کتابخانه تفاسیر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 182
و ركبات. وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ مع ظلمهم أنفسهم، و محله النصب على الحال و العامل فيه المغفرة و التقييد به دليل على جواز العفو قبل التوبة، فإن التائب ليس على ظلمه، و من منع ذلك خص الظلم بالصغائر المكفرة لمجتنب الكبائر، أو أول المغفرة بالستر و الإمهال. وَ إِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ للكفار أو لمن شاء، و
عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم: «لولا عفو اللّه و تجاوزه لما هنأ أحد العيش، و لولا وعيده و عقابه لا تكل كل أحد».
[سورة الرعد (13): آية 7]
وَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ لعدم اعتدادهم بالآيات المنزلة عليه و اقتراحا لنحو ما أوتي موسى و عيسى عليهما السلام. إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ مرسل للإنذار كغيرك من الرسل و ما عليك إلا الإتيان بما تصح به نبوتك من جنس المعجزات لا بما يقترح عليك. وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ نبي مخصوص بمعجزات من جنس ما هو الغالب عليهم يهديهم إلى الحق و يدعوهم إلى الصواب، أو قادر على هدايتهم و هو اللّه تعالى لكن لا يهدي إلا من يشاء هدايته بما ينزل عليك من الآيات. ثم أردف ذلك بما يدل على كمال علمه و قدرته و شمول قضائه و قدره، تنبيها على أنه تعالى قادر على إنزال ما اقترحوه و إنما لم ينزل لعلمه بأن اقتراحهم للعناد دون الاسترشاد، و أنه قادر على هدايتهم و إنما لم يهدهم لسبق قضائه بالكفر فقال:
[سورة الرعد (13): آية 8]
اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى أي حملها أو ما تحمله على أي حال هو من الأحوال الحاضرة و المترقبة. وَ ما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَ ما تَزْدادُ و ما تنقصه و ما تزداده في الجنة و المدة و العدد، و أقصى مدة الحمل أربع سنين عندنا و خمس عند مالك و سنتان عند أبي حنيفة.
روي أن الضحاك ولد لسنتين و هرم بن حيان لأربع سنين و أعلى عدده لا حد له.
و قيل نهاية ما عرف به أربعة و إليه ذهب أبو حنيفة رضي اللّه عنه، و قال الشافعي رحمه اللّه أخبرني شيخ باليمن أن امرأته ولدت بطونا في كل بطن خمسة. و قيل المراد نقصان دم الحيض و ازدياده، و غاض جاء متعديا و لازما و كذا ازداد قال تعالى: وَ ازْدَادُوا تِسْعاً فإن جعلتهما لازمين تعين إما أن تكون مصدرية. و إسنادهما إلى الأرحام على المجاز فإنهما للّه تعالى أو لما فيها. وَ كُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ بقدر لا يجاوزه و لا ينقص عنه كقوله تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ فإنه تعالى خص كل حادث بوقت و حال معينين، و هيأ له أسبابا مسوقة إليه تقتضي ذلك. و قرأ ابن كثير هادٍ و والٍ و و واقٍ وَ ما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ بالتنوين في الوصل فإذا وقف وقف بالياء في هذه الأحرف الأربعة حيث وقعت لا غير، و الباقون يصلون بالتنوين و يقفون بغير ياء.
[سورة الرعد (13): الآيات 9 الى 10]
عالِمُ الْغَيْبِ الغائب عن الحس. وَ الشَّهادَةِ الحاضر له. الْكَبِيرُ العظيم الشأن الذي لا يخرج عن علمه شيء. الْمُتَعالِ المستعلي على كل شيء بقدرته، أو الذي كبر عن نعت المخلوقين و تعالى عنه.
سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ في نفسه. وَ مَنْ جَهَرَ بِهِ لغيره. وَ مَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ طالب للخفاء في مختبأ بالليل. وَ سارِبٌ بارز. بِالنَّهارِ يراه كل أحد من سرب سروبا إذا برز، و هو عطف على من أو مستخف على أن من في معنى الاثنين كقوله:
نكن مثل من يا ذئب يصطحبان
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 183
كأنه قال سواء منكم اثنان مستخف بالليل و سارب بالنهار، و الآية متصلة بما قبلها مقررة لكمال علمه و شموله.
