کتابخانه تفاسیر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 212
الاستثناء و هو تخليص المخلصين من إغوائه، أو الإخلاص على معنى أنه طريق عَلَيَ يؤدي إلى الوصول إليّ من غير اعوجاج و ضلال. و قرئ عَلَيَ من علو الشرف.
إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ تصديق لإبليس فيما استثناه و تغيير الوضع لتعظيم الْمُخْلَصِينَ ، و لأن المقصود بيان عصمتهم و انقطاع مخالب الشيطان عنهم، أو تكذيب له فيما أوهم أن له سلطانا على من ليس بمخلص من عباده، فإن منتهى تزيينه التحريض و التدليس كما قال: وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي و على هذا يكون الاستثناء منقطعا، و على الأول يدفع قول من شرط أن يكون المستثنى أقل من الباقي لإفضائه إلى تناقض الاستثناءين.
[سورة الحجر (15): الآيات 43 الى 44]
وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ لموعد الغاوين أو المتبعين. أَجْمَعِينَ تأكيد للضمير أو حال و العامل فيها الموعد إن جعلته مصدرا على تقدير مضاف، و معنى الإضافة إن جعلته اسم مكان فإنه لا يعمل.
لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ يدخلون منها لكثرتهم، أو طبقات ينزلونها بحسب مراتبهم في المتابعة و هي: جهنم ثم لظى ثم الحطمة ثم السعير ثم سقر ثم الجحيم ثم الهاوية، و لعل تخصيص العدد لانحصار مجامع المهلكات في الركون إلى المحسوسات و متابعة القوة الشهوية و الغضبية، أو لأن أهلها سبع فرق. لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ من الأتباع. جُزْءٌ مَقْسُومٌ أفرز له، فأعلاها للموحدين العصاة، و الثاني لليهود و الثالث للنصارى و الرابع للصابئين و الخامس للمجوس و السادس للمشركين و السابع للمنافقين، و قرأ أبو بكر «جزء» بالتثقيل.
و قرئ «جز» على حذف الهمزة و إلقاء حركتها على الزاي، ثم الوقف عليه بالتشديد ثم إجراء الوصل مجرى الوقف، و منهم حال منه أو من المستكن في الظرف لا في مَقْسُومٌ لأن الصفة لا تعمل فيما تقدم موصوفها.
[سورة الحجر (15): الآيات 45 الى 46]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ (45) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (46)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ من اتباعه في الكفر و الفواحش فإن غيرها مكفرة. فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ لكل واحد جنة و عين أو لكل عدة منهما كقوله: وَ لِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ ثم قوله: وَ مِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ و قوله: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ الآية، و قرأ نافع و حفص و أبو عمرو و هشام وَ عُيُونٍ و العيون بضم العين حيث وقع و الباقون بكسر العين. ادْخُلُوها على إرادة القول، و قرئ بقطع الهمزة و كسر الخاء على أنه ماض فلا يكسر التنوين. بِسَلامٍ سالمين أو مسلما عليكم. آمِنِينَ من الآفة و الزوال.
[سورة الحجر (15): الآيات 47 الى 48]
وَ نَزَعْنا في الدنيا بما ألف بين قلوبهم، أو في الجنة بتطييب نفوسهم. ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ من حقد كان في الدنيا و
عن علي رضي اللّه تعالى عنه: أرجو أن أكون أنا و عثمان و طلحة و الزبير منهم، أو من التحاسد على درجات الجنة و مراتب القرب.
إِخْواناً حال من الضمير في جنات، أو فاعل ادخلوها أو الضمير في آمنين أو الضمير المضاف إليه، و العامل فيها معنى الإضافة و كذا قوله: عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ و يجوز أن يكونا صفتين لإخوانا أو حال من ضميره لأنه بمعنى متصافين، و أن يكون متقابلين حالا من المستقر في على سرر.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 213
لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ استئناف أو حال بعد حال، أو حال من الضمير في متقابلين. وَ ما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ فإن تمام النعمة بالخلود.
