کتابخانه تفاسیر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 27
[سورة الأعراف (7): الآيات 106 الى 108]
قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ من عند من أرسلك. فَأْتِ بِها فأحضرها عندي ليثبت بها صدقك. إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في الدعوى.
فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ ظاهر أمره لا يشك في أنه ثعبان و هو الحية العظيمة.
روي: أنه لما ألقاها صارت ثعبانا أشعر فاغرا فاه بين لحييه ثمانون ذراعا، وضع لحيه الأسفل على الأرض و الأعلى على سور القصر. ثم توجه نحو فرعون فهرب منه و أحدث، و انهزم الناس مزدحمين فمات منهم خمسة و عشرون ألفا، و صاح فرعون يا موسى أنشدك بالذي أرسلك خذه و أنا أومن بك و أرسل معك بني إسرائيل فأخذه فعاد عصا.
وَ نَزَعَ يَدَهُ من جيبه أو من تحت إبطه. فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ أي بيضاء بياضا خارجا عن العادة تجتمع عليها النظارة، أو بيضاء للنظار لا أنها كانت بيضاء في جبلتها.
روي: أنه عليه السلام كان آدم شديد الأدمة، فأدخل يده في جيبه أو تحت إبطه ثم نزعها فإذا هي بيضاء نورانية غلب شعاعها شعاع الشمس.
[سورة الأعراف (7): الآيات 109 الى 112]
قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ قيل قاله هو و أشراف قومه على سبيل التشاور في أمره، فحكى عنه في سورة الشعراء و عنهم ها هنا.
يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ تشيرون في أن نفعل.
قالُوا أَرْجِهْ وَ أَخاهُ وَ أَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ .
يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ كأنه اتفقت عليه آراؤهم فأشاروا به على فرعون، و الإرجاء التأخير أي أخر أمره، و أصله أرجئه كما قرأ أبو عمرو و أبو بكر و يعقوب من أرجأت، و كذلك «أرجئهوه» على قراءة ابن كثير على الأصل في الضمير، أو أرجهي من أرجيت كما قرأ نافع في رواية ورش و إسماعيل و الكسائي، و أما قراءته في رواية قالون أَرْجِهْ بحذف الياء فللاكتفاء بالكسرة عنها، و أما قراءة حمزة و عاصم و حفص أَرْجِهْ بسكون الهاء فلتشبيه المنفصل بالمتصل و جعل أَرْجِهْ كإبل في إسكان وسطه و أما قراءة ابن عامر برواية ابن ذكوان «أرجئه» بالهمزة و كسر الهاء فلا يرتضيه النحاة فإن الهاء لا تكسر إلا إذا كان قبلها كسرة أو ياء ساكنة، و وجهه أن الهمزة لما كانت تقلب ياء أجريت مجراها. و قرأ حمزة و الكسائي «بكل سحار» فيه و في «يونس» و يؤيده اتفاقهم عليه في «الشعراء».
[سورة الأعراف (7): الآيات 113 الى 114]
وَ جاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ بعد ما أرسل الشرطة في طلبهم. قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ استأنف به كأنه جواب سائل قال: ما قالوا إذ جاءوا؟ و قرأ ابن كثير و نافع و حفص عن عاصم إِنَّ لَنا لَأَجْراً على الإخبار و إيجاب الأجر كأنهم قالوا لا بد لنا من أجر، و التنكير للتعظيم.
قالَ نَعَمْ إن لكم لأجرا. وَ إِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ عطف على ما سد مسده نَعَمْ و زيادة على
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 28
الجواب لتحريضهم.
[سورة الأعراف (7): الآيات 115 الى 116]
قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَ إِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ خيروا موسى مراعاة للأدب أو إظهارا للجلادة، و لكن كانت رغبتهم في أن يلقوا قبله فنبهوا عليها بتغيير النظم إلى ما هو أبلغ و تعريف الخبر و توسيط الفصل أو تأكيد ضميرهم المتصل بالمنفصل فلذلك:
قالَ بَلْ أَلْقُوا كرما و تسامحا، أو ازدراء بهم و وثوقا على شأنه. فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ بأن خيلوا إليها ما الحقيقة بخلافه. وَ اسْتَرْهَبُوهُمْ و أرهبوهم إرهابا شديدا كأنهم طلبوا رهبتهم. وَ جاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ في فنه.
