کتابخانه تفاسیر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 106
إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لا يتوقعونه لإنكارهم البعث و ذهولهم بالمحسوسات عما وراءها. وَ رَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا من الآخرة لغفلتهم عنها. وَ اطْمَأَنُّوا بِها و سكنوا إليها مقصرين هممهم على لذائذها و زخارفها، أو سكنوا فيها سكون من لا يزعج عنها. وَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ لا يتفكرون فيها لانهماكهم فيما يضادها و العطف إما لتغاير الوصفين و التنبيه على أن الوعيد على الجمع بين الذهول عن الآيات رأسا و الانهماك في الشهوات بحيث لا تخطر الآخرة ببالهم أصلا، و إما لتغاير الفريقين و المراد بالأولين من أنكر البعث و لم ير إلّا الحياة الدنيا و بالآخرين من ألهاه حب العاجل عن التأمل في الآجل و الإعداد له.
أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ بما واظبوا عليه و تمرنوا به من المعاصي.
[سورة يونس (10): الآيات 9 الى 10]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ بسبب إيمانهم إلى سلوك سبيل يؤدي إلى الجنة، أو لإدراك الحقائق كما
قال عليه الصلاة و السلام «من عمل بما علم ورثه اللّه علم ما لم يعلم».
أو لما يريدونه في الجنة، و مفهوم الترتيب و إن دل على أن سبب الهداية هو الإيمان و العمل الصالح لكن دل منطوق قوله: بِإِيمانِهِمْ على استقلال الإيمان بالسببية و أن العمل الصالح كالتتمة و الرديف له. تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ استئناف أو خبر ثان أو حال من الضمير المنصوب على المعنى الأخير، و قوله: فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ خبر أو حال أخرى منه، أو من الْأَنْهارُ أو متعلق ب تَجْرِي أو بيهدي.
دَعْواهُمْ فِيها أي دعاؤهم. سُبْحانَكَ اللَّهُمَ اللهم إنا نسبحك تسبيحا. وَ تَحِيَّتُهُمْ ما يحيى به بعضهم بعضا، أو تحية الملائكة إياهم. فِيها سَلامٌ وَ آخِرُ دَعْواهُمْ و آخر دعائهم. أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أي أن يقولوا ذلك، و لعل المعنى أنهم إذا دخلوا الجنة و عاينوا عظمة اللّه و كبرياءه مجدوه و نعتوه بنعوت الجلال، ثم حياهم الملائكة بالسلامة عن الآفات و الفوز بأصناف الكرامات أو اللّه تعالى فحمدوه و أثنوا عليه بصفات الإكرام، و أَنِ هي المخففة من الثقيلة و قد قرئ بها و ينصب «الحمد».
[سورة يونس (10): آية 11]
وَ لَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ و لو يسرعه إليهم. اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ وضع موضع تعجيله لهم بالخير إشعارا بسرعة إجابته لهم في الخير حتى كأن استعجالهم به تعجيل لهم أو بأن المراد شر استعجلوه كقولهم فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ و تقدير الكلام، و لو يعجل اللّه للناس الشر تعجيله للخير حين استعجلوه استعجالا كاستعجالهم بالخير، فحذف منه ما حذف لدلالة الباقي عليه. لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ لأميتوا و أهلكوا و قرأ ابن عامر و يعقوب لقضى على البناء للفاعل و هو اللّه تعالى و قرئ «لقضينا». فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ عطف على فعل محذوف دلت عليه الشرطية كأنه قيل: و لكن لا نعجل و لا نقضي فنذرهم إمهالا لهم و استدراجا.
[سورة يونس (10): آية 12]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 107
وَ إِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لإزالته مخلصا فيه. لِجَنْبِهِ ملقى لجنبه أي مضطجعا. أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً و فائدة الترديد تعميم الدعاء لجميع الأحوال أو لأصناف المضار. فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ يعني مضى على طريقته و استمر على كفره أو مر عن موقف الدعاء لا يرجع إليه. كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا كأنه لم يدعنا فخفف و حذف ضمير الشأن كما قال:
و نحر مشرق اللّون
كأن ثدياه حقّان
إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ إلى كشف ضر. كَذلِكَ مثل ذلك التزيين. زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من الانهماك في الشهوات و الإعراض عن العبادات.
