کتابخانه تفاسیر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 159
[سورة الأنعام (6): الآيات 28 الى 29]
بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ الإضراب عن إرادة الإيمان المفهومة من التمني، و المعنى أنه ظهر لهم ما كانوا يخفون من نفاقهم، أو قبائح أعمالهم فتمنوا ذلك ضجرا لا عزما على أنهم لو ردوا لآمنوا.
وَ لَوْ رُدُّوا أي إلى الدنيا بعد الوقوف و الظهور. لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ من الكفر و المعاصي. وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ فيما وعدوا به من أنفسهم.
وَ قالُوا عطف على لعادوا، أو على إنهم لكاذبون أو على نهوا، أو استئناف بذكر ما قالوه في الدنيا.
إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا الضمير للحياة وَ ما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ .
[سورة الأنعام (6): الآيات 30 الى 31]
وَ لَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ مجاز عن الحبس للسؤال و التوبيخ، و قيل معناه وقفوا على قضاء ربهم أو جزائه، أو عرفوه حق التعريف. قالَ أَ لَيْسَ هذا بِالْحَقِ كأنه جواب قائل قال: ماذا قال ربهم حينئذ؟
و الهمزة للتقريع على التكذيب، و الإشارة إلى البعث و ما يتبعه من الثواب و العقاب. قالُوا بَلى وَ رَبِّنا إقرار مؤكد باليمين لانجلاء الأمر غاية الجلاء. قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ بسبب كفركم أو ببدله.
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ إذ فاتهم النعيم و استوجبوا العذاب المقيم و لقاء اللّه البعث و ما يتبعه.
حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ غاية لكذبوا لا لخسر، لأن خسرانهم لا غاية له. بَغْتَةً فجأة و نصبها على الحال، أو المصدر فإنها نوع من المجيء. قالُوا يا حَسْرَتَنا أي تعالي فهذا أوانك. عَلى ما فَرَّطْنا قصرنا فِيها في الحياة الدنيا أضمرت و إن لم يجر ذكرها للعلم بها، أو في الساعة يعني في شأنها و الإيمان بها.
وَ هُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ تمثيل لاستحقاقهم آصار الآثام. أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ بئس شيئا يزرونه وزرهم.
[سورة الأنعام (6): آية 32]
وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ أي و ما أعمالها إلا لعب و لهو يلهي الناس و يشغلهم عما يعقب منفعة دائمة و لذة حقيقية. و هو جواب لقولهم إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا . وَ لَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ لدوامها و خلوص منافعها و لذاتها، و قوله: لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ تنبيه على أن ما ليس من أعمال المتقين لعب و لهو. و قرأ ابن عامر «و لدار الآخرة». أَ فَلا يَعْقِلُونَ أي الأمرين خير. و قرأ نافع و ابن عامر و حفص عن عاصم و يعقوب بالتاء على خطاب المخاطبين به، أو تغليب الحاضرين على الغائبين.
[سورة الأنعام (6): آية 33]
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ معنى قد زيادة الفعل و كثرته كما في قوله:
و لكنّه قد يهلك المال نائله و الهاء في أنه للشأن. و قرئ «ليحزنك» من أحزن. فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ في الحقيقة. و قرأ نافع
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 160
و الكسائي لا يُكَذِّبُونَكَ من أكذبه إذا وجده كاذبا، أو نسبه إلى الكذب. وَ لكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ و لكنهم يجحدون بآيات اللّه و يكذبونها، فوضع الظالمين موضع الضمير للدلالة على أنهم ظلموا بجحودهم، أو جحدوا لتمرنهم على الظلم، و الباء لتضمين الجحود معنى التكذيب.
روي أن أبا جهل كان يقول: ما نكذبك و إنك عندنا لصادق و إنما نكذب ما جئتنا به. فنزلت.
