کتابخانه تفاسیر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 145
ناصح مبلغ و قد أعذرت حين أنذرت، أو لست بحافظ عليكم نعم اللّه لو لم تتركوا سوء صنيعكم.
[سورة هود (11): آية 87]
قالُوا يا شُعَيْبُ أَ صَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا من الأصنام، أجابوا به آمرهم بالتوحيد على الاستهزاء به و التهكم بصلواته و الإشعار بأن مثله لا يدعو إليه داع عقلي، و إنما دعاك إليه خطرات و وساوس من جنس ما تواظب عليه. و كان شعيب كثير الصلاة فلذلك جمعوا و خصوا الصلاة بالذكر. و قرأ حمزة و الكسائي و حفص على الإفراد و المعنى: أ صلواتك تأمرك بتكليف أن نترك، فحذف المضاف لأن الرجل لا يؤمر بفعل غيره. أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا عطف على ما أي و أن نترك فعلنا ما نشاء في أموالنا.
و قرئ بالتاء فيهما على أن العطف على أَنْ نَتْرُكَ و هو جواب النهي عن التطفيف و الأمر بالإيفاء. و قيل كان ينهاهم عن تقطيع الدراهم و الدنانير فأرادوا به ذلك. إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ تهكموا به و قصدوا وصفه بضد ذلك، أو عللوا إنكار ما سمعوا منه و استبعاده بأنه موسوم بالحلم و الرشد المانعين عن المبادرة إلى أمثال ذلك.
[سورة هود (11): آية 88]
قالَ يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي إشارة إلى ما آتاه اللّه من العلم و النبوة. وَ رَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً إشارة إلى ما آتاه اللّه من المال الحلال، و جواب الشرط محذوف تقديره فهل يسع مع هذا الإنعام الجامع للسعادات الروحانية و الجسمانية أن أخون في وحيه، و أخالفه في أمره و نهيه. و هو اعتذار عما أنكروا عليه من تغيير المألوف و النهي عن دين الآباء، و الضمير في مِنْهُ للّه أي من عنده و بإعانته بلا كد مني في تحصيله. وَ ما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ أي و ما أريد أن آتي ما أنهاكم عنه لأستبد به دونكم، فلو كان صوابا لآثرته و لم أعرض عنه فضلا عن أن أنهي عنه، يقال خالفت زيدا إلى كذا إذا قصدته و هو مول عنه، و خالفته عنه إذا كان الأمر بالعكس، إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ما أريد إلا أن أصلحكم بأمري بالمعروف و نهيي عن المنكر ما دمت أستطيع الإصلاح، فلو وجدت الصلاح فيما أنتم عليه لما نهيتكم عنه، و لهذه الأجوبة الثلاثة على هذا النسق شأن: و هو التنبيه على أن العاقل يجب أن يراعي في كل ما يأتيه و يذره أحد حقوق ثلاثة أهمها و أعلاها حق اللّه تعالى، و ثانيها حق النفس، و ثالثها حق الناس. و كل ذلك يقتضي أن آمركم بما أمرتكم به و أنهاكم عما نهيتكم عنه. و ما مصدرية واقعة موقع الظرف و قيل خبرية بدل من الْإِصْلاحَ أي المقدار الذي استطعته، أو إصلاح ما استطعته فحذف المضاف. وَ ما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ و ما توفيقي لإصابة الحق و الصواب إلا بهدايته و معونته. عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ فإنه القادر المتمكن من كل شيء و ما عداه عاجز في حد ذاته، بل معدوم ساقط عن درجة الاعتبار، و فيه إشارة إلى محض التوحيد الذي هو أقصى مراتب العلم بالمبدأ. وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ إشارة إلى معرفة المعاد، و هو أيضا يفيد الحصر بتقديم الصلة على الفعل. و في هذه الكلمات طلب التوفيق لإصابة الحق فيما يأتيه و يذره من اللّه تعالى، و الاستعانة به في مجامع أمره و الإقبال عليه بشراشره، و حسم أطماع الكفار و إظهار الفراغ عنهم و عدم المبالاة بمعاداتهم و تهديدهم بالرجوع إلى اللّه للجزاء.
