملة إذا و جوابه و هو يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ فإن جعل أصدق الحديث خرافات الأولين غاية التكذيب، و يجادلونك حال لمجيئهم، و يجوز أن تكون الجارة و إذا جاءوك في موضع الجر و يجادلونك حال و يقول تفسير له، و الأساطير الأباطيل جمع أسطورة أو أسطارة أو أسطار جمع سطر، و أصله السطر بمعنى الخط.
[سورة الأنعام (6): الآيات 26 الى 27]
وَ هُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ أي ينهون الناس عن القرآن، أو الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم و الإيمان به. وَ يَنْأَوْنَ عَنْهُ بأنفسهم أو ينهون عن التعرض لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و ينأون عنه فلا يؤمنون به كابي طالب. وَ إِنْ يُهْلِكُونَ و ما يهلكون بذلك. إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَشْعُرُونَ أن ضرره لا يتعداهم إلى غيرهم.
وَ لَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ جوابه محذوف أي: لو تراهم حين يوقعون على النار حتى يعاينوها، أو يطلعون عليها، أو يدخلونها فيعرفون مقدار عذابها لرأيت أمرا شنيعا. و قرئ «وقفوا» على البناء للفاعل من وقف عليها وقوفا. فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ تمنيا للرجوع إلى الدنيا. وَ لا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَ نَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ استئناف كلام منهم على وجه الإثبات كقولهم: دعني و لا أعود، أي و أنا لا أعود تركتني، أو لم تتركني أو عطف على نرد أو حال من الضمير فيه فيكون في حكم التمني، و قوله: وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ راجع إلى ما تضمنه التمني من الوعد، و نصبهما حمزة و يعقوب و حفص على الجواب بإضمار أن بعد الواو إجراء لها مجرى الفاء. و قرأ ابن عامر برفع الأول على العطف و نصب الثاني على الجواب.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 159
[سورة الأنعام (6): الآيات 28 الى 29]
بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ الإضراب عن إرادة الإيمان المفهومة من التمني، و المعنى أنه ظهر لهم ما كانوا يخفون من نفاقهم، أو قبائح أعمالهم فتمنوا ذلك ضجرا لا عزما على أنهم لو ردوا لآمنوا.
وَ لَوْ رُدُّوا أي إلى الدنيا بعد الوقوف و الظهور. لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ من الكفر و المعاصي. وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ فيما وعدوا به من أنفسهم.
وَ قالُوا عطف على لعادوا، أو على إنهم لكاذبون أو على نهوا، أو استئناف بذكر ما قالوه في الدنيا.
إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا الضمير للحياة وَ ما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ .
[سورة الأنعام (6): الآيات 30 الى 31]
وَ لَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ مجاز عن الحبس للسؤال و التوبيخ، و قيل معناه وقفوا على قضاء ربهم أو جزائه، أو عرفوه حق التعريف. قالَ أَ لَيْسَ هذا بِالْحَقِ كأنه جواب قائل قال: ماذا قال ربهم حينئذ؟
و الهمزة للتقريع على التكذيب، و الإشارة إلى البعث و ما يتبعه من الثواب و العقاب. قالُوا بَلى وَ رَبِّنا إقرار مؤكد باليمين لانجلاء الأمر غاية الجلاء. قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ بسبب كفركم أو ببدله.
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ إذ فاتهم النعيم و استوجبوا العذاب المقيم و لقاء اللّه البعث و ما يتبعه.
حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ غاية لكذبوا لا لخسر، لأن خسرانهم لا غاية له. بَغْتَةً فجأة و نصبها على الحال، أو المصدر فإنها نوع من المجيء. قالُوا يا حَسْرَتَنا أي تعالي فهذا أوانك. عَلى ما فَرَّطْنا قصرنا فِيها في الحياة الدنيا أضمرت و إن لم يجر ذكرها للعلم بها، أو في الساعة يعني في شأنها و الإيمان بها.
وَ هُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ تمثيل لاستحقاقهم آصار الآثام. أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ بئس شيئا يزرونه وزرهم.
