کتابخانه تفاسیر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 166
ذلك الذي قطعتم به أعماركم من النوم بالليل و كسب الآثام بالنهار، ليقضي الأجل الذي سماه و ضربه لبعث الموتى و جزائهم على أعمالهم، ثم إليه مرجعكم بالحساب، ثم ينبئكم بما كنتم تعملون بالجزاء.
[سورة الأنعام (6): الآيات 61 الى 62]
وَ هُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَ يُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً ملائكة تحفظ أعملكم، و هم الكرام الكاتبون، و الحكمة فيه أن المكلف إذا علم أن أعماله تكتب عليه و تعرض على رؤوس الأشهاد كان أزجر عن المعاصي، و أن العبد إذا وثق بلطف سيده و اعتمد على عفوه و ستره لم يحتشم منه احتشامه من خدمه المطلعين عليه. حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا ملك الموت و أعوانه. و قرأ حمزة «توفاه» بالألف ممالة. وَ هُمْ لا يُفَرِّطُونَ بالتواني و التأخير. و قرئ بالتخفيف، و المعنى: لا يجاوزون ما حد لهم بزيادة أو نقصان.
ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ إلى حكمه و جزائه. مَوْلاهُمُ الذي يتولى أمرهم. الْحَقِ العدل الذي لا يحكم إلا بالحق و قرئ بالنصب على المدح. أَلا لَهُ الْحُكْمُ يومئذ لا حكم لغيره فيه. وَ هُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ يحاسب الخلائق في مقدار حلب شاة لا يشغله حساب عن حساب.
[سورة الأنعام (6): الآيات 63 الى 64]
قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ من شدائدهما، استعيرت الظلمة للشدة لمشاركتهما في الهول و إبطال الإبصار فقيل لليوم الشديد يوم مظلم و يوم ذو كواكب، أو من الخسف في البر و الغرق في البحر.
و قرأ يعقوب يُنَجِّيكُمْ بالتخفيف و المعنى واحد. تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً معلنين و مسرين، أو إعلانا و إسرارا و قرأ أبو بكر هنا و في «الأعراف» وَ خُفْيَةً بالكسر و قرئ «خيفة». لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ على إرادة القول أي تقولون لئن أنجيتنا. و قرأ الكوفيون «لئن أنجانا» ليوافق قوله تَدْعُونَهُ و هذه إشارة إلى الظلمة.
قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها شدده الكوفيون و هشام و خففه الباقون. وَ مِنْ كُلِّ كَرْبٍ غم سواها. ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ تعودون إلى الشرك و لا توفون بالعهد، و إنما وضع تشركون موضع لا تشكرون تنبيها على أن من أشرك في عبادة اللّه سبحانه و تعالى فكأنه لم يعبده رأسا.
[سورة الأنعام (6): الآيات 65 الى 66]
قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ كما فعل بقوم نوح و لوط و أصحاب الفيل. أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ كما أغرق فرعون، و خسف بقارون. و قيل من فوقكم أكابركم و حكامكم و من تحت أرجلكم سفلتكم و عبيدكم. أَوْ يَلْبِسَكُمْ يخلطكم. شِيَعاً فرقا متحزبين على أهواء شتى، فينشب القتال بينكم قال:
و كتيبة لبستها بكتيبة
حتّى إذا التبست نفضت لها يدي
وَ يُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ يقاتل بعضكم بعضا. انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ بالوعد و الوعيد.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 167
وَ كَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ أي بالعذاب أو بالقرآن. وَ هُوَ الْحَقُ الواقع لا محالة أو الصدق. قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ بحفيظ وكل إلي أمركم فأمنعكم من التكذيب، أو أجازيكم إنما أنا منذر و اللّه الحفيظ.
[سورة الأنعام (6): الآيات 67 الى 68]
لِكُلِّ نَبَإٍ خبر يريد به إما بالعذاب أو الإيعاد به. مُسْتَقَرٌّ وقت استقرار و وقوع. وَ سَوْفَ تَعْلَمُونَ عند وقوعه في الدنيا و الآخرة.
