کتابخانه تفاسیر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 102
[سورة التوبة (9): آية 122]
وَ ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً و ما استقام لهم أن ينفروا جميعا لنحو غزو أو طلب علم كما لا يستقيم لهم أن يتثبطوا جميعا فإنه يخل بأمر المعاش. فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ فهلا نفر من كل جماعة كثيرة كقبيلة و أهل بلدة جماعة قليلة. لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ليتكلفوا الفقاهة فيه و يتجشموا مشاق تحصيلها. وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ و ليجعلوا غاية سعيهم و معظم غرضهم من الفقاهة إرشاد القوم و إنذارهم، و تخصيصه بالذكر لأنه أهم و فيه دليل على أن التفقه و التذكير من فروض الكفاية و أنه ينبغي أن يكون غرض المتعلم فيه أن يستقيم و يقيم لا الترفع على الناس و التبسط في البلاد. لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ إرادة أن يحذروا عما ينذرون منه، و استدل به على أن أخبار الآحاد حجة لأن عموم كل فرقة يقتضي أن ينفر من كل ثلاثة تفردوا بقرية طائفة إلى التفقه لتنذر فرقتها كي يتذكروا و يحذروا، فلو لم يعتبر الأخبار ما لم يتواتر لم يفد ذلك، و قد أشبعت القول فيه تقريرا و اعتراضا في كتابي «المرصاد». و قد قيل للآية معنى آخر و هو أنه لما نزل في المتخلفين ما نزل سبق المؤمنون إلى النفير و انقطعوا عن التفقه، فأمروا أن ينفر من كل فرقة طائفة إلى الجهاد و يبقى أعقابهم يتفقهون حتى لا ينقطع التفقه الذي هو الجهاد الأكبر، لأن الجدال بالحجة هو الأصل و المقصود من البعثة فيكون الضمير في ليتفقهوا و لينذروا لبواقي الفرق بعد الطوائف النافرة للغزو، و في رجعوا للطوائف أي و لينذروا البواقي قومهم النافرين إذا رجعوا إليهم بما حصلوا أيام غيبتهم من العلوم.
[سورة التوبة (9): آية 123]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ أمروا بقتال الأقرب منهم فالأقرب كما أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أولا بإنذار عشيرته الأقربين، فإن الأقرب أحق بالشفقة و الاستصلاح. و قيل هم يهود حوالي المدينة كقريظة و النضير و خيبر. و قيل الروم فإنهم كانوا يسكنون الشأم و هو قريب من المدينة. وَ لْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً شدة و صبرا على القتال. و قرئ بفتح الغين و ضمها و هما لغتان فيها. وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ بالحراسة و الإعانة.
[سورة التوبة (9): الآيات 124 الى 125]
وَ إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ فمن المنافقين مَنْ يَقُولُ انكار و استهزاء. أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ السورة.
إِيماناً و قرئ «أيكم» بالنصب على إضمار فعل يفسره زادَتْهُ . فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً بزيادة العلم الحاصل من تدبر السورة و انضمام الإيمان بها و بما فيها إلى إيمانهم. وَ هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ بنزولها لأنه سبب لزيادة كمالهم و ارتفاع درجاتهم.
وَ أَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ كفر. فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ كفرا بها مضموما إلى الكفر بغيرها. وَ ماتُوا وَ هُمْ كافِرُونَ و استحكم ذلك فيهم حتى ماتوا عليه.
[سورة التوبة (9): الآيات 126 الى 127]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 103
أَ وَ لا يَرَوْنَ يعني المنافقين و قرئ بالتاء. أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ يبتلون بأصناف البليات، أو بالجهاد مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فيعاينون ما يظهر عليه من الآيات. فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ لا ينتهون و لا يتوبون من نفاقهم. وَ لا هُمْ يَذَّكَّرُونَ و لا يعتبرون.