روي أنهم ألقوا حبالا غلاظا و خشبا طوالا كأنها حيات ملأت الوادي، و ركب بعضها بعضا.
[سورة الأعراف (7): الآيات 117 الى 119]
وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فألقاها فصارت حية. فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ أي ما يزورونه من الإفك، و هو الصرف و قلب الشيء عن وجهه، و يجوز أن تكون ما مصدرية و هي مع الفعل بمعنى المفعول.
روي: أنها لما تلقفت حبالهم و عصيهم و ابتلعتها بأسرها أقبلت على الحاضرين فهربوا و ازدحموا حتى هلك جمع عظيم، ثم أخذها موسى فصارت عصا كما كانت فقال السحرة: لو كان هذا سحرا لبقيت حبالنا و عصينا.
و قرأ حفص عن عاصم تَلْقَفُ هاهنا و في «طه» و «الشعراء».
فَوَقَعَ الْحَقُ فثبت لظهور أمره. وَ بَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من السحر و المعارضة.
فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَ انْقَلَبُوا صاغِرِينَ أي صاروا أذلاء مبهوتين، أو رجعوا إلى المدينة أذلاء مقهورين، و الضمير لفرعون و قومه.
[سورة الأعراف (7): الآيات 120 الى 122]
وَ أُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ جعلهم ملقين على وجوههم تنبيها على أن الحق بهرهم و اضطرهم إلى السجود بحيث لم يبق لهم تمالك، أو أن اللّه ألهمهم ذلك و حملهم عليه حتى ينكسر فرعون بالذين أراد بهم كسر موسى و ينقلب الأمر عليه، أو مبالغة في سرعة خرورهم و شدته.
قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ .
رَبِّ مُوسى وَ هارُونَ أبدلوا الثاني من الأول لئلا يتوهم أنهم أرادوا به فرعون.
[سورة الأعراف (7): الآيات 123 الى 124]
قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ باللّه أو بموسى، و الاستفهام فيه للإنكار. و قرأ حمزة و الكسائي و أبو بكر عن عاصم و روح عن يعقوب و هشام بتحقيق الهمزتين على الأصل. و قرأ حفص آمَنْتُمْ بِهِ على الإخبار، و قرأ قنبل قالَ فِرْعَوْنُ ، و «آمنتم» يبدل في حال الوصل من همزة الاستفهام واوا مفتوحة و يمد بعدها مدة في تقدير ألفين و قرأ في طه على الخبر بهمزة و ألف و قرأ في الشعراء على الاستفهام بهمزة و مدة مطولة في تقدير
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 29
ألفين، و قرأ الباقون بتحقيق الهمزة الأولى و تليين الثانية. قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ أي إن هذا الصنيع لحيلة احتلتموها أنتم و موسى. فِي الْمَدِينَةِ في مصر قبل أن تخرجوا للميعاد. لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها يعني القبط و تخلص لكم و لبني إسرائيل. فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ عاقبة ما فعلتم، و هو تهديد مجمل تفصيله: لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ من كل شق طرفا. ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ تفضيحا لكم و تنكيلا لأمثالكم. قيل إنه أول من سن ذلك فشرعه اللّه للقطاع تعظيما لجرمهم و لذلك سماه محاربة للّه و رسوله، و لكن على التعاقب لفرط رحمته.
[سورة الأعراف (7): الآيات 125 الى 126]
قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ بالموت لا محالة فلا نبالي بوعيدك، أو إنا منقلبون إلى ربنا و ثوابه إن فعلت بنا ذلك، كأنهم استطابوه شغفا على لقاء اللّه، أو مصيرنا و مصيرك إلى ربنا فيحكم بيننا.
وَ ما تَنْقِمُ مِنَّا و ما تنكر منا. إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا و هو خير الأعمال و أصل المناقب ليس مما يتأتى لنا العدول عنه طلبا لمرضاتك، ثم فزعوا إلى اللّه سبحانه و تعالى فقالوا: رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً أفض علينا صبرا يغمرنا كما يفرغ الماء، أو صب علينا ما يطهرنا من الآثام و هو الصبر على وعيد فرعون. وَ تَوَفَّنا مُسْلِمِينَ ثابتين على الإسلام. قيل إنه فعل بهم ما أوعدهم به. و قيل إنه لم يقدر عليهم لقوله تعالى: أَنْتُما وَ مَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ .
[سورة الأعراف (7): آية 127]
وَ قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَ تَذَرُ مُوسى وَ قَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بتغيير الناس عليك و دعوتهم إلى مخالفتك. وَ يَذَرَكَ عطف على يفسدوا، أو جواب الاستفهام بالواو كقول الحطيئة:
ألم أك جاركم و يكون بيني
و بينكم المودّة و الإخاء
على معنى أ يكون منك ترك موسى و يكون منه تركه إياك. و قرئ بالرفع على أنه عطف على أنذر أو استئناف أو حال. و قرئ بالسكون كأنه قيل: يفسدوا و يذرك كقوله تعالى: فَأَصَّدَّقَ وَ أَكُنْ ، وَ آلِهَتَكَ معبوداتك قيل كان يعبد الكواكب. و قيل صنع لقومه أصناما و أمرهم أن يعبدوها تقربا إليه و لذلك قال: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى و قرئ «إلا هتك» أي عبادتك. قالَ فرعون سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَ نَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ كما كنا نفعل من قبل ليعلم أنا على ما كنا عليه من القهر و الغلبة، و لا يتوهم أنه المولود الذي حكم المنجمون و الكهنة بذهاب ملكنا على يده. و قرأ ابن كثير و نافع سَنُقَتِّلُ بالتخفيف. وَ إِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ غالبون و هم مقهورون تحت أيدينا.
[سورة الأعراف (7): الآيات 128 الى 129]
قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَ اصْبِرُوا لما سمعوا قول فرعون و تضجروا منه تسكينا لهم إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ تسلية لهم و تقرير للأمر بالاستعانة باللّه و التثبت في الأمر. وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 30
وعد لهم بالنصرة و تذكير لما وعدهم من إهلاك القبط و توريثهم ديارهم و تحقيق له. و قرئ «و العاقبة» بالنصب عطف على اسم إن و اللام في الْأَرْضَ تحتمل العهد و الجنس.
قالُوا أي بنو إسرائيل. أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا بالرسالة بقتل الأبناء وَ مِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا بإعادته.
قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَ يَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ تصريحا بما كنى عنه أولا لما رأى أنهم لم يتسلوا بذلك، و لعله أتى بفعل الطمع لعدم جزمه بأنهم المستخلفون بأعيانهم أو أولادهم. و
قد روي أن مصر إنما فتح لهم في زمن داود عليه السلام
فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ فيرى ما تعملون من شكر و كفران و طاعة و عصيان فيجازيكم على حسب ما يوجد منكم.
[سورة الأعراف (7): الآيات 130 الى 131]
وَ لَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ بالجدوب لقلة الأمطار و المياه، و السنة غلبت على عام القحط لكثرة ما يذكر عنه و يؤرخ به، ثم اشتق منها فقيل أسنت القوم إذا قحطوا. وَ نَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ بكثرة العاهات.
لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ لكي يتنبهوا على أن ذلك بشؤم كفرهم و معاصيهم فيتعظوا، أو ترق قلوبهم بالشدائد فيفزعوا إلى اللّه و يرغبوا فيما عنده.
فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ من الخصب و السعة. قالُوا لَنا هذِهِ لأجلنا و نحن مستحقوها. وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ جدب و بلاء. يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَ مَنْ مَعَهُ يتشاءموا بهم و يقولوا: ما أصابتنا إلا بشؤمهم، و هذا إغراق في وصفهم بالغباوة و القساوة، فإن الشدائد ترقق القلوب و تذلل العرائك و تزيل التماسك سيما بعد مشاهدة الآيات، و هم لم تؤثر فيهم بل زادوا عندها عتوا و انهماكا في الغي، و إنما عرف الحسنة و ذكرها مع أداة التحقيق لكثرة وقوعها، و تعلق الإرادة بإحداثها بالذات، و نكر السيئة و أتى بها مع حرف الشك لندورها و عدم القصد لها إلا بالتبع. أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أي سبب خيرهم و شرهم عنده و هو حكمه و مشيئته، أو سبب شؤمهم عند اللّه و هو أعمالهم المكتوبة عنده، فإنها التي ساقت إليهم ما يسوؤهم. و قرئ «إنما طيرهم» و هو اسم الجمع و قيل هو جمع. وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أن ما يصيبهم من اللّه تعالى أو من شؤم أعمالهم.
