کتابخانه تفاسیر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 195
قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَ لكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ سلموا مشاركتهم في الجنس و جعلوا الموجب لاختصاصهم بالنبوة فضل اللّه و منه عليهم، و فيه دليل على أن النبوة عطائية و أن ترجيح بعض الجائزات على بعض بمشيئة اللّه تعالى. وَ ما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي ليس إلينا الإتيان بالآيات و لا تستبد به استطاعتنا حتى نأتي بما اقترحتموه، و إنما هو أمر يتعلق بمشيئة اللّه تعالى فيخص كل نبي بنوع من الآيات. وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ فلنتوكل عليه في الصبر على معاندتكم و معاداتكم، عمموا الأمر للإشعار بما يوجب التوكل و قصدوا به أنفسهم قصدا أوليا ألا ترى قوله تعالى:
وَ ما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ أي: أي عذر لنا في أن لا نتوكل عليه. وَ قَدْ هَدانا سُبُلَنا التي بها نعرفه و نعلم أن الأمور كلها بيده. و قرأ أبو عمرو بالتخفيف هاهنا و في «العنكبوت». وَ لَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا جواب قسم محذوف أكدوا به توكلهم و عدم مبالاتهم بما يجري من الكفار عليهم. وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ فليثبت المتوكلون على ما استحدثوه من توكلهم المسبب عن إيمانهم.
[سورة إبراهيم (14): الآيات 13 الى 14]
وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا حلفوا على أن يكون أحد الأمرين، إما إخراجهم للرسل أو عودهم إلى ملتهم، و هو بمعنى الصيرورة لأنهم لم يكونوا على ملتهم قط، و يجوز أن يكون الخطاب لكل رسول و من آمن معه فغلبوا الجماعة على الواحد. فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ أي إلى رسلهم. لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ على إضمار القول، أو إجراء الإيحاء مجراه لأنه نوع منه.
وَ لَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ أي أرضهم و ديارهم كقوله تعالى: وَ أَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَ مَغارِبَهَا . و قرئ «ليهلكن» «و ليسكننكم» بالياء اعتبارا لأوحى كقولك: أقسم زيد ليخرجن. ذلِكَ إشارة إلى الموحى به و هو إهلاك الظالمين و إسكان المؤمنين. لِمَنْ خافَ مَقامِي موقفي و هو الموقف الذي يقيم فيه العباد للحكومة يوم القيامة، أو قيامي عليه و حفظي لأعماله و قيل المقام مقحم.
وَ خافَ وَعِيدِ أي وعيدي بالعذاب أو عذابي الموعود للكفار.
[سورة إبراهيم (14): الآيات 15 الى 17]
وَ اسْتَفْتَحُوا سألوا من اللّه الفتح على أعدائهم، أو القضاء بينهم و بين أعدائهم من الفتاحة كقوله:
رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِ و هو معطوف على فَأَوْحى و الضمير للأنبياء عليهم الصلاة و السلام.
و قيل للكفرة و قيل للفريقين. فإن كلهم سألوه أن ينصر المحق و يهلك المبطل. و قرئ بلفظ الأمر عطفا على «ليهلكن». وَ خابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ أي ففتح لهم فأفلح المؤمنون و خاب كل جبار عات متكبر على اللّه معاند للحق فلم يفلح، و معنى الخيبة إذا كان الاستفتاح من الكفرة أو من القبيلين كان أوقع.
مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ أي من بين يديه فطنة مرصد بها واقف على شفيرها في الدنيا مبعوث إليها في الآخرة. و قيل من وراء حياته و حقيقته ما توارى عنك. وَ يُسْقى مِنْ ماءٍ عطف على محذوف تقديره من ورائه جهنم يلقى فيها ما يلقى وَ يُسْقى مِنْ ماءٍ . صَدِيدٍ عطف بيان ل ماءٍ و هو ما يسيل من جلود أهل النار.