وَ إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ تغامزوا بالعيون إنكارا لها و سخرية، أو غيظا لما فيها من عيوبهم. هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ أي يقولون هل يراكم أحد إن قمتم من حضرة الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم، فإن لم يرهم أحد قاموا و إن يرهم أحد أقاموا. ثُمَّ انْصَرَفُوا عن حضرته مخافة الفضيحة. صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ عن الإيمان و هو يحتمل الإخبار و الدعاء. بِأَنَّهُمْ بسبب أنهم. قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ لسوء فهمهم أو لعدم تدبرهم.
[سورة التوبة (9): الآيات 128 الى 129]
لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ من جنسكم عربي مثلكم. و قرئ «من أنفسكم» أي من أشرفكم.
عَزِيزٌ عَلَيْهِ شديد شاق. ما عَنِتُّمْ عنتكم و لقاؤكم المكروه. حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ أي على إيمانكم و صلاح شأنكم. بِالْمُؤْمِنِينَ منكم و من غيركم. رَؤُفٌ رَحِيمٌ قدم الأبلغ منهما و هو الرؤوف لأن الرأفة شدة الرحمة محافظة على الفواصل.
فَإِنْ تَوَلَّوْا عن الإيمان بك. فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ فإنه يكفيك معرتهم و يعينك عليهم. لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كالدليل عليه. عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ فلا أرجو و لا أخاف إلا منه. وَ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ الملك العظيم، أو الجسم العظيم المحيط الذي تنزل منه الأحكام و المقادير. و قرئ «العظيم» بالرفع. و عن أبي بن كعب رضي اللّه تعالى عنه: أن آخر ما نزل هاتان الآيتان و
عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم: «ما نزل القرآن علي إلا آية آية و حرفا حرفا ما خلا سورة براءة و قل هو اللّه أحد، فإنهما أنزلتا علي و معهما سبعون ألف صف من الملائكة»
و اللّه أعلم.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 104
(10) سورة يونس
مكية و هي مائة و تسع آيات
[سورة يونس (10): الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر فخمها ابن كثير و نافع برواية قالون و حفص و قرأ ورش بين اللفظين، و أمالها الباقون إجراء لألف الراء مجرى المنقلبة من الياء. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ إشارة إلى ما تضمنته السورة أو القرآن من الآي و المراد من الكتاب أحدهما، و وصفه بالحكيم لاشتماله على الحكم أو لأنه كلام حكيم، أو محكم آياته لم ينسخ شيء منها. أَ كانَ لِلنَّاسِ عَجَباً استفهام إنكار للتعجب و عَجَباً خبر كان و اسمه: أَنْ أَوْحَيْنا و قرئ بالرفع على أن الأمر بالعكس أو على «أن كان» تامة و أَنْ أَوْحَيْنا بدل من عَجَباً ، و اللام للدلالة على أنهم جعلوه أعجوبة لهم يوجهون نحوه إنكارهم و استهزاءهم. إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ من أفناء رجالهم دون عظيم من عظمائهم. قيل كانوا يقولون العجب أن اللّه تعالى لم يجد رسولا يرسله إلى الناس إلا يتيم أبي طالب، و هو من فرط حماقتهم و قصور نظرهم على الأمور العاجلة و جهلهم بحقيقة الوحي و النبوة. هذا و إنه عليه الصلاة و السلام لم يكن يقصر عن عظمائهم فيما يعتبرونه إلا في المال و خفة الحال أعون شيء في هذا الباب، و لذلك كان أكثر الأنبياء عليهم الصلاة و السلام قبله كذلك. و قيل تعجبوا من أنه بعث بشرا رسولا كما سبق ذكره في سورة «الأنعام». أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ أن هي المفسرة أو المخففة من الثقيلة فتكون في موقع مفعول أوحينا. وَ بَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا عمم الإنذار إذ قلما من أحد ليس فيه ما ينبغي أن ينذر منه، و خصص البشارة بالمؤمنين إذ ليس للكفار ما يصح أن يبشروا به حقيقة أَنَّ لَهُمْ بأن لهم قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ سابقة و منزلة رفيعة سميت قدما لأن السبق بها كما سميت النعمة يدا لأنها تعطى باليد، و إضافتها إلى الصدق لتحققها و التنبيه على أنهم إنما ينالونها بصدق القول و النية. قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا يعنون الكتاب و ما جاء به الرسول عليه الصلاة و السلام. لَسِحْرٌ مُبِينٌ و قرأ ابن كثير و الكوفيون «لساحر» على أن الإشارة إلى الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم، و فيه اعتراف بأنهم صادفوا من الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم أمورا خارقة للعادة معجزة إياهم عن المعارضة. و قرئ «ما هذا إلا سحر مبين».