[سورة الرعد (13): آية 11]
لَهُ لمن أسر أو جهر أو استخفى أو سرب. مُعَقِّباتٌ ملائكة تعتقب في حفظه، جمع معقبة من عقبه مبالغة عقبه إذا جاء على عقبه كأن بعضهم يعقب بعضا، أو لأنهم يعقبون أقواله و أفعاله فيكتبونها، أو اعتقب فأدغمت التاء في القاف و التاء للمبالغة، أو لأن المراد بالمعقبات جماعات. و قرئ «معاقيب» جمع معقب أو معقبة على تعويض الياء من حذف إحدى القافين. مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ من جوانبه أو من الأعمال ما قدم و أخر. يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ من بأسه متى أذنب بالاستمهال أو الاستغفار له، أو يحفظونه من المضار أو يراقبون أحواله من أجل أمر اللّه تعالى. و قد قرئ به و قيل من بمعنى الباء. و قيل من أمر اللّه صفة ثانية ل مُعَقِّباتٌ . و قيل المعقبات الحرس و الجلاوزة حول السلطان يحفظونه في توهمه من قضاء اللّه تعالى. إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ من العافية و النعمة. حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ من الأحوال الجميلة بالأحوال القبيحة وَ إِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ فلا راد له فالعامل في إِذا ما دل عليه الجواب.
وَ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ ممن يلي أمرهم فيدفع عنهم السوء، و فيه دليل على أن خلاف مراد اللّه تعالى محال.
[سورة الرعد (13): الآيات 12 الى 13]
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً من أذاه. وَ طَمَعاً في الغيث و انتصابهما على العلة بتقدير المضاف، أي إرادة خوف و طمع أو التأويل بالإخافة و الإطماع، أو الحال من الْبَرْقَ أو المخاطبين على إضمار ذو، أو إطلاق المصدر بمعنى المفعول أو الفاعل للمبالغة. و قيل يخاف المطر من يضره و يطمع فيه من ينفعه.
وَ يُنْشِئُ السَّحابَ الغيم المنسحب في الهواء. الثِّقالَ و هو جمع ثقيلة و إنما وصف به السحاب لأنه اسم جنس في معنى الجمع.
وَ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ و يسبح سامعوه. بِحَمْدِهِ ملتبسين به فيضجون بسبحان اللّه و الحمد للّه، أو يدل الرعد بنفسه على وحدانية اللّه و كمال قدرته ملتبسا بالدلالة على فضله و نزول رحمته. و
عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما: سئل النبي صلّى اللّه عليه و سلّم عن الرعد فقال: «ملك موكل بالسحاب معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب».
وَ الْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ من خوف اللّه تعالى و إجلاله و قيل الضمير ل الرَّعْدُ . وَ يُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ فيهلكه. وَ هُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ حيث يكذبون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فيما يصفه به من كمال العلم و القدرة و التفرد بالألوهية و إعادة الناس و مجازاتهم، و الجدال التشدد في الخصومة من الجدل و هو الفتل، و الواو إما لعطف الجملة على الجملة أو للحال فإنه
روي أن عامر بن الطفيل و أربد بن ربيعة أخا لبيد وفدا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم قاصدين لقتله، فأخذه عامر بالمجادلة و دار أربد من خلفه ليضربه بالسيف، فتنبه له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و قال: اللهم اكفنيهما بما شئت فأرسل اللّه على أربد صاعقة فقتلته، و رمى عامرا بغدة فمات في بيت سلولية، و كان يقول غدة كغدة البعير و موت في بيت سلولية، فنزلت.
وَ هُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ المماحلة المكايدة لأعدائه، من محل فلان بفلان إذا كايده و عرضه للهلاك، و منه تمحل إذا تكلف استعمال الحيلة،
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 184
و لعل أصله المحل بمعنى القحط. و قيل فعال من المحل بمعنى القوة. و قيل مفعل من الحول أو الحيلة أعل على غير قياس و يعضده أنه قرئ بفتح الميم على أنه مفعل من حال يحول إذا احتال، و يجوز أن يكون بمعنى الفقار فيكون مثلا في القوة و القدرة كقولهم: فساعد اللّه أشد و موساه أحد.
