کتابخانه تفاسیر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 92
[سورة التوبة (9): آية 83]
فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فإن ردك إلى المدينة و فيها طائفة من المتخلفين يعني منافقيهم فإن كلهم لم يكونوا منافقين، أو من بقي منهم و كان المتخلفون اثني عشر رجلا. فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ إلى غزوة أخرى بعد تبوك فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَ لَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إخبار في معنى النهي للمبالغة. إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ تعليل له و كان إسقاطهم عن ديوان الغزاة عقوبة لهم على تخلفهم و أَوَّلَ مَرَّةٍ هي الخرجة إلى غزوة تبوك. فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ أي المتخلفين لعدم لياقتهم للجهاد كالنساء و الصبيان.
و قرئ مع «الخلفين» على قصر الْخالِفِينَ .
[سورة التوبة (9): الآيات 84 الى 85]
وَ لا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً
روي: (أن عبد اللّه بن أبيّ دعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم في مرضه، فلما دخل عليه سأله أن يستغفر له و يكفنه في شعاره الذي يلي جسده و يصلي عليه فلما مات أرسل قميصه ليكفن فيه و ذهب ليصلي عليه) فنزلت. و قيل صلى عليه ثم نزلت
، و إنما لم ينه عن التكفين في قميصه و نهى عن الصلاة عليه لأن الضن بالقميص كان مخلا بالكرم و لأنه كان مكافأة لإلباسه العباس قميصه حين أسر ببدر، و المراد من الصلاة الدعاء للميت و الاستغفار له و هو ممنوع في حق الكافر و لذلك رتب النهي على قوله:
ماتَ أَبَداً يعني الموت على الكفر فإن إحياء الكافر للتعذيب دون التمتع فكأنه لم يحي. وَ لا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ و لا تقف عند قبره للدفن أو الزيارة. إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ ماتُوا وَ هُمْ فاسِقُونَ تعليل للنهي أو لتأبيد الموت.
وَ لا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَ أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَ تَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَ هُمْ كافِرُونَ تكرير للتأكيد و الأمر حقيق به فإن الأبصار طامحة إلى الأموال و الأولاد و النفوس مغتبطة عليها. و يجوز أن تكون هذه في طريق غير الأول.
[سورة التوبة (9): الآيات 86 الى 87]
وَ إِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ من القرآن و يجوز أن يراد بها بعضها. أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ بأن آمنوا باللّه و يجوز أن تكون أن المفسرة. وَ جاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ ذوو الفضل و السعة. وَ قالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ الذين قعدوا لعذر.
رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ مع النساء جمع خالفة و قد يقال الخالفة للذي لا خير فيه. وَ طُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ ما في الجهاد و موافقة الرسول من السعادة و ما في التخلف عنه من الشقاوة.
[سورة التوبة (9): الآيات 88 الى 89]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 93
لكِنِ الرَّسُولُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ أي إن تخلف هؤلاء و لم يجاهدوا فقد جاهد من هو خير منهم. وَ أُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ منافع الدارين النصر و الغنيمة في الدنيا و الجنة و الكرامة في الآخرة. و قيل الحور لقوله تعالى: فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ و هي جمع خيرة تخفيف خيرة. وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بالمطالب.
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ بيان لما لهم من الخيرات الأخروية.
[سورة التوبة (9): آية 90]
وَ جاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ يعني أسدا و غطفان استأذنوا في التخلف معتذرين بالجهد و كثرة العيال. و قيل هم رهط عامر بن الطفيل قالوا إن غزونا معك أغارت طيئ على أهالينا و مواشينا.
و المعذر إما من عذر في الأمر إذا قصر فيه موهما أن له عذرا و لا عذر له، أو من اعتذر إذا مهد العذر بإدغام التاء في الذال و نقل حركتها إلى العين، و يجوز كسر العين لالتقاء الساكنين و ضمها للاتباع لكن لم يقرأ بهما.