يَتَجَرَّعُهُ يتكلف جرعه و هو صفة لماء، أو حال من الضمير في يُسْقى وَ لا يَكادُ يُسِيغُهُ و لا يقارب أن يسيغه فكيف يسيغه بل يغص به فيطول عذابه، و السوغ جواز الشراب على الحلق بسهولة و قبول
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 196
نفس. وَ يَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ أي أسبابه من الشدائد فتحيط به من جميع الجهات. و قيل من كل مكان من جسده حتى من أصول شعره و إبهام رجله. وَ ما هُوَ بِمَيِّتٍ فيستريح. وَ مِنْ وَرائِهِ و من بين يديه.
عَذابٌ غَلِيظٌ أي يستقبل في كل وقت عذابا أشد مما هو عليه. و قيل هو الخلود في النار. و قيل حبس الأنفاس. و قيل الآية منقطعة عن قصة الرسل نازلة في أهل مكة طلبوا الفتح الذي هو المطر في سنيهم التي أرسل اللّه تعالى عليهم بدعوة رسوله، فخيب رجاءهم فلم يسقهم و وعد لهم أن يسقيهم في جهنم بدل سقياهم صديد أهل النار.
[سورة إبراهيم (14): آية 18]
مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ مبتدأ خبره محذوف أي فيما يتلى عليكم صفتهم التي هي مثل في الغرابة، أو قوله أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ و هو على الأول جملة مستأنفة لبيان مثلهم. و قيل أَعْمالُهُمْ بدل من ال مَثَلُ و الخبر كَرَمادٍ . اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ حملته و أسرعت الذهاب به و قرأ نافع «الرياح». فِي يَوْمٍ عاصِفٍ العصف اشتداد الريح وصف به زمانه للمبالغة كقولهم: نهاره صائم و ليله قائم، شبه صنائعهم من الصدقة و صلة الرحم و إغاثة الملهوف و عتق الرقاب و نحو ذلك من مكارمهم في حبوطها و ذهابها هباء منثورا، لبنائها على غير أساس من معرفة اللّه تعالى و التوجه بها إليه، أو أعمالهم للأصنام برماد طيرته الريح العاصف. لا يَقْدِرُونَ يوم القيامة. مِمَّا كَسَبُوا من أعمالهم. عَلى شَيْءٍ لحبوطه فلا يرون له أثرا من الثواب و هو فذلكة التمثيل. ذلِكَ إشارة إلى ضلالهم مع حسبانهم أنهم محسنون. هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ فإنه الغاية في البعد عن طريق الحق.
[سورة إبراهيم (14): الآيات 19 الى 20]
أَ لَمْ تَرَ خطاب للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم، و المراد به أمته. و قيل لكل واحد من الكفرة على التلوين. أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِ بالحكمة و الوجه الذي يحق أن تخلق عليه، و قرأ حمزة و الكسائي «خالق السموات». إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ يعدمكم و يخلق خلقا آخر مكانكم، رتب ذلك على كونه خالقا للسموات و الأرض استدلالا به عليه، فإن من خلق أصولهم و ما يتوقف عليه تخليقهم ثم كونهم بتبديل الصور و تغيير الطبائع قدر أن يبدلهم بخلق آخر و لم يمتنع عليه ذلك كما قال:
وَ ما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ بمتعذر أو متعسر فإنه قادر لذاته لا اختصاص له بمقدور دون مقدور، و من كان هذا شأنه كان حقيقا بأن يؤمن به و يعبد رجاء لثوابه و خوفا من عقابه يوم الجزاء.