[سورة الحجر (15): الآيات 49 الى 51]
نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَ أَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ فذلكة ما سبق من الوعد و الوعيد و تقرير له، و في ذكر المغفرة دليل على أنه لم يرد بالمتقين من يتقي الذنوب بأسرها كبيرها و صغيرها، و في توصيف ذاته بالغفران و الرحمة دون التعذيب ترجيح الوعد و تأكيده و في عطف وَ نَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ على نَبِّئْ عِبادِي تحقيق لهما بما يعتبرون به.
[سورة الحجر (15): الآيات 52 الى 53]
إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً أي نسلم عليك سلاما أو سلمنا سلاما. قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ خائفون و ذلك لأنهم دخلوا بغير إذن و بغير وقت، و لأنهم امتنعوا من الأكل و الوجل اضطراب النفس لتوقع ما تكره.
قالُوا لا تَوْجَلْ و قرئ «لا تأجل» من أوجله «و لا تواجل» من واجله بمعنى أوجله. إِنَّا نُبَشِّرُكَ استئناف في معنى التعليل للنهي عن الوجل، فإن المبشر لا يخاف منه. و قرأ حمزة نبشرك بفتح النون و التخفيف من البشر. بِغُلامٍ هو إسحاق عليه السلام لقوله: وَ بَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ . عَلِيمٍ إذا بلغ.
[سورة الحجر (15): الآيات 54 الى 56]
قالَ أَ بَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ تعجب من أن يولد له مع مس الكبر إياه، أو إنكار لأن يبشر به في مثل هذه الحالة و كذا قوله: فَبِمَ تُبَشِّرُونَ أي فبأي أعجوبة تبشرون، أو فبأي شيء تبشرون فإن البشارة بما لا يتصور وقوعه عادة بشارة بغير شيء، و قرأ ابن كثير بكسر النون مشددة في كل القرآن على إدغام نون الجمع في نون الوقاية و كسرها و قرأ نافع بكسرها مخففة على حذف نون الجمع استثقالا لاجتماع المثلين و دلالة بإبقاء نون الوقاية و كسرها على الياء. قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِ بما يكون لا محالة، أو باليقين الذي لا لبس فيه أو بطريقة هي حق و هو قول اللّه تعالى و أمره. فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ من الآيسين من ذلك فإنه تعالى قادر على أن يخلق بشرا من غير أبوين فكيف من شيخ فان و عجوز عاقر، و كان استعجاب إبراهيم عليه السلام باعتبار العادة دون القدرة و لذلك:
قالَ وَ مَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ المخطئون طريق المعرفة فلا يعرفون سعة رحمة اللّه تعالى و كمال علمه و قدرته كما قال تعالى: إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ و قرأ أبو عمرو و الكسائي يَقْنَطُ بالكسر، و قرئ بالضم و ماضيهما قنط بالفتح.
[سورة الحجر (15): الآيات 57 الى 58]
قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ أي فما شأنكم الذي أرسلتم لأجله سوى البشارة، و لعله علم أن كمال المقصود ليس البشارة لأنهم كانوا عددا و البشارة لا تحتاج إلى العدد، و لذلك اكتفى بالواحد في بشارة زكريا و مريم عليهما السلام، أو لأنهم بشروه في تضاعيف الحال لإزالة الوجل و لو كانت تمام المقصود لابتدؤوا بها.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 214
قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ يعني قوم لوط.
