کتابخانه تفاسیر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 273
التبني. كَبُرَتْ كَلِمَةً عظمت مقالتهم هذه في الكفر لما فيها من التشبيه و التشريك، و إيهام احتياجه تعالى إلى ولد يعينه و يخلفه إلى غير ذلك من الزيغ، و كَلِمَةً نصب على التمييز و قرئ بالرفع على الفاعلية و الأول أبلغ و أدل على المقصود. تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ صفة لها تفيد استعظام اجترائهم على إخراجها من أفواههم، و الخارج بالذات هو الهواء الحامل لها. و قيل صفة محذوف هو المخصوص بالذم لأن كبر ها هنا بمعنى بئس و قرئ «كبرت» بالسكون مع الإشمام. إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً .
[سورة الكهف (18): آية 6]
فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (6)
فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ قاتلها. عَلى آثارِهِمْ إذا ولوا عن الإيمان، شبهه لما يداخله من الوجد على توليهم بمن فارقته أعزته فهو يتحسر على آثارهم و يبخع نفسه وجدا عليهم. و قرئ «باخع نفسك» على الإضافة. إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ بهذا القرآن. أَسَفاً للتأسف عليهم أو متأسفا عليهم، و الأسف فرط الحزن و الغضب. و قرئ «أن» بالفتح على لأن فلا يجوز إعمال باخِعٌ إلا إذا جعل حكاية حال ماضية.
[سورة الكهف (18): الآيات 7 الى 8]
إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ من الحيوان و النبات و المعادن. زِينَةً لَها و لأهلها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا في تعاطيه، و هو من زهد فيه و لم يغتر به و قنع منه بما يزجي به أيامه و صرفه على ما ينبغي، و فيه تسكين لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم.
وَ إِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً تزهيد فيه، و الجرز الأرض التي قطع نباتها. مأخوذ من الجرز و هو القطع، و المعنى إنا لنعيد ما عليها من الزينة ترابا مستويا بالأرض و نجعله كصعيد أملس لا نبات فيه.
[سورة الكهف (18): آية 9]
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَ الرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (9)
أَمْ حَسِبْتَ بل أحسبت. أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَ الرَّقِيمِ في إبقاء حياتهم مدة مديدة. كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً و قصتهم بالإضافة إلى خلق ما على الأرض من الأجناس و الأنواع الفائتة للحصر على طبائع متباعدة و هيئات متخالفة تعجب الناظرين من مادة واحدة، ثم ردها إليها ليس بعجيب مع أنه من آيات اللّه كالنزر الحقير. و الْكَهْفِ الغار الواسع في الجبل. و الرَّقِيمِ اسم الجبل أو الوادي الذي فيه كهفهم، أو اسم قريتهم أو كلبهم. قال أمية بن أبي الصلت:
و ليس بها إلّا الرّقيم مجاورا
و صيدهمو و القوم في الكهف هجّد
أو لوح رصاصي أو حجري رقمت فيه أسماؤهم و جعل على باب الكهف. و قيل أصحاب الرقيم قوم آخرون كانوا ثلاثة خرجوا يرتادون لأهلهم، فأخذتهم السماء فأووا إلى الكهف فانحطت صخرة و سدت بابه.
فقال أحدهم اذكروا أيكم عمل حسنة لعل اللّه يرحمنا ببركته، فقال أحدهم: استعملت أجراء ذات يوم فجاء رجل وسط النهار و عمل في بقيته مثل عملهم فأعطيته مثل أجرهم، فغضب أحدهم و ترك أجره فوضعته في جانب البيت، ثم مر بي بقر فاشتريت به فصيلة فبلغت ما شاء اللّه، فرجع إلي بعد حين شيخا ضعيفا لا أعرفه و قال: إن لي عندك حقا و ذكره لي حتى عرفته فدفعتها إليه جميعا، اللهم إن كنت فعلت ذلك لوجهك فافرج عنا، فانصدع الجبل حتى رأوا الضوء. و قال آخر: كان فيّ فضل و أصابت الناس شدة، فجاءتني امرأة فطلبت مني معروفا فقلت: و اللّه ما هو دون نفسك فأبت و عادت ثم رجعت ثلاثا، ثم ذكرت لزوجها فقال أجيبي له و أغيثي عيالك، فأتت و سلمت إلي نفسها فلما تكشفتها و هممت بها ارتعدت فقلت: ما لك قالت أخاف اللّه،
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 274
فقلت لها: خفته في الشدة و لم أخفه في الرخاء فتركتها و أعطيتها ملتمسها، اللهم إن كنت فعلته لوجهك فافرج عنا، فانصدع حتى تعارفوا. و قال الثالث كان لي أبوان هرمان و كانت لي غنم و كنت أطعمهما و أسقيهما ثم أرجع إلى غني فحبسني ذات يوم غيث فلم أبرح حتى أمسيت، فأتيت أهلي و أخذت محلبي فحلبت فيه و مضيت إليهما، فوجدتهما نائمين فشق علي أن أوقظهما، فتوقعت جالسا و محلبي على يدي حتى أيقظهما الصبح فسقيتهما. اللهم إن كنت فعلته لوجهك فافرج عنا. ففرج اللّه عنهم فخرجوا و قد رفع ذلك نعمان بن بشير.