[سورة الأعراف (7): الآيات 132 الى 133]
وَ قالُوا مَهْما أصلها ما الشرطية ضمت إليها ما المزيدة للتأكيد، ثم قلبت ألفها هاء استثقالا للتكرير.
و قيل مركبة من مه الذي يصوت به الكاف و ما الجزائية و محلها الرفع على الابتداء أو النصب بفعل يفسره.
تَأْتِنا بِهِ أي أيما شيء تحضرنا تأتنا به. مِنْ آيَةٍ بيان لمهما، و إنما سموها آية على زعم موسى لا لاعتقادهم و لذلك قالوا: لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ أي لتسحر بها أعيننا و تشبه علينا، و الضمير في به و بها لمهما ذكره قبل التبيين باعتبار اللفظ و أنثه بعده باعتبار المعنى.
فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ ماء طاف بهم و غشي أماكنهم و حروثهم من مطر أو سيل. و قيل الجدري، و قيل الموتان و قيل الطاعون. وَ الْجَرادَ وَ الْقُمَّلَ قيل هو كبار القردان، و قيل أولاد الجراد قبل نبات أجنحتها.
روي: أنهم مطروا ثمانية أيام في ظلمة شديدة لا يقدر أحد أن يخرج من بيته، و دخل
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 31
الماء بيوتهم حتى قاموا فيه إلى تراقيهم، و كانت بيوت بني إسرائيل مشتبكة ببيوتهم فلم يدخل فيها قطرة، و ركد على أراضيهم فمنعهم من الحرث و التصرف فيها، و دام ذلك عليهم أسبوعا فقالوا لموسى: ادع لنا ربك يكشف عنا و نحن نؤمن بك، فدعا فكشف عنهم و نبت لهم من الكلأ و الزرع ما لم يعهد مثله و لم يؤمنوا، فبعث اللّه عليهم الجراد فأكلت زروعهم و ثمارهم، ثم أخذت تأكل الأبواب و السقوف و الثياب ففزعوا إليه ثانيا فدعا و خرج إلى الصحراء، و أشار بعصاه نحو المشرق و المغرب فرجعت إلى النواحي التي جاءت منها فلم يؤمنوا، فسلط اللّه عليهم القمل فأكل ما أبقاه الجراد و كان يقع في أطعمتهم و يدخل بين أثوابهم و جلودهم فيمصها، ففزعوا إليه فرفع عنهم فقالوا: قد تحققنا الآن أنك ساحر، ثم أرسل اللّه عليهم الضفادع بحيث لا يكشف ثوب و لا طعام إلا وجدت فيه، و كانت تمتلئ منها مضاجعهم و تثب إلى قدورهم و هي تغلي، و أفواههم عند التكلم ففزعوا إليه و تضرعوا، فأخذ عليهم العهود و دعا فكشف اللّه عنهم ثم نقضوا العهود، ثم أرسل اللّه عليهم الدم فصارت مياههم دما حتى كان يجتمع القبطي مع الإسرائيلي على إناء فيكون ما يلي القبطي دما و ما يلي الإسرائيلي ماء، و يمص الماء من فم الإسرائيلي فيصير دما في فيه.
و قيل سلط اللّه عليهم الرعاف. آياتٍ نصب على الحال. مُفَصَّلاتٍ مبينات لا تشكل على عاقل أنها آيات اللّه و نقمته عليهم، أو مفصلات لامتحان أحوالهم إذ كان بين كل اثنتين منها شهر و كان امتداد كل واحدة أسبوعا، و قيل إن موسى لبث فيهم بعد ما غلب السحرة عشرين سنة يريهم هذه الآيات على مهل. فَاسْتَكْبَرُوا عن الإيمان. وَ كانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ .
[سورة الأعراف (7): الآيات 134 الى 135]
وَ لَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ يعني العذاب المفصل، أو الطاعون الذي أرسله اللّه عليهم بعد ذلك. قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ بعهده عندك و هو النبوة، أو بالذي عهده إليك أن تدعوه به فيجيبك كما أجابك في آياتك، و هو صلة لادع أو حال من الضمير فيه بمعنى ادع اللّه متوسلا إليه بما عهد عندك، أو متعلق بفعل محذوف دل عليه التماسهم مثل أسعفنا إلى ما نطلب منك بحق ما عهد عندك أو قسم مجاب بقوله: لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَ لَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ أي أقسمنا بعهد اللّه عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن و لنرسلن.
فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إلى حد من الزمان هم بالغوه فمعذبون فيه أو مهلكون، و هو وقت الغرق أو الموت. و قيل إلى أجل عينوه لإيمانهم. إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ جواب لما أي فلما كشفنا عنهم فاجؤوا النكث من غير تأمل و توقف فيه.
[سورة الأعراف (7): الآيات 136 الى 137]
فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فأردنا الانتقام منهم. فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِ أي البحر الذي لا يدرك قعره. و قيل لجته.
بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ كانُوا عَنْها غافِلِينَ أي كان إغراقهم بسبب تكذيبهم بالآيات و عدم فكرهم فيها حتى صاروا كالغافلين عنها. و قيل الضمير للنقمة المدلول عليها بقوله: فَانْتَقَمْنا .
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 32
وَ أَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ بالاستعباد و ذبح الأبناء من مستضعفيهم. مَشارِقَ الْأَرْضِ وَ مَغارِبَهَا يعني أرض الشام ملكها بنو إسرائيل بعد الفراعنة و العمالقة و تمكنوا في نواحيها. الَّتِي بارَكْنا فِيها بالخصب وسعة العيش. وَ تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ و مضت عليهم و اتصلت بالإنجاز عدته إياهم بالنصرة و التمكين و هو قوله تعالى: وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَ إلى قوله: ما كانُوا يَحْذَرُونَ و قرئ «كلمات ربك» لتعدد المواعيد بِما صَبَرُوا بسبب صبرهم على الشدائد. وَ دَمَّرْنا و خربنا. ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَ قَوْمُهُ من القصور و العمارات. وَ ما كانُوا يَعْرِشُونَ من الجنات أو ما كانوا يرفعون من البنيان كصرح هامان و قرأ ابن عامر و أبو بكر هنا و في «النحل» يَعْرِشُونَ بالضم. و هذا آخر قصة فرعون و قومه.
[سورة الأعراف (7): آية 138]
و قوله: وَ جاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ و ما بعده ذكر ما أحدثه بنو إسرائيل من الأمور الشنيعة بعد أن منّ اللّه عليهم بالنعم الجسام، و أراهم من الآيات العظام تسلية لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم مما رأى منهم، و إيقاظا للمؤمنين حتى لا يغفلوا عن محاسبة أنفسهم و مراقبة أحوالهم.
روي: أن موسى عليه السلام عبر بهم يوم عاشوراء بعد مهلك فرعون و قومه فصاموه شكرا.
فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ فمروا عليهم. يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ يقيمون على عبادتها، قيل كانت تماثيل بقر و ذلك أول شأن العجل، و القوم كانوا من العمالقة الذين أمر موسى بقتالهم. و قيل من لخم، و قرأ حمزة و الكسائي يَعْكُفُونَ بالكسر. قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً مثالا نعبده. كَما لَهُمْ آلِهَةٌ يعبدونها، و ما كافة للكاف. قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ وصفهم بالجهل المطلق و أكده لبعد ما صدر عنهم بعد ما رأوا من الآيات الكبرى عن العقل.
[سورة الأعراف (7): الآيات 139 الى 140]
إِنَّ هؤُلاءِ إشارة إلى القوم. مُتَبَّرٌ مكسر مدمر. ما هُمْ فِيهِ يعني أن اللّه يهدم دينهم الذي هم عليه و يحطم أصنامهم و يجعلها رضاضا وَ باطِلٌ مضمحل. ما كانُوا يَعْمَلُونَ من عبادتها و إن قصدوا بها التقرب إلى اللّه تعالى، و إنما بالغ في هذا الكلام بإيقاع هؤُلاءِ اسم إِنَ و الإخبار عما هم فيه بالتبار و عما فعلوا بالبطلان، و تقديم الخبرين في الجملتين الواقعتين خبرا لإن للتنبيه على أن الدمار لاحق لما هم فيه لا محالة، و أن الإحباط الكلي لازب لما مضى عنهم تنفيرا و تحذيرا عما طلبوا.
قالَ أَ غَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً أطلب لكم معبودا. وَ هُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ و الحال أنه خصكم بنعم لم يعطها غيركم، و فيه تنبيه على سوء معاملتهم حيث قابلوا تخصيص اللّه إياهم من أمثالهم لما لم يستحقوه تفضلا بأن قصدوا أن يشركوا به أخس شيء من مخلوقاته.