و قرأ يعقوب الْمُعَذِّرُونَ من أعذر إذا اجتهد في العذر. و قرئ «المعذّرون» بتشديد العين و الذال على أنه من تعذر بمعنى اعتذر و هو لحن إذ التاء لا تدغم في العين، و قد اختلف في أنهم كانوا معتذرين بالتصنع أو بالصحة فيكون قوله: وَ قَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ في غيرهم و هم منافقو الأعراب كذبوا اللّه و رسوله في ادعاء الإيمان و إن كانوا هم الأولين فكذبهم بالاعتذار. سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ من الأعراب أو من المعذرين فإن منهم من اعتذر لكسله لا لكفره عَذابٌ أَلِيمٌ بالقتل و النار.
[سورة التوبة (9): الآيات 91 الى 92]
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَ لا عَلَى الْمَرْضى كالهرمى و الزمنى. وَ لا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ لفقرهم كجهينة و مزينة و بني عذرة. حَرَجٌ إثم في التأخر. إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَ رَسُولِهِ بالإيمان و الطاعة في السر و العلانية كما يفعل الموالي الناصح، أو بما قدروا عليه فعلا أو قولا يعود على الإسلام و المسلمين بالصلاح ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ أي ليس عليهم جناح و لا إلى معاتبتهم سبيل و إنما وضع المحسنين موضع الضمير للدلالة على أنهم منخرطون في سلك المحسنين غير معاتبين لذلك. وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لهم أو للمسيء فكيف للمحسن.
وَ لا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ عطف على الضُّعَفاءِ أو على الْمُحْسِنِينَ ،
و هم البكاؤون سبعة من الأنصار: معقل بن يسار و صخر بن خنساء و عبد الله بن كعب و سالم بن عمير و ثعلبة بن غنمة و عبد الله بن مغفل و علية بن زيد، أتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و قالوا: قد نذرنا الخروج فاحملنا على الخفاف المرقوعة و النعال المخصوفة نغز معك، فقال عليه السلام: «لا أجد ما أحملكم عليه» فتولوا و هم يبكون.
و قيل هم بنو مقرن: معقل و سويد و النعمان. و قيل أبو موسى و أصحابه. قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ حال من الكاف في أَتَوْكَ بإضمار قد. تَوَلَّوْا جواب إذا. وَ أَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ تسيل. مِنَ الدَّمْعِ أي دمعا فإن من
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 94
للبيان و هي مع المجرور في محل النصب على التمييز و هو أبلغ من يفيض دمعها، لأنه يدل على أن العين صارت دمعا فياضا. حَزَناً نصب على العلة أو الحال أو المصدر لفعل دل عليه ما قبله. أَلَّا يَجِدُوا لئلا يجدوا متعلق ب حَزَناً أو ب تَفِيضُ . ما يُنْفِقُونَ في مغزاهم.
[سورة التوبة (9): الآيات 93 الى 94]
إِنَّمَا السَّبِيلُ بالمعاتبة. عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَ هُمْ أَغْنِياءُ واجدون الأهبة. رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ استئناف لبيان ما هو السبب لاستئذانهم من غير عذر و هو رضاهم بالدناءة و الانتظام في جملة الخوالف إيثارا للدعة. وَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ حتى غفلوا عن وخامة العاقبة. فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ مغبته.
يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ في التخلف. إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ من هذه السفرة. قُلْ لا تَعْتَذِرُوا بالمعاذير الكاذبة لأنه: لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ لن نصدقكم لأنه: قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ أعلمنا بالوحي إلى نبيه بعض أخباركم و هو ما في ضمائركم من الشر و الفساد. وَ سَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ أ تتوبون عن الكفر أم تثبتون عليه فكأنه استتابة و إمهال للتوبة. ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ أي إليه فوضع الوصف موضع الضمير للدلالة على أنه مطلع على سرهم و علنهم لا يفوت عن علمه شيء من ضمائرهم و أعمالهم. فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بالتوبيخ و العقاب عليه.
[سورة التوبة (9): الآيات 95 الى 96]
سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فلا تعاتبوهم فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ و لا توبخوهم.
إِنَّهُمْ رِجْسٌ لا ينفع فيهم التأنيب فإن المقصود منه التطهير بالحمل على الإنابة و هؤلاء أرجاس لا تقبل التطهير فهو علة لإعراض و ترك المعاتبة. وَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ من تمام التعليل و كأنه قال: إنهم أرجاس من أهل النار لا ينفع فيهم التوبيخ في الدنيا و الآخرة، أو تعليل ثان و المعنى: أن النار كفتهم عتابا فلا تتكلفوا عتابهم.
جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ يجوز أن يكون مصدرا و أن يكون علة.
يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ بحلفهم فتستديموا عليهم ما كنتم تفعلون بهم. فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ أي فإن رضاكم لا يستلزم رضا اللّه و رضاكم و حدكم لا ينفعهم إذا كانوا في سخط اللّه و بصدد عقابه، و إن أمكنهم أن يلبسوا عليكم لا يمكنهم أن يلبسوا على اللّه فلا يهتك سترهم و لا ينزل الهوان بهم، و المقصود من الآية النهي عن الرضا عنهم و الاغترار بمعاذيرهم بعد الأمر بالإعراض و عدم الالتفات نحوهم.
[سورة التوبة (9): الآيات 97 الى 98]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 95
الْأَعْرابُ أهل البدو. أَشَدُّ كُفْراً وَ نِفاقاً من أهل الحضر لتوحشهم و قساوتهم و عدم مخالطتهم لأهل العلم و قلة استماعهم للكتاب و السنة. وَ أَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا و أحق بأن لا يعلموا. حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ من الشرائع فرائضها و سنتها. وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بعلم حال كل أحد من أهل الوبر و المدر. حَكِيمٌ فيما يصيب به مسيئهم و محسنهم عقابا و ثوابا.
وَ مِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ يعدّ ما يُنْفِقُ يصرفه في سبيل اللّه و يتصدق به. مَغْرَماً غرامة و خسرانا إذ لا يحتسبه قربة عند اللّه و لا يرجو عليه ثوابا و إنما ينفق رياء أو تقية. وَ يَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ دوائر الزمان و نوبه لينقلب الأمر عليكم فيتخلص من الإنفاق. عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ اعتراض بالدعاء عليهم بنحو ما يتربصون أو الإخبار عن وقوع ما يتربصون عليهم، و الدائرة في الأصل مصدر أو اسم فاعل من دار يدور و سمي به عقبة الزمان، و السَّوْءِ بالفتح مصدر أضيف إليه للمبالغة كقولك رجل صدق. و قرأ ابن كثير و أبو عمرو السَّوْءِ هنا. و في الفتح بضم السين. وَ اللَّهُ سَمِيعٌ لما يقولون عند الانفاق. عَلِيمٌ بما يضمرون.
[سورة التوبة (9): آية 99]
وَ مِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ سبب قُرُباتٍ و هي ثاني مفعولي يَتَّخِذُ ، و عِنْدَ اللَّهِ صفتها أو ظرف ل يَتَّخِذُ . وَ صَلَواتِ الرَّسُولِ و سبب صلواته لأنه صلّى اللّه عليه و سلّم كان يدعو للمتصدقين و يستغفر لهم، و لذلك سن للمصدق عليه أن يدعو للمصدق عند أخذ صدقته لكن ليس له أن يصلي عليه كما
قال صلّى اللّه عليه و سلّم «اللهم صل على آل أبي أوفى»
، لأنه منصبه فله أن يتفضل به على غيره. أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ شهادة من اللّه بصحة معتقدهم و تصديق لرجائهم على الاستئناف مع حرف التنبيه و إن المحققة للنسبة و الضمير لنفقتهم و قرأ ورش قُرْبَةٌ بضم الراء. سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ وعد لهم بإحاطة الرحمة عليهم و السين لتحقيقه و قوله: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لتقريره. و قيل الأولى في أسد و غطفان و بني تميم و الثانية في عبد اللّه ذي البجادين و قومه.
[سورة التوبة (9): آية 100]
وَ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ هم الذين صلوا إلى القبلتين أو الذين شهدوا بدرا أو الذين أسلموا قبل الهجرة. وَ الْأَنْصارِ أهل بيعة العقبة الأولى. و كانوا سبعة و أهل بيعة العقبة الثانية و كانوا سبعين و الذين آمنوا حين قدم عليهم أبو زرارة صعب بن عمير. و قرئ بالرفع عطفا على وَ السَّابِقُونَ . وَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ اللاحقون بالسابقين من القبيلتين، أو من اتبعوهم بالإيمان و الطاعة إلى يوم القيامة. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بقبول طاعتهم و ارتضاء أعمالهم. وَ رَضُوا عَنْهُ بما نالوا من نعمه الدينية و الدنيوية. وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ و قرأ ابن كثير «من تحتها الأنهار» كما في سائر المواضع. خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ .
[سورة التوبة (9): آية 101]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 96
وَ مِمَّنْ حَوْلَكُمْ أي و ممن حول بلدتكم يعني المدينة. مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ هم جهينة و مزينة و أسلم و أشجع و غفار كانوا نازلين حولها. وَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عطف على مِمَّنْ حَوْلَكُمْ أو خبر لمحذوف صفته. مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ و نظيره في حذف الموصوف و إقامة الصفة مقامه قوله:
أنّا ابن جلّا و طلّاع الثنايا و على الأول صفة للمنافقين فصل بينها و بينه بالمعطوف على الخبر أو كلام مبتدأ لبيان تمرنهم و تمهرهم في النفاق. لا تَعْلَمُهُمْ لا تعرفهم بأعيانهم و هو تقرير لمهارتهم فيه و تنوقهم في تحامي مواقع التهم إلى حد أخفى عليك حالهم مع كمال فطنتك و صدق فراستك. نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ و نطلع على أسرارهم إن قدروا أن يلبسوا عليك لم يقدروا أن يلبسوا علينا. سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ بالفضيحة و القتل أو بأحدهما و عذاب القبر، أو بأخذ الزكاة و نهك الأبدان. ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ إلى عذاب النار.
[سورة التوبة (9): آية 102]
وَ آخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ و لم يعتذروا عن تخلفهم بالمعاذير الكاذبة، و هم طائفة من المتخلفين أوثقوا أنفسهم على سواري المسجد لما بلغهم ما نزل في المتخلفين،
فقدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فدخل المسجد على عادته فصلى ركعتين فرآهم فسأل عنهم فذكر له أنهم أقسموا أن لا يحلوا أنفسهم حتى تحلهم فقال: و أنا أقسم أن لا أحلهم حتى أومر فيهم فنزلت فأطلقهم.
خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَ آخَرَ سَيِّئاً خلطوا العمل الصالح الذي هو إظهار الندم و الاعتراف بالذنب بآخر سيئ هو التخلف و موافقة أهل النفاق، و الواو إما بمعنى الباء كما في قولهم: بعت الشاء شاة و درهما. أو للدلالة على أن كل واحد منهما مخلوط بالآخر. عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أن يقبل توبتهم و هي مدلول عليها بقوله اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ . إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يتجاوز عن التائب و يتفضل عليه.
[سورة التوبة (9): الآيات 103 الى 104]
خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً
روي: أنهم لما أطلقوا قالوا يا رسول اللّه هذه أموالنا التي خلفتنا فتصدق بها و طهرنا فقال: «ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا» فنزلت.
تُطَهِّرُهُمْ من الذنوب أو حب المال المؤدي بهم إلى مثله. و قرئ «تطهرهم» من أطهره بمعنى طهره و «تطهرهم» بالجزم جوابا للأمر. وَ تُزَكِّيهِمْ بِها و تنمي بها حسناتهم و ترفعهم إلى منازل المخلصين. وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ و اعطف عليهم بالدعاء و الاستغفار لهم.
إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ تسكن إليها نفوسهم و تطمئن بها قلوبهم، و جمعها لتعدد المدعو لهم و قرأ حمزة و الكسائي و حفص بالتوحيد. وَ اللَّهُ سَمِيعٌ باعترافهم. عَلِيمٌ بندامتهم.
أَ لَمْ يَعْلَمُوا الضمير إما للمتوب عليهم و المراد أن يمكن في قلوبهم قبول توبتهم و الاعتداد بصدقاتهم، أو لغيرهم و المراد به التحضيض عليهما. أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ إذا صحت و تعديته ب عَنْ لتضمنه معنى التجاوز. وَ يَأْخُذُ الصَّدَقاتِ يقبلها قبول من يأخذ شيئا ليؤدي بدله. وَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ و أن من شأنه قبول توبة التائبين و التفضل عليهم.
[سورة التوبة (9): الآيات 105 الى 106]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 97
وَ قُلِ اعْمَلُوا ما شئتم. فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ فإنه لا يخفى عليه خيرا كان أو شرا. وَ رَسُولُهُ وَ الْمُؤْمِنُونَ فإنه تعالى لا يخفى عنهم كما رأيتم و تبين لكم. وَ سَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ بالموت.
فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بالمجازاة عليه.
وَ آخَرُونَ من المتخلفين. مُرْجَوْنَ مؤخرون أي موقوف أمرهم من أرجأته إذا أخرته. و قرأ نافع و حمزة و الكسائي و حفص مُرْجَوْنَ بالواو و هما لغتان. لِأَمْرِ اللَّهِ في شأنهم. إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ إن أصروا على النفاق. وَ إِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ إن تابوا و الترديد للعباد، و فيه دليل على أن كلا الأمرين بإرادة اللّه تعالى.
وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بأحوالهم. حَكِيمٌ فيما يفعل بهم. و قرئ «و اللّه غفور رحيم»، و المراد بهؤلاء كعب بن مالك و هلال بن أمية و مرارة بن الربيع، أمر الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم أصحابه أن لا يسلموا عليهم و لا يكلموهم، فلما رأوا ذلك أخلصوا نياتهم و فوضوا أمرهم إلى اللّه فرحمهم اللّه تعالى.
[سورة التوبة (9): آية 107]
وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً عطف على وَ آخَرُونَ مُرْجَوْنَ ، أو مبتدأ خبره محذوف أي و فيمن وصفنا الذين اتخذوا أو منصوب على الاختصاص. و قرأ نافع و ابن عامر بغير الواو ضِراراً مضارة للمؤمنين.
و
روي: (أن بني عمرو بن عوف لما بنوا مسجد قباء سألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أن يأتيهم فأتاهم فصلى فيه فحسدتهم إخوانهم بنو غنم بن عوف، فبنوا مسجدا على قصد أن يؤمهم فيه أبو عامر الراهب إذا قدم من الشام فلما أتموه أتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فقالوا: إنا قد بنينا مسجدا لذي الحاجة و العلة و الليلة المطيرة و الشاتية فصل فيه حتى نتخذه مصلى فأخذ ثوبه ليقوم معهم فنزلت، فدعا بمالك بن الدخشم و معن بن عدي و عامر بن السكن و الوحشي فقال لهم: انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه و أحرقوه ففعل و اتخذ مكانه كناسة).
وَ كُفْراً و تقوية للكفر الذي يضمرونه. وَ تَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ يريد الذي كانوا يجتمعون للصلاة في مسجد قباء. وَ إِرْصاداً ترقبا. لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ يعني الراهب فإنه قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يوم أحد: لا أجد قوما يقاتلونك إلا قاتلتك معهم، فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين حتى انهزم مع هوازن و هرب إلى الشام ليأتي من قيصر بجنود يحارب بهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و مات بقنسرين وحيدا، و قيل كان يجمع الجيوش يوم الأحزاب فلما انهزموا خرج إلى الشام. و مِنْ قَبْلُ متعلق ب حارَبَ أو ب اتَّخَذُوا أي اتخذوا مسجدا من قبل أن ينافق هؤلاء بالتخلف، لما
روي أنه بني قبيل غزوة تبوك فسألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أن يأتيه فقال: أنا على جناح سفر و إذا قدمنا إن شاء اللّه صلينا فيه فلما قفل كرر عليه. فنزلت
وَ لَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى ما أردنا ببنائه إلا الخصلة الحسنى أو الإرادة الحسنى و هي الصلاة و الذكر و التوسعة على المصلين وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في حلفهم.
[سورة التوبة (9): آية 108]
لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً للصلاة. لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى يعني مسجد قباء أسسه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و صلى فيه أيام مقامه بقباء من الاثنين إلى الجمعة لأنه أوفق للقصة، أو مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم
لقول أبي سعيد رضي اللّه عنه: «سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم عنه فقال هو مسجدكم هذا مسجد المدينة».
مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ من أيام وجوده و من يعم الزمان و المكان كقوله:
لمن الدّيار بقنة الحجر
أقوين من حجج و من دهر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 98
أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ أولى بأن تصلي فيه. فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا من المعاصي و الخصال المذمومة طلبا لمرضاة اللّه سبحانه و تعالى، و قيل من الجنابة فلا ينامون عليها. وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ يرضى عنهم و يدنيهم من جنابه تعالى إدناء المحب حبيبه.
قيل لما نزلت مشى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و معه المهاجرون حتى وقف على باب مسجد قباء فإذا الأنصار جلوس فقال عليه الصلاة و السلام: «أ مؤمنون أنتم»؟ فسكتوا ..
فأعادها فقال عمر: إنهم مؤمنون و أنا معهم، فقال عليه الصلاة و السلام: «أ ترضون بالقضاء»؟ قالوا: نعم. قال عليه الصلاة و السلام: «أ تصبرون على البلاء»؟ قالوا: نعم، قال: «أ تشكرون في الرخاء»؟ قالوا: نعم. فقال صلّى اللّه عليه و سلّم: «أنتم مؤمنون و رب الكعبة». فجلس ثم قال: «يا معشر الأنصار إن اللّه عز و جل قد أثنى عليكم فما الذي تصنعون عند الوضوء و عند الغائط»؟ فقالوا: يا رسول اللّه نتبع الغائط الأحجار الثلاثة ثم نتبع الأحجار الماء فتلا فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا .
[سورة التوبة (9): آية 109]
أَ فَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ بنيان دينه. عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَ رِضْوانٍ خَيْرٌ على قاعدة محكمة هي التقوى من اللّه و طلب مرضاته بالطاعة. أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ على قاعدة هي أضعف القواعد و أرخاها. فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ فأدى به لخوره و قلة استمساكه إلى السقوط في النار، و إنما وضع شفا الجرف و هو ما جرفه الوادي الهائر في مقابلة التقوى تمثيلا لما بنوا عليه أمر دينهم في البطلان و سرعة الانطماس، ثم رشحه بانهياره به في النار و وضعه في مقابلة الرضوان تنبيها على أن تأسيس ذلك على أمر يحفظه من النار و يوصله إلى رضوان الله و مقتضياته التي الجنة أدناها، و تأسيس هذا على ما هم بسببه على صدد الوقوع في النار ساعة فساعة ثم إن مصيرهم إلى النار لا محالة. و قرأ نافع و ابن عامر أُسِّسَ على البناء للمفعول. و قرئ «أساس بنيانه» و «أسس بنيانه» على الإضافة و «أسس» و «آساس» بالفتح و المد و «إساس» بالكسر و ثلاثتها جمع أس، و «تقوى» بالتنوين على أن الألف للإلحاق لا للتأنيث كتترى، و قرأ ابن عامر و حمزة و أبو بكر جُرُفٍ بالتخفيف. وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ إلى ما فيه صلاحهم و نجاتهم.
[سورة التوبة (9): آية 110]
لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا بناؤهم الذي بنوه مصدر أريد به المفعول و ليس بجمع و لذلك قد تدخله التاء و وصف بالمفرد و أخبر عنه بقوله: رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ أي شكا و نفاقا، و المعنى أن بناءهم هذا لا يزال سبب شكهم و تزايد نفاقهم فإنه حملهم على ذلك ثم لما هدمه الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم رسخ ذلك في قلوبهم و ازداد بحيث لا يزول وسمه عن قلوبهم. إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ قطعا بحيث لا يبقى لها قابلية الإدراك و الإضمار و هو في غاية المبالغة و الاستثناء. من أعم الأزمنة. و قيل المراد بالتقطع ما هو كائن بالقتل أو في القبر أو في النار. و قيل التقطع بالتوبة ندما و أسفا. و قرأ يعقوب «إلى» بحرف الانتهاء و تَقَطَّعَ بمعنى تتقطع و هو قراءة ابن عامر و حمزة و حفص. و قرئ «يقطع» بالياء و «تقطع» بالتخفيف و «تقطع قلوبهم» على خطاب الرسول، أو كل مخاطب و لو قطعت و لو قطعت على البناء للفاعل و المفعول. وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بنياتهم. حَكِيمٌ فيما أمر بهدم بنيانهم.
[سورة التوبة (9): آية 111]