[سورة الرعد (13): آية 14]
لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِ الدعاء الحق فإنه الذي يحق أن يعبد و يدعى إلى عبادته دون غيره، أو له الدعوة المجابة فإن من دعاه أجابه، و يؤيده ما بعده و الْحَقِ على الوجهين ما يناقض الباطل و إضافة ال دَعْوَةُ لما بينهما من الملابسة، أو على تأويل دعوة المدعو الحق. و قيل الْحَقِ هو اللّه تعالى و كل دعاء إليه دعوة الحق، و المراد بالجملتين إن كانت الآية في أربد و عامر أن إهلاكهما من حيث لم يشعرا به محال من اللّه إجابة لدعوة رسوله صلّى اللّه عليه و سلّم أو دلالة على أنه على الحق، و إن كانت عامة فالمراد وعيد الكفرة على مجادلة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم بحلول محاله بهم و تهديدهم بإجابة دعاء الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم عليهم، أو بيان ضلالهم و فساد رأيهم. وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ أي و الأصنام الذين يدعوهم المشركون، فحذف الراجع أو و المشركون الذين يدعون الأصنام فحذف المفعول لدلالة مِنْ دُونِهِ عليه. لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ من الطلبات. إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إلا استجابة كاستجابة من بسط كفيه. إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ يطلب منه أن يبلغه. وَ ما هُوَ بِبالِغِهِ لأنه جماد لا يشعر بدعائه و لا يقدر على إجابته و الإتيان بغير ما جبل عليه و كذلك آلهتهم. و قيل شبهوا في قلة جدوى دعائهم لها بمن أراد أن يغترف الماء ليشربه فبسط كفيه ليشربه. و قرئ «تدعون» بالتاء و باسط بالتنوين. وَ ما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ في ضياع و خسار و باطل.
[سورة الرعد (13): آية 15]
وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً يحتمل أن يكون السجود على حقيقته فإنه يسجد له الملائكة و المؤمنون من الثقلين، طوعا حالتي الشدة و الرخاء و الكفرة كرها حال الشدة و الضرورة.
وَ ظِلالُهُمْ بالعرض و أن يراد به انقيادهم لإحداث ما أراده منهم شاؤوا أو كرهوا، و انقياد ظلالهم لتصريفه إياها بالمد و التقليص و انتصاب طَوْعاً وَ كَرْهاً بالحال أو العلة و قوله: بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ ظرف ل يَسْجُدُ و المراد بهما الدوام أو حال من الظلال، و تخصيص الوقتين لأن الظلال إنما تعظم و تكثر فيهما، و الغدو جمع غداة كقنى جمع قناة، و الْآصالِ جمع أصيل و هو ما بين العصر و المغرب. و قيل الغدو مصدر و يؤيده أنه قد قرئ و «الإيصال» و هو الدخول في الأصيل.
[سورة الرعد (13): آية 16]
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ خالقهما و متولي أمرهما. قُلِ اللَّهُ أجب عنهم بذلك إذ لا جواب لهم سواه، و لأنه البين الذي لا يمكن المراء فيه أو لقنهم الجواب به. قُلْ أَ فَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ ثم ألزمهم بذلك لأن اتخاذهم منكر بعيد عن مقتضى العقل. أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَ لا ضَرًّا لا يقدرون على أن يجلبوا إليها نفعا أو يدفعوا عنها ضرا فكيف يستطيعون إنفاع الغير و دفع الضر عنه، و هو دليل ثان على ضلالهم و فساد رأيهم في اتخاذهم أولياء رجاء أن يشفعوا لهم. قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ المشرك
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 185
الجاهل بحقيقة العبادة و الموجب لها و الموحد العالم بذلك. و قيل المعبود الغافل عنكم و المعبود المطلع على أحوالكم. أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَ النُّورُ الشرك و التوحيد. و قرأ حمزة و الكسائي و أبو بكر بالياء. أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ بل أ جعلوا و الهمزة للإنكار و قوله: خَلَقُوا كَخَلْقِهِ صفة لشركاء داخلة في حكم الإنكار.
فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ خلق اللّه و خلقهم، و المعنى أنهم ما اتخذوا للّه شركاء خالقين مثله حتى يتشابه عليهم الخلق فيقولوا هؤلاء خلقوا كما خلق اللّه فاستحقوا العبادة كما استحقها، و لكنهم اتخذوا شركاء عاجزين لا يقدرون على ما يقدر عليه الخلق فضلا عما يقدر عليه الخالق. قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ أي لا خالق غيره فيشاركه في العبادة، جعل الخلق موجب العبادة و لازم استحقاقها ثم نفاه عمن سواه ليدل على قوله: وَ هُوَ الْواحِدُ المتوحد بالألوهية. الْقَهَّارُ الغالب على كل شيء.