[سورة الأنعام (6): آية 34]
وَ لَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ تسلية لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و فيه دليل على أن قوله: لا يُكَذِّبُونَكَ ، ليس لنفي تكذيبه مطلقا. فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَ أُوذُوا على تكذيبهم و إيذائهم فتأس بهم و اصبر. حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا فيه إيماء بوعد النصر للصابرين. وَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ لمواعيده من قوله: وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ الآيات. وَ لَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ أي بعض قصصهم و ما كابدوا من قومهم.
[سورة الأنعام (6): آية 35]
وَ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ عظم و شقّ إِعْراضُهُمْ عنك و عن الإيمان بما جئت به. فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ منفذا تنفذ فيه إلى جوف الأرض فتطلع لهم آية، أو مصعدا تصعد به إلى السماء فتنزل منها آية، و في الأرض صفة لنفقا و في السماء صفة لسلّما، و يجوز أن يكونا متعلقين بتبتغي، أو حالين من المستكن و جواب الشرط الثاني محذوف تقديره فافعل، و الجملة جواب الأول و المقصود بيان حرصه البالغ على إسلام قومه، و أنه لو قدر أن يأتيهم بآية من تحت الأرض أو من فوق السماء لأتى بها رجاء إيمانهم وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى أي و لو شاء اللّه جمعهم على الهدى لوفقهم للإيمان حتى يؤمنوا و لكن لم تتعلق به مشيئته، فلا تتهالك عليه و المعتزلة أولوه بأنه لو شاء لجمعهم على الهدى بأن يأتيهم بآية ملجئة و لكن لم يفعل لخروجه عن الحكمة. فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ بالحرص على ما لا يكون، و الجزع في مواطن الصبر فإن ذلك من دأب الجهلة.
[سورة الأنعام (6): الآيات 36 الى 37]
إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ إنما يجيب الذين يسمعون بفهم و تأمل لقوله: أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَ هُوَ شَهِيدٌ و هؤلاء كالموتى الذين لا يسمعون. وَ الْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ فيعلمهم حين لا ينفعهم الإيمان. ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ للجزاء.
وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ أي آية بما اقترحوه، أو آية أخرى سوى ما أنزل من الآيات المتكاثرة لعدم اعتدادهم بها عنادا. قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً مما اقترحوه، أو آية تضطرهم إلى الإيمان كنتق الجبل، أو آية إن جحدوها هلكوا. وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أن اللّه قادر على إنزالها، و أن إنزالها يستجلب عليهم البلاء، و أن لهم فيما أنزل مندوحة عن غيره. و قرأ ابن كثير يُنَزِّلَ بالتخفيف و المعنى واحد.
[سورة الأنعام (6): آية 38]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 161
وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ تدب على وجهها. وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ في الهواء، وصفه به قطعا لمجاز السرعة و نحوها. و قرئ «و لا طائر» بالرفع على المحل. إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ محفوظة أحوالها مقدرة أرزاقها و آجالها، و المقصود من ذلك الدلالة على كمال قدرته و شمول علمه وسعة تدبيره، ليكون كالدليل على أنه قادر على أن ينزل آية. و جمع الأمم للحمل على المعنى. ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ يعني اللوح المحفوظ، فإنه مشتمل على ما يجري في العالم من الجليل و الدقيق لم يهمل فيه أمر حيوان و لا جماد. أو القرآن فإنه قد دون فيه ما يحتاج إليه من أمر الدين مفصلا أو مجملا، و من مزيدة و شيء في موضع المصدر لا المفعول به، فإن فرط لا يتعدى بنفسه و قد عدي بفي إلى الكتاب. و قرئ «ما فرطنا» بالتخفيف. ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ يعني الأمم كلها فينصف بعضها من بعض كما
روي: أنه يأخذ للجماء من القرناء.
و عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما: حشرها موتها.
[سورة الأنعام (6): آية 39]
وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌ لا يسمعون مثل هذه الآيات الدالة على ربوبيته و كمال علمه و عظم قدرته سماعا تتأثر به نفوسهم. وَ بُكْمٌ لا ينطقون بالحق. فِي الظُّلُماتِ خبر ثالث أي خابطون في ظلمات الكفر، أو في ظلمة الجهل و ظلمة العناد و ظلمة التقليد، و يجوز أن يكون حالا من المستكن في الخبر. مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ من يشأ اللّه إضلاله يضلله، و هو دليل واضح لنا على المعتزلة. وَ مَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ بأن يرشده إلى الهدى و يحمله عليه.