[سورة الحجر (15): الآيات 59 الى 60]
إِلَّا آلَ لُوطٍ إن كان استثناء من قَوْمٍ كان منقطعا إذ ال قَوْمٍ مقيد بالإجرام و إن كان استثناء من الضمير في مُجْرِمِينَ كان متصلا، و القوم و الإرسال شاملين للمجرمين، و آلَ لُوطٍ المؤمنين به و كأن المعنى: إنا أرسلنا إلى قوم أجرم كلهم إلا آل لوط منهم لنهلك المجرمين و ننجي آل لوط منهم، و يدل عليه قوله: إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ أي مما يعذب به القوم، و هو استئناف إذا اتصل الاستثناء و متصل بآل لوط جار مجرى خبر لكن إذا انقطع و على هذا جاز أن يكون قوله:
إِلَّا امْرَأَتَهُ استثناء من آلَ لُوطٍ ، أو من ضميرهم، و على الأول لا يكون إلا من ضميرهم لاختلاف الحكمين اللهم إلا أن يجعل إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ اعتراضا، و قرأ حمزة و الكسائي لَمُنَجُّوهُمْ مخففا. قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ الباقين مع الكفرة لتهلك معهم. و قرأ أبو بكر عن عاصم قَدَّرْنا هنا و في «النمل» بالتخفيف، و إنما علق و التعليق من خواص أفعال القلوب لتضمنه معنى العلم. و يجوز أن يكون قَدَّرْنا أجري مجرى قلنا لأن التقدير بمعنى القضاء قول، و أصله جعل الشيء على مقدار غيره و إسنادهم إياه إلى أنفسهم. و هو فعل اللّه سبحانه و تعالى لما لهم من القرب و الاختصاص به.
[سورة الحجر (15): الآيات 61 الى 64]
فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ تنكركم نفسي و تنفر عنكم مخافة أن تطرقوني بشر.
قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ أي ما جئناك بما تنكرنا لأجله بل جئناك بما يسرك و يشفي لك من عدوك، و هو العذاب الذي توعدتهم به فيمترون فيه.
وَ أَتَيْناكَ بِالْحَقِ باليقين من عذابهم. وَ إِنَّا لَصادِقُونَ فيما أخبرناك به.
[سورة الحجر (15): آية 65]
فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ فاذهب بهم في الليل، و قرأ الحجازيان بوصل الهمزة من السري و هما بمعنى و قرئ «فسر» من السير. بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ في طائفة من الليل و قيل في آخره قال:
افتحي الباب و انظري في النّجوم
كم علينا من قطع ليل بهيم
وَ اتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ و كن على أثرهم تذودهم و تسرع بهم و تطلع على حالهم. وَ لا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ لينظر ما وراءه فيرى من الهول ما لا يطيقه أو فيصيبه ما أصابهم أو و لا ينصرف أحدكم و لا يتخلف امرؤ لغرض فيصيبه العذاب. و قيل نهوا عن الالتفات ليوطنوا نفوسهم على المهاجرة. وَ امْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ إلى حيث أمركم اللّه بالمضي إليه، و هو الشام أو مصر فعدي وَ امْضُوا إلى حَيْثُ و تُؤْمَرُونَ إلى ضميره 0 المحذوف على الاتساع.
[سورة الحجر (15): الآيات 66 الى 67]
وَ قَضَيْنا إِلَيْهِ أي و أوحينا إليه مقضيا، و لذلك عدي بإلى. ذلِكَ الْأَمْرَ مبهم يفسره. أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 215
مَقْطُوعٌ و محله النصب على البدل منه و في ذلك تفخيم للأمر و تعظيم له. و قرئ بالكسر على الاستئناف و المعنى: أنهم يستأصلون عن آخرهم حتى لا يبقى منهم أحد. مُصْبِحِينَ داخلين في الصبح و هو حال من هؤلاء، أو من الضمير في مقطوع و جمعه للحمل على المعنى. ف أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ في معنى مدبري هؤلاء.
وَ جاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ سدوم. يَسْتَبْشِرُونَ بأضياف لوط طمعا فيهم.
[سورة الحجر (15): الآيات 68 الى 69]
قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (68) وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ لا تُخْزُونِ (69)
قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ بفضيحة ضيفي فإن من أسيء إلى ضيفه فقد أسيء إليه.