[سورة يونس (10): آية 3]
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ التي هي أصول الممكنات. فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يقدر أمر الكائنات على ما اقتضته حكمته و سبقت به كلمته و يهيئ بتحريكه أسبابها و ينزلها منه، و التدبير النظر في أدبار الأمور لتجيء محمودة العاقبة. ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ تقرير لعظمته و عز جلاله، ورد على من زعم أن آلهتهم تشفع لهم عند اللّه و فيه إثبات الشفاعة لمن أذن له ذلِكُمُ اللَّهُ أي
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 105
الموصوف بتلك الصفات المقتضية للألوهية و الربوبية. رَبَّكُمُ لا غير إذ لا يشاركه أحد في شيء من ذلك.
فَاعْبُدُوهُ وحدوه بالعبادة. أَ فَلا تَذَكَّرُونَ تتفكرون أدنى تفكر فينبهكم على أنه المستحق للربوبية و العبادة لا ما تعبدونه.
[سورة يونس (10): آية 4]
إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً بالموت أو النشور لا إلى غيره فاستعدوا للقائه. وَعْدَ اللَّهِ مصدر مؤكد لنفسه لأن قوله إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ وعد من اللّه. حَقًّا مصدر آخر مؤكد لغيره و هو ما دل عليه وَعْدَ اللَّهِ . إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ بعد بدئه و إهلاكه. لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ أي بعدله أو بعدالتهم و قيامهم على العدل في أمورهم أو بإيمانهم لأنه العدل القويم كما أن الشرك ظلم عظيم و هو الأوجه لمقابلة قوله: وَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ فإن معناه ليجزي الذين كفروا بشراب من حميم و عذاب أليم بسبب كفرهم، لكنه غير النظم للمبالغة في استحقاقهم للعقاب و التنبيه على أن المقصود بالذات من الإبداء و الإعادة هو الإثابة و العقاب واقع بالعرض، و أنه تعالى يتولى إثابة المؤمنين بما يليق بلطفه و كرمه و لذلك لم يعينه، و أما عقاب الكفرة فكأنه داء ساقه إليهم سوء اعتقادهم و شؤم أفعالهم. و الآية كالتعليل لقوله تعالى: إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فإنه لما كان المقصود من الإبداء و الإعادة مجازاة اللّه المكلفين على أعمالهم كان مرجع الجميع إليه لا محالة، و يؤيده قراءة من قرأ إِنَّهُ يَبْدَؤُا بالفتح أي لأنه و يجوز أن يكون منصوبا أو مرفوعا بما نصب وَعْدَ اللَّهِ أو بما نصب حَقًّا .
[سورة يونس (10): الآيات 5 الى 6]
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً أي ذات ضياء و هو مصدر كقيام أو جمع ضوء كسياط و سوط و الياء فيه منقلبة عن الواو. و قرأ ابن كثير برواية قنبل هنا و في «الأنبياء» و في «القصص»: «ضئاء» بهمزتين على القلب بتقديم اللام على العين. وَ الْقَمَرَ نُوراً أي ذا نور أو سمي نورا للمبالغة و هو أعم من الضوء كما عرفت، و قيل ما بالذات ضوء و ما بالعرض نور، و قد نبه سبحانه و تعالى بذلك على أنه خلق الشمس نيرة في ذاتها و القمر نيرا بعرض مقابلة الشمس و الاكتساب منها. وَ قَدَّرَهُ مَنازِلَ الضمير لكل واحد أي قدر مسير كل واحد منهما منازل، أو قدره ذا منازل أو للقمر و تخصيصه بالذكر لسرعة سيره و معاينة منازله و إناطة أحكام الشرع به و لذلك علله بقوله: لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَ الْحِسابَ حساب الأوقات من الأشهر و الأيام في معاملاتكم و تصرفاتكم. ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِ إلا ملتبسا بالحق مراعيا فيه مقتضى الحكمة البالغة.
نفصل الآيات لقوم يعلمون فإنهم المنتفعون بالتأمل فيها و قرأ ابن كثير و البصريان و حفص يُفَصِّلُ بالياء.
إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ من أنواع الكائنات. لَآياتٍ على وجود الصانع و وحدته و كمال علمه و قدرته. لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ العواقب فإنه يحملهم على التفكر و التدبر.
[سورة يونس (10): الآيات 7 الى 8]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 106
إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لا يتوقعونه لإنكارهم البعث و ذهولهم بالمحسوسات عما وراءها. وَ رَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا من الآخرة لغفلتهم عنها. وَ اطْمَأَنُّوا بِها و سكنوا إليها مقصرين هممهم على لذائذها و زخارفها، أو سكنوا فيها سكون من لا يزعج عنها. وَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ لا يتفكرون فيها لانهماكهم فيما يضادها و العطف إما لتغاير الوصفين و التنبيه على أن الوعيد على الجمع بين الذهول عن الآيات رأسا و الانهماك في الشهوات بحيث لا تخطر الآخرة ببالهم أصلا، و إما لتغاير الفريقين و المراد بالأولين من أنكر البعث و لم ير إلّا الحياة الدنيا و بالآخرين من ألهاه حب العاجل عن التأمل في الآجل و الإعداد له.
أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ بما واظبوا عليه و تمرنوا به من المعاصي.
[سورة يونس (10): الآيات 9 الى 10]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ بسبب إيمانهم إلى سلوك سبيل يؤدي إلى الجنة، أو لإدراك الحقائق كما
قال عليه الصلاة و السلام «من عمل بما علم ورثه اللّه علم ما لم يعلم».
أو لما يريدونه في الجنة، و مفهوم الترتيب و إن دل على أن سبب الهداية هو الإيمان و العمل الصالح لكن دل منطوق قوله: بِإِيمانِهِمْ على استقلال الإيمان بالسببية و أن العمل الصالح كالتتمة و الرديف له. تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ استئناف أو خبر ثان أو حال من الضمير المنصوب على المعنى الأخير، و قوله: فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ خبر أو حال أخرى منه، أو من الْأَنْهارُ أو متعلق ب تَجْرِي أو بيهدي.
دَعْواهُمْ فِيها أي دعاؤهم. سُبْحانَكَ اللَّهُمَ اللهم إنا نسبحك تسبيحا. وَ تَحِيَّتُهُمْ ما يحيى به بعضهم بعضا، أو تحية الملائكة إياهم. فِيها سَلامٌ وَ آخِرُ دَعْواهُمْ و آخر دعائهم. أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أي أن يقولوا ذلك، و لعل المعنى أنهم إذا دخلوا الجنة و عاينوا عظمة اللّه و كبرياءه مجدوه و نعتوه بنعوت الجلال، ثم حياهم الملائكة بالسلامة عن الآفات و الفوز بأصناف الكرامات أو اللّه تعالى فحمدوه و أثنوا عليه بصفات الإكرام، و أَنِ هي المخففة من الثقيلة و قد قرئ بها و ينصب «الحمد».
[سورة يونس (10): آية 11]
وَ لَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ و لو يسرعه إليهم. اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ وضع موضع تعجيله لهم بالخير إشعارا بسرعة إجابته لهم في الخير حتى كأن استعجالهم به تعجيل لهم أو بأن المراد شر استعجلوه كقولهم فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ و تقدير الكلام، و لو يعجل اللّه للناس الشر تعجيله للخير حين استعجلوه استعجالا كاستعجالهم بالخير، فحذف منه ما حذف لدلالة الباقي عليه. لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ لأميتوا و أهلكوا و قرأ ابن عامر و يعقوب لقضى على البناء للفاعل و هو اللّه تعالى و قرئ «لقضينا». فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ عطف على فعل محذوف دلت عليه الشرطية كأنه قيل: و لكن لا نعجل و لا نقضي فنذرهم إمهالا لهم و استدراجا.
[سورة يونس (10): آية 12]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 107
وَ إِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لإزالته مخلصا فيه. لِجَنْبِهِ ملقى لجنبه أي مضطجعا. أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً و فائدة الترديد تعميم الدعاء لجميع الأحوال أو لأصناف المضار. فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ يعني مضى على طريقته و استمر على كفره أو مر عن موقف الدعاء لا يرجع إليه. كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا كأنه لم يدعنا فخفف و حذف ضمير الشأن كما قال:
و نحر مشرق اللّون
كأن ثدياه حقّان
إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ إلى كشف ضر. كَذلِكَ مثل ذلك التزيين. زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من الانهماك في الشهوات و الإعراض عن العبادات.
[سورة يونس (10): الآيات 13 الى 14]
وَ لَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ يا أهل مكة. لَمَّا ظَلَمُوا حين ظلموا بالتكذيب و استعمال القوى و الجوارح لا على ما ينبغي وَ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالحجج الدالة على صدقهم و هو حال من الواو بإضمار قد أو عطف على ظلموا. وَ ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا و ما استقام لهم أن يؤمنوا لفساد استعدادهم و خذلان اللّه لهم و علمه بأنهم يموتون على كفرهم، و اللام لتأكيد النفي. كَذلِكَ مثل ذلك الجزاء و هو إهلاكهم بسبب تكذيبهم للرسل و إصرارهم عليه بحيث تحقق أنه لا فائدة في إمهالهم نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ نجزي كل مجرم أو نجزيكم فوضع المظهر موضع الضمير للدلالة على كمال جرمهم و أنهم أعلام فيه.
ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ استخلفناكم فيها بعد القرون التي أهلكناها استخلاف من يختبر. لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ أ تعملون خيرا أو شرا فنعاملكم على مقتضى أعمالكم، و كيف معمول تعملون فإن معنى الاستفهام يحجب أن يعمل فيه ما قبله، و فائدته الدلالة على أن المعتبر في الجزاء جهات الأفعال و كيفياتها لا هي من حيث ذاتها و لذلك يحسن الفعل تارة و يقبح أخرى.
[سورة يونس (10): آية 15]
وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا يعني المشركين. ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا بكتاب آخر نقرؤه ليس فيه ما نستبعده من البعث و الثواب و العقاب بعد الموت، أو ما نكرهه من معايب آلهتنا. أَوْ بَدِّلْهُ بأن تجعل مكان الآية المشتملة على ذلك آية أخرى و لعلهم سألوا ذلك كي يسعفهم إليه فيلزموه. قُلْ ما يَكُونُ لِي ما يصح لي. أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي من قبل نفسي و هو مصدر استعمل ظرفا، و إنما اكتفى بالجواب عن التبديل لاستلزام امتناعه امتناع الإتيان بقرآن آخر. إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ تعليل لما يكون فإن المتبع لغيره في أمر لا يستبد بالتصرف فيه، و جواب للنقض بنسخ بعض الآيات ببعض ورد لما عرضوا له بهذا السؤال من أن القرآن كلامه و اختراعه و لذلك قيد التبديل في الجواب و سماه عصيانا فقال: إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي أي بالتبديل. عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ و فيه إيماء بأنهم استوجبوا العذاب بهذا الاقتراح.
