کتابخانه تفاسیر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 109
بَيْنَهُمْ عاجلا. فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ بإهلاك المبطل و إبقاء المحق.
وَ يَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ أي من الآيات التي اقترحوها. فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ هو المختص بعلمه فلعله يعلم في إنزال الآيات المقترحة من مفاسد تصرف عن إنزالها. فَانْتَظِرُوا لنزول ما اقترحتموه. إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ لما يفعل اللّه بكم بجحودكم ما نزل علي من الآيات العظام و اقتراحكم غيره.
[سورة يونس (10): آية 21]
وَ إِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً صحة وسعة. مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ كقحط و مرض. إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا بالطعن فيها و الاحتيال في دفعها. قيل قحط أهل مكة سبع سنين حتى كادوا يهلكون ثم رحمهم اللّه بالحيا فطفقوا يقدحون في آيات اللّه و يكيدون رسوله. قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً منكم قد دبر عقابكم قبل أن تدبروا كيدكم، و إنما دل على سرعتهم المفضل عليها كلمة المفاجأة الواقعة جوابا لإذا الشرطية و المكر إخفاء الكيد، و هو من اللّه تعالى إما الاستدراج أو الجزاء على المكر. إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ تحقيق للانتقام و تنبيه على أن ما دبروا في إخفائه لم يخف على الحفظة فضلا أن يخفى على اللّه تعالى، و عن يعقوب يمكرون بالياء ليوافق ما قبله.
[سورة يونس (10): الآيات 22 الى 23]
هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ يحملكم على السير و يمكنكم منه. و قرأ ابن عامر «ينشركم» بالنون و الشين من النشر. فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ في السفن، وَ جَرَيْنَ بِهِمْ بمن فيها، عدل عن الخطاب إلى الغيبة للمبالغة كأنه تذكرة لغيرهم ليتعجب من حالهم و ينكر عليهم. بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ لينة الهبوب. وَ فَرِحُوا بِها بتلك الريح. جاءَتْها جواب إذا و الضمير للفلك أو للريح الطيبة، بمعنى تلقتها. رِيحٌ عاصِفٌ ذات عصف شديدة الهبوب. وَ جاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ يجيء الموج منه. وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ أهلكوا و سدت عليهم مسالك الخلاص كمن أحاط به العدو. دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ من غير إشراك لتراجع الفطرة و زوال المعارض من شدة الخوف، و هو بدل من ظَنُّوا بدل اشتمال لأن دعاءهم من لوازم ظنهم.
لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ على إرادة القول أو مفعول دَعَوُا لأنه من جملة القول.
فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إجابة لدعائهم. إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ فاجؤوا الفساد فيها و سارعوا إلى ما كانوا عليه. بِغَيْرِ الْحَقِ مبطلين فيه و هو احتراز عن تخريب المسلمين ديار الكفرة و إحراق زروعهم و قلع أشجارهم فإنها إفساد بحق. يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ فإن وباله عليكم أو أنه على أمثالكم أبناء جنسكم. مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا منفعة الحياة الدنيا لا تبقى و يبقى عقابها، و رفعه على أنه خبر بَغْيُكُمْ و عَلى أَنْفُسِكُمْ صلته، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره ذلك متاع الحياة الدنيا و عَلى أَنْفُسِكُمْ خبر بَغْيُكُمْ ، و نصبه حفص على أنه مصدر مؤكد أي تتمتعون متاع الحياة الدنيا أو مفعول البغي لأنه بمعنى الطلب فيكون الجار من صلته و الخبر محذوف تقديره بغيكم متاع الحياة الدنيا محذور أو ضلال، أو مفعول
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 110
فعل دل عليه البغي و على أنفسكم خبره. ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ في القيامة. فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بأجزاء عليه.
[سورة يونس (10): آية 24]
إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا حالها العجيبة في سرعة تقضيها و ذهاب نعيمها بعد إقبالها و اغترار الناس بها.
كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فاشتبك بسببه حتى خالط بعضه بعضا. مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَ الْأَنْعامُ من الزروع و البقول و الحشيش. حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها حسنها و بهجتها. وَ ازَّيَّنَتْ تزينت بأصناف النبات و أشكالها و ألوانها المختلفة كعروس أخذت من ألوان الثياب و الزين فتزينت بها، وَ ازَّيَّنَتْ أصله تزينت فأدغم و قد قرئ على الأصل «و ازينت» على أفعلت من غير إعلال كأغيلت، و المعنى صارت ذات زينة «و ازيانت» كابياضت. وَ ظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها متمكنون من حصدها و رفع غلتها.
أَتاها أَمْرُنا ضرب زرعها ما يجتاحه. لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها فجعلنا زرعها. حَصِيداً شبيها بما حصد من أصله. كَأَنْ لَمْ تَغْنَ كأن لم يغن زرعها أي لم يلبث، و المضاف محذوف في الموضعين للمبالغة و قرئ بالياء على الأصل. بِالْأَمْسِ فيما قبيله و هو مثل في الوقت القريب و الممثل به مضمون الحكاية و هو زوال خضرة النبات فجأة و ذهابه حطاما بعد ما كان غضا و التف، و زين الأرض حتى طمع فيه أهله و ظنوا أنه قد سلم من الجوائح لا الماء و إن وليه حرف التشبيه لأنه من التشبيه المركب. كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فإنهم المنتفعون به.
[سورة يونس (10): الآيات 25 الى 26]
وَ اللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ دار السلامة من التقضي و الآفة، أو دار اللّه و تخصيص هذا الاسم أيضا للتنبيه على ذلك، أو دار يسلم اللّه و الملائكة فيها على من يدخلها و المراد الجنة. وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ بالتوفيق. إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ هو طريقها و ذلك الإسلام و التدرع بلباس التقوى، و في تعميم الدعوة و تخصيص الهداية بالمشيئة دليل على أن الأمر غير الإرادة و أن المصر على الضلالة لم يرد اللّه رشده.
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى المثوبة الحسنى. وَ زِيادَةٌ و ما يزيد على المثوبة تفضلا لقوله: وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ* و قيل الحسنى مثل حسناتهم و الزيادة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف و أكثر، و قيل الزيادة مغفرة من اللّه و رضوان، و قيل الحسنى الجنة و الزيادة هي اللقاء. وَ لا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ لا يغشاها. قَتَرٌ غبرة فيها سواد. وَ لا ذِلَّةٌ هوان، و المعنى لا يرهقهم ما يرهق أهل النار أو لا يرهقهم ما يوجب ذلك من حزن و سوء حال. أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ دائمون لا زوال فيها و لا انقراض لنعيمها بخلاف الدنيا و زخارفها.
[سورة يونس (10): الآيات 27 الى 28]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 111
وَ الَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها عطف على قوله لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى على مذهب من يجوز: في الدار زيد و الحجرة عمرو، أو الَّذِينَ مبتدأ، و الخبر جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها على تقدير: و جزاء الذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها، أي أن تجازى سيئة بسيئة مثلها لا يزاد عليها، و فيه تنبيه على أن الزيادة هي الفضل أو التضعيف أو كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ ، أو أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ و ما بينهما اعتراض ف جَزاءُ سَيِّئَةٍ مبتدأ خبره محذوف أي فجزاء سيئة بمثلها واقع، أو بمثلها على زيادة الباء أو تقدير مقدر بمثلها. وَ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ و قرئ بالياء. ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ ما من أحد يعصمهم من سخط اللّه، أو من جهة اللّه و من عنده كما يكون للمؤمنين. كَأَنَّما أُغْشِيَتْ غطيت. وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً لفرط سوادها و ظلمتها و مظلما حال من الليل و العامل فيه أُغْشِيَتْ لأنه العامل في قِطَعاً و هو موصوف بالجار و المجرور، و العامل في الموصوف عامل في الصفة أو معنى الفعل في مِنَ اللَّيْلِ . و قرأ ابن كثير و الكسائي و يعقوب قِطَعاً بالسكون فعلى هذا يصح أن يكون مُظْلِماً صفة له أو حالا منه. أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ مما يحتج به الوعيدية. و الجواب أن الآية في الكفار لاشتمال السيئات على الكفر و الشرك و لأن الذين أحسنوا يتناول أصحاب الكبيرة من أهل القبلة فلا يتناولهم قسيمه.