[سورة إبراهيم (14): آية 21]
وَ بَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً أي يبرزون من قبورهم يوم القيامة لأمر اللّه تعالى و محاسبته، أو لِلَّهِ على ظنهم فإنهم كانوا يخفون ارتكاب الفواحش و يظنون أنها تخفى على اللّه تعالى، فإذا كان يوم القيامة انكشفوا للّه تعالى عند أنفسهم، و إنما ذكر بلفظ الماضي لتحقق وقوعه. فَقالَ الضُّعَفاءُ الأتباع جمع ضعيف يريد به ضعاف
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 197
الرأي، و إنما كتبت بالواو على لفظ من يفخم الألف قبل الهمزة فيميلها إلى الواو. لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لرؤوسائهم الذين استتبعوهم و استغووهم. إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً في تكذيب الرسل و الإعراض عن نصائحهم، و هو جمع تابع كغائب و غيب، أو مصدر نعت به للمبالغة أو على إضمار مضاف. فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا دافعون عنا. مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ من الأولى للبيان واقعة موقع الحال، و الثانية للتبعيض واقعة موقع المفعول أي بعض الشيء الذي هو عذاب اللّه، و يجوز أن تكونا للتبعيض أي بعض شيء هو بعض عذاب اللّه، و الإعراب ما سبق و يحتمل أن تكون الأولى مفعولا و الثانية مصدرا، أي فهل أنتم مغنون بعض العذاب بعض الإغناء. قالُوا أي الذين استكبروا جوابا عن معاتبة الأتباع و اعتذارا عما فعلوا بهم. لَوْ هَدانَا اللَّهُ للإيمان و وفقنا له. لَهَدَيْناكُمْ و لكن ضللنا فأضللناكم أي اخترنا لكم ما اخترناه لأنفسنا، أو لو هدانا اللّه طريق النجاة من العذاب لهديناكم و أغنيناه عنكم كما عرضناكم له، لكن سد دوننا طريق الخلاص. سَواءٌ عَلَيْنا أَ جَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا مستويان علينا الجزع و الصبر. ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ منجى و مهرب من العذاب، من الحيص و هو العدل على جهة الفرار، و هو يحتمل أن يكون مكانا كالمبيت و مصدرا كالمغيب، و يجوز أن يكون قوله سَواءٌ عَلَيْنا من كلام الفريقين و يؤيده ما
روي أنهم يقولون: تعالوا نجزع فيجزعون خمسمائة عام فلا ينفعهم، فيقولون تعالوا نصبر فيصبرون كذلك ثم يقولون سَواءٌ عَلَيْنا .
[سورة إبراهيم (14): آية 22]
وَ قالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ أحكم و فرغ منه و دخل أهل الجنة الجنّة و أهل النار النار خطيبا في الأشقياء من الثقلين. إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِ وعدا من حقه أن ينجز أو وعدا أنجزه و هو الوعد بالبعث و الجزاء. وَ وَعَدْتُكُمْ وعد الباطل و هو أن لا بعث و لا حساب و إن كانا فالأصنام تشفع لكم. فَأَخْلَفْتُكُمْ جعل تبين خلف وعده كالإخلاف منه. وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ تسلط فألجئكم إلى الكفر و المعاصي. إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ إلا دعائي إياكم إليها بتسويلي و هو ليس من جنس السلطان و لكنه على طريقة قولهم: تحية بينهم ضرب وجيع. و يجوز أن يكون الاستثناء منقطعا. فَاسْتَجَبْتُمْ لِي أسرعتم إجابتي. فَلا تَلُومُونِي بوسوستي فإن من صرح العداوة لا يلام بأمثال ذلك. وَ لُومُوا أَنْفُسَكُمْ حيث أطعتموني إذ دعوتكم و لم تطيعوا ربكم لما دعاكم، و احتجت المعتزلة بأمثال ذلك على استقلال العبد بأفعاله و ليس فيها ما يدل عليه، إذ يكفي لصحتها أن يكون لقدرة العبد مدخل ما في فعله و هو الكسب الذي يقوله أصحابنا. ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ بمغيثكم من العذاب. وَ ما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَ بمغيثي و قرأ حمزة بكسر الياء على الأصل في التقاء الساكنين، و هو أصل مرفوض في مثله لما فيه. من اجتماع ياءين و ثلاث كسرات مع أن حركة ياء الإضافة الفتح، فإذا لم تكسر و قبلها ألف فبالحري أن لا تكسر و قبلها ياء، أو على لغة من يزيد ياء على ياء الإضافة إجراء لها مجرى الهاء و الكاف في: ضربته، و أعطيتكه، و حذف الياء اكتفاء بالكسرة. إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ «ما» إما مصدرية و مِنْ متعلقة بأشركتموني أي كفرت اليوم بإشراككم إياي من قبل هذا اليوم أي في الدنيا بمعنى تبرأت منه و استنكرته كقوله: وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ . أو موصولة بمعنى من نحو ما في قولهم: سبحان ما سخركن لنا، و مِنْ متعلقة ب كَفَرْتُ أي كفرت بالذي أشركتمونيه و هو اللّه تعالى بطاعتكم إياي فيما دعوتكم إليه من عبادة الأصنام و غيرها من قبل إشراككم، حين رددت أمره بالسجود لآدم عليه الصلاة و السلام و أشرك منقول من شركت زيدا للتعدية إلى مفعول ثان. إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ تتمة كلامه أو ابتداء كلام من اللّه تعالى و في حكاية أمثال ذلك لطف للسامعين
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 198
و إيقاظ لهم حتى يحاسبوا أنفسهم و يتدبروا عواقبهم.