[سورة هود (11): الآيات 89 الى 90]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 146
وَ يا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ لا يكسبنكم. شِقاقِي معاداتي. أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ من الغرق. أَوْ قَوْمَ هُودٍ من الريح. أَوْ قَوْمَ صالِحٍ من الرجفة و أَنْ بصلتها ثاني مفعولي جرم، فإنه يعدى إلى واحد و إلى اثنين ككسب. و عن ابن كثير يَجْرِمَنَّكُمْ بالضم و هو منقول من المتعدي إلى مفعول واحد، و الأول أفصح فإن أجرم أقل دورانا على ألسنة الفصحاء. و قرئ مثل بالفتح لإضافته إلى المبنى كقوله:
لم يمنع الشّرب منها غير أن نطقت
حمامة في غصون ذات أرقال
وَ ما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ زمانا أو مكانا فإن لم تعتبروا بمن قبلهم فاعتبروا بهم، أو ليسوا ببعيد منكم في الكفر و المساوي فلا يبعد عنكم ما أصابهم، و إفراد البعيد لأن المراد و ما إهلاكهم أو و ما هم بشيء بعيد، و لا يبعد أن يسوى في أمثاله بين المذكر و المؤنث لأنها على زنة المصادر كالصهيل و الشهيق.
وَ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ عما أنتم عليه. إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ عظيم الرحمة للتائبين. وَدُودٌ فاعل بهم من اللطف و الإحسان ما يفعل البليغ المودة بمن يوده، و هو وعد على التوبة بعد الوعيد على الإصرار.
[سورة هود (11): آية 91]
قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ ما نفهم. كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ كوجوب التوحيد و حرمة البخس و ما ذكرت دليلا عليهما، و ذلك لقصور عقولهم و عدم تفكرهم. و قيل قالوا ذلك استهانة بكلامه، أو لأنهم لم يلقوا إليه أذهانهم لشدة نفرتهم عنه. وَ إِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً لا قوة لك فتمتنع منا إن أردنا بك سوءا، أو مهينا لا عزّ لك، و قيل أعمى بلغة حمير و هو مع عدم مناسبته يرده التقييد بالظرف، و منع بعض المعتزلة استنباء الأعمى قياسا على القضاء و الشهادة و الفرق بين. وَ لَوْ لا رَهْطُكَ قومك و عزتهم عندنا لكونهم على ملتنا لا لخوف من شوكتهم، فإن الرهط من الثلاثة إلى العشرة و قيل إلى التسعة. لَرَجَمْناكَ لقتلناك برمي الأحجار أو بأصعب وجه. وَ ما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ فتمنعنا عزتك عن الرجم، و هذا ديدن السفيه المحجوج يقابل الحجج و الآيات بالسب، و التهديد و في إيلاء ضميره حرف النفي تنبيه على أن الكلام فيه لا في ثبوت العزة، و أن المانع لهم عن إيذائه عزة قومه و لذلك.
[سورة هود (11): الآيات 92 الى 93]
قالَ يا قَوْمِ أَ رَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَ اتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا و جعلتموه كالمنسي المنبوذ وراء الظهر بإشراككم به و الإهانة برسوله فلا تبقون علي للّه و تبقون علي لرهطي، و هو يحتمل الإنكار و التوبيخ و الرد و التكذيب، و ظِهْرِيًّا منسوب إلى الظهر و الكسر من تغييرات النسب. إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ فلا يخفى عليه شيء منها فيجازي عليها.
وَ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ سبق مثله في سورة «الأنعام» و الفاء في ف سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثمة للتصريح بأن الإصرار و التمكن فيما هم عليه سبب لذلك، و حذفها ها هنا لأنه جواب سائل قال: فماذا يكون بعد ذلك؟ فهو أبلغ في التهويل. وَ مَنْ هُوَ كاذِبٌ عطف على من يأتيه لا لأنه قسيم له كقولك: ستعلم الكاذب و الصادق، بل لأنهم لما أو عدوه و كذبوه قال: سوف تعلمون من المعذب و الكاذب مني و منكم. و قيل كان قياسه و من هو صادق لينصرف الأول إليهم و الثاني إليه لكنهم
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 147
لما كانوا يدعونه كاذبا قال: و من هو كاذب على زعمهم. وَ ارْتَقِبُوا و انتظروا ما أقول لكم. إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ منتظر فعيل بمعنى الراقب كالصريم، أو المراقب كالعشير أو المرتقب كالرفيع.
[سورة هود (11): الآيات 94 الى 95]
وَ لَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا إنما ذكره بالواو كما في قصة عاد إذ لم يسبقه ذكر وعد يجري مجرى السبب له بخلاف قصتي صالح و لوط فإنه ذكر بعد الوعد و ذلك قوله: وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ و قوله: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ فلذلك جاء بفاء السببية. وَ أَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ قيل صاح بهم جبريل عليه السلام فهلكوا. فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ ميتين، و أصل الجثوم اللزوم في المكان.
كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها كأن لم يقيموا فيها. أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ شبههم بهم لأن عذابهم كان أيضا بالصيحة، غير أن صيحتهم كانت من تحتهم و صيحة مدين كانت من فوقهم. و قرئ «بعدت» بالضم على الأصل فإن الكسر تغيير لتخصيص معنى البعد بما يكون بسبب الهلاك، و البعد مصدر لهما و البعد مصدر المكسور.
[سورة هود (11): الآيات 96 الى 97]
وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا بالتوراة أو المعجزات. وَ سُلْطانٍ مُبِينٍ و هو المعجزات القاهرة أو العصا، و إفرادها بالذكر لأنها أبهرها، و يجوز أن يراد بهما واحد أي: و لقد أرسلناه بالجامع بين كونه آياتنا و سلطانا له على نبوته واضحا في نفسه أو موضحا إياها، فإن أبان جاء لازما و متعديا، و الفرق بينهما أن الآية تعم الإمارة، و الدليل القاطع و السلطان يخص بالقاطع و المبين يخص بما فيه جلاء.
إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ فاتبعوا أمره بالكفر بموسى أو فما تبعوا موسى الهادي إلى الحق المؤيد بالمعجزات القاهرة الباهرة، و اتبعوا طريقة فرعون المنهمك في الضلال و الطغيان الداعي إلى ما لا يخفى فساده على من له أدنى مسكة من العقل لفرط جهالتهم و عدم استبصارهم. وَ ما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ مرشد أو ذي رشد، و إنما هو غي محض و ضلال صريح.
[سورة هود (11): الآيات 98 الى 99]
يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ إلى النار كما كان يقدمهم في الدنيا إلى الضلال يقال قدم بمعنى تقدم.
فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ ذكره بلفظ الماضي مبالغة في تحقيقه و نزل النار لهم منزلة الماء فسمى إتيانها موردا ثم قال:
وَ بِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ أي بئس المورد الذي و ردوه فإنه يراد لتبريد الأكباد و تسكين العطش و النار بالضد، و الآية كالدليل على قوله: وَ ما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ فإن من كان هذه عاقبته لم يكن في أمره رشد، أو تفسير له على أن المراد بالرشيد ما يكون مأمون العاقبة حميدها.
وَ أُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدنيا لَعْنَةً وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي يلعنون في الدنيا و الآخرة. بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ بئس العون المعان أو العطاء المعطى، و أصل الرفد ما يضاف إلى غيره ليعمده، و المخصوص بالذم محذوف أي رفدهم و هو اللعنة في الدارين.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 148
[سورة هود (11): الآيات 100 الى 101]
ذلِكَ أي ذلك النبأ. مِنْ أَنْباءِ الْقُرى المهلكة. نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مقصوص عليك. مِنْها قائِمٌ من تلك القرى باق كالزرع القائم. وَ حَصِيدٌ و منها عافي الأثر كالزرع المحصود، و الجملة مستأنفة و قيل حال من الهاء في نقصه و ليس بصحيح إذ لا واو و لا ضمير.
وَ ما ظَلَمْناهُمْ بإهلاكنا إياهم. وَ لكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بأن عرضوها له بارتكاب ما يوجبه. فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ فما نفعتهم و لا قدرت أن تدفع عنهم بل ضرتهم. آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ حين جاءهم عذابه و نقمته. وَ ما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ هلاك أو تخسير.
[سورة هود (11): الآيات 102 الى 103]
وَ كَذلِكَ و مثل ذلك الأخذ. أَخْذُ رَبِّكَ و قرئ «أخذ ربك» بالفعل و على هذا يكون محل الكاف النصب على المصدر. إِذا أَخَذَ الْقُرى أي أهلكها و قرئ «إذ» لأن المعنى على المضي. وَ هِيَ ظالِمَةٌ حال من الْقُرى و هي في الحقيقة لأهلها لكنها لما أقيمت مقامه أجريت عليها، و فائدتها الإشعار بأنهم أخذوا بظلمهم و إنذار كل ظالم ظلم نفسه، أو غيره من وخامة العاقبة. إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ وجيع غير مرجو الخلاص منه، و هو مبالغة في التهديد و التحذير.