وَ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يعني الفريقين جميعا. ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ الزموا مكانكم حتى تنظروا ما يفعل بكم. أَنْتُمْ تأكيد للضمير المنتقل إليه من عامله. وَ شُرَكاؤُكُمْ عطف عليه و قرئ بالنصب على المفعول معه. فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ ففرقنا بينهم و قطعنا الوصل التي كانت بينهم. وَ قالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ مجاز عن براءة ما عبدوه من عبادتهم فإنهم إنما عبدوا في الحقيقة أهواءهم لأنها الآمرة بالإشراك لا ما أشركوا به. و قيل ينطق اللّه الأصنام فتشافههم بذلك مكان الشفاعة التي يتوقعون منها. و قيل المراد بالشركاء الملائكة و المسيح و قيل الشياطين.
[سورة يونس (10): الآيات 29 الى 30]
فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ فإنه العالم بكنه الحال. إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ إِنْ هي المخففة من الثقيلة و اللام هي الفارقة. هُنالِكَ في ذلك المقام. تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ تختبر ما قدمت من عمل فتعاين نفعه و ضره. و قرأ حمزة و الكسائي «تتلو» من التلاوة أي تقرأ ذكر ما قدمت، أو من التلو أي تتبع عملها فيقودها إلى الجنة أو إلى النار. و قرئ «نبلو» بالنون و نصب كُلُ و إبدال ما منه و المعنى نختبرها أي نفعل بها فعل المختبر لحالها المتعرف لسعادتها و شقاوتها بتعرف ما أسلفت من أعمالها، و يجوز أن يراد به نصيب بالبلاء أي بالعذاب كل نفس عاصية بسبب ما أسلفت من الشر فتكون ما منصوبة بنزع الخافض. وَ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ إلى جزائه إياهم بما أسلفوا. مَوْلاهُمُ الْحَقِ ربهم و متولي أمرهم على الحقيقة لا ما اتخذوه مولى، و قرئ «الحقّ» بالنصب على المدح أو المصدر المؤكد. وَ ضَلَّ عَنْهُمْ و ضاع عنهم. ما كانُوا يَفْتَرُونَ من أن آلهتهم تشفع لهم، أو ما كانوا يدعون أنها آلهة.
[سورة يونس (10): الآيات 31 الى 32]
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ أي منهما جميعا فإن الأرزاق تحصل بأسباب سماوية و مواد أرضية أو مَنْ كل واحد منهما توسعة عليكم. و قيل من لبيان من على حذف المضاف أي من أهل السماء
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 112
و الأرض. أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ أم من يستطيع خلقهما و تسويتهما، أو من يحفظهما من الآفات مع كثرتها و سرعة انفعالها من أدنى شيء. وَ مَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ يُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ و من يحيي و يميت، أو من ينشئ الحيوان من النطفة و النطفة منه. وَ مَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ و من يلي تدبير أمر العالم و هو تعميم بعد تخصيص. فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ إذ لا يقدرون على المكابرة و العناد في ذلك لفرط وضوحه. فَقُلْ أَ فَلا تَتَّقُونَ أنفسكم عقابه بإشراككم إياه ما لا يشاركه في شيء من ذلك.
فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُ أي المتولي لهذه الأمور المستحق للعبادة هو ربكم الثابت ربوبيته لأنه الذي أنشأكم و أحياكم و رزقكم و دبر أموركم. فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ استفهام إنكار أي ليس بعد الحق إلا الضلال فمن تخطى الحق الذي هو عبادة اللّه تعالى وقع في الضلال. فَأَنَّى تُصْرَفُونَ عن الحق إلى الضلال.
[سورة يونس (10): الآيات 33 الى 34]
كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ أي كما حقت الربوبية للّه أو أن الحق بعده الضلال، أو أنهم مصروفون عن الحق كذلك حقت كلمة اللّه و حكمه. و قرأ نافع و ابن عامر «كلمات» هنا و في آخر السورة و في «غافر» عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا تمردوا في كفرهم و خرجوا عن حد الاستصلاح. أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ بدل من الكلمة، أو تعليل لحقيتها و المراد بها العدة بالعذاب.