وَ إِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا بالتكذيب و الاستهزاء بها و الطعن فيها. فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ فلا تجالسهم و قم عنهم. حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ أعاد الضمير على معنى الآيات لأنها القرآن. وَ إِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ بأن يشغلك بوسوسته حتى تنسى النهي. و قرأ ابن عامر يُنْسِيَنَّكَ بالتشديد. فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى بعد أن تذكره. مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي معهم، فوضع الظاهر موضع المضمر دلالة على أنهم ظلموا بوضع التكذيب و الاستهزاء موضع التصديق و الاستعظام.
[سورة الأنعام (6): آية 69]
وَ ما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ و ما يلزم المتقين من قبائح أعمالهم و أقوالهم الذين يجالسونهم. مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ شيء مما يحاسبون عليه. وَ لكِنْ ذِكْرى و لكن عليهم أن يذكروهم ذكرى و يمنعوهم عن الخوض و غيره من القبائح و يظهروا كراهتها و هو يحتمل النصب على المصدر و الرفع على و لكن عليهم ذكرى، و لا يجوز عطفه على محل من شيء لأن من حسابهم يأباه و لا على شيء لذلك و لأن من لا تزاد في الإثبات.
لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ يجتنبون ذلك حياء أو كراهة لمساءتهم، و يحتمل أن يكون الضمير للذين يتقون و المعنى:
لعلهم يثبتون على تقواهم و لا تنثلم بمجالستهم.
روي: أن المسلمين قالوا لئن كنا نقوم كلما استهزءوا بالقرآن لم نستطع أن نجلس في المسجد الحرام، و نطوف، فنزلت.
[سورة الأنعام (6): آية 70]
وَ ذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَ لَهْواً أي بنوا أمر دينهم على التشهي و تدينوا بما لا يعود عليهم بنفع عاجلا و آجلا، كعبادة الأصنام و تحريم البحائر و السوائب، أو اتخذوا دينهم الذي كلفوه لعبا و لهوا حيث سخروا به، أو جعلوا عيدهم الذي جعل ميقات عبادتهم زمان لهو و لعب. و المعنى أعرض عنهم و لا تبال بأفعالهم و أقوالهم، و يجوز أن يكون تهديدا لهم كقوله تعالى: ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً و من جعله منسوخا بآية السيف حمله على الأمر بالكف عنها و ترك التعرض لهم وَ غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا حتى أنكروا البعث.
وَ ذَكِّرْ بِهِ أي بالقرآن. أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ مخافة أن تسلم إلى الهلاك و ترهن بسوء عملها. و أصل الإبسال و البسل المنع و منه أسد باسل لأن فريسته لا تفلت منه، و الباسل الشجاع لامتناعه من قرنه و هذا بسل عليك أي حرام. لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَ لا شَفِيعٌ يدفع عنها العذاب. وَ إِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ و إن تفد كل فداء و العدل الفدية لأنها تعادل المفدي و ها هنا الفداء و كل نصب على المصدرية. لا يُؤْخَذْ مِنْها الفعل مسند إلى منها لا إلى ضميره بخلاف قوله: وَ لا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ فإنه المفدى به. أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 168
كَسَبُوا أي سلموا إلى العذاب بسبب أعمالهم القبيحة و عقائدهم الزائغة. لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ تأكيد و تفصيل لذلك، و المعنى هم بين ماء مغلي يتجرجر في بطونهم و نار تشتعل بأبدانهم بسبب كفرهم.
[سورة الأنعام (6): آية 71]
قُلْ أَ نَدْعُوا أ نعبد مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَ لا يَضُرُّنا ما لا يقدر على نفعنا و ضرنا. وَ نُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا و نرجع إلى الشرك بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ فأنقذنا منه و رزقنا الإسلام. كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ كالذي ذهبت به مردة الجن في المهامة، استفعال من هوى يهوي هويّا إذا ذهب. و قرأ حمزة «استهواه» بألف ممالة و محل الكاف النصب على الحال من فاعل نُرَدُّ أي: مشبهين الذي استهوته، أو على المصدر أي ردا مثل رد الذي استهوته. فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ متحيرا ضالا عن الطريق. لَهُ أَصْحابٌ لهذا المستهوى رفقة.
يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى إلى أن يهدوه الطريق المستقيم، أو إلى الطريق المستقيم و سماه هدى تسمية للمفعول بالمصدر. ائْتِنا يقولون له ائتنا. قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ الذي هو الإسلام. هُوَ الْهُدى وحده و ما عداه ضلال. وَ أُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ من جملة المقول عطف على أن هدى اللّه، و اللام لتعليل الأمر أي أمرنا بذلك لنسلم. و قيل هي بمعنى الباء و قيل هي زائدة.
[سورة الأنعام (6): آية 72]
وَ أَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ اتَّقُوهُ وَ هُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72)
وَ أَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ اتَّقُوهُ عطف على لنسلم أي للإسلام و لإقامة الصلاة، أو على موقعه كأنه قيل:
و أمرنا أن نسلم و أن أقيموا الصلاة. روي: أن عبد الرحمن بن أبي بكر دعا أباه إلى عبادة الأوثان، فنزلت.
و على هذا كان أمر الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم بهذا القول إجابة عن الصديق رضي اللّه تعالى عنه تعظيما لشأنه و إظهارا للاتحاد الذي كان بينهما. وَ هُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ يوم القيامة.
[سورة الأنعام (6): آية 73]
وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِ قائما بالحق و الحكمة. وَ يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُ جملة اسمية قدم فيها الخبر أي قوله الحق يوم يقول، كقولك: القتال يوم الجمعة، و المعنى أنه الخالق للسموات و الأرضين، و قوله الحق نافذ في الكائنات. و قيل يوم منصوب بالعطف على السموات أو الهاء في و اتقوه، أو بمحذوف دل عليه بالحق. و قوله الحق مبتدأ و خبر أو فاعل يكون على معنى و حين يقول لقوله الحق أي لقضائه كن فيكون، و المراد به حين يكوّن الأشياء و يحدثها أو حين تقوم القيامة فيكون التكوين حشر الأموات و إحياءها. وَ لَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ كقوله سبحانه و تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ . عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ أي هو عالم الغيب. وَ هُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ كالفذلكة للآية.
[سورة الأنعام (6): الآيات 74 الى 75]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 169
وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ هو عطف بيان لأبيه، و في كتب التواريخ أن اسمه تارح فقيل هما علمان له كإسرائيل و يعقوب، و قيل العلم تارح و آزر وصف معناه الشيخ أو المعوج، و لعل منع صرفه لأنه أعجمي حمل على موازنه أو نعت مشتق من الأزر أو الوزر، و الأقرب أنه علم أعجمي على فاعل كعابر و شالخ، و قيل اسم صنم يعبده فلقب به للزوم عبادته، أو أطلق عليه بحذف المضاف. و قيل المراد به الصنم و نصبه بفعل مضمر يفسره ما بعده أي أتعبد آزر ثم قال: أَ تَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً تفسيرا و تقريرا. و يدل عليه أنه قرئ «أزرا»، تتخذ أصناما بفتح همزة آزر و كسرها و هو اسم صنم. و قرأ يعقوب بالضم على النداء و هو يدل على أنه علم. إِنِّي أَراكَ وَ قَوْمَكَ فِي ضَلالٍ عن الحق. مُبِينٍ ظاهر الضلالة.
وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ و مثل هذا التبصير نبصره، و هو حكاية حال ماضية. و قرئ: «ترى» بالتاء و رفع الملكوت و معناه تبصره دلائل الربوبية. مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ربوبيتها و ملكها. و قيل عجائبها و بدائعها و الملكوت أعظم الملك و التاء فيه للمبالغة. وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ أي ليستدل و ليكون، أو و فعلنا ذلك ليكون.
[سورة الأنعام (6): الآيات 76 الى 77]
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي تفصيل و بيان لذلك. و قيل عطف على قال إبراهيم و كذلك نري اعتراض فإن أباه و قومه كانوا يعبدون الأصنام و الكواكب، فأراد أن ينبههم على ضلالتهم و يرشدهم إلى الحق من طريق النظر و الاستدلال، و جن عليه الليل ستره بظلامه و الكواكب كان الزهرة أو المشتري و قوله: هذا رَبِّي على سبيل الوضع فإن المستدل على فساد قول يحكيه على ما يقوله الخصم ثم يكر عليه بالإفساد، أو على وجه النظر و الاستدلال، و إنما قاله زمان مراهقته أو أول أوان بلوغه. فَلَمَّا أَفَلَ أي غاب. قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ فضلا عن عبادتهم فإن الانتقال و الاحتجاب بالأستار يقتضي الإمكان و الحدوث و ينافي الألوهية.
فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً مبتدئا في الطلوع. قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ استعجز نفسه و استعان بربه في درك الحق، فإنه لا يهتدي إليه إلا بتوفيقه إرشادا لقومه و تنبيها لهم على أن القمر أيضا لتغير حاله لا يصلح للألوهية، و أن من اتخذه إلها فهو ضال.
[سورة الأنعام (6): الآيات 78 الى 79]
فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي ذكر اسم الإشارة لتذكير الخبر و صيانة للرب عن شبهة التأنيث.
هذا أَكْبَرُ كبره استدلالا أو إظهارا لشبهة الخصم. فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ من الأجرام المحدثة المحتاجة إلى محدث يحدثها و مخصص يخصصها بما تختص به، ثم لما تبرأ منها توجه إلى موجدها و مبدعها الذي دلت هذه الممكنات عليه فقال:
إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ حَنِيفاً وَ ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ و إنما احتج بالأفوال دون البزوغ مع أنه أيضا انتقال لتعدد دلالته، و لأنه رأى الكوكب الذي يعبدونه في وسط السماء حين حاول الاستدلال.
[سورة الأنعام (6): الآيات 80 الى 81]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 170
وَ حاجَّهُ قَوْمُهُ و خاصموه في التوحيد. قالَ أَ تُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ في وحدانيته سبحانه و تعالى. و قرأ نافع و ابن عامر بخلاف عن هشام بتخفيف النون. وَ قَدْ هَدانِ إلى توحيده. وَ لا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ أي لا أخاف معبوداتكم في وقت لأنها لا تضر بنفسها و لا تنفع. إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً أن يصيبني بمكروه من جهتها، و لعله جواب لتخويفهم إياه من آلهتهم و تهديد لهم بعذاب اللّه. وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً كأنه علة الاستثناء، أي أحاط به علما فلا يبعد أن يكون في علمه أن يحيق بي مكروه من جهتها. أَ فَلا تَتَذَكَّرُونَ فتميزوا بين الصحيح و الفاسد و القادر و العاجز.
وَ كَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ و لا يتعلق به ضر. وَ لا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ و هو حقيق بأن يخاف منه كل الخوف لأنه إشراك للمصنوع بالصانع، و تسوية بين المقدور العاجز بالقادر الضار النافع. ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً ما لم ينزل بإشراكه كتابا، أو لم ينصب عليه دليلا. فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ أي الموحدون أو المشركون، و إنما لم يقل أينا أنا أم أنتم احترازا من تزكية نفسه. إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ما يحق أن يخاف منه.
[سورة الأنعام (6): آية 82]
الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ استئناف منه أو من اللّه بالجواب عما استفهم عنه، و المراد بالظلم ها هنا الشّرك لما
روي أن الآية لما نزلت شق ذلك على الصحابة و قالوا:
أينا لم يظلم نفسه فقال عليه الصلاة و السلام «ليس ما تظنون إنما هو ما قال لقمان لابنه
يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ » و ليس الإيمان به أن يصدق بوجود الصانع الحكيم و يخلط بهذا التصديق الإشراك به.
و قيل المعصية.
[سورة الأنعام (6): آية 83]
وَ تِلْكَ إشارة إلى ما احتج به إبراهيم على قومه من قوله: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ إلى قوله: وَ هُمْ مُهْتَدُونَ أو من قوله: أَ تُحاجُّونِّي إليه. حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ أرشدناه إليها أو علمناه إياها. عَلى قَوْمِهِ متعلق ب حُجَّتُنا إن جعل خبر تلك و بمحذوف إن جعل بدله أي: آتيناها إبراهيم حجة على قومه.
نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ في العلم و الحكمة. و قرأ الكوفيون و يعقوب بالتنوين. إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ في رفعه و خفضه. عَلِيمٌ بحال من يرفعه و استعداده له.