[سورة يونس (10): الآيات 13 الى 14]
وَ لَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ يا أهل مكة. لَمَّا ظَلَمُوا حين ظلموا بالتكذيب و استعمال القوى و الجوارح لا على ما ينبغي وَ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالحجج الدالة على صدقهم و هو حال من الواو بإضمار قد أو عطف على ظلموا. وَ ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا و ما استقام لهم أن يؤمنوا لفساد استعدادهم و خذلان اللّه لهم و علمه بأنهم يموتون على كفرهم، و اللام لتأكيد النفي. كَذلِكَ مثل ذلك الجزاء و هو إهلاكهم بسبب تكذيبهم للرسل و إصرارهم عليه بحيث تحقق أنه لا فائدة في إمهالهم نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ نجزي كل مجرم أو نجزيكم فوضع المظهر موضع الضمير للدلالة على كمال جرمهم و أنهم أعلام فيه.
ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ استخلفناكم فيها بعد القرون التي أهلكناها استخلاف من يختبر. لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ أ تعملون خيرا أو شرا فنعاملكم على مقتضى أعمالكم، و كيف معمول تعملون فإن معنى الاستفهام يحجب أن يعمل فيه ما قبله، و فائدته الدلالة على أن المعتبر في الجزاء جهات الأفعال و كيفياتها لا هي من حيث ذاتها و لذلك يحسن الفعل تارة و يقبح أخرى.
[سورة يونس (10): آية 15]
وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا يعني المشركين. ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا بكتاب آخر نقرؤه ليس فيه ما نستبعده من البعث و الثواب و العقاب بعد الموت، أو ما نكرهه من معايب آلهتنا. أَوْ بَدِّلْهُ بأن تجعل مكان الآية المشتملة على ذلك آية أخرى و لعلهم سألوا ذلك كي يسعفهم إليه فيلزموه. قُلْ ما يَكُونُ لِي ما يصح لي. أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي من قبل نفسي و هو مصدر استعمل ظرفا، و إنما اكتفى بالجواب عن التبديل لاستلزام امتناعه امتناع الإتيان بقرآن آخر. إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ تعليل لما يكون فإن المتبع لغيره في أمر لا يستبد بالتصرف فيه، و جواب للنقض بنسخ بعض الآيات ببعض ورد لما عرضوا له بهذا السؤال من أن القرآن كلامه و اختراعه و لذلك قيد التبديل في الجواب و سماه عصيانا فقال: إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي أي بالتبديل. عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ و فيه إيماء بأنهم استوجبوا العذاب بهذا الاقتراح.
[سورة يونس (10): آية 16]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 108
قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ غير ذلك. ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَ لا أَدْراكُمْ بِهِ و لا أعلمكم به على لساني، و عن ابن كثير «و لأدراكم» بلام التأكيد أي لو شاء اللّه ما تلوته عليكم و لأعلمكم به على لسان غيري. و المعنى أنه الحق الذي لا محيص عنه لو لم أرسل به لأرسل به غيري. و قرئ «و لا أدرأكم» «و لا أدرأتكم» بالهمز فيهما على لغة من يقلب الألف المبدلة من الياء همزة، أو على أنه من الدرء بمعنى الدفع أي و لا جعلتكم بتلاوته خصماء تدرءونني بالجدال، و المعنى أن الأمر بمشيئة اللّه تعالى لا بمشيئتي حتى أجعله على نحو ما تشتهونه ثم قرر ذلك بقوله: فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مقدارا عمر أربعين سنة. مِنْ قَبْلِهِ من قبل القرآن لا أتلوه و لا أعلمه، فإنه إشارة إلى أن القرآن معجز خارق للعادة فإن من عاش بين أظهرهم أربعين سنة لم يمارس فيها علما و لم يشاهد عالما و لم ينشئ قريضا و لا خطبة، ثم قرأ عليهم كتابا بزت فصاحته فصاحة كل منطيق و علا من كل منثور و منظوم، و احتوى على قواعد علمي الأصول و الفروع و أعرب عن أقاصيص الأولين و أحاديث الآخرين على ما هي عليه علم أنه معلوم به من اللّه تعالى. أَ فَلا تَعْقِلُونَ أي أفلا تستعملون عقلوكم بالتدبر و التفكر فيه لتعلموا أنه ليس إلا من اللّه.