[سورة الأنعام (6): الآيات 40 الى 41]
قُلْ أَ رَأَيْتَكُمْ استفهام تعجيب، و الكاف حرف خطاب أكد به الضمير للتأكيد لا محل له من الإعراب لأنك تقول: أ رأيتك زيدا ما شأنه فلو جعلت الكاف مفعولا كما قاله الكوفيون لعديت الفعل إلى ثلاثة مفاعيل، و للزم في الآية أن يقال: أ رأيتموكم بل الفعل معلق أو المفعول محذوف تقديره: أ رأيتكم آلهتكم تنفعكم. إذ تدعونها. و قرأ نافع أ رأيتكم و أ رأيت و أرأيتم و أ فرأيتم و أ فرأيت و شبهها إذا كان قبل الراء همزة بتسهيل الهمزة التي بعد الراء، و الكسائي يحذفها أصلا و الباقون يحققونها و حمزة إذا وقف وافق نافعا. إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ كما أتى من قبلكم. أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ و هو لها و يدل عليه. أَ غَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ و هو تبكيت لهم. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أن الأصنام آلهة و جوابه محذوف أي فادعوه.
بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ بل تخصونه بالدعاء كما حكى عنهم في مواضع، و تقديم المفعول لإفادة التخصيص.
فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ أي ما تدعونه إلى كشفه. إِنْ شاءَ أي يتفضل عليكم و لا يشاء في الآخرة.
وَ تَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ و تتركون آلهتكم في ذلك الوقت لما ركز في العقول على أنه القادر على كشف الضر دون غيره، أو و تنسونه من شدة الأمر و هوله.
[سورة الأنعام (6): الآيات 42 الى 43]
وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ أي قبلك، و من زائدة. فَأَخَذْناهُمْ أي فكفروا و كذبوا المرسلين
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 162
فأخذناهم. بِالْبَأْساءِ بالشدة و الفقر. وَ الضَّرَّاءِ و الضر و الآفات و هما صيغتا تأنيث لا مذكر لهما. لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ يتذللون لنا و يتوبون عن ذنوبهم.
فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا معناه نفي تضرعهم في ذلك الوقت مع قيام ما يدعوهم أي لم يتضرعوا. وَ لكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ استدراك على المعنى و بيان للصارف لهم عن التضرع و أنه: لا مانع لهم إلا قساوة قلوبهم و إعجابهم بأعمالهم التي زينها الشيطان لهم.
[سورة الأنعام (6): الآيات 44 الى 45]
فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ من البأساء و الضراء و لم يتعظوا به. فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ من أنواع النعم مراوحة عليهم بين نوبتي الضراء و السراء، و امتحانا لهم بالشدة و الرخاء إلزاما للحجة و إزاحة للعلة، أو مكرا بهم لما
روي أنه عليه الصلاة و السلام قال «مكر بالقوم و رب الكعبة»
. و قرأ ابن عامر «فتحنا» بالتشديد في جميع القرآن و وافقه يعقوب فيما عدا هذا و الذي في «الأعراف». حَتَّى إِذا فَرِحُوا أعجبوا بِما أُوتُوا من النعم و لم يزيدوا غير البطر و الاشتغال بالنعم عن المنعم و القيام بحقه سبحانه و تعالى. أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ متحسرون آيسون.
فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أي آخرهم بحيث لم يبق منهم أحد من دبره دبرا و دبورا إذا تبعه.
وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ على إهلاكهم فإن هلاك الكفار و العصاة من حيث إنه تخليص لأهل الأرض من شؤم عقائدهم و أعمالهم، نعمة جليلة يحق أن يحمد عليها.