[سورة الرعد (13): آية 17]
أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً من السحاب أو من جانب السماء أو من السماء نفسها فإن المبادئ منها.
فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ أنهار جمع واد و هو الموضع الذي يسيل الماء فيه بكثرة فاتسع فيه، و استعمل للماء الجاري فيه و تنكيرها لأن المطر يأتي على تناوب بين البقاع. بِقَدَرِها بمقدارها الذي علم اللّه تعالى أنه نافع غير ضار أو بمقدارها في الصغر و الكبر. فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رفعه و الزبد و ضر الغليان. رابِياً عاليا. و ممّا توقدون عليه في النّار يعم الفلزات كالذهب و الفضة و الحديد و النحاس على وجه التهاون بها إظهارا لكبريائه.
ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أي طلب حلي. أَوْ مَتاعٍ كالأواني و آلات الحرب و الحرث، و المقصود من ذلك بيان منافعها. زَبَدٌ مِثْلُهُ أي و مما يوقدون عليه زبد مثل زبد الماء و هو خبثه، و مِنَ للابتداء أو للتبعيض و قرأ حمزة و الكسائي و حفص بالياء على أن الضمير للناس و إضماره للعلم به. كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَ الْباطِلَ مثل الحق و الباطل فإنه مثل الحق في إفادته و ثباته بالماء الذي ينزل من السماء فتسيل به الأودية على قدر الحاجة و المصلحة فينتفع به أنواع المنافع، و يمكث في الأرض بأن يثبت بعضه في منافعه و يسلك بعضه في عروق الأرض إلى العيون و القنى و الآبار، و بالفلز الذي ينتفع به في صوغ الحلي و اتخاذ الأمتعة المختلفة و يدوم ذلك مدة متطاولة، و الباطل في قلة نفعه و سرعة زواله بزبدهما و بين ذلك بقوله: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً يجفأ به أي يرمي به السبيل و الفلز المذاب و انتصابه على الحال و قرئ جفالا و المعنى واحد. وَ أَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ كالماء و خلاصة الفلز. فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ينتفع به أهلها. كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لا لايضاح المشتبهات.
[سورة الرعد (13): آية 18]
لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا للمؤمنين الذين استجابوا. لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى الاستجابة الحسنى. وَ الَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ و هم الكفرة و اللام متعلقة بيضرب على أنه جعل ضرب المثل لشأن الفريقين ضرب المثل لهما.
و قيل للذين استجابوا خبر الحسنى و هي المثوبة أو الجنة و الذين لم يستجيبوا مبتدأ خبره. لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ و هو على الأول كلام مبتدأ لبيان مال غير المستجيبين. أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ و هو المناقشة فيه بأن يحاسب الرجل بذنبه لا يغفر منه شيء. وَ مَأْواهُمْ مرجعهم. جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 186
الْمِهادُ المستقر و المخصوص بالذم محذوف.
[سورة الرعد (13): الآيات 19 الى 20]
أَ فَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُ فيستجيب. كَمَنْ هُوَ أَعْمى عمى القلب لا يستبصر فيستجيب، و الهمزة لإنكار أن تقع شبهة في تشابههما بعد ما ضرب من المثل. إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ ذوو العقول المبرأة عن مشايعة الألف و معارضة الوهم.
الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ ما عقدوه على أنفسهم من الاعتراف بربوبيته حين قالوا بلى، أو ما عهد اللّه تعالى عليهم في كتبه. وَ لا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ ما وثقوه من المواثيق بينهم و بين اللّه تعالى و بين العباد و هو تعميم بعد تخصيص.
[سورة الرعد (13): الآيات 21 الى 22]
وَ الَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ من الرحم و موالاة المؤمنين و الإيمان بجميع الأنبياء عليهم الصلاة و السلام، و يندرج في ذلك مراعاة جميع حقوق الناس. وَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وعيده عموما. وَ يَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ خصوصا فيحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا.
وَ الَّذِينَ صَبَرُوا على ما تكرهه النفس و يخالفه الهوى. ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ طلبا لرضاه لا لجزاء و سمعة و نحوهما. وَ أَقامُوا الصَّلاةَ المفروضة. وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ بعضه الذي وجب عليهم إنفاقه.