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ جعل الإعادة كالابداء في الإلزام بها لظهور برهانها و إن لم يساعدوا عليها، و لذلك أمر الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم أن ينوب عنهم في الجواب فقال قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لأن لجاجهم لا يدعهم أن يعترفوا بها. فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ تصرفون عن قصد السبيل.
[سورة يونس (10): الآيات 35 الى 36]
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِ بنصب الحجج و إرسال الرسل عليهم الصلاة و السلام و التوفيق للنظر و التدبر، و هدى كما يعدى بإلى لتضمنه معنى الانتهاء يعدى باللام للدلالة على أن المنتهى غاية الهداية و أنها لم تتوجه نحوه على سبيل الاتفاق و لذلك عدى بها ما أسند إلى اللّه تعالى. قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى أم الذي لا يهتدي إلا أن يهدى من قولهم:
هدي بنفسه إذا اهتدى، أو لا يهدي غيره إلا أن يهديه اللّه و هذا حال أشراف شركائهم كالملائكة و المسيح و عزير، و قرأ ابن كثير و ورش عن نافع و ابن عامر يهدي بفتح الهاء و تشديد الدال. و يعقوب و حفص بالكسر و التشديد و الأصل يهتدي فأدغم و فتحت الهاء بحركة التاء أو كسرت لالتقاء الساكنين. و روى أبو بكر يهدي باتباع الياء الهاء. و قرأ أبو عمرو بالإدغام المجرد و لم يبال بالتقاء الساكنين لأن المدغم في حكم المتحرك. و عن نافع برواية قالون مثله و قرئ «إلا أن يهدي» للمبالغة فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ بما يقتضي صريح العقل بطلانه. وَ ما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ فيما يعتقدونه. إِلَّا ظَنًّا مستندا إلى خيالات فارغة و أقيسة فاسدة كقياس الغائب على الشاهد و الخالق على المخلوق بأدنى مشاركة موهومة، و المراد بالأكثر الجميع أو من ينتمي منهم إلى تمييز و نظر و لا يرضى بالتقليد الصرف. إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِ من العلم و الاعتقاد
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 113
الحق. شَيْئاً من الإغناء و يجوز أن يكون مفعولا به و مِنَ الْحَقِ حالا منه، و فيه دليل على أن تحصيل العلم في الأصول واجب و الاكتفاء بالتقليد و الظن غير جائز. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ وعيد على اتباعهم للظن و إعراضهم عن البرهان.
[سورة يونس (10): الآيات 37 الى 38]
وَ ما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ افتراء من الخلق. وَ لكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ مطابقا لما تقدمه من الكتب الإلهية المشهود على صدقها و لا يكون كذبا كيف و هو لكونه معجزا دونها عيّار عليها شاهد على صحتها، و نصبه بأنه خبر لكان مقدرا أو علة لفعل محذوف تقديره: و لكن أنزله اللّه تصديق الذي.
و قرئ بالرفع على تقدير و لكن هو تصديق. وَ تَفْصِيلَ الْكِتابِ و تفصيل ما حقق و أثبت من العقائد و الشرائع. لا رَيْبَ فِيهِ منتفيا عنه الريب و هو خبر ثالث داخل في حكم الاستدراك، و يجوز أن يكون حالا من الكتاب فإنه مفعول في المعنى و أن يكون استئنافا. مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ خبر آخر تقديره كائنا من رب العالمين أو متعلق بتصديق أو تفصيل، و لا رَيْبَ فِيهِ اعتراض أو بالفعل المعلل بهما و يجوز أن يكون حالا من الكتاب أو من الضمير في فِيهِ ، و مساق الآية بعد المنع عن اتباع الظن لبيان ما يجب اتباعه و البرهان عليه.
أَمْ يَقُولُونَ بل أ يقولون. افْتَراهُ محمد صلّى اللّه عليه و سلّم و معنى الهمزة فيه للإنكار. قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ في البلاغة و حسن النظم و قوة المعنى على وجه الافتراء فإنكم مثلي في العربية و الفصاحة و أشد تمرنا في النظم و العبارة. وَ ادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ و مع ذلك فاستعينوا بمن أمكنكم أن تستعينوا به. مِنْ دُونِ اللَّهِ سوى اللّه تعالى فإنه وحده قادر على ذلك. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أنه اختلقه.