وَ اتَّقُوا اللَّهَ في ركوب الفاحشة. وَ لا تُخْزُونِ و لا تذلوني بسببهم من الخزي و هو الهوان، أو لا تخجلوني فيهم من الخزاية و هو الحياء.
[سورة الحجر (15): الآيات 70 الى 71]
قالُوا أَ وَ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (70) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (71)
قالُوا أَ وَ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ على أن تجير منهم أحدا أو تمنع بيننا و بينهم، فإنهم كانوا يتعرضون لكل أحد و كان لوط يمنعهم عنه بقدر وسعه، أو عن ضيافة الناس و إنزالهم.
قالَ هؤُلاءِ بَناتِي يعني نساء القوم فإن نبي كل أمة بمنزلة أبيهم، و فيه وجوه ذكرت في سورة «هود».
إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ قضاء الوطر أو ما أقول لكم.
[سورة الحجر (15): آية 72]
لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)
لَعَمْرُكَ قسم بحياة المخاطب و المخاطب في هذا القسم هو النبي عليه الصلاة و السلام و قيل لوط عليه السلام قالت الملائكة له ذلك، و التقدير لعمرك قسمي، و هو لغة في العمر يختص به القسم لإيثار الأخف فيه لأنه كثير الدور على ألسنتهم. إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ لفي غوايتهم أو شدة غلمتهم التي أزالت عقولهم و تمييزهم بين خطئهم و الصواب الذي يشار به إليهم. يَعْمَهُونَ يتحيرون فكيف يسمعون نصحك.
و قيل الضمير لقريش و الجملة اعتراض.
[سورة الحجر (15): الآيات 73 الى 74]
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ يعني صيحة هائلة مهلكة. و قيل صيحة جبريل عليه السلام. مُشْرِقِينَ داخلين في وقت شروق الشمس.
فَجَعَلْنا عالِيَها عالي المدينة أو عالي قراهم. سافِلَها و صارت منقلبة بهم. وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ من طين متحجر أو طين عليه كتاب من السجل، و قد تقدم مزيد بيان لهذه القصة في سورة «هود».
[سورة الحجر (15): الآيات 75 الى 77]
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ للمتفكرين المتفرسين الذين يتثبّتون في نظرهم حتى يعرفوا حقيقة الشيء بسمته.
وَ إِنَّها و إن المدينة أو القرى. لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ ثابت يسلكه الناس و يرون آثارها.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ باللّه و رسله.
[سورة الحجر (15): الآيات 78 الى 79]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 216
وَ إِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ هم قوم شعيب كانوا يسكنون الغيضة فبعثه اللّه إليهم فكذبوه فأهلكوا بالظلة، و الْأَيْكَةِ الشجرة المتكاثفة.
فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ بالإهلاك. وَ إِنَّهُما يعني سدوم و الأيكة. و قيل الأيكة و مدين فإنه كان مبعوثا إليهما فكان ذكر إحداهما منبها على الأخرى. لَبِإِمامٍ مُبِينٍ لبطريق واضح، و الإمام اسم ما يؤتم به فسمي به الطريق و مطمر البناء و اللوح لأنها مما يؤتم به.
[سورة الحجر (15): الآيات 80 الى 81]
وَ لَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ يعني ثمود، كذّبوا صالحا، و من كذّب واحدا من الرسل فكأنما كذب الجميع، و يجوز أن يكون المراد بالمرسلين صالحا و من معه من المؤمنين، و الْحِجْرِ واد بين المدينة و الشأم يسكنونه.
وَ آتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ يعني آيات الكتاب المنزل على نبيهم، أو معجزاته كالناقة و سقيها و شربها و درها، أو ما نصب لهم من الأدلة.
[سورة الحجر (15): الآيات 82 الى 84]
وَ كانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ من الانهدام و نقب اللصوص و تخريب الأعداء لوثاقتها، أو من العذاب لفرط غفلتهم أو حسبانهم أن الجبال تحميهم منه.
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ من بناء البيوت الوثيقة و استكثار الأموال و العدد.
[سورة الحجر (15): الآيات 85 الى 86]
وَ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ إلا خلقا ملتبسا بالحق لا يلائم استمرار الفساد و دوام الشرور، فلذلك اقتضت الحكمة إهلاك أمثال هؤلاء و إزاحة فسادهم من الأرض. وَ إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فينتقم اللّه لك فيها ممن كذبك. فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ و لا تعجل بانتقام منهم و عاملهم معاملة الصفوح الحليم. و قيل هو منسوخ بآية السيف.
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الذي خلقك و خلقهم و بيده أمرك و أمرهم. الْعَلِيمُ بحالك و حالهم فهو حقيق بأن تكل ذلك إليه ليحكم بينكم، أو هو الذي خلقكم و علم الأصلح لكم، و قد علم أن الصفح اليوم أصلح، و في مصحف عثمان و أبيّ رضي اللّه عنهما «هو الخالق»، و هو يصلح للقليل و الكثير و الْخَلَّاقُ يختص بالكثير.
[سورة الحجر (15): آية 87]
وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87)
وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً سبع آيات و هي الفاتحة. و قيل سبع سور و هي الطوال و سابعتها «الأنفال» و «التوبة» فإنهما في حكم سورة و لذلك لم يفصل بينهما بالتسمية. و قيل «التوبة» و قيل «يونس» أو الحواميم السبع. و قيل سبع صحائف و هي الأسباع. مِنَ الْمَثانِي بيان للسبع و المثاني من التثنية، أو الثناء فإن كل ذلك مثنى تكرر قراءته، أو ألفاظه أو قصصه و مواعظه أو مثني عليه بالبلاغة و الإعجاز، أو مثن على اللّه بما هو أهله من صفاته
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 217
العظمى و أسمائه الحسنى، و يجوز أن يراد ب الْمَثانِي القرآن أو كتب اللّه كلها فتكون مِنَ للتبعيض.
وَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ إن أريد بالسبع الآيات أو السور فمن عطف الكل على البعض أو العام على الخاص، و إن أريد به الأسباع فمن عطف أحد الوصفين على الآخر.
[سورة الحجر (15): الآيات 88 الى 89]
لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ لا تطمح ببصرك طموح راغب. إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ أصنافا من الكفار، فإنه مستحقر بالإضافة إلى ما أوتيته فإنه كمال مطلوب بالذات مفض إلى دوام اللذات. و في حديث أبي بكر رضي اللّه تعالى عنه «من أوتي القرآن فرأى أن أحدا أوتي من الدنيا أفضل مما أوتي فقد صغر عظيما و عظم صغيرا». و
روي «أنه عليه الصلاة و السلام وافى بأذرعات سبع قوافل ليهود بني قريظة و النضير فيها أنواع البز و الطيب و الجواهر و سائر الأمتعة، فقال المسلمون: لو كانت هذه الأموال لنا لتقوينا بها و أنفقناها في سبيل اللّه فقال لهم: لقد أعطيتم سبع آيات هي خير من هذه القوافل السبع».
وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ أنهم لم يؤمنوا.
و قيل إنهم المتمتعون به. وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ و تواضع لهم و ارفق بهم.
وَ قُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ أنذركم ببيان و برهان أن عذاب اللّه نازل بكم إن لم تؤمنوا.
[سورة الحجر (15): آية 90]
كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90)
كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ مثل العذاب الذي أنزلناه عليهم، فهو وصف لمفعول النذير أقيم مقامه و المقتسمون هم الإثنا عشر الذين اقتسموا مداخل مكة أيام الموسم لينفروا الناس عن الإيمان بالرسول صلّى اللّه عليه و سلّم فأهلكهم اللّه تعالى يوم بدر أو الرهط الذين اقتسموا أي تقاسموا على أن يبيتوا صالحا عليه الصلاة و السلام و قيل هو صفة مصدر محذوف يدل عليه. وَ لَقَدْ آتَيْناكَ فإنه بمعنى أنزلنا إليك، و المقتسمون هم الذين جعلوا القرآن عضين حيث قالوا عنادا: بعضه حق موافق للتوراة و الإنجيل و بعضه باطل مخالف لهما، أو قسموه إلى شعر و سحر و كهانة و أساطير الأولين، أو أهل الكتاب آمنوا ببعض كتبهم و كفروا ببعض على أن القرآن ما يقرءون من كتبهم، فيكون ذلك تسلية لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، و قوله لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلخ اعتراضا ممدا لها.
[سورة الحجر (15): الآيات 91 الى 93]
الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ أجزاء جمع عضة، و أصلها عضوة من عضى الشاة إذا جعلها أعضاء.
و قيل فعلة من عضهته إذا بهته، و
في الحديث «لعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم العاضهة و المستعضهة»
و قيل أسحارا و عن عكرمة المعضة السحر، و إنما جمع جمع السلامة جبرا لما حذف منه و الموصول بصلته صفة للمقتسمين أو مبتدأ خبره.
فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ . عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ من التقسيم أو النسبة إلى السحر فنجازيهم عليه.
و قيل هو عام في كل ما فعلوا من الكفر و المعاصي.
[سورة الحجر (15): آية 94]
فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94)
فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ فاجهر به، من صدع بالحجة إذا تكلم بها جهارا، أو فافرق به بين الحق و الباطل، و أصله الإبانة و التمييز و ما مصدرية أو موصولة، و الراجع محذوف أي بما تؤمر به من الشرائع. وَ أَعْرِضْ عَنِ
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 218
الْمُشْرِكِينَ و لا تلتفت إلى ما يقولون.
[سورة الحجر (15): الآيات 95 الى 96]
إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ بقمعهم و إهلاكهم.
قيل كانوا خمسة من أشراف قريش: الوليد بن المغيرة، و العاص بن وائل، و عدي بن قيس، و الأسود بن عبد يغوث، و الأسود بن المطلب، يبالغون في إيذاء النبي صلّى اللّه عليه و سلّم و الاستهزاء به فقال جبريل عليه السلام لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: أمرت أن أكفيكهم، فأومأ إلى ساق الوليد فمر بنبال فتعلق بثوبه سهم فلم ينعطف تعظما لأخذه، فأصاب عرقا في عقبه فقطعه فمات، و أومأ إلى أخمص العاص فدخل فيه شوكة فانتفخت رجله حتى صارت كالرحى و مات، و أشار إلى أنف عدي بن قيس فامتخط قيحا فمات، و إلى الأسود بن عبد يغوث و هو قاعد في أصل شجرة فجعل ينطح برأسه الشجرة و يضرب وجهه بالشوك حتى مات، و إلى عيني الأسود بن المطلب فعمي:
الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ عاقبة أمرهم في الدارين.
[سورة الحجر (15): الآيات 97 الى 99]
وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ من الشرك و الطعن في القرآن و الاستهزاء بك.
فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ فافزع إلى اللّه تعالى فيما نابك بالتسبيح و التحميد يكفك و يكشف الغم عنك، أو فنزهه عما يقولون حامدا له على أن هداك للحق. وَ كُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ من المصلين، و
عنه عليه الصلاة و السلام (أنه كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة).
وَ اعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ أي الموت فإنه متيقن لحاقه كل حي مخلوق، و المعنى فاعبده ما دمت حيا و لا تخلّ بالعبادة لحظة.
عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم «من قرأ سورة الحجر كان له من الأجر عشر حسنات بعدد المهاجرين و الأنصار و المستهزئين بمحمد صلّى اللّه عليه و سلّم»