[سورة يونس (10): الآيات 17 الى 18]
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً تفاد مما أضافوه إليه كناية، أو تظليم للمشركين بافترائهم على اللّه تعالى في قولهم إنه لذو شريك و ذو ولد. أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ فكفر بها. إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَ لا يَنْفَعُهُمْ فإنه جماد لا يقدر على نفع و لا ضر، و المعبود ينبغي أن يكون مثيبا و معاقبا حتى تعود عبادته بجلب نفع أو دفع ضر. وَ يَقُولُونَ هؤُلاءِ الأوثان. شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ تشفع لنا فيما يهمنا من أمور الدنيا أو في الآخرة إن يكن بعث، و كأنهم كانوا شاكين فيه و هذا من فرط جهالتهم حيث تركوا عبادة الموجد الضار النافع إلى عبادة ما يعلم قطعا أنه لا يضر و لا ينفع على توهم أنه ربما يشفع لهم عنده. قُلْ أَ تُنَبِّئُونَ اللَّهَ أ تخبرونه. بِما لا يَعْلَمُ و هو أن له شريكا أو هؤلاء شفعاء عنده و ما لا يعلمه العالم بجميع المعلومات لا يكون له تحقق ما و فيه تقريع و تهكم بهم. فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ حال من العائد المحذوف مؤكدة للنفي منبهة على أن ما يعبدون من دون اللّه إما سماوي و إما أرضي، و لا شيء من الموجودات فيهما إلا و هو حادث مقهور مثلهم لا يليق أن يشرك به. سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ عن إشراكهم أو عن الشركاء الذين يشركونهم به. و قرأ حمزة و الكسائي هنا و في الموضعين في أول «النحل» و «الروم» بالتاء.
[سورة يونس (10): الآيات 19 الى 20]
وَ ما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً موحدين على الفطرة أو متفقين على الحق، و ذلك في عهد آدم عليه السلام إلى أن قتل قابيل هابيل أو بعد الطوفان، أو على الضلال في فترة من الرسل. فَاخْتَلَفُوا باتباع الهوى و الأباطيل، أو ببعثه الرسل عليهم الصلاة و السلام فتبعتهم طائفة و أصرت أخرى. وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ بتأخير الحكم بينهم أو العذاب الفاصل بينهم إلى يوم القيامة فإنه يوم الفصل و الجزاء. لَقُضِيَ
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 109
بَيْنَهُمْ عاجلا. فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ بإهلاك المبطل و إبقاء المحق.
وَ يَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ أي من الآيات التي اقترحوها. فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ هو المختص بعلمه فلعله يعلم في إنزال الآيات المقترحة من مفاسد تصرف عن إنزالها. فَانْتَظِرُوا لنزول ما اقترحتموه. إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ لما يفعل اللّه بكم بجحودكم ما نزل علي من الآيات العظام و اقتراحكم غيره.
[سورة يونس (10): آية 21]
وَ إِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً صحة وسعة. مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ كقحط و مرض. إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا بالطعن فيها و الاحتيال في دفعها. قيل قحط أهل مكة سبع سنين حتى كادوا يهلكون ثم رحمهم اللّه بالحيا فطفقوا يقدحون في آيات اللّه و يكيدون رسوله. قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً منكم قد دبر عقابكم قبل أن تدبروا كيدكم، و إنما دل على سرعتهم المفضل عليها كلمة المفاجأة الواقعة جوابا لإذا الشرطية و المكر إخفاء الكيد، و هو من اللّه تعالى إما الاستدراج أو الجزاء على المكر. إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ تحقيق للانتقام و تنبيه على أن ما دبروا في إخفائه لم يخف على الحفظة فضلا أن يخفى على اللّه تعالى، و عن يعقوب يمكرون بالياء ليوافق ما قبله.