[سورة الأنعام (6): الآيات 46 الى 47]
قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَ أَبْصارَكُمْ أصمكم و أعماكم. وَ خَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ بأن يغطي عليها ما يزول به عقلكم و فهمكم. مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ أي بذلك، أو بما أخذ و ختم عليه أو بأحد هذه المذكورات. انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ نكررها تارة من جهة المقدمات العقلية و تارة من جهة الترغيب و الترهيب، و تارة بالتنبيه و التذكير بأحوال المتقدمين. ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ يعرضون عنها، و ثم لاستبعاد الإعراض بعد تصريف الآيات و ظهورها.
قُلْ أَ رَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً من غير مقدمة. أَوْ جَهْرَةً بتقدمة أمارة تؤذن بحلوله. و قيل ليلا أو نهارا. و قرئ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً . هَلْ يُهْلَكُ أي ما يهلك به هلاك سخط و تعذيب. إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ و لذلك صح الاستثناء المفرغ منه، و قرئ «يهلك» بفتح الياء.
[سورة الأنعام (6): الآيات 48 الى 49]
وَ ما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ المؤمنين بالجنة. وَ مُنْذِرِينَ الكافرين بالنار، و لم نرسلهم ليقترح عليهم و يتلهى بهم. فَمَنْ آمَنَ وَ أَصْلَحَ ما يجب إصلاحه على ما شرع لهم. فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من العذاب. وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ بفوات الثواب.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 163
وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ جعل العذاب ماسا لهم كأنه الطالب للوصول إليهم، و استغنى بتعريفه عن التوصيف. بِما كانُوا يَفْسُقُونَ بسبب خروجهم عن التصديق و الطاعة.
[سورة الأنعام (6): الآيات 50 الى 51]
قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ مقدوراته أو خزائن رزقه. وَ لا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ما لم يوح إلي و لم ينصب عليه دليل و هو من جملة المقول. وَ لا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ أي من جنس الملائكة، أو أقدر على ما يقدرون عليه. إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ تبرأ عن دعوى الألوهية و الملكية، و ادعى النبوة التي هي من كمالات البشر ردا لاستبعادهم دعواه و جزمهم على فساد مدعاه. قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ مثل للضال و المهتدي، أو الجاهل و العالم، أو مدعي المستحيل كالألوهية و الملكية و مدعي المستقيم كالنبوة.
أَ فَلا تَتَفَكَّرُونَ فتهتدوا أو فتميزوا بين ادعاء الحق و الباطل، أو فتعلموا أن اتباع الوحي مما لا محيص عنه.
وَ أَنْذِرْ بِهِ الضمير لما يوحى إلي. الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ هم المؤمنون المفرطون في العمل، أو المجوزون للحشر مؤمنا كان أو كافرا مقرا به أو مترددا فيه، فإن الإنذار ينجع فيهم دون الفارغين الجازمين باستحالته. لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَ لا شَفِيعٌ في موضع الحال من يحشروا فإن المخوّف هو الحشر على هذه الحالة. لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ لكي يتقوا.
[سورة الأنعام (6): آية 52]
وَ لا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِ بعد ما أمره بإنذار غير المتقين ليتقوا أمره بإكرام المتقين و تقريبهم و أن لا يطردهم ترضية لقريش.
روي أنهم قالوا: لو طردت هؤلاء الأعبد يعنون فقراء المسلمين كعمار و صهيب و خباب و سلمان. جلسنا إليك و حادثناك فقال: «ما أنا بطارد المؤمنين»، قالوا: فأقمهم عنا إذا جئناك قال «نعم».
و
روي أن عمر رضي اللّه عنه قال له: لو فعلت حتى ننظر إلى ماذا يصيرون فدعا بالصحيفة و بعلي رضي اللّه تعالى عنه ليكتب فنزلت.
و المراد بذكر الغداة و العشي الدوام، و قيل صلاتا الصبح و العصر.