[سورة إبراهيم (14): آية 23]
وَ أُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ بإذن اللّه تعالى و أمره و المدخلون هم الملائكة. و قرئ «و أدخل» على التكلم فيكون قوله: بِإِذْنِ رَبِّهِمْ متعلقا بقوله:
تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ أي تحييهم الملائكة فيها بالسلام بإذن ربهم.
[سورة إبراهيم (14): الآيات 24 الى 25]
أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كيف اعتمده و وضعه. كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أي جعل كلمة طيبة كشجرة طيبة، و هو تفسير لقوله ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا ، و يجوز أن تكون كَلِمَةً بدلا من مَثَلًا و كَشَجَرَةٍ صفتها أو خبر مبتدأ محذوف أي هي كَشَجَرَةٍ ، و أن تكون أول مفعولي ضرب إجراء له مجرى جعل و قد قرئت بالرفع على الابتداء. أَصْلُها ثابِتٌ في الأرض ضارب بعروقه فيها. وَ فَرْعُها و أعلاها. فِي السَّماءِ و يجوز أن يريد و فروعها أي أفنائها على الاكتفاء بلفظ الجنس لاكتسابه الاستغراق من الإضافة.
و قرئ «ثابت أصلها» و الأول على أصله و لذلك قيل إنه أقوى و لعل الثاني أبلغ.
تُؤْتِي أُكُلَها تعطي ثمرها. كُلَّ حِينٍ وقته اللّه تعالى لإثمارها. بِإِذْنِ رَبِّها بإرادة خالقها و تكوينه. وَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ لأن في ضربها زيادة إفهام و تذكير، فإنه تصوير للمعاني و إدناء لها من الحس.
[سورة إبراهيم (14): آية 26]
وَ مَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ كمثل شجرة خبيثة اجْتُثَّتْ استؤصلت و أخذت جثتها بالكلية.
مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ لأن عروقها قريبة منه. ما لَها مِنْ قَرارٍ استقرار. و اختلف في الكلمة و الشجرة ففسرت الكلمة الطيبة: بكلمة التوحيد و دعوة الإسلام و القرآن، و الكلمة الخبيثة بالشرك باللّه تعالى و الدعاء إلى الكفر و تكذيب الحق، و لعل المراد بهما ما يعم ذلك فالكلمة الطيبة ما أعرب عن حق أو دعا إلى صلاح، و الكلمة الخبيثة ما كان على خلاف ذلك و فسرت الشجرة الطيبة بالنخلة. و روي ذلك مرفوعا و بشجرة في الجنة، و الخبيثة بالحنظلة و الكشوث، و لعل المراد بهما أيضا ما يعم ذلك.
[سورة إبراهيم (14): آية 27]
يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ الذي ثبت بالحجة عندهم و تمكن في قلوبهم فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فلا يزالون إذا فتنوا في دينهم كزكريا و يحيى عليهما السلام و جرجيس و شمعون و الذين فتنهم أصحاب الأخدود. وَ فِي الْآخِرَةِ فلا يتلعثمون إذا سئلوا عن معتقدهم في الموقف، و لا تدهشهم أهوال يوم القيامة.