سِرًّا لمن لم يعرف بالمال. وَ عَلانِيَةً لمن عرف به. وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ و يدفعونها بها فيجازون الإساءة بالإحسان، أو يتبعون السيئة الحسنة فتمحوها. أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ عاقبة الدنيا و ما ينبغي أن يكون مآل أهلها و هي الجنة، و الجملة خبر الموصولات إن رفعت بالابتداء و إن جعلت صفات لأولي الألباب فاستئناف بذكر ما استوجبوا بتلك الصفات.
[سورة الرعد (13): الآيات 23 الى 24]
جَنَّاتُ عَدْنٍ بدل من عُقْبَى الدَّارِ أو مبتدأ خبره يَدْخُلُونَها و العدن الإقامة أي جنات يقيمون فيها، و قيل هو بطنان الجنة. وَ مَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَ أَزْواجِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ عطف على المرفوع في يدخلون، و إنما ساغ للفصل بالضمير الآخر أو مفعول معه و المعنى أنه يلحق بهم من صلح من أهلهم و إن لم يبلغ مبلغ فضلهم تبعا لهم و تعظيما لشأنهم، و هو دليل على أن الدرجة تعلو بالشفاعة أو أن الموصوفين بتلك الصفات يقرن بعضهم ببعض لما بينهم من القرابة و الوصلة في دخول الجنة زيادة في أنسهم، و في التقييد بالصلاح دلالة على أن مجرد الأنساب لا تنفع. وَ الْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ من أبواب المنازل أو من أبواب الفتوح و التحف قائلين.
سَلامٌ عَلَيْكُمْ بشارة بدوام السلامة. بِما صَبَرْتُمْ متعلق ب عَلَيْكُمْ أو بمحذوف أي هذا بما صبرتم لا ب سَلامٌ ، فإن الخبر فاصل و الباء للسببية أو للبدلية. فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ و قرئ «فنعم» بفتح
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 187
النون و الأصل نعم فسكن العين بنقل كسرتها إلى الفاء و بغيره.
[سورة الرعد (13): آية 25]
وَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ يعني مقابلي الأولين. مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ من بعد ما أوثقوه به من الإقرار و القبول. وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بالظلم و تهييج الفتن. أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ الدَّارِ عذاب جهنم أو سوء عاقبة الدنيا لأنه في مقابلة عُقْبَى الدَّارِ .
[سورة الرعد (13): آية 26]
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ يوسعه و يضيقه. وَ فَرِحُوا أي أهل مكة. بِالْحَياةِ الدُّنْيا بما بسط لهم في الدنيا. وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ أي في جنب الآخرة. إِلَّا مَتاعٌ إلا متعة لا تدوم كعجالة الراكب و زاد الراعي، و المعنى أنهم أشروا بما نالوا من الدنيا و لم يصرفوه فيما يستوجبون به نعيم الآخرة و اغتروا بما هو في جنبه نزر قليل النفع سريع الزوال.
[سورة الرعد (13): الآيات 27 الى 29]
وَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ باقتراح الآيات بعد ظهور المعجزات. وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ أقبل إلى الحق و رجع عن العناد، و هو جواب يجري مجرى التعجب من قولهم كأنه قال قل لهم ما أعظم عنادكم إن اللّه يضل من يشاء ممن كان على صفتكم، فلا سبيل إلى اهتدائهم و إن أنزلت كل آية، و يهدي إليه من أناب بما جئت به بل بأدنى منه من الآيات.
الَّذِينَ آمَنُوا بدل من مِنْ أو خبر مبتدأ محذوف. وَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أنسا به و اعتمادا عليه و رجاء منه، أو بذكر رحمته بعد القلق من خشيته، أو بذكر دلائله الدالة على وجوده و وحدانيته أو بكلامه يعني القرآن الذي هو أقوى المعجزات. أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ تسكن إليه.
الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ مبتدأ خبره طُوبى لَهُمْ و هو فعلى من الطيب قلبت ياؤه واوا لضمة ما قبلها مصدر لطاب كبشرى و زلفى، و يجوز فيه الرفع و النصب و لذلك قرئ وَ حُسْنُ مَآبٍ بالنصب.