و قرأ ابن عامر بالغدوة هنا و في الكهف. يُرِيدُونَ وَجْهَهُ حال من يدعون، أي يدعون ربهم مخلصين فيه قيد الدعاء بالإخلاص تنبيها على أنه ملاك الأمر. و رتب النهي عليه إشعارا بأنه يقتضي إكرامهم و ينافي إبعادهم. ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَ ما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ أي ليس عليك حساب إيمانهم فلعل إيمانهم عند اللّه أعظم من إيمان من تطردهم بسؤالهم طمعا في إيمانهم لو آمنوا، أو ليس عليك اعتبار بواطنهم و إخلاصهم لما اتسموا بسيرة المتقين و إن كان لهم باطن غير مرضي كما ذكره المشركون و طعنوا في دينهم فحسابهم عليهم لا يتعداهم إليك، كما أن حسابك عليك لا يتعداك إليهم. و قيل ما عليك من حساب رزقهم أي من فقرهم. و قيل الضمير للمشركين و المعنى: لا تؤاخذ بحسابهم و لا هم بحسابك حتى يهمك إيمانهم بحيث تطرد المؤمنين طمعا فيه. فَتَطْرُدَهُمْ فتبعدهم و هو جواب النفي فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ جواب النهي و يجوز عطفه على فتطردهم على وجه التسبب و فيه نظر.
[سورة الأنعام (6): آية 53]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 164
وَ كَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ و مثل ذلك الفتن، و هو اختلاف أحوال الناس في أمور الدنيا. فَتَنَّا أي ابتلينا بعضهم ببعض في أمر الدين فقدمنا هؤلاء الضعفاء على أشراف قريش بالسبق إلى الإيمان. لِيَقُولُوا أَ هؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أي أ هؤلاء من أنعم اللّه عليهم بالهداية و التوفيق لما يسعدهم دوننا، و نحن الأكابر و الرؤساء و هم المساكين و الضعفاء. و هو إنكار لأن يخص هؤلاء من بينهم بإصابة الحق و السبق إلى الخير كقولهم: لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ . و اللام للعاقبة أو للتعليل على أن فتنا متضمن معنى خذلنا أَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ بمن يقع منه الإيمان و الشكر فيوفقه و بمن لا يقع منه فيخذله.
[سورة الأنعام (6): آية 54]
وَ إِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ الذين يؤمنون هم الذين يدعون ربهم وصفهم بالإيمان بالقرآن و اتباع الحجج بعد ما وصفهم بالمواظبة على العبادة، و أمره بأن يبدأ بالتسليم أو يبلغ سلام اللّه تعالى إليهم و يبشرهم بسعة رحمة اللّه تعالى و فضله بعد النهي عن طردهم، إيذانا بأنهم الجامعون لفضيلتي العلم و العمل، و من كان كذلك ينبغي أن يقرب و لا يطرد، و يعز و لا يذل، و يبشر من اللّه بالسلامة في الدنيا و الرحمة في الآخرة. و
قيل إن قوما جاءوا إلى النبي صلّى اللّه عليه و سلّم فقالوا: إنا أصبنا ذنوبا عظاما فلم يرد عليهم شيئا فانصرفوا فنزلت.
أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً استئناف بتفسير الرحمة. و قرأ نافع و ابن عامر و عاصم و يعقوب بالفتح على البدل منها. بِجَهالَةٍ في موضع الحال أي من عمل ذنبا جاهلا بحقيقة ما يتبعه من المضار و المفاسد، كعمر فيما أشار إليه، أو ملتبسا بفعل الجهالة فإن ارتكاب ما يؤدي إلى الضرر من أفعال أهل السفه و الجهل. ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ بعد العمل أو السوء. وَ أَصْلَحَ بالتدارك و العزم على أن لا يعود إليه. فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ فتحه من فتح الأول غير نافع على إضمار مبتدأ أو خبر أي فأمره أو فله غفرانه.
[سورة الأنعام (6): آية 55]
وَ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَ لِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)
وَ كَذلِكَ و مثل ذلك التفصيل الواضح. نُفَصِّلُ الْآياتِ أي آيات القرآن في صفة المطيعين و المجرمين المصرين منهم و الأوابين. و ليستبين سبيل المجرمين قرأ نافع بالتاء و نصب السبيل على معنى و لتستوضح يا محمد سبيلهم فتعامل كلا منهم بما يحق له فصلنا هذا التفصيل، و ابن كثير و ابن عامر و أبو عمرو و يعقوب و حفص عن عاصم برفعه على معنى و لنبين سبيلهم، و الباقون بالياء و الرفع على تذكير السبيل فإنه يذكر و يؤنث، و يجوز أن يعطف على علة مقدرة أي نفصل الآيات ليظهر الحق و ليستبين.