إِنَّ فِي ذلِكَ أي فيما نزل بالأمم الهالكة أو فيما قصه اللّه تعالى من قصصهم. لَآيَةً لعبرة. لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ يعتبر به عظمته لعلمه بأن ما حاق بهم أنموذج مما أعد اللّه للمجرمين في الآخرة، أو ينزجر به عن موجباته لعلمه بأنها من إله مختار يعذب من يشاء و يرحم من يشاء. فإن من أنكر الآخرة و أحال فناء هذا العالم لم يقل بالفاعل المختار، و جعل تلك الوقائع لأسباب فلكية اتفقت في تلك الأيام لا لذنوب المهلكين بها. ذلِكَ إشارة إلى يوم القيامة و عذاب الآخرة دل عليه. يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ أي يجمع له الناس، و التغيير للدلالة على ثبات معنى الجمع لليوم و أنه من شأنه لا محالة و أن الناس لا ينفكون عنه فهو أبلغ من قوله: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ و معنى الجمع له الجمع لما فيه من المحاسبة و المجازاة. وَ ذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ أي مشهود فيه أهل السموات و الأرضين فاتسع فيه بإجراء الظرف مجرى المفعول به كقوله: في محفل من نواصي النّاس مشهود، أي كثير شاهدوه، و لو جعل اليوم مشهودا في نفسه لبطل الغرض من تعظيم اليوم و تمييزه فإن سائر الأيام كذلك.
[سورة هود (11): الآيات 104 الى 105]
وَ ما نُؤَخِّرُهُ أي اليوم. إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ إلا لانتهاء مدة معدودة متناهية على حذف المضاف و إرادة مدة التأجيل كلها بالأجل لا منتهاها فإنه غير معدود.
يَوْمَ يَأْتِ أي الجزاء أو اليوم كقوله: أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ على أن يَوْمَ بمعنى حين أو اللّه عز و جل كقوله تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ و نحوه. و قرأ ابن عامر و عاصم و حمزة يَأْتِ
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 149
بحذف الياء اجتزاء عنها بالكسر. لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ لا تتكلم بما ينفع و ينجي من جواب أو شفاعة، و هو الناصب للظرف و يحتمل نصبه بإضمار اذكر أو بالانتهاء المحذوف. إِلَّا بِإِذْنِهِ إلا بإذن اللّه كقوله: لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ و هذا في موقف و قوله: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَ لا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ في موقف آخر أو المأذون فيه هي الجوابات الحقة و الممنوع عنه هي الأعذار الباطلة. فَمِنْهُمْ شَقِيٌ وجبت له النار بمقتضى الوعيد. وَ سَعِيدٌ وجبت له الجنة بموجب الوعد و الضمير لأهل الموقف و إن لم يذكر لأنه معلوم مدلول عليه بقوله: لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ أو للناس.
[سورة هود (11): الآيات 106 الى 107]
فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَ شَهِيقٌ الزفير إخراج النفس و الشهيق رده، و استعمالهما في أول النهيق و آخره و المراد بهما الدلالة على شدة كربهم و غمهم و تشبيه حالهم بمن استولت الحرارة على قلبه و انحصر فيه روحه، أو تشبيه صراخهم بأصوات الحمير و قرئ شَقُوا بالضم.
خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ ليس لارتباط دوامهم في النار بدوامهما فإن النصوص دالة على تأبيد دوامهم و انقطاع دوامهما. بل التعبير عن التأبيد و المبالغة بما كانت العرب يعبرون به عنه على سبيل التمثيل، و لو كان للارتباط لم يلزم أيضا من زوال السموات و الأرض زوال عذابهم و لا من دوامه دوامهما إلا من قبيل المفهوم، لأن دوامهما كالملزوم لدوامه، و قد عرفت أن المفهوم لا يقاوم المنطوق. و قيل المراد سموات الآخرة و أرضها و يدل عليه قوله تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَ السَّماواتُ و إن أهل الآخرة لا بد لهم من مظل و مقل، و فيه نظر لأنه تشبيه بما لا يعرف أكثر الخلق وجوده و دوامه، و من عرفه فإنما يعرفه بما يدل على دوام الثواب و العقاب فلا يجدي له التشبيه. إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ استثناء من الخلود في النار لأن بعضهم و هم فساق الموحدين يخرجون منها، و ذلك كاف في صحة الاستثناء لأن زوال الحكم عن الكل يكفيه زواله عن البعض، و هم المراد بالاستثناء الثاني فإنهم مفارقون عن