[سورة الأعراف (7): الآيات 141 الى 142]
وَ إِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ و اذكروا صنيعه معكم في هذا الوقت. و قرأ ابن عامر «أنجاكم».
يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ استئناف لبيان ما أنجاهم منه، أو حال من المخاطبين، أو من آل فرعون أو منهما.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 33
يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ بدل منه مبين. وَ فِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ و في الإنجاء أو العذاب نعمة أو محنة عظيمة.
وَ واعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً ذا القعدة، و قرأ أبو عمرو و يعقوب «و وعدنا». وَ أَتْمَمْناها بِعَشْرٍ من ذي الحجة. فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً بالغا أربعين.
روي: أنه عليه السلام وعد بني إسرائيل بمصر أن يأتيهم بعد مهلك فرعون بكتاب من اللّه فيه بيان ما يأتون و ما يذرون، فلما هلك فرعون سأل ربه فأمره اللّه بصوم ثلاثين، فلما أتم أنكر خلوف فيه فتسوك، فقالت الملائكة كنا نشم منك رائحة المسك فأفسدته بالسواك، فأمره اللّه تعالى أن يزيد عليها عشرا.
و قيل أمره بأن يتخلى ثلاثين بالصوم و العبادة ثم أنزل عليه التوراة في العشر و كلمه فيها. وَ قالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي كن خليفتي فيهم. وَ أَصْلِحْ ما يجب أن يصلح من أمورهم أو كن مصلحا. وَ لا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ و لا تتبع من سلك الإفساد و لا تطع من دعاك إليه.
[سورة الأعراف (7): آية 143]
وَ لَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا لوقتنا الذي وقتناه، و اللام للاختصاص أي اختص مجيئه لميقاتنا. وَ كَلَّمَهُ رَبُّهُ من غير وسيط كما يكلم الملائكة، و فيما
روي: أن موسى عليه السلام كان يسمع ذلك الكلام من كل جهة تنبيه على أن سماع كلامه القديم ليس من جنس كلام المحدثين.
قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ أرني نفسك بأن تمكنني من رؤيتك، أو تتجلى لي فأنظر إليك و أراك. و هو دليل على أن رؤيته تعالى جائزة في الجملة لأن طلب المستحيل من الأنبياء محال، و خصوصا ما يقتضي الجهل باللّه و لذلك رده بقوله تعالى:
لَنْ تَرانِي دون لن أرى أو لن أريك أو لن تنظر إليّ، تنبيها على أنه قاصر عن رؤيته لتوقفها على معد في الرائي لم يوجد فيه بعد، و جعل السؤال لتبكيت قومه الذين قالوا: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً خطأ إذ لو كانت الرؤية ممتنعة لوجب أن يجهلهم و يزيح شبهتهم كما فعل بهم حين قالوا: اجْعَلْ لَنا إِلهاً و لا يتبع سبيلهم كما قال لأخيه وَ لا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ و الاستدلال بالجواب على استحالتها أشد خطأ إذ لا يدل الإخبار عن عدم رؤيته إياه على أن لا يراه أبدا و أن لا يراه غيره أصلا فضلا عن أن يدل على استحالتها و دعوى الضرورة فيه مكابرة أو جهالة بحقيقة الرؤية. قالَ لَنْ تَرانِي وَ لكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي استدراك يريد أن يبين به أنه لا يطيقه، و في تعليق الرؤية بالاستقرار أيضا دليل على الجواز ضرورة أن المعلق على الممكن ممكن، و الجبل قيل هو جبل زبير. فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ ظهر له عظمته و تصدى له اقتداره و أمره. و قيل أعطى له حياة و رؤية حتى رآه. جَعَلَهُ دَكًّا مدكوكا مفتتا والدك و الدق أخوان كالشك و الشق، و قرأ حمزة و الكسائي «دكاء» أي أرضا مستوية و منه ناقة دكاء التي لا سنام لها. و قرئ دَكًّا أي قطعا جمع دكاء. وَ خَرَّ مُوسى صَعِقاً مغشيا عليه من هول ما رأى. فَلَمَّا أَفاقَ قالَ تعظيما لما رأى. سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ من الجراءة و الإقدام على السؤال من غير إذن. وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ مر تفسيره. و قيل معناه أنا أول من آمن بأنك لا ترى في الدنيا.
[سورة الأعراف (7): الآيات 144 الى 145]