[سورة يونس (10): آية 16]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 108
قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ غير ذلك. ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَ لا أَدْراكُمْ بِهِ و لا أعلمكم به على لساني، و عن ابن كثير «و لأدراكم» بلام التأكيد أي لو شاء اللّه ما تلوته عليكم و لأعلمكم به على لسان غيري. و المعنى أنه الحق الذي لا محيص عنه لو لم أرسل به لأرسل به غيري. و قرئ «و لا أدرأكم» «و لا أدرأتكم» بالهمز فيهما على لغة من يقلب الألف المبدلة من الياء همزة، أو على أنه من الدرء بمعنى الدفع أي و لا جعلتكم بتلاوته خصماء تدرءونني بالجدال، و المعنى أن الأمر بمشيئة اللّه تعالى لا بمشيئتي حتى أجعله على نحو ما تشتهونه ثم قرر ذلك بقوله: فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مقدارا عمر أربعين سنة. مِنْ قَبْلِهِ من قبل القرآن لا أتلوه و لا أعلمه، فإنه إشارة إلى أن القرآن معجز خارق للعادة فإن من عاش بين أظهرهم أربعين سنة لم يمارس فيها علما و لم يشاهد عالما و لم ينشئ قريضا و لا خطبة، ثم قرأ عليهم كتابا بزت فصاحته فصاحة كل منطيق و علا من كل منثور و منظوم، و احتوى على قواعد علمي الأصول و الفروع و أعرب عن أقاصيص الأولين و أحاديث الآخرين على ما هي عليه علم أنه معلوم به من اللّه تعالى. أَ فَلا تَعْقِلُونَ أي أفلا تستعملون عقلوكم بالتدبر و التفكر فيه لتعلموا أنه ليس إلا من اللّه.
[سورة يونس (10): الآيات 17 الى 18]
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً تفاد مما أضافوه إليه كناية، أو تظليم للمشركين بافترائهم على اللّه تعالى في قولهم إنه لذو شريك و ذو ولد. أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ فكفر بها. إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَ لا يَنْفَعُهُمْ فإنه جماد لا يقدر على نفع و لا ضر، و المعبود ينبغي أن يكون مثيبا و معاقبا حتى تعود عبادته بجلب نفع أو دفع ضر. وَ يَقُولُونَ هؤُلاءِ الأوثان. شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ تشفع لنا فيما يهمنا من أمور الدنيا أو في الآخرة إن يكن بعث، و كأنهم كانوا شاكين فيه و هذا من فرط جهالتهم حيث تركوا عبادة الموجد الضار النافع إلى عبادة ما يعلم قطعا أنه لا يضر و لا ينفع على توهم أنه ربما يشفع لهم عنده. قُلْ أَ تُنَبِّئُونَ اللَّهَ أ تخبرونه. بِما لا يَعْلَمُ و هو أن له شريكا أو هؤلاء شفعاء عنده و ما لا يعلمه العالم بجميع المعلومات لا يكون له تحقق ما و فيه تقريع و تهكم بهم. فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ حال من العائد المحذوف مؤكدة للنفي منبهة على أن ما يعبدون من دون اللّه إما سماوي و إما أرضي، و لا شيء من الموجودات فيهما إلا و هو حادث مقهور مثلهم لا يليق أن يشرك به. سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ عن إشراكهم أو عن الشركاء الذين يشركونهم به. و قرأ حمزة و الكسائي هنا و في الموضعين في أول «النحل» و «الروم» بالتاء.
[سورة يونس (10): الآيات 19 الى 20]