[سورة يونس (10): آية 39]
بَلْ كَذَّبُوا بل سارعوا إلى التكذيب. بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ بالقرآن أول ما سمعوه قبل أن يتدبروا آياته و يحيطوا بالعلم بشأنه، أو بما جهلوه و لم يحيطوا به علما من ذكر البعث و الجزاء و سائر ما يخالف دينهم. وَ لَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ و لم يقفوا بعد على تأويله و لم تبلغ أذهانهم معانيه، أو و لم يأتهم بعد تأويل ما فيه من الإخبار بالغيوب حتى يتبين لهم أنه صدق أم كذب، و المعنى أن القرآن معجز من جهة اللفظ و المعنى ثم إنهم فاجؤوا تكذيبه قبل أن يتدبروا نظمه و يتفحصوا معناه و معنى التوقع في لما أنه قد ظهر لهم بالآخرة إعجازه لما كرر عليهم التحدي فزادوا قواهم في معارضته فتضاءلت دونها، أو لما شاهدوا وقوع ما أخبر به طبقا لإخباره مرارا فلم يقلعوا عن التكذيب تمردا و عنادا. كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أنبياءهم. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ فيه وعيد لهم بمثل ما عوقب به من قبلهم.
[سورة يونس (10): الآيات 40 الى 41]
وَ مِنْهُمْ و من المكذبين. مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ من يصدق به في نفسه و يعلم أنه حق و لكن يعاند، أو من
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 114
سيؤمن به و يتوب عن الكفر. وَ مِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ في نفسه لفرط غباوته و قلة تدبره، أو فيما يستقبل بل يموت على الكفر، وَ رَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ بالمعاندين أو المصرين.
وَ إِنْ كَذَّبُوكَ و إن أصروا على تكذيبك بعد إلزام الحجة. فَقُلْ لِي عَمَلِي وَ لَكُمْ عَمَلُكُمْ فتبرأ منهم فقد أعذرت، و المعنى لي جزاء عملي و لكم جزاء عملكم حقا كان أو باطلا. أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَ أَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ لا تؤاخذون بعملي و لا أؤاخذ بعملكم، و لما فيه من إيهام الإعراض عنهم و تخلية سبيلهم قيل إنه منسوخ بآية السيف.
[سورة يونس (10): الآيات 42 الى 43]
وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ إذا قرأت القرآن و علمت الشرائع و لكن لا يقبلون كالأصم الذي لا يسمع أصلا. أَ فَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَ تقدر على إسماعهم. وَ لَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ و لو انضم إلى صممهم عدم تعقلهم. و فيه تنبيه على أن حقيقة استماع الكلام فهم المعنى المقصود منه و لذلك لا توصف به البهائم، و هو لا يتأتى إلا باستعمال العقل السليم في تدبره و عقولهم لما كانت مؤفة بمعارضة الوهم و مشايعة الإلف و التقليد، تعذر إفهامهم الحكم و المعاني الدقيقة فلم ينتفعوا بسرد الألفاظ عليهم غير ما ينتفع به البهائم من كلام الناعق.
وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ يعاينون دلائل نبوتك و لكن لا يصدقونك. أَ فَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ تقدر على هدايتهم. وَ لَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ و إن انضم إلى عدم البصر عدم البصيرة فإن المقصود من الإبصار هو الاعتبار و الاستبصار و العمدة في ذلك البصيرة، و لذلك يحدس الأعمى المستبصر و يتفطن لما لا يدركه البصير الأحمق. و الآية كالتعليل للأمر بالتبري و الإعراض عنهم.
[سورة يونس (10): الآيات 44 الى 45]
إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً بسلب حواسهم و عقولهم. وَ لكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بإفسادها و تفويت منافعها عليهم، و فيه دليل على أن للعبد كسبا و أنه ليس بمسلوب الاختيار بالكلية كما زعمت المجبرة، و يجوز أن يكون وعيدا لهم بمعنى أن ما يحيق بهم يوم القيامة من العذاب عدل من اللّه لا يظلمهم به و لكنهم ظلموا أنفسهم باقتراف أسبابه. و قرأ أبو عمرو و الكسائي بالتخفيف و رفع الناس.
وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا أو في القبور لهول ما يرون، و الجملة التشبيهية في موضع الحال أي يحشرهم مشبهين بمن لم يلبث إلا ساعة، أو صفة ليوم و العائد محذوف تقديره: كأن لم يلبثوا قبله أو لمصدر محذوف، أي: حشرا كأن لم يلبثوا قبله. يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ يعرف بعضهم بعضا كأنهم لم يتفارقوا إلا قليلا، و هذا أول ما نشروا ثم ينقطع التعارف لشدة الأمر عليهم و هي حال أخرى مقدرة، أو بيان لقوله: كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا أو متعلق الظرف و التقدير يتعارفون يوم يحشرهم.
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ استئناف للشهادة على خسرانهم و التعجب منه، و يجوز أن يكون حالا من الضمير في يتعارفون على إرادة القول. وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ لطرق استعمال ما منحوا من المعاون في تحصيل المعارف فاستكسبوا بها جهالات أدت بهم إلى الردى و العذاب الدائم.
[سورة يونس (10): الآيات 46 الى 47]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 115
وَ إِمَّا نُرِيَنَّكَ نبصرنك. بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ من العذاب في حياتك كما أراه يوم بدر. أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبل أن نريك. فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فنريكه في الآخرة و هو جواب نَتَوَفَّيَنَّكَ و جواب نُرِيَنَّكَ محذوف مثل فذاك. ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ مجاز عليه ذكر الشهادة و أراد نتيجتها و مقتضاها و لذلك رتبها على الرجوع ب ثُمَ ، أو مؤد شهادته على أفعالهم يوم القيامة.
وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ من الأمم الماضية. رَسُولٌ يبعث إليهم ليدعوهم إلى الحق. فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ بالبينات فكذبوه. قُضِيَ بَيْنَهُمْ بين الرسول و مكذبيه. بِالْقِسْطِ بالعدل فأنجي الرسول و أهلك المكذبون.
وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ و قيل معناه لكل أمة يوم القيامة رسول تنسب إليه فإذا جاء رسولهم الموقف ليشهد عليهم بالكفر و الإيمان قضى بينهم بإنجاء المؤمنين و عقاب الكفار لقوله: وَ جِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَ الشُّهَداءِ وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ .
[سورة يونس (10): الآيات 48 الى 49]
وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ استبعادا له و استهزاء به. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ خطاب منهم للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم و المؤمنين.
قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَ لا نَفْعاً فكيف أملك لكم فأستعجل في جلب العذاب إليكم. إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ أن أملكه أو و لكن ما شاء اللّه من ذلك كائن. لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ مضروب لهلاكهم. إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ لا يتأخرون و لا يتقدمون فلا تستعجلون فسيحين وقتكم و ينجز وعدكم.
[سورة يونس (10): الآيات 50 الى 51]
قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ الذي تستعجلون به. بَياتاً وقت بيات و اشتغال بالنوم. أَوْ نَهاراً حين كنتم مشتغلين بطلب معاشكم. ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ أي شيء من العذاب يستعجلونه، و كله مكروه لا يلائم الاستعجال و هو متعلق ب أَ رَأَيْتُمْ لأنه بمعنى أخبروني، و المجرمون وضع موضع الضمير للدلالة على أنهم لجرمهم ينبغي أن يفزعوا من مجيء العذاب لا أن يستعجلوه، و جواب الشرط محذوف و هو تندموا على الاستعجال، أو تعرفوا خطأه، و يجوز أن يكون الجواب ماذا كقولك إن أتيتك ماذا تعطيني و تكون الجملة متعلقة ب أَ رَأَيْتُمْ أو بقوله:
أَ ثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ بمعنى إن أتاكم عذابه آمنتم به بعد وقوعه حين لا ينفعكم الإيمان، و ماذا يستعجل اعتراض و دخول حرف الاستفهام على «ثم» لإنكار التأخير. آلْآنَ على إرادة القول أي قيل لهم إذا آمنوا بعد وقوع العذاب آلآن آمنتم به. و عن نافع آلْآنَ بحذف الهمزة و الفاء حركتها على اللام. وَ قَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ تكذيبا و استهزاء.
[سورة يونس (10): الآيات 52 الى 53]