[سورة يونس (10): الآيات 22 الى 23]
هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ يحملكم على السير و يمكنكم منه. و قرأ ابن عامر «ينشركم» بالنون و الشين من النشر. فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ في السفن، وَ جَرَيْنَ بِهِمْ بمن فيها، عدل عن الخطاب إلى الغيبة للمبالغة كأنه تذكرة لغيرهم ليتعجب من حالهم و ينكر عليهم. بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ لينة الهبوب. وَ فَرِحُوا بِها بتلك الريح. جاءَتْها جواب إذا و الضمير للفلك أو للريح الطيبة، بمعنى تلقتها. رِيحٌ عاصِفٌ ذات عصف شديدة الهبوب. وَ جاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ يجيء الموج منه. وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ أهلكوا و سدت عليهم مسالك الخلاص كمن أحاط به العدو. دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ من غير إشراك لتراجع الفطرة و زوال المعارض من شدة الخوف، و هو بدل من ظَنُّوا بدل اشتمال لأن دعاءهم من لوازم ظنهم.
لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ على إرادة القول أو مفعول دَعَوُا لأنه من جملة القول.
فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إجابة لدعائهم. إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ فاجؤوا الفساد فيها و سارعوا إلى ما كانوا عليه. بِغَيْرِ الْحَقِ مبطلين فيه و هو احتراز عن تخريب المسلمين ديار الكفرة و إحراق زروعهم و قلع أشجارهم فإنها إفساد بحق. يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ فإن وباله عليكم أو أنه على أمثالكم أبناء جنسكم. مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا منفعة الحياة الدنيا لا تبقى و يبقى عقابها، و رفعه على أنه خبر بَغْيُكُمْ و عَلى أَنْفُسِكُمْ صلته، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره ذلك متاع الحياة الدنيا و عَلى أَنْفُسِكُمْ خبر بَغْيُكُمْ ، و نصبه حفص على أنه مصدر مؤكد أي تتمتعون متاع الحياة الدنيا أو مفعول البغي لأنه بمعنى الطلب فيكون الجار من صلته و الخبر محذوف تقديره بغيكم متاع الحياة الدنيا محذور أو ضلال، أو مفعول
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 110
فعل دل عليه البغي و على أنفسكم خبره. ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ في القيامة. فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بأجزاء عليه.
[سورة يونس (10): آية 24]
إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا حالها العجيبة في سرعة تقضيها و ذهاب نعيمها بعد إقبالها و اغترار الناس بها.
كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فاشتبك بسببه حتى خالط بعضه بعضا. مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَ الْأَنْعامُ من الزروع و البقول و الحشيش. حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها حسنها و بهجتها. وَ ازَّيَّنَتْ تزينت بأصناف النبات و أشكالها و ألوانها المختلفة كعروس أخذت من ألوان الثياب و الزين فتزينت بها، وَ ازَّيَّنَتْ أصله تزينت فأدغم و قد قرئ على الأصل «و ازينت» على أفعلت من غير إعلال كأغيلت، و المعنى صارت ذات زينة «و ازيانت» كابياضت. وَ ظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها متمكنون من حصدها و رفع غلتها.
أَتاها أَمْرُنا ضرب زرعها ما يجتاحه. لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها فجعلنا زرعها. حَصِيداً شبيها بما حصد من أصله. كَأَنْ لَمْ تَغْنَ كأن لم يغن زرعها أي لم يلبث، و المضاف محذوف في الموضعين للمبالغة و قرئ بالياء على الأصل. بِالْأَمْسِ فيما قبيله و هو مثل في الوقت القريب و الممثل به مضمون الحكاية و هو زوال خضرة النبات فجأة و ذهابه حطاما بعد ما كان غضا و التف، و زين الأرض حتى طمع فيه أهله و ظنوا أنه قد سلم من الجوائح لا الماء و إن وليه حرف التشبيه لأنه من التشبيه المركب. كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فإنهم المنتفعون به.