و
روي (أنه صلّى اللّه عليه و سلّم ذكر قبض روح المؤمن فقال: ثم تعاد روحه في جسده فيأتيه ملكان فيجلسانه في قبره و يقولان له: من ربك؟ و ما دينك؟ و من نبيك؟ فيقول: ربي اللّه و ديني الإسلام، و نبيي محمد صلّى اللّه عليه و سلّم، فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي فذلك قوله: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ .
وَ يُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ الذين
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 199
ظلموا أنفسهم بالاقتصار على التقليد فلا يهتدون إلى الحق و لا يثبتون في مواقف الفتن. وَ يَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ من تثبيت بعض و إضلال آخرين من غير اعتراض عليه.
[سورة إبراهيم (14): الآيات 28 الى 30]
أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً أي شكر نعمته كفرا بأن وضعوه مكانه، أو بدلوا نفس النعمة كفرا، فإنهم لما كفروها سلبت منهم فصاروا تاركين لها محصلين للكفر بدلها كأهل مكة، خلقهم اللّه تعالى و أسكنهم حرمه و جعلهم قوام بيته و وسع عليهم أبواب رزقه و شرفهم بمحمد صلّى اللّه عليه و سلّم، فكفروا ذلك فقحطوا سبع سنين و أسروا و قتلوا يوم بدر و صاروا أذلاء، فبقوا مسلوبي النعمة و موصوفين بالكفر، و
عن عمر و علي رضي اللّه تعالى عنهما: هم الأفجران من قريش بنو المغيرة و بنو أمية، فأما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر، و أما بنو أمية فمتعوا إلى حين.
وَ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ الذين شايعوهم في الكفر. دارَ الْبَوارِ دار الهلاك بحملهم على الكفر.
جَهَنَّمَ عطف بيان لها. يَصْلَوْنَها حال منها أو من القوم، أي داخلين فيها مقاسين لحرها، أو مفسر لفعل مقدر ناصب لجهنم. وَ بِئْسَ الْقَرارُ أي و بئس المقر جهنم.
وَ جَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ الذي هو التوحيد. و قرأ ابن كثير و أبو عمرو و رويس عن يعقوب بفتح الياء، و ليس الضلال و لا الإضلال غرضهم في اتخاذ الأنداد لكن لما كان نتيجته جعل كالغرض. قُلْ تَمَتَّعُوا بشهواتكم أو بعبادة الأوثان فإنها من قبيل الشهوات التي يتمتع بها، و في التهديد بصيغة الأمر إيذان بأن المهدد عليه كالمطلوب لإفضائه إلى المهدد به، و أن الأمرين كائنان لا محالة و لذلك علله بقوله: فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ و أن المخاطب لانهماكه فيه كالمأمور به من آمر مطاع.
[سورة إبراهيم (14): آية 31]
قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا خصهم بالإضافة تنويها لهم و تنبيها على أنهم المقيمون لحقوق العبودية، و مفعول قُلْ محذوف يدل عليه جوابه: أي قل لعبادي الذين آمنوا أقيموا الصلاة و أنفقوا. يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَ يُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ فيكون إيذانا بأنهم لفرط مطاوعتهم للرسول صلّى اللّه عليه و سلّم بحيث لا ينفك فعلهم عن أمره، و أنه كالسبب الموجب له، و يجوز أن يقدرا بلام الأمر ليصح تعلق القول بهما و إنما حسن ذلك ها هنا و لم يحسن في قوله:
محمّد تفد نفسك كلّ نفس
إذا ما خفت من أمر تبالا
لالة قل عليه. و قيل هما جوابا أقيموا و أنفقوا مقامين مقامهما، و هو ضعيف لأنه لا بد من مخالفة ما بين الشرط و جوابه و لأن أمر المواجهة لا يجاب بلفظ الغيبة إذا كان الفاعل واحدا. سِرًّا وَ عَلانِيَةً منتصبان على المصدر أي إنفاق سر و علانية، أو على الحال أي ذوي سر و علانية، أو على الظرف أي وقتي سر و علانية، و الأحب إعلان الواجب و إخفاء المتطوع به. مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ فيبتاع المقصر ما يتدارك به تقصيره أو يفدي به نفسه. وَ لا خِلالٌ و لا مخالة فيشفع لك خليل، أو من قبل أن يأتي يوم لا انتفاع فيه بمبايعة و لا مخالة و إنما ينتفع فيه بالإنفاق لوجه اللّه تعالى. و قرأ ابن كثير و أبو عمرو و يعقوب بالفتح فيهما على النفي العام.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 200
[سورة إبراهيم (14): الآيات 32 الى 34]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ مبتدأ و خبر وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ تعيشون به و هو يشمل المطعوم و الملبوس مفعول لأخرج و مِنَ الثَّمَراتِ بيان له و حال منه و يحتمل عكس ذلك و يجوز أن يراد به المصدر فينتصب بالعلة، أو المصدر لأن أخرج في معنى رزق. وَ سَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ بمشيئته إلى حيث توجهتم. وَ سَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ فجعلها معدة لانتفاعكم و تصرفكم و قيل تسخير هذه الأشياء تعليم كيفية اتخاذها.