[سورة الأنعام (6): آية 32]
وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ أي و ما أعمالها إلا لعب و لهو يلهي الناس و يشغلهم عما يعقب منفعة دائمة و لذة حقيقية. و هو جواب لقولهم إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا . وَ لَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ لدوامها و خلوص منافعها و لذاتها، و قوله: لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ تنبيه على أن ما ليس من أعمال المتقين لعب و لهو. و قرأ ابن عامر «و لدار الآخرة». أَ فَلا يَعْقِلُونَ أي الأمرين خير. و قرأ نافع و ابن عامر و حفص عن عاصم و يعقوب بالتاء على خطاب المخاطبين به، أو تغليب الحاضرين على الغائبين.
[سورة الأنعام (6): آية 33]
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ معنى قد زيادة الفعل و كثرته كما في قوله:
و لكنّه قد يهلك المال نائله و الهاء في أنه للشأن. و قرئ «ليحزنك» من أحزن. فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ في الحقيقة. و قرأ نافع
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 160
و الكسائي لا يُكَذِّبُونَكَ من أكذبه إذا وجده كاذبا، أو نسبه إلى الكذب. وَ لكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ و لكنهم يجحدون بآيات اللّه و يكذبونها، فوضع الظالمين موضع الضمير للدلالة على أنهم ظلموا بجحودهم، أو جحدوا لتمرنهم على الظلم، و الباء لتضمين الجحود معنى التكذيب.
روي أن أبا جهل كان يقول: ما نكذبك و إنك عندنا لصادق و إنما نكذب ما جئتنا به. فنزلت.
[سورة الأنعام (6): آية 34]
وَ لَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ تسلية لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و فيه دليل على أن قوله: لا يُكَذِّبُونَكَ ، ليس لنفي تكذيبه مطلقا. فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَ أُوذُوا على تكذيبهم و إيذائهم فتأس بهم و اصبر. حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا فيه إيماء بوعد النصر للصابرين. وَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ لمواعيده من قوله: وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ الآيات. وَ لَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ أي بعض قصصهم و ما كابدوا من قومهم.
[سورة الأنعام (6): آية 35]
وَ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ عظم و شقّ إِعْراضُهُمْ عنك و عن الإيمان بما جئت به. فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ منفذا تنفذ فيه إلى جوف الأرض فتطلع لهم آية، أو مصعدا تصعد به إلى السماء فتنزل منها آية، و في الأرض صفة لنفقا و في السماء صفة لسلّما، و يجوز أن يكونا متعلقين بتبتغي، أو حالين من المستكن و جواب الشرط الثاني محذوف تقديره فافعل، و الجملة جواب الأول و المقصود بيان حرصه البالغ على إسلام قومه، و أنه لو قدر أن يأتيهم بآية من تحت الأرض أو من فوق السماء لأتى بها رجاء إيمانهم وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى أي و لو شاء اللّه جمعهم على الهدى لوفقهم للإيمان حتى يؤمنوا و لكن لم تتعلق به مشيئته، فلا تتهالك عليه و المعتزلة أولوه بأنه لو شاء لجمعهم على الهدى بأن يأتيهم بآية ملجئة و لكن لم يفعل لخروجه عن الحكمة. فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ بالحرص على ما لا يكون، و الجزع في مواطن الصبر فإن ذلك من دأب الجهلة.
[سورة الأنعام (6): الآيات 36 الى 37]
إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ إنما يجيب الذين يسمعون بفهم و تأمل لقوله: أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَ هُوَ شَهِيدٌ و هؤلاء كالموتى الذين لا يسمعون. وَ الْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ فيعلمهم حين لا ينفعهم الإيمان. ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ للجزاء.
وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ أي آية بما اقترحوه، أو آية أخرى سوى ما أنزل من الآيات المتكاثرة لعدم اعتدادهم بها عنادا. قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً مما اقترحوه، أو آية تضطرهم إلى الإيمان كنتق الجبل، أو آية إن جحدوها هلكوا. وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أن اللّه قادر على إنزالها، و أن إنزالها يستجلب عليهم البلاء، و أن لهم فيما أنزل مندوحة عن غيره. و قرأ ابن كثير يُنَزِّلَ بالتخفيف و المعنى واحد.
[سورة الأنعام (6): آية 38]