[سورة الرعد (13): آية 30]
كَذلِكَ مثل ذلك يعني إرسال الرسل قبلك. أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها تقدمتها. أُمَمٌ أرسلوا إليهم فليس ببدع إرسالك إليهم. لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لتقرأ عليهم الكتاب الذي أوحيناه إليك. وَ هُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ و حالهم أنهم يكفرون بالبليغ الرحمة الذي أحاطت بهم نعمته و وسعت كل شيء رحمته، فلم يشكروا نعمه و خصوصا ما أنعم عليهم بإرسالك إليهم، و إنزال القرآن الذي هو مناط المنافع الدينية و الدنياوية عليهم. و قيل نزلت في مشركي أهل مكة حين قيل لهم اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَ مَا الرَّحْمنُ . قُلْ هُوَ رَبِّي أي الرحمن خالقي و متولي أمري. لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لا مستحق للعبادة سواه.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 188
عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ في نصرتي عليكم. وَ إِلَيْهِ مَتابِ مرجعي و مرجعكم.
[سورة الرعد (13): آية 31]
وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ شرط حذف جوابه و المراد منه تعظيم شأن القرآن، أو المبالغة في عناد الكفرة و تصميمهم أي: و لو أن كتابا زعزعت به الجبال عن مقارها. أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ تصدعت من خشية اللّه عند قراءته أو شققت فجعلت أنهارا و عيونا. أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى فتسمع فتقرؤه، أو فتسمع و تجيب عند قراءته لكان هذا القرآن لأنه الغاية في الإعجاز و النهاية في التذكير و الإنذار، أو لما آمنوا به كقوله: وَ لَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ الآية. و قيل إن قريشا قالوا يا محمد إن سرك أن نتبعك فسير بقرآنك الجبال عن مكة حتى تتسع لنا فنتخذ فيها بساتين و قطائع، أو سخر لنا به الريح لنركبها و نتجر إلى الشأم، أو ابعث لنا به قصي ابن كلاب و غيره من آبائنا ليكلمونا فيك، فنزلت. و على هذا فتقطيع الأرض قطعها بالسير. و قيل الجواب مقدم و هو قوله: وَ هُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ و ما بينهما اعتراض و تذكير كُلِّمَ خاصة لاشتمال الموتى على المذكر الحقيقي. بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً بل للّه القدرة على كل شيء و هو إضراب عما تضمنته لَوْ من معنى النفي أي: بل اللّه قادر على الإتيان بما اقترحوه من الآيات إلا أن إرادته لم تتعلق بذلك، لعلمه بأنه لا تلين له شكيمتهم و يؤيد ذلك قوله: أَ فَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا عن إيمانهم مع ما رأوا من أحوالهم، و ذهب أكثرهم إلى أن معناه أ فلم يعلم لما
روي أن عليا و ابن عباس و جماعة من الصحابة و التابعين رضوان اللّه عليهم أجمعين قرءوا «أ فلم يتبين»،
و هو تفسيره و إنما استعمل اليأس بمعنى العلم لأنه مسبب عن العلم، فإن الميئوس عنه لا يكون إلا معلوما و لذلك علقه بقوله: أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً فإن معناه نفي هدى بعض الناس لعدم تعلق المشيئة باهتدائهم، و هو على الأول متعلق بمحذوف تقديره أ فلم ييأس الذين آمنوا عن إيمانهم علما منهم أن لو يشاء اللّه لهدى الناس جميعا أو ب آمَنُوا . وَ لا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا من الكفر و سوء الأعمال. قارِعَةٌ داهية تقرعهم و تقلقلهم. أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ فيفزعون منها و يتطاير إليهم شررها. و قيل الآية في كفار مكة فإنهم لا يزالون مصابين بما صنعوا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، فإنه عليه الصلاة و السلام كان لا يزال يبعث السرايا عليهم فتغير حواليهم و تختطف مواشيهم، و على هذا يجوز أن يكون تحل خطابا للرسول عليه الصلاة و السلام فإنه حل بجيشه قريبا من دارهم عام الحديبية. حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ الموت أو القيامة أو فتح مكة. إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ لامتناع الكذب في كلامه.
[سورة الرعد (13): آية 32]
وَ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا تسلية لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم. و وعيد للمستهزئين به و المقترحين عليه، و الإملاء أن يترك ملاوة من الزمان في دعة و أمن. ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ أي عقابي إياهم.
[سورة الرعد (13): الآيات 33 الى 34]