[سورة الأنعام (6): آية 56]
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ صرفت و زجرت بما نصب لي من الأدلة و أنزل علي من الآيات في أمر التوحيد. أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عن عبادة ما تعبدون من دون اللّه، أو ما تدعونها آلهة أي تسمونها. قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ تأكيد لقطع أطماعهم و إشارة إلى الموجب للنهي و علة الامتناع عن متابعتهم و استجهال لهم، و بيان لمبدأ ضلالهم و أن ما هم عليه هوى و ليس بهدى، و تنبيه لمن تحرى الحق على أن يتبع الحجة و لا يقلد. قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً أي إن اتبعت أهواءكم فقد ضللت. وَ ما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ أي في شيء من الهدى حتى أكون من عدادهم، و فيه تعريض بأنهم كذلك.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 165
[سورة الأنعام (6): الآيات 57 الى 58]
قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ تنبيه على ما يجب اتباعه بعد ما بين ما لا يجوز اتباعه. و البينة الدلالة الواضحة التي تفصل الحق من الباطل و قيل المراد بها القرآن و الوحي، أو الحجج العقلية أو ما يعمها. مِنْ رَبِّي من معرفته و أنه لا معبود سواه، و يجوز أن يكون صفة لبينة. وَ كَذَّبْتُمْ بِهِ الضمير لربي أي كذبتم به حيث أشركتم به غيره، أو للبينة باعتبار المعنى. ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ يعني العذاب الذي استعجلوه بقولهم:
فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ . إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ في تعجيل العذاب و تأخيره.
يَقْضِي بِالْحَقِ أي القضاء الحق، أو يصنع الحق و يدبره من قولهم قضى الدرع إذا صنعها، فيما يقضي من تعجيل و تأخير و أصل القضاء الفصل بتمام الأمر، و أصل الحكم المنع فكأنه منع الباطل. و قرأ ابن كثير و نافع و عاصم يَقُصُ من قص الأثر، أو من قص الخبر. وَ هُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ القاضين.
قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي أي في قدرتي و مكنتي. ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ من العذاب. لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ لأهلكتكم عاجلا غضبا لربي، و انقطع ما بيني و بينكم. وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ في معنى الاستدراك كأنه قال: و لكن الأمر إلى اللّه سبحانه و تعالى و هو أعلم بمن ينبغي أن يؤخذ و بمن ينبغي أن يمهل منهم.
[سورة الأنعام (6): آية 59]
وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ خزائنه جمع مفتح بفتح الميم، و هو المخزن أو ما يتوصل به إلى المغيبات مستعار من المفاتح الذي هو جمع مفتح بكسر الميم و هو المفتاح، و يؤيده أنه قرئ «مفاتيح» و المعنى أنه المتوصل إلى المغيبات المحيط علمه بها. لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ فيعلم أوقاتها و ما في تعجيلها و تأخيرها من الحكم فيظهرها على ما اقتضته حكمته و تعلقت به مشيئته، و فيه دليل على أنه سبحانه و تعالى يعلم الأشياء قبل وقوعها. وَ يَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ عطف للأخبار عن تعلق علمه تعالى بالمشاهدات على الإخبار عن اختصاص العلم بالمغيبات به. وَ ما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها مبالغة في إحاطة علمه بالجزئيات. وَ لا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ معطوفات على ورقة و قوله: إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ بدل من الاستثناء الأول بدل الكل على أن الكتاب المبين علم اللّه سبحانه و تعالى، أو بدل الاشتمال إن أريد به اللوح و قرئت بالرفع للعطف على محل ورقة أو رفعا على الابتداء و الخبر إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ .
[سورة الأنعام (6): آية 60]