[سورة يونس (10): الآيات 25 الى 26]
وَ اللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ دار السلامة من التقضي و الآفة، أو دار اللّه و تخصيص هذا الاسم أيضا للتنبيه على ذلك، أو دار يسلم اللّه و الملائكة فيها على من يدخلها و المراد الجنة. وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ بالتوفيق. إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ هو طريقها و ذلك الإسلام و التدرع بلباس التقوى، و في تعميم الدعوة و تخصيص الهداية بالمشيئة دليل على أن الأمر غير الإرادة و أن المصر على الضلالة لم يرد اللّه رشده.
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى المثوبة الحسنى. وَ زِيادَةٌ و ما يزيد على المثوبة تفضلا لقوله: وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ* و قيل الحسنى مثل حسناتهم و الزيادة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف و أكثر، و قيل الزيادة مغفرة من اللّه و رضوان، و قيل الحسنى الجنة و الزيادة هي اللقاء. وَ لا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ لا يغشاها. قَتَرٌ غبرة فيها سواد. وَ لا ذِلَّةٌ هوان، و المعنى لا يرهقهم ما يرهق أهل النار أو لا يرهقهم ما يوجب ذلك من حزن و سوء حال. أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ دائمون لا زوال فيها و لا انقراض لنعيمها بخلاف الدنيا و زخارفها.
[سورة يونس (10): الآيات 27 الى 28]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 111
وَ الَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها عطف على قوله لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى على مذهب من يجوز: في الدار زيد و الحجرة عمرو، أو الَّذِينَ مبتدأ، و الخبر جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها على تقدير: و جزاء الذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها، أي أن تجازى سيئة بسيئة مثلها لا يزاد عليها، و فيه تنبيه على أن الزيادة هي الفضل أو التضعيف أو كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ ، أو أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ و ما بينهما اعتراض ف جَزاءُ سَيِّئَةٍ مبتدأ خبره محذوف أي فجزاء سيئة بمثلها واقع، أو بمثلها على زيادة الباء أو تقدير مقدر بمثلها. وَ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ و قرئ بالياء. ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ ما من أحد يعصمهم من سخط اللّه، أو من جهة اللّه و من عنده كما يكون للمؤمنين. كَأَنَّما أُغْشِيَتْ غطيت. وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً لفرط سوادها و ظلمتها و مظلما حال من الليل و العامل فيه أُغْشِيَتْ لأنه العامل في قِطَعاً و هو موصوف بالجار و المجرور، و العامل في الموصوف عامل في الصفة أو معنى الفعل في مِنَ اللَّيْلِ . و قرأ ابن كثير و الكسائي و يعقوب قِطَعاً بالسكون فعلى هذا يصح أن يكون مُظْلِماً صفة له أو حالا منه. أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ مما يحتج به الوعيدية. و الجواب أن الآية في الكفار لاشتمال السيئات على الكفر و الشرك و لأن الذين أحسنوا يتناول أصحاب الكبيرة من أهل القبلة فلا يتناولهم قسيمه.
وَ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يعني الفريقين جميعا. ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ الزموا مكانكم حتى تنظروا ما يفعل بكم. أَنْتُمْ تأكيد للضمير المنتقل إليه من عامله. وَ شُرَكاؤُكُمْ عطف عليه و قرئ بالنصب على المفعول معه. فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ ففرقنا بينهم و قطعنا الوصل التي كانت بينهم. وَ قالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ مجاز عن براءة ما عبدوه من عبادتهم فإنهم إنما عبدوا في الحقيقة أهواءهم لأنها الآمرة بالإشراك لا ما أشركوا به. و قيل ينطق اللّه الأصنام فتشافههم بذلك مكان الشفاعة التي يتوقعون منها. و قيل المراد بالشركاء الملائكة و المسيح و قيل الشياطين.