[سورة الأنعام (6): الآيات 84 الى 85]
وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا أي كلا منهما. وَ نُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ من قبل إبراهيم، عد هداه نعمة على إبراهيم من حيث إنه أبوه و شرف الوالد يتعدى إلى الولد. وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ الضمير لإبراهيم عليه الصلاة و السلام إذ الكلام فيه. و قيل لنوح عليه السلام لأنه أقرب و لأن يونس و لوطا ليسا من ذرية إبراهيم، فلو كان لإبراهيم اختص البيان بالمعدودين في تلك الآية و التي بعدها و المذكورون في الآية الثالثة عطف على
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 171
نوحا داوُدَ وَ سُلَيْمانَ وَ أَيُّوبَ أيوب بن أموص من أسباط عيص بن إسحاق. وَ يُوسُفَ وَ مُوسى وَ هارُونَ وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي و نجزي المحسنين جزاء مثل ما جزينا إبراهيم برفع درجاته و كثر أولاده و النبوة فيهم.
وَ زَكَرِيَّا وَ يَحْيى وَ عِيسى هو ابن مريم و في ذكره دليل على أن الذرية تتناول أولاد البنت. وَ إِلْياسَ قيل هو إدريس جد نوح فيكون البيان مخصوصا بمن في الآية الأولى. و قيل هو من أسباط هارون أخي موسى. كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ الكاملين في الصلاح و هو الإتيان بما ينبغي و التحرز عما لا ينبغي.
[سورة الأنعام (6): الآيات 86 الى 87]
وَ إِسْماعِيلَ وَ الْيَسَعَ هو اليسع بن أخطوب. و قرأ حمزة و الكسائي و الليسع و على القراءتين هو علم أعجمي أدخل عليه اللام كما أدخل على اليزيد في قوله:
رأيت الوليد بن اليزيد مباركا
شديدا بأعباء الخلافة كاهله
وَ يُونُسَ هو يونس بن متى. وَ لُوطاً هو ابن هاران أخي إبراهيم. وَ كلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ بالنبوة، و فيه دليل على فضلهم على من عداهم من الخلق.
وَ مِنْ آبائِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ وَ إِخْوانِهِمْ عطف على كُلًّا أو نُوحاً أي فضلنا كلا منهم، أو هدينا هؤلاء و بعض آبائهم و ذرياتهم و إخوانهم فإن منهم من لم يكن نبيا و لا مهديا. وَ اجْتَبَيْناهُمْ عطف على فَضَّلْنا أو هَدَيْنا وَ هَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ تكرير لبيان ما هدوا إليه.
[سورة الأنعام (6): الآيات 88 الى 89]
ذلِكَ هُدَى اللَّهِ إشارة إلى ما دانوا به. يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ دليل على أنه متفضل عليهم بالهداية. وَ لَوْ أَشْرَكُوا أي و لو أشرك هؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة و السلام مع فضلهم و علو شأنهم. لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ لكانوا كغيرهم في حبوط أعمالهم بسقوط ثوابها.
أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يريد به الجنس. وَ الْحُكْمَ الحكمة أو فصل الأمر على ما يقتضيه الحق. وَ النُّبُوَّةَ و الرسالة. فَإِنْ يَكْفُرْ بِها أي بهذه الثلاثة. هؤُلاءِ يعني قريشا. فَقَدْ وَكَّلْنا بِها أي بمراعاتها. قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ و هم الأنبياء عليهم الصلاة و السلام المذكورون و متابعوهم. و قيل هم الأنصار أو أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، أو كل من آمن به أو الفرس. و قيل الملائكة.