الجنة أيام عذابهم، فإن التأبيد من مبدأ معين ينتقض باعتبار الابتداء كما ينتقض باعتبار الانتهاء، و هؤلاء و إن شقوا بعصيانهم فقد سعدوا بإيمانهم، و لا يقال فعلى هذا لم يكن قوله: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ تقسيما صحيحا لأن من شرطه أن تكون صفة كل قسم منتفية عن قسيمه، لأن ذلك الشرط حيث التقسيم لانفصال حقيقي أو مانع من الجمع و ها هنا المراد أن أهل الموقف لا يخرجون عن القسمين، و أن حالهم لا يخلو عن السعادة و الشقاوة و ذلك لا يمنع اجتماع الأمرين في شخص باعتبارين، أو لأن أهل النار ينقلون منها إلى الزمهرير و غيره من العذاب أحيانا، و كذلك أهل الجنة ينعمون بما هو أعلى من الجنة كالاتصال بجناب القدس و الفوز برضوان اللّه و لقائه، أو من أصل الحكم و المستثنى زمان توقفهم في الموقف للحساب لأن ظاهره يقتضي أن يكونوا في النار حين يأتي اليوم، أو مدة لبثهم في الدنيا و البرزخ إن كان الحكم مطلقا غير مقيد باليوم، و على هذا التأويل يحتمل أن يكون الاستثناء من الخلود على ما عرفت. و قيل هو من قوله: لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَ شَهِيقٌ و قيل إلا ها هنا بمعنى سوى كقولك على ألف إلا الألفان القديمان و المعنى سوى ما شاء ربك من الزيادة التي لا آخر لها على مدة بقاء السموات و الأرض. إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ من غير اعتراض.
[سورة هود (11): آية 108]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 150
مَجْذُوذٍ غير مقطوع، و هو تصريح بأن الثواب لا ينقطع و تنبيه على أن المراد من الاستثناء في الثواب ليس الانقطاع، و لأجله فرق بين الثواب و العقاب بالتأبيد. و قرأ حمزة و الكسائي و حفص سُعِدُوا على البناء للمفعول من سعده اللّه بمعنى أسعده، و عَطاءً نصب على المصدر المؤكد أي أعطوا عطاء أو الحال من الجنة.
[سورة هود (11): آية 109]
فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ شك بعد ما أنزل عليك من مآل أمر الناس. مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ من عبادة هؤلاء المشركين في أنها ضلال مؤد إلى مثل ما حل بمن قبلهم ممن قصصت عليك سوء عاقبة عبادتهم، أو من حال ما يعبدونه في أنه يضر و لا ينفع. ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ استئناف معناه تعليل النهي عن المرية أي هم و آباؤهم سواء في الشرك، أي ما يعبدون عبادة إلا كعبادة آبائهم أو ما يعبدون شيئا إلا مثل ما عبدوه من الأوثان، و قد بلغك ما لحق آباءهم من ذلك فسيلحقهم مثله، لأن التماثل في الأسباب يقتضي التماثل في المسببات، و معنى كَما يَعْبُدُ كما كان يعبد فحذف للدلالة من قبل عليه. وَ إِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ حظهم من العذاب كآبائهم، أو من الرزق فيكون عذرا لتأخير العذاب عنهم مع قيام ما يوجبه.
غَيْرَ مَنْقُوصٍ حال من النصيب لتقييد التوفية فإنك تقول: وفيته حقه و تريد به وفاء بعضه و لو مجازا.
[سورة هود (11): الآيات 110 الى 111]
وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ فآمن به قوم و كفر به قوم كما اختلف هؤلاء في القرآن. وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ يعني كلمة الإنظار إلى يوم القيامة. لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بإنزال ما يستحقه المبطل ليتميز به عن المحق. وَ إِنَّهُمْ و إن كفار قومك. لَفِي شَكٍّ مِنْهُ من القرآن. مُرِيبٍ موقع في الريبة.
وَ إِنَّ كُلًّا و إن كل المختلفين المؤمنين منهم و الكافرين، و التنوين بدل من المضاف إليه. و قرأ ابن كثير و نافع و أبو بكر بالتخفيف مع الإعمال اعتبارا للأصل. لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ اللام الأولى موطئة لقسم و الثانية للتأكيد أو بالعكس و ما مزيدة بينهما للفصل. و قرأ ابن عامر و عاصم و حمزة لَمَّا بالتشديد على أن أصله لمن ما فقلبت النون ميما للادغام، فاجتمعت ثلاث ميمات فحذفت أولاهن، و المعنى لمن الذين يوفينهم ربك جزاء أعمالهم. و قرئ لما بالتنوين أي جميعا كقوله: أَكْلًا لَمًّا وَ إِنْ كُلٌّ لَمَّا على أن إِنْ نافية و لَمَّا بمعنى إلا و قد قرئ به. إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فلا يفوته شيء منه و إن خفي.
[سورة هود (11): آية 112]
فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَ مَنْ تابَ مَعَكَ وَ لا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)
فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ لما بين أمر المختلفين في التوحيد و النبوة، و أطنب في شرح الوعد و الوعيد أمر رسوله صلّى اللّه عليه و سلّم بالاستقامة مثل ما أمر بها و هي شاملة للاستقامة في العقائد كالتوسط بين التشبيه و التعطيل بحيث يبقى العقل مصونا من الطرفين، و الأعمال من تبليغ الوحي و بيان الشرائع كما أنزل، و القيام بوظائف العبادات من غير تفريط و إفراط مفوت للحقوق و نحوها و هي في غاية العسر و لذلك
قال عليه الصلاة و السلام «شيبتني هود».
وَ مَنْ تابَ مَعَكَ أي تاب من الشرك و الكفر و آمن معك، و هو عطف على المستكن في استقم و إن لم يؤكد بمنفصل لقيام الفاصل مقامه. وَ لا تَطْغَوْا و لا تخرجوا عما حد لكم. إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فهو
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 151
مجازيكم عليه، و هو في معنى التعليل للأمر و النهي. و في الآية دليل على وجوب اتباع النصوص من غير تصرف و انحراف بنحو قياس و استحسان.
[سورة هود (11): آية 113]
وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا و لا تميلوا إليهم أدنى ميل فإن الركون هو الميل اليسير كالتزيي بزيهم و تعظيم ذكرهم و استدامته. فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ بركونكم إليهم و إذا كان الركون إلى من وجد منه ما يسمى ظلما كذلك فما ظنك بالركون إلى الظالمين أي الموسومين بالظلم، ثم بالميل إليهم كل الميل، ثم بالظلم نفسه و الانهماك فيه، و لعل الآية أبلغ ما يتصور في النهي عن الظلم و التهديد عليه، و خطاب الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم و من معه من المؤمنين بها للتثبيت على الاستقامة التي هي العدل، فإن الزوال عنها بالميل إلى أحد طرفي إفراط و تفريط فإنه ظلم على نفسه أو غيره بل ظلم في نفسه. و قرئ «تركنوا» «فتمسّكم» بكسر التاء على لغة تميم و «تركنوا» على البناء للمفعول من أركنه. وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ من أنصار يمنعون العذاب عنكم و الواو للحال. ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ أي ثم لا ينصركم اللّه إذ سبق في حكمه أن يعذبكم و لا يبقي عليكم، و ثم لاستبعاد نصره إياهم و قد أوعدهم بالعذاب عليه و أوجبه لهم، و يجوز أن يكون منزلا منزلة الفاء لمعنى الاستبعاد، فإنه لما بين أن اللّه معذبهم و أن غيره لا يقدر على نصرهم أنتج ذلك أنهم لا ينصرون أصلا.
[سورة هود (11): الآيات 114 الى 115]
وَ أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ غدوة و عشية و انتصابه على الظرف لأنه مضاف إليه. وَ زُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ و ساعات منه قريبة من النهار، فإنه من أزلفه إذا قربه و هو جمع زلفة، و صلاة الغداة صلاة الصبح لأنها أقرب الصلاة من أول النهار، و صلاة العشية صلاة العصر، و قيل الظهر و العصر لأن ما بعد الزوال عشي و صلاة الزلف المغرب و العشاء. و قرئ «زلفا» بضمتين و ضمة و سكون كبسر و بسر في بسرة و «زلفى» بمعنى زلفة كقربى و قربة. إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ يكفرنها. و
في الحديث «إن الصلاة إلى الصلاة كفارة ما بينهما ما اجتنبت الكبائر»
و في سبب النزول
«أن رجلا أتى النبي صلّى اللّه عليه و سلّم فقال إني قد أصبت من امرأة غير أني لم آتها فنزلت».
ذلِكَ إشارة إلى قوله فَاسْتَقِمْ و ما بعده و قيل إلى القرآن. ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ عظة للمتعظين.
وَ اصْبِرْ على الطاعات و عن المعاصي. فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ عدول عن الضمير ليكون كالبرهان على المقصود و دليلا على أن الصلاة و الصبر إحسان و إيماء بأنه لا يعتد بهما دون الإخلاص.
[سورة هود (11): الآيات 116 الى 117]