[سورة يونس (10): الآيات 29 الى 30]
فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ فإنه العالم بكنه الحال. إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ إِنْ هي المخففة من الثقيلة و اللام هي الفارقة. هُنالِكَ في ذلك المقام. تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ تختبر ما قدمت من عمل فتعاين نفعه و ضره. و قرأ حمزة و الكسائي «تتلو» من التلاوة أي تقرأ ذكر ما قدمت، أو من التلو أي تتبع عملها فيقودها إلى الجنة أو إلى النار. و قرئ «نبلو» بالنون و نصب كُلُ و إبدال ما منه و المعنى نختبرها أي نفعل بها فعل المختبر لحالها المتعرف لسعادتها و شقاوتها بتعرف ما أسلفت من أعمالها، و يجوز أن يراد به نصيب بالبلاء أي بالعذاب كل نفس عاصية بسبب ما أسلفت من الشر فتكون ما منصوبة بنزع الخافض. وَ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ إلى جزائه إياهم بما أسلفوا. مَوْلاهُمُ الْحَقِ ربهم و متولي أمرهم على الحقيقة لا ما اتخذوه مولى، و قرئ «الحقّ» بالنصب على المدح أو المصدر المؤكد. وَ ضَلَّ عَنْهُمْ و ضاع عنهم. ما كانُوا يَفْتَرُونَ من أن آلهتهم تشفع لهم، أو ما كانوا يدعون أنها آلهة.
[سورة يونس (10): الآيات 31 الى 32]
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ أي منهما جميعا فإن الأرزاق تحصل بأسباب سماوية و مواد أرضية أو مَنْ كل واحد منهما توسعة عليكم. و قيل من لبيان من على حذف المضاف أي من أهل السماء
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 112
و الأرض. أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ أم من يستطيع خلقهما و تسويتهما، أو من يحفظهما من الآفات مع كثرتها و سرعة انفعالها من أدنى شيء. وَ مَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ يُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ و من يحيي و يميت، أو من ينشئ الحيوان من النطفة و النطفة منه. وَ مَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ و من يلي تدبير أمر العالم و هو تعميم بعد تخصيص. فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ إذ لا يقدرون على المكابرة و العناد في ذلك لفرط وضوحه. فَقُلْ أَ فَلا تَتَّقُونَ أنفسكم عقابه بإشراككم إياه ما لا يشاركه في شيء من ذلك.
فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُ أي المتولي لهذه الأمور المستحق للعبادة هو ربكم الثابت ربوبيته لأنه الذي أنشأكم و أحياكم و رزقكم و دبر أموركم. فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ استفهام إنكار أي ليس بعد الحق إلا الضلال فمن تخطى الحق الذي هو عبادة اللّه تعالى وقع في الضلال. فَأَنَّى تُصْرَفُونَ عن الحق إلى الضلال.
[سورة يونس (10): الآيات 33 الى 34]
كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ أي كما حقت الربوبية للّه أو أن الحق بعده الضلال، أو أنهم مصروفون عن الحق كذلك حقت كلمة اللّه و حكمه. و قرأ نافع و ابن عامر «كلمات» هنا و في آخر السورة و في «غافر» عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا تمردوا في كفرهم و خرجوا عن حد الاستصلاح. أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ بدل من الكلمة، أو تعليل لحقيتها و المراد بها العدة بالعذاب.
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ جعل الإعادة كالابداء في الإلزام بها لظهور برهانها و إن لم يساعدوا عليها، و لذلك أمر الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم أن ينوب عنهم في الجواب فقال قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لأن لجاجهم لا يدعهم أن يعترفوا بها. فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ تصرفون عن قصد السبيل.
[سورة يونس (10): الآيات 35 الى 36]
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِ بنصب الحجج و إرسال الرسل عليهم الصلاة و السلام و التوفيق للنظر و التدبر، و هدى كما يعدى بإلى لتضمنه معنى الانتهاء يعدى باللام للدلالة على أن المنتهى غاية الهداية و أنها لم تتوجه نحوه على سبيل الاتفاق و لذلك عدى بها ما أسند إلى اللّه تعالى. قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى أم الذي لا يهتدي إلا أن يهدى من قولهم: