کتابخانه تفاسیر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 252
وَ لَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَ أَكْبَرُ تَفْضِيلًا أي التفاوت في الآخرة أكبر، لأن التفاوت فيها بالجنة و درجاتها و النار و دركاتها.
لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ الخطاب للرسول صلّى اللّه عليه و سلّم و المراد به أمته أو لكل أحد. فَتَقْعُدَ فتصير من قولهم شحذ الشفرة حتى قعدت كأنها حربة، أو فتعجز من قولهم قعد عن الشيء إذا عجز عنه. مَذْمُوماً مَخْذُولًا جامعا على نفسك الذم من الملائكة و المؤمنين و الخذلان من اللّه تعالى، و مفهومه أن الموحد يكون ممدوحا منصورا.
[سورة الإسراء (17): آية 23]
وَ قَضى رَبُّكَ و أمر أمرا مقطوعا به. أَلَّا تَعْبُدُوا بأن لا تعبدوا. إِلَّا إِيَّاهُ لأن غاية التعظيم لا تحق إلا لمن له غاية العظمة و نهاية الإنعام، و هو كالتفصيل لسعي الآخرة. و يجوز أن تكون أن مفسرة و لا ناهية. وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً و بأن تحسنوا، أو و أحسنوا بالوالدين إحسانا لأنهما السبب الظاهر للوجود و التعيش، و لا يجوز أن تتعلق الباء بالإحسان لأن صلته لا تتقدم عليه. إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما إِمَّا هي إن الشرطية زيدت عليها ما تأكيدا و لذلك صح لحوق النون المؤكدة للفعل، و أحدهما فاعل يَبْلُغَنَ و بدل على قراءة حمزة و الكسائي من ألف «يبلغان» الراجع إلى «الوالدين»، و كلاهما عطف على أحدهما فاعلا أو بدلا و لذلك لم يجز أن يكون تأكيدا للألف، و معنى عِنْدَكَ أن يكونا في كنفك و كفالتك. فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ فلا تتضجر مما يستقذر منهما و تستثقل من مؤنتهما، و هو صوت يدل على تضجر. و قيل هو اسم الفعل الذي هو أتضجر، و هو مبني على الكسر لالتقاء الساكنين و تنوينه في قراءة نافع و حفص للتنكير. و قرأ ابن كثير و ابن عامر و يعقوب بالفتح على التخفيف. و قرئ به منونا و بالضم للاتباع كمنذ منونا و غير منون، و النهي عن ذلك يدل على المنع من سائر أنواع الإيذاء قياسا بطريق الأولى. و قيل عرفا كقولك: فلان لا يملك النقير و القطمير، و لذلك منع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم حذيفة من قتل أبيه و هو في صف المشركين، نهى عما يؤذيهما بعد الأمر بالإحسان بهما. وَ لا تَنْهَرْهُما و لا تزجرهما عما لا يعجبك بإغلاظ.
و قيل النهي و النهر و النهم أخوات. وَ قُلْ لَهُما بدل التأفيف و النهر. قَوْلًا كَرِيماً جميلا لا شراسة فيه.
[سورة الإسراء (17): آية 24]
وَ اخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِ تذلل لهما و تواضع فيهما، و جعل للذل جناحا كما جعل لبيد في قوله:
و غداة ريح قد كشفت و قرة
إذ أصبحت بيد الشّمال زمامها
للشمال يدا أو للقرة زماما، و أمره بخفضه مبالغة أو أراد جناحه كقوله تعالى: وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ . و إضافته إلى الذل للبيان و المبالغة كما أضيف حاتم إلى الجود، و المعنى و اخفض لهما جناحك الذليل. و قرئ «الذل» بالكسر و هو الانقياد و النعت منه ذلول. مِنَ الرَّحْمَةِ من فرط رحمتك عليهما لافتقارهما إلى من كان أفقر خلق اللّه تعالى إليهما بالأمس. وَ قُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما و ادع اللّه تعالى أن يرحمهما برحمته الباقية، و لا تكتف برحمتك الفانية و إن كانا كافرين لأن من الرحمة أن يهديهما. كَما رَبَّيانِي صَغِيراً رحمة مثل رحمتهما علي و تربيتهما و إرشادهما لي في صغري وفاء بوعدك للراحمين.
روي: أن رجلا قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: إن أبوي بلغا من الكبر أني ألي منهما ما وليا مني في الصغر فهل قضيتهما حقهما. قال: لا فإنهما كانا يفعلان ذلك و هما يحبان بقاءك و أنت تفعل ذلك و تريد موتهما).
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 253
[سورة الإسراء (17): آية 25]
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ من قصد البر إليهما و اعتقاد ما يجب لهما من التوقير، و كأنه تهديد على أن يضمر لهما كراهة و استثقالا. إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ قاصدين للصلاح. فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ للتوابين.
غَفُوراً ما فرط منهم عند حرج الصدر من أذية أو تقصير، و فيه تشديد عظيم، و يجوز أن يكون عاما لكل تائب، و يندرج فيه الجاني على أبويه التائب من جنايته لوروده على أثره.
[سورة الإسراء (17): الآيات 26 الى 27]
وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ من صلة الرحم و حسن المعاشرة و البر عليهم. و قال أبو حنيفة: حقهم إذا كانوا محارم فقراء أن ينفق عليهم. و قيل المراد بذي القربى أقارب الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم. وَ الْمِسْكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ وَ لا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً بصرف المال فيما لا ينبغي و إنفاقه على وجه الإسراف، و أصل التبذير التفريق. «و
عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أنه قال لسعد و هو يتوضأ: ما هذا السرف قال: أو في الوضوء سرف؟ قال: نعم، و إن كنت على نهر جار».
إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ أمثالهم في الشرارة فإن التضييع و الإتلاف شر، أو أصدقاءهم و أتباعهم لأنهم يطيعونهم في الإسراف و الصرف في المعاصي.
روي: أنهم كانوا ينحرون الإبل و يتياسرون عليها و يبذرون أموالهم في السمعة، فنهاهم اللّه عن ذلك و أمرهم بالإنفاق في القربات.
وَ كانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً مبالغا في الكفر به فينبغي أن لا يطاع.
[سورة الإسراء (17): آية 28]
وَ إِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ و إن أعرضت عن ذي القربى و المسكين و ابن السبيل حياء من الرد، و يجوز أن يراد بالإعراض عنهم أن لا ينفعهم على سبيل الكناية. ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها لانتظار رزق من اللّه ترجوه أن يأتيك فتعطيه، أو منتظرين له و قيل معناه لفقد رزق من ربك ترجوه أن يفتح لك فوضع الابتغاء موضعه لأنه مسبب عنه، و يجوز أن يتعلق بالجواب الذي هو قوله تعالى: فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً أي فقل لهم قولا لينا ابتغاء رحمة اللّه برحمتك عليهم بإجمال القول لهم، و الميسور من يسر الأمر مثل سعد الرّجل و نحس، و قيل القول الميسور الدعاء لهم بالميسور و هو اليسر مثل أغناكم اللّه تعالى و رزقنا اللّه و إياكم.
[سورة الإسراء (17): الآيات 29 الى 30]
وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَ لا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ تمثيلان لمنع الشحيح و إسراف المبذر، نهى عنهما آمرا بالاقتصاد بينهما الذي هو الكرم. فَتَقْعُدَ مَلُوماً فتصير ملوما عند اللّه و عند الناس بالإسراف و سوء التدبير. مَحْسُوراً نادما أو منقطعا بك لا شيء عندك من حسرة السفر إذا بلغ منه. و
عن جابر (بينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم جالس أتاه صبي فقال: إن أمي تستكسيك درعا، فقال صلّى اللّه عليه و سلّم من ساعة إلى ساعة فعد إلينا، فذهب إلى أمه فقالت: قل له إن أمي تستكسيك الدرع الذي عليك، فدخل صلّى اللّه عليه و سلّم داره و نزع قميصه و أعطاه و قعد عريانا و أذن بلال و انتظروه للصلاة فلم يخرج فأنزل اللّه ذلك) ثم سلاه بقوله: إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ
يوسعه و يضيقه بمشيئته التابعة للحكمة البالغة فليس ما يرهقك من الإضافة إلا لمصلحتك. إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً يعلم سرهم و علنهم فيعلم من مصالحهم ما يخفى عليهم، و يجوز أن يراد أن البسط
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 254
و القبض من أمر اللّه تعالى العالم بالسرائر و الظواهر، فأما العباد فعليهم أن يقتصدوا، أو أنه تعالى يبسط تارة و يقبض أخرى فاستنوا بسنته و لا تقبضوا كل القبض و لا تبسطوا كل البسط، و أن يكون تمهيدا لقوله تعالى:
[سورة الإسراء (17): آية 31]
وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ مخافة الفاقة، و قتلهم أولادهم هو و أدهم بناتهم مخافة الفقر فنهاهم عنه و ضمن لهم أرزاقهم فقال: نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَ إِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً ذنبا كبيرا لما فيه من قطع التناسل و انقطاع النوع، و ال خِطْأً الإثم يقال خطئ خطأ كأثم إثما، و قرأ ابن عامر خِطْأً و هو اسم من أخطأ يضاد الصواب، و قيل لغة فيه كمثل و مثل و حذر و حذر. و قرأ ابن كثير «خطاء» بالمد و الكسر و هو إما لغة فيه أو مصدر خاطأ و هو و إن لم يسمع لكنه جاء تخاطأ في قوله:
تخاطأه القناص حتّى وجدته
و خرطومه في منقع الماء راسب
و هو مبني عليه و قرئ «خطاء» بالفتح و المد و خطا بحذف الهمزة مفتوحا و مكسورا.
[سورة الإسراء (17): آية 32]
وَ لا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ ساءَ سَبِيلاً (32)
وَ لا تَقْرَبُوا الزِّنى بالعزم و الإتيان بالمقدمات فضلا عن أن تباشروه. إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً فعلة ظاهرة القبح زائدته. وَ ساءَ سَبِيلًا و بئس طريقا طريقه، و هو الغصب على الأبضاع المؤدي إلى قطع الأنساب و هيج الفتن.
[سورة الإسراء (17): آية 33]
وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِ إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان: وزنا بعد إحصان، و قتل مؤمن معصوم عمدا. وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً غير مستوجب للقتل. فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ للذي يلي أمره بعد وفاته و هو الوارث. سُلْطاناً تسلطا بالمؤاخذة بمقتضى القتل على من عليه، أو بالقصاص على القاتل فإن قوله تعالى مَظْلُوماً بدل على أن القتل عمد عدوان فإن الخطأ لا يسمى ظلما. فَلا يُسْرِفْ أي القاتل. فِي الْقَتْلِ بأن يقتل من لا يستحق قتله، فإن العاقل لا يفعل ما يعود عليه بالهلاك أو الولي بالمثلة، أو قتل غير القاتل و يؤيد الأول قراءة أبي «فلا تسرفوا». و قرأ حمزة و الكسائي «فلا تسرف» على خطاب أحدهما. إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً علة النهي على الاستئناف و الضمير إما للمقتول فإنه منصور في الدنيا بثبوت القصاص بقتله و في الآخرة بالثواب، و إما لوليه فإن اللّه تعالى نصره حيث أوجب القصاص له و أمر الولاة بمعونته، و إما للذي يقتله الولي إسرافا بإيجاب القصاص أو التعزير و الوزر على المسرف.
[سورة الإسراء (17): آية 34]
وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ فضلا أن تتصرفوا فيه. إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إلا بالطريقة التي هي أحسن.
حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ غاية لجواز التصرف الذي دل عليه الاستثناء. وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ بما عاهدكم اللّه من تكاليفه، أو ما عاهدتموه و غيره. إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا مطلوبا يطلب من المعاهد أن لا يضيعه و يفي به، أو مسؤولا عنه يسأل الناكث و يعاتب عليه لم نكثت، أو يسأل العهد تبكيتا للناكث كما يقال للموءودة بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ، فيكون تخييلا و يجوز أن يراد أن صاحب العهد كان مسؤولا.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 255
[سورة الإسراء (17): آية 35]
وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ و لا تبخسوا فيه وَ زِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ بالميزان السوي، و هو روميّ عرّب و لا يقدح ذلك في عربية القرآن، لأن العجمي إذا استعملته العرب و أجرته مجرى كلامهم في الإعراب و التعريف و التنكير و نحوها صار عربيا. و قرأ حمزة و الكسائي و حفص بكسر القاف هنا و في «الشعراء». ذلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلًا و أحسن عاقبة تفعيل من آل إذا رجع.
[سورة الإسراء (17): آية 36]
وَ لا تَقْفُ و لا تتبع و قرئ «و لا تقف» من قاف أثره إذا قفاه و منه القافة. ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ما لم يتعلق به علمك تقليدا أو رجما بالغيب، و احتج به من منع اتباع الظن و جوابه أن المراد بالعلم هو الاعتقاد الراجح المستفاد من سند، سواء كان قطعا أو ظنا و استعماله بهذا المعنى سائغ شائع. و قيل إنه مخصوص بالعقائد. و قيل بالرمي و شهادة الزور و يؤيده
قوله عليه الصلاة و السلام «من قفا مؤمنا بما ليس فيه حبسه اللّه في ردغة الخبال حتى يأتي بالمخرج».
و قول الكميت:
و لا أرمي البريء بغير ذنب
و لا أقفو الحواصن إن قفينا
إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ أي كل هذه الأعضاء فأجراها مجرى العقلاء لما كانت مسؤولة عن أحوالها شاهدة على صاحبها، هذا و إن أولاء و إن غلب في العقلاء لكنه من حيث إنه اسم جمع لذا و هو يعم القبيلين جاء لغيرهم كقوله:
و العيش بعد أولئك الأيام كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا في ثلاثتها ضمير كل أي كان كل واحد منها مسؤولا عن نفسه، يعني عما فعل به صاحبه، و يجوز أن يكون الضمير في عنه لمصدر لا تَقْفُ أو لصاحب السمع و البصر. و قيل مَسْؤُلًا مسند إلى عَنْهُ كقوله تعالى: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ و المعنى يسأل صاحبه عنه، و هو خطأ لأن الفاعل و ما يقوم مقامه لا يتقدم، و فيه دليل على أن العبد مؤاخذ بعزمه على المعصية. و قرئ وَ الْفُؤادَ بقلب الهمزة واوا بعد الضمة ثم إبدالها بالفتح.
[سورة الإسراء (17): الآيات 37 الى 38]
وَ لا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً أي ذا مرح و هو الاختيال. و قرئ مَرَحاً و هو باعتبار الحكم أبلغ و إن كان المصدر آكد من صريح النعت. إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ لن تجعل فيها خرقا بشدة وطأتك. وَ لَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا بتطاولك و هو تهكم بالمختال، و تعليل للنهي بأن الاختيال حماقة مجردة لا تعود بجدوى ليس في التذلل.
كُلُّ ذلِكَ إشارة إلى الخصال الخمس و العشرين المذكورة. من قوله تعالى: لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ و عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما: أنها المكتوبة في ألواح موسى عليه السلام. كانَ سَيِّئُهُ يعني المنهي عنه فإن المذكورات مأمورات و مناه. و قرأ الحجازيان و البصريان سَيِّئُهُ على أنها خبر كانَ و الاسم ضمير كُلُ ، و ذلِكَ إشارة إلى ما نهى عنه خاصة و على هذا قوله: عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً بدل من سَيِّئُهُ أو صفة لها محمولة على المعنى، فإنه بمعنى سيئا و قد قرئ به، و يجوز أن ينتصب مكروها على الحال من المستكن في كانَ أو في الظرف على أنه صفة سَيِّئُهُ ، و المراد به المبغوض المقابل
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 256
للمرضى لا ما يقابل المراد لقيام القاطع على أن الحوادث كلها واقعة بإرادته تعالى.
[سورة الإسراء (17): آية 39]
ذلِكَ إشارة إلى الأحكام المتقدمة. مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ التي هي معرفة الحق لذاته و الخير للعمل به. وَ لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ كرره للتنبيه على أن التوحيد مبدأ الأمر و منتهاه، فإن من لا قصد له بطل عمله و من قصد بفعله أو تركه غيره ضاع سعيه، و أنه رأس الحكمة و ملاكها، و رتب عليه أولا ما هو عائدة الشرك في الدنيا و ثانيا ما هو نتيجته في العقبى فقال تعالى: فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً تلوم نفسك.
مَدْحُوراً مبعدا من رحمة اللّه تعالى.
[سورة الإسراء (17): آية 40]
أَ فَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ خطاب لمن قالوا الملائكة بنات اللّه، و الهمزة للإنكار و المعنى: أ فخصكم ربكم بأفضل الأولاد و هم البنون. وَ اتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً بنات لنفسه و هذا خلاف ما عليه عقولكم و عادتكم. إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً بإضافة الأولاد إليه، و هي خاصة بعض الأجسام لسرعة زوالها، ثم بتفضيل أنفسكم عليه حيث تجعلون له ما تكرهون ثم بجعل الملائكة الذين هم من أشرف خلق اللّه أدونهم.
[سورة الإسراء (17): الآيات 41 الى 42]
وَ لَقَدْ صَرَّفْنا كررنا هذا المعنى بوجوه من التقرير. فِي هذَا الْقُرْآنِ في مواضع منه، و يجوز أن يراد بهذا القرآن إبطال إضافة البنات إليه على تقدير: و لقد صرفنا هذا القول في هذا المعنى أو أوقعنا التصريف فيه، و قرئ «صرفنا» بالتخفيف. لِيَذَّكَّرُوا ليتذكروا و قرأ حمزة و الكسائي هنا و في الفرقان لِيَذَّكَّرُوا من الذكر الذي هو بمعنى التذكر. وَ ما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً عن الحق و قلة طمأنينة إليه. قل لو كان معه آلهة كما تقولون أيها المشركون، و قرأ ابن كثير و حفص عن عاصم بالياء فيه و فيما بعده على أن الكلام مع الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم، و وافقهما نافع و ابن عامر و أبو عمرو و أبو بكر و يعقوب في الثانية على أن الأولى مما أمر الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم، أن يخاطب به المشركين، و الثانية مما نزه به نفسه عن مقالتهم. إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا جواب عن قولهم و جزاء ل لَوْ و المعنى: لطلبوا إلى من هو مالك الملك سبيلا بالمعازة كما يفعل الملوك بعضهم مع بعض، أو بالتقرب إليه و الطاعة لعلمهم بقدرته و عجزهم كقولهم تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ .
[سورة الإسراء (17): الآيات 43 الى 44]
سُبْحانَهُ ينزه تنزيها. وَ تَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا تعاليا. كَبِيراً متباعدا غاية البعد عما يقولون، فإنه في أعلى مراتب الوجود و هو كونه واجب الوجود و البقاء لذاته، و اتخاذ الولد من أدنى مراتبه فإنه من خواص ما يمتنع بقاؤه.
تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ينزهه عما هو من لوازم الإمكان و توابع الحدوث بلسان الحال حيث تدل بإمكانها و حدوثها على الصانع القديم الواجب لذاته. وَ لكِنْ
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 257
لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ أيها المشركون لإخلالكم بالنظر الصحيح الذي به يفهم تسبيحهم، و يجوز أن يحمل التسبيح على المشترك بين اللفظ و الدلالة لإسناده إلى ما يتصور منه اللفظ و إلى ما لا يتصور منه و عليهما عند من جوز إطلاق اللفظ على معنييه. و قرأ ابن كثير و ابن عامر و نافع و أبو بكر «يسبح» بالياء. إِنَّهُ كانَ حَلِيماً حيث لم يعاجلكم بالعقوبة على غفلتكم و شرككم. غَفُوراً لمن تاب منكم.
[سورة الإسراء (17): الآيات 45 الى 46]
وَ إِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً يحجبهم عن فهم ما تقرؤه عليهم.
مَسْتُوراً ذا ستر كقوله تعالى: وَعْدُهُ مَأْتِيًّا و قولهم سيل مفعم، أو مستورا عن الحس، أو بحجاب آخر لا يفهمون و لا يفهمون أنهم لا يفهمون نفى عنهم أن يفهموا ما أنزل عليهم من الآيات بعد ما نفى عنهم التفقه للدلالات المنصوبة في الأنفس و الآفاق تقريرا له و بيانا لكونهم مطبوعين على الضلالة كما صرح به بقوله:
وَ جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً تكنها و تحول دونها عن إدراك الحق و قبوله. أَنْ يَفْقَهُوهُ كراهة أن يفقهوه، و يجوز أن يكون مفعولا لما دل عليه قوله: وَ جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أي منعناهم أن يفقهوه.
وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً يمنعهم عن استماعه. و لما كان القرآن معجزا من حيث اللفظ و المعنى أثبت لمنكريه ما يمنع عن فهم المعنى و إدراك اللفظ. وَ إِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ واحدا غير مشفوع به آلهتهم، مصدر وقع موقع الحال و أصله يحد وحده بمعنى واحدا وحده. وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً هربا من استماع التوحيد و نفرة أو تولية، و يجوز أن يكون جمع نافر كقاعد و قعود.
[سورة الإسراء (17): آية 47]
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ بسببه و لأجله من الهزء بك و بالقرآن. إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ ظرف ل أَعْلَمُ و كذا. وَ إِذْ هُمْ نَجْوى أي نحن أعلم بغرضهم من الاستماع حين هم مستمعون إليك مضمرون له و حين هم ذوو نجوى يتناجون به، و نَجْوى مصدر و يحتمل أن يكون جمع نجي. إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً مقدر باذكر، أو بدل من إِذْ هُمْ نَجْوى على وضع الظَّالِمُونَ موضع الضمير للدلالة على أن تناجيهم بقولهم هذا من باب الظلم، و المسحور هو الذي سحر فزال عقله. و قيل الذي له سحر و هو الرئة أي إلا رجلا يتنفس و يأكل و يشرب مثلكم.
[سورة الإسراء (17): الآيات 48 الى 49]
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ مثلوك بالشاعر و الساحر و الكاهن و المجنون. فَضَلُّوا عن الحق في جميع ذلك. فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا إلى طعن موجه فيتهافتون و يخبطون كالمتحير في أمره لا يدري ما يصنع أو إلى الرشاد. وَ قالُوا أَ إِذا كُنَّا عِظاماً وَ رُفاتاً حطاما. أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً على الإنكار و الاستبعاد لما بين غضاضة الحي و يبوسة الرميم، من المباعدة و المنافاة، و العامل في إذا ما دل عليه مبعوثون لا نفسه لأن ما بعد إن لا يعمل فيما قبلها و خَلْقاً مصدر أو حال.
[سورة الإسراء (17): الآيات 50 الى 51]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 258
قُلِ جوابا لهم. كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً .
أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ أي مما يكبر عندكم عن قبول الحياة لكونه أبعد شيء منها، فإن قدرته تعالى لا تقصر عن إحيائكم لاشتراك الأجسام في قبول الأعراض، فكيف إذا كنتم عظاما مرفوتة و قد كانت غضة موصوفة بالحياة قبل و الشيء أقبل لما عهد فيه مما لم يعهد. فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ و كنتم ترابا و ما هو أبعد منه من الحياة. فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ فسيحركونها نحوك تعجبا و استهزاء. وَ يَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً فإن كل ما هو آت قريب، و انتصابه على الخبر أو الظرف أي يكون في زمان قريب، و أَنْ يَكُونَ اسم عَسى أو خبره و الاسم مضمر.
[سورة الإسراء (17): آية 52]
يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَ تَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (52)
يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ أي يوم يبعثكم فتنبعثون، استعار لهما الدعاء و الاستجابة للتنبيه على سرعتهما و تيسر أمرهما، و أن المقصود منهما الإحضار للمحاسبة و الجزاء. بِحَمْدِهِ حال منهم أي حامدين اللّه تعالى على كمال قدرته كما قيل إنهم ينفضون التراب عن رؤوسهم و يقولون: سبحانك اللهم و بحمدك، أو منقادين لبعثه انقياد الحامدين عليه. وَ تَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا و تستقصرون مدة لبثكم في القبور كالذي مر على قرية، أو مدة حياتكم لما ترون من الهول.
[سورة الإسراء (17): الآيات 53 الى 54]
وَ قُلْ لِعِبادِي يعني المؤمنين. يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ الكلمة التي هي أحسن و لا يخاشنوا المشركين. إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ يهيج بينهم المراء و الشر فلعل المخاشنة بهم تفضي إلى العناد و ازدياد الفساد. إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً ظاهر العداوة.
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ تفسير ل الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ و ما بينهما اعتراض أي قولوا لهم هذه الكلمة و نحوها و لا تصرحوا بأنهم من أهل النار، فإنه يهيجهم على الشر مع أن ختام أمرهم غيب لا يعلمه إلا اللّه. وَ ما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا موكولا إليك أمرهم تقسرهم على الإيمان و إنما أرسلناك مبشرا و نذيرا فدارهم و مر أصحابك بالاحتمال منهم. و
روي أن المشركين أفرطوا في إيذائهم فشكوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فنزلت.
و قيل شتم عمر رضي اللّه تعالى عنه رجل منهم فهم به فأمره اللّه بالعفو.
[سورة الإسراء (17): آية 55]