وَ سَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ دائِبَيْنِ يدأبان في سيرهما و إنارتهما و إصلاح ما يصلحانه من المكونات.
وَ سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ يتعاقبان لسباتكم و معاشكم. وَ آتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ أي بعض جميع ما سألتموه يعني من كل شيء سألتموه شيئا، فإن الموجود من كل صنف بعض ما في قدرة اللّه تعالى، و لعل المراد ب ما سَأَلْتُمُوهُ ما كان حقيقا بأن يسأل لاحتياج الناس إليه سئل أو لم يسأل، و ما يحتمل أن تكون موصولة و موصوفة و مصدرية و يكون المصدر بمعنى المفعول. و قرئ «من كل» بالتنوين أي و آتاكم من كل شيء ما احتجتم إليه و سألتموه بلسان الحال، و يجوز أن تكون «ما» نافية في موقع الحال أي و آتاكم من كل شيء غير سائليه. وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها لا تحصروها و لا تطيقوا عد أنواعها فضلا عن أفرادها، فإنها غير متناهية. و فيه دليل على أن المفرد يفيد الاستغراق بالإضافة. إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ يظلم النعمة بإغفال شكرها، أو يظلم نفسه بأن يعرضها للحرمان. كَفَّارٌ شديد الكفران. و قيل ظلوم في الشدة يشكو و يجزع كفار في النعمة يجمع و يمنع.
[سورة إبراهيم (14): الآيات 35 الى 36]
وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ بلدة مكة. آمِناً ذا أمن لمن فيها، و الفرق بينه و بين قوله:
اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً أن المسؤول في الأول إزالة الخوف عنه و تصييره آمنا، و في الثاني جعله من البلاد الآمنة. وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَ بعدني و إياهم، أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ و اجعلنا منها في جانب و قرئ «و أجنبني» و هما على لغة نجد و أما أهل الحجاز فيقولون جنبني شره. و فيه دليل على أن عصمة الأنبياء بتوفيق اللّه و حفظه إياهم و هو بظاهره، لا يتناول أحفاده و جميع ذريته. و زعم ابن عيينة أو أولاد إسماعيل عليه الصلاة و السلام لم يعبدوا الصنم محتجا به و إنما كانت لهم حجارة يدورون بها و يسمونها الدوار و يقولون البيت حجر فحيثما نصبنا حجرا فهو بمنزلته.
رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فلذلك سألت منك العصمة و استعذت بك من إضلالهن، و إسناد الإضلال إليهن باعتبار السببية كقوله تعالى: وَ غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا* فَمَنْ تَبِعَنِي على ديني. فَإِنَّهُ مِنِّي أي بعضي لا ينفك عني في أمر الدين. وَ مَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ تقدر أن تغفر له و ترحمه ابتداء، أو بعد التوفيق للتوبة. و فيه دليل على أن كل ذنب فللّه أن يغفره حتى الشرك إلا أن الوعيد فرق بينه و بين غيره.
[سورة إبراهيم (14): آية 37]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 201
رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي أي بعض ذريتي أو ذرية من ذريتي فحذف المفعول و هم إسماعيل و من ولد منه فإن إسكانه متضمن لإسكانهم. بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ يعني وادي مكة فإنها حجرية لا تنبت. عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ الذي حرمت التعرض له و التهاون به، أو لم يزل معظما ممنعا يهابه الجبابرة، أو منع منه الطوفان فلم يستول عليه و لذلك سمي عتيقا أي أعتق منه. و لو دعا بهذا الدعاء أول ما قدم فلعله قال ذلك باعتبار ما كان أو ما سيؤول إليه.
روي أن هاجر كانت لسارة رضي اللّه عنها فوهبتها لإبراهيم عليه السلام فولدت منه إسماعيل عليه السلام، فغارت عليهما فناشدته أن يخرجهما من عندها فأخرجهما إلى أرض مكة فأظهر اللّه عين زمزم، ثم إن جرهم رأوا ثم طيورا فقالوا لا طير إلا على الماء، فقصدوه فرأوهما و عندهما عين فقالوا أشركينا في مائك نشركك في ألباننا ففعلت.
رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ اللام لام كي و هي متعلقة ب أَسْكَنْتُ أي ما أسكنتهم بهذا الوادي البلقع من كل مرتفق و مرتزق إلا لإقامة الصلاة عند بيتك المحرم.
و تكرير النداء و توسيطه للإشعار بأنها المقصودة بالذات من إسكانهم ثمة، و المقصود من الدعاء توفيقهم لها.
و قيل لام الأمر و المراد هو الدعاء لهم بإقامة الصلاة كأنه طلب منهم الإقامة و سأل من اللّه تعالى أن يوفقهم لها. فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ أي أفئدة من أفئدة الناس، و مِنْ للتبعيض و لذلك قيل لو قال أفئدة الناس لازدحمت عليهم فارس و الروم و لحجت اليهود و النصارى، أو للابتداء كقولك: القلب مني سقيم أي أفئدة ناس. و قرأ هشام «أفئيدة» بخلف عنه بياء بعد الهمزة. و قرئ «آفدة» و هو يحتمل أن يكون مقلوب «أفئدة» كآدر في أدؤر و أن يكون اسم فاعل من أفدت الرحلة إذا عجلت أي جماعة يعجلون نحوهم «و أفدة» بطرح الهمزة للتخفيف، و إن كان الوجه فيه إخراجها بين بين و يجوز أن يكون من أفد. تَهْوِي إِلَيْهِمْ تسرع إليهم شوقا و ودادا. و قرئ «تهوى» على البناء للمفعول من أهوى إليه غيره و «تهوى» من هوى يهوي إذا أحب، و تعديته بإلى لتضمنه معنى النزوع. وَ ارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ مع سكناهم واديا لا نبات فيه. لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ تلك النعمة، فأجاب اللّه عز و جل دعوته فجعله حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء حتى توجد فيه الفواكه الربيعية و الصيفية و الخريفية في يوم واحد.
[سورة إبراهيم (14): الآيات 38 الى 39]
رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَ ما نُعْلِنُ تعلم سرنا كما تعلم علننا، و المعنى إنك أعلم بأحوالنا و مصالحنا و أرحم بنا منا بأنفسنا، فلا حاجة لنا إلى الطلب لكنا ندعوك إظهارا لعبوديتك و افتقارا إلى رحمتك و استعجالا لنيل ما عندك. و قيل ما نخفي من وجد الفرقة و ما نعلن من التضرع إليك و التوكل عليك، و تكرير النداء للمبالغة في التضرع و اللجأ إلى اللّه تعالى. وَ ما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ لأنه العالم بعلم ذاتي يستوي نسبته إلى كل معلوم، و من للاستغراق.
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ أي وهب لي و أنا كبير آيس من الولد، قيد الهبة بحال الكبر استعظاما للنعمة و إظهارا لما فيها من آلائه. إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ .
روي أنه ولد له إسماعيل لتسع و تسعين سنة و إسحاق لمائة و اثنتي عشرة سنة.