[سورة الأنعام (6): آية 90]
أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ يريد الأنبياء عليهم الصلاة و السلام المتقدم ذكرهم. فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ فاختص طريقهم بالاقتداء و المراد بهداهم ما توافقوا عليه من التوحيد و أصول الدين دون الفروع المختلف فيها، فإنها ليست هدى مضافا إلى الكل و لا يمكن التأسي بهم جميعا. فليس فيه دليل على أنه عليه الصلاة و السلام متعبد بشرع من قبله، و الهاء في اقْتَدِهْ للوقف و من أثبتها في الدرج ساكنة كابن كثير و نافع و أبي عمرو و عاصم أجرى الوصل مجرى الوقف، و يحذف الهاء في الوصل خاصة حمزة و الكسائي و أشبعها بالكسر ابن
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج2، ص: 172
عامر برواية ابن ذكوان على أنها كناية المصدر و كسرها بغير إشباع برواية هشام. قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي على التبليغ أو القرآن. أَجْراً جعلا من جهتكم كما لم يسأل من قبلي من النبيين، و هذا من جملة ما أمر بالاقتداء بهم فيه. إِنْ هُوَ أي التبليغ أو القرآن أو الغرض. إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ إلا تذكيرا و موعظة لهم.
[سورة الأنعام (6): آية 91]
وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ و ما عرفوه حق معرفته في الرحمة و الإنعام على العباد. إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ حين أنكروا الوحي و بعثة الرسل عليهم الصلاة و السلام، و ذلك من عظائم رحمته و جلائل نعمته أو في السخط على الكفار و شدة البطش بهم حين جسروا على هذه المقالة، و القائلون هم اليهود قالوا ذلك مبالغة في إنكار إنزال القرآن بدليل نقض كلامهم، و إلزامهم بقوله: قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَ هُدىً لِلنَّاسِ و قراءة الجمهور تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَ تُخْفُونَ كَثِيراً بالتاء و إنما قرأ بالياء ابن كثير و أبو عمرو حملا على قالوا و ما قدروا، و تضمن ذلك توبيخهم على سوء جهلهم بالتوراة و ذمهم على تجزئتها بإبداء بعض انتخبوه و كتبوه في ورقات متفرقة و إخفاء بعض لا يشتهونه. و
روي (أن مالك بن الصيف قاله لما أغضبه الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم بقوله: أنشدك اللّه الذي أنزل التوراة على موسى هل تجد فيها أن اللّه يبغض الحبر السمين قال: نعم إن اللّه يبغض الحبر السمين، قال عليه الصلاة و السلام: فأنت الحبر السمين)
و قيل هم المشركون و إلزامهم بإنزال التوراة لأنه كان من المشهورات الذائعة عندهم و لذلك كانوا يقولون لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ وَ عُلِّمْتُمْ على لسان محمد صلّى اللّه عليه و سلّم. ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَ لا آباؤُكُمْ زيادة على ما في التوراة و بيانا لما التبس عليكم و على آبائكم الذين كانوا أعلم منكم و نظيره إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ . و قيل الخطاب لمن آمن من قريش قُلِ اللَّهُ أي أنزله اللّه، أو اللّه أنزله. أمره بأن يجيب عنهم إشعارا بأن الجواب متعين لا يمكن غيره، و تنبيها على أنهم بهتوا بحيث إنهم لا يقدرون على الجواب. ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ في أباطيلهم فلا عليك بعد التبليغ و إلزام الحجة. يَلْعَبُونَ حال من هم الأول، و الظرف صلة ذرهم أو يلعبون أو حال من مفعوله، أو فاعل يلعبون أو من هم الثاني و الظرف متصل بالأول.
[سورة الأنعام (6): آية 92]
وَ هذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ كثير الفائدة و النفع. مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ يعني التوراة أو الكتب التي قبله. وَ لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى عطف على ما دل عليه مبارك أي للبركات و لتنذر أو علة لمحذوف أي و لتنذر أهل أم القرى أنزلناه، و إنما سميت مكة بذلك لأنها قبلة أهل القرى و محجهم و مجتمعهم و أعظم القرى شأنا.
و قيل لأن الأرض دحيت من تحتها، أو لأنها مكان أول بيت وضع للناس. و قرأ أبو بكر عن عاصم بالياء أي و لينذر الكتاب. وَ مَنْ حَوْلَها أهل الشرق و الغرب. وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ فإن من صدق بالآخرة خاف العاقبة و لا يزال الخوف يحمله على النظر و التدبر حتى يؤمن بالنبي و الكتاب، و الضمير يحتملهما و يحافظ على الطاعة و تخصيص الصلاة لأنها عماد الدين و علم الإيمان.
[سورة الأنعام (6): آية 93]