[سورة الكهف (18): الآيات 10 الى 11]
إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ يعني فتية من أشراف الروم أرادهم دقيانوس على الشرك فأبوا و هربوا إلى الكهف، فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً توجب لنا المغفرة و الرزق و الأمن من العدو. وَ هَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا من الأمر الذي نحن عليه من مفارقة الكفار. رَشَداً نصير بسببه راشدين مهتدين، أو اجعل أمرنا كله رشدا كقولك: رأيت منك أسدا و أصل التهيئة إحداث هيئة الشيء.
فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ أي ضربنا عليهم حجابا يمنع السماع بمعنى أنمناهم إنامة لا تنبههم فيها الأصوات، فحذف المفعول كما حذف في قولهم: بنى على امرأته. فِي الْكَهْفِ سِنِينَ ظرفان لضربنا.
عَدَداً أي ذوات عدد، و وصف السنين به يحتمل التكثير و التقليل، فإن مدة لبثهم كبعض يوم عنده.
[سورة الكهف (18): الآيات 12 الى 13]
ثُمَّ بَعَثْناهُمْ أيقظناهم. لِنَعْلَمَ ليتعلق علمنا تعلقا حاليا مطابقا لتعلقه أولا تعلقا استقباليا. أَيُّ الْحِزْبَيْنِ المختلفين منهم أو من غيرهم في مدة لبثهم. أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً ضبط أمد الزمان لبثهم و ما في أي من معنى الاستفهام علق عنه لنعلم، فهو مبتدأ و أَحْصى خبره. و هو فعل ماض و أَمَداً مفعول له و لِما لَبِثُوا حال منه أو مفعول له، و قيل إنه المفعول و اللام مزيدة و ما موصولة و أَمَداً تمييز، و قيل أَحْصى اسم تفضيل من الإحصاء بحذف الزوائد كقولهم: هو أحصى للمال و أفلس من ابن المذلق، و أَمَداً نصب بفعل دل عليه أَحْصى كقوله:
و اضرب منّا بالسّيوف القوانسا نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِ بالصدق. إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ شبان جمع فتى كصبي و صبية. آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَ زِدْناهُمْ هُدىً بالتثبيت.
[سورة الكهف (18): الآيات 14 الى 15]
وَ رَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ و قويناها بالصبر على هجر الوطن و الأهل و المال، و الجراءة على إظهار الحق و الرد على دقيانوس الجبار. إِذْ قامُوا بين يديه. فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً و اللّه لقد قلنا قولا ذا شطط أي ذا بعد عن الحق مفرط في الظلم.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 275
هؤُلاءِ مبتدأ. قَوْمُنَا عطف بيان. اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً خبره، و هو إخبار في معنى إنكار.
لَوْ لا يَأْتُونَ هلا يأتون. عَلَيْهِمْ على عبادتهم. بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ ببرهان ظاهر فإن الدين لا يؤخذ إلا به، و فيه دليل على أن ما لا دليل عليه من الديانات مردود و أن التقليد فيه غير جائز. فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بنسبة الشريك إليه.
[سورة الكهف (18): آية 16]
وَ إِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ خطاب بعضهم لبعض. وَ ما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ عطف على الضمير المنصوب، أي و إذ اعتزلتم القوم و معبوديهم إلا اللّه، فإنهم كانوا يعبدون اللّه و يعبدون الأصنام كسائر المشركين. و يجوز أن تكون ما مصدرية على تقدير و إذ اعتزلتموهم و عبادتهم إلا عبادة اللّه، و أن تكون نافية على أنه إخبار من اللّه تعالى عن الفتية بالتوحيد معترض بين إِذِ و جوابه لتحقيق اعتزالهم. فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ يبسط الرزق لكم و يوسع عليكم. مِنْ رَحْمَتِهِ في الدارين. وَ يُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً ما ترتفقون به أي تنتفعون، و جزمهم بذلك لنصوع يقينهم و قوة وثوقهم بفضل اللّه تعالى، و قرأ نافع و ابن عامر مِرْفَقاً بفتح الميم و كسر الفاء و هو مصدر جاء شاذا كالمرجع و المحيض فإن قياسه الفتح.
[سورة الكهف (18): آية 17]
وَ تَرَى الشَّمْسَ لو رأيتهم، و الخطاب لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، أو لكل أحد. إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ تميل عنه و لا يقع شعاعها عليهم فيؤذيهم، لأن الكهف كان جنوبيا، أو لأن اللّه تعالى زورها عنهم. و أصله تتزاور فأدغمت التاء في الزاي، و قرأ الكوفيون بحذفها و ابن عامر و يعقوب «تزورّ» كتحمر، و قرئ «تزوار» كتحمار و كلها من الزور بمعنى الميل. ذاتَ الْيَمِينِ جهة اليمين و حقيقتها الجهة ذات اسم اليمين. وَ إِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ تقطعهم و تصرم عنهم. ذاتَ الشِّمالِ يعني يمين الكهف و شماله لقوله: وَ هُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ أي و هم في متسع من الكهف، يعني في وسطه بحيث ينالهم روح الهواء و لا يؤذيهم كرب الغار و لا حر الشمس، و ذلك لأن باب الكهف في مقابلة بنات نعش، و أقرب المشارق و المغارب إلى محاذاته مشرق رأس السرطان و مغربه، و الشمس إذا كان مدارها مداره تطلع مائلة عنه مقابلة لجانبه الأيمن و هو الذي يلي المغرب، و تغرب محاذية لجانبه الأيسر فيقع شعاعها على جانبيه، و يحلل عفونته و يعدل هواءه و لا يقع عليهم فيؤذي أجسادهم و يبلي ثيابهم. ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ أي شأنهم و إيواؤهم إلى كهف شأنه كذلك، أو إخبارك قصتهم، أو ازورار الشمس عنهم و قرضها طالعة و غاربة من آيات اللّه. مَنْ يَهْدِ اللَّهُ بالتوفيق. فَهُوَ الْمُهْتَدِ الذي أصاب الفلاح، و المراد به إما الثناء عليهم أو التنبيه على أن أمثال هذه الآيات كثيرة و لكن المنتفع بها من وفقه اللّه للتأمل فيها و الاستبصار بها. وَ مَنْ يُضْلِلْ و من يخذله. فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً من يليه و يرشده.
[سورة الكهف (18): آية 18]
وَ تَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً لانفتاح عيونهم أو لكثرة تقلبهم. وَ هُمْ رُقُودٌ نيام. وَ نُقَلِّبُهُمْ في رقدتهم.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 276
ذاتَ الْيَمِينِ وَ ذاتَ الشِّمالِ كيلا تأكل الأرض ما يليها من أبدانهم على طول الزمان. و قرئ «و يقلبهم» بالياء و الضمير للّه تعالى، و «تقلبهم» على المصدر منصوبا بفعل يدل عليه تحسبهم أي و ترى تقلبهم. وَ كَلْبُهُمْ هو كلب مروا به فتبعهم فطردوه فأنطقه اللّه تعالى فقال: أنا أحب أحباء اللّه فناموا و أنا أحرسكم. أو كلب راع مروا به فتبعهم و تبعه الكلب، و يؤيده قراءة من قرأ: «و كالبهم» أي و صاحب كلبهم. باسِطٌ ذِراعَيْهِ حكاية حال ماضية و لذلك أعمل اسم الفاعل. بِالْوَصِيدِ بفناء الكهف، و قيل الوصيد الباب، و قيل العتبة. لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ فنظرت إليهم، و قرئ «لو اطّلعت» بضم الواو. لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً لهربت منهم، و فِراراً يحتمل المصدر لأنه نوع من التولية و العلة و الحال. وَ لَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً خوفا يملأ صدرك بما ألبسهم اللّه من الهيبة أو لعظم أجرامهم و انفتاح عيونهم. و قيل لوحشة مكانهم. و عن معاوية رضي اللّه عنه أنه غزا الروم فمر بالكهف فقال: لو كشفت لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم، فقال له ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما: ليس لك ذلك قد منع اللّه تعالى منه من هو خير منك فقال لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً فلم يسمع و بعث ناسا فلما دخلوا جاءت ريح فأحرقتهم. و قرأ الحجازيان لَمُلِئْتَ بالتشديد للمبالغة و ابن عامر و الكسائي و يعقوب رُعْباً بالتثقيل.
[سورة الكهف (18): الآيات 19 الى 20]
وَ كَذلِكَ بَعَثْناهُمْ و كما أنمناهم آية بعثناهم آية على كمال قدرتنا. لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ ليسأل بعضهم بعضا فتعرفوا حالهم و ما صنع اللّه بهم فيزدادوا يقينا على كمال قدرة اللّه تعالى، و يستبصروا به أمر البعث و يشكروا ما أنعم اللّه به عليهم. قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ بناء على غالب ظنهم لأن النائم لا يحصي مدة نومه و لذلك أحالوا العلم إلى اللّه تعالى. قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ و يجوز أن يكون ذلك قول بعضهم و هذا إنكار الآخرين عليهم. و قيل إنهم دخلوا الكهف غدوة و انتبهوا ظهيرة و ظنوا أنهم في يومهم أو اليوم الذي بعده قالوا ذلك، فلما نظروا إلى طول أظفارهم و أشعارهم قالوا هذا ثم لما علموا أن الأمر ملتبس لا طريق لهم إلى علمه أخذوا فيما يهمهم و قالوا: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ و الورق الفضة مضروبة كانت أو غير مضروبة، و قرأ أبو بكر و أبو عمرو و حمزة و روح عن يعقوب بالتخفيف. و قرئ بالتثقيل و إدغام القاف في الكاف و بالتخفيف مكسور الواو مدغما و غير مدغم، ورد المدغم لالتقاء الساكنين على غير حده، و حملهم له دليل على أن التزود رأي المتوكلين و المدينة طرسوس. فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أي أهلها. أَزْكى طَعاماً أحل و أطيب أو أكثر و أرخص. فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَ لْيَتَلَطَّفْ و ليتكلف اللطف في المعاملة حتى لا يغبن، أو في التخفي حتى لا يعرف. وَ لا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً و لا يفعلن ما يؤدي إلى الشعور.
إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ أي يطلعوا عليكم أو يظفروا بكم، و الضمير للأهل المقدر في أَيُّها . يَرْجُمُوكُمْ يقتلوكم بالرجم. أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ أو يصيروكم إليها كرها من العود بمعنى الصيرورة. و قيل كانوا أولا على دينهم فآمنوا. وَ لَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً إن دخلتم في ملتهم.
[سورة الكهف (18): آية 21]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 277
وَ كَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ و كما أنمناهم و بعثناهم لتزداد بصيرتهم أطلعنا عليهم. لِيَعْلَمُوا ليعلم الذين أطلعناهم على حالهم. أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالبعث أو الموعود الذي هو البعث. حَقٌ لأن نومهم و انتباهم كحال من يموت ثم يبعث. وَ أَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها و أن القيامة لا ريب في إمكانها، فإن من توفى نفوسهم و أمسكها ثلاثمائة سنين حافظا أبدانها عن التحلل و التفتت، ثم أرسلها إليها قدر أن يتوفى نفوس جميع الناس ممسكا إياها إلى أن يحشر أبدانهم فيردها عليها. إِذْ يَتَنازَعُونَ ظرف ل أَعْثَرْنا أي أعثرنا عليهم حين يتنازعون. بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ أمر دينهم، و كان بعضهم يقول تبعث الأرواح مجردة و بعضهم يقول يبعثان معا ليرتفع الخلاف و يتبين أنهما يبعثان معا، أو أمر الفتية حين أماتهم اللّه ثانيا بالموت فقال بعضهم، ماتوا و قال آخرون ناموا نومهم أول مرة، أو قالت طائفة نبني عليهم بنيانا يسكنه الناس و يتخذونه قرية، و قال آخرون لنتخذن عليهم مسجدا يصلى فيه كما قال تعالى: فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً و قوله رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ اعتراض إما من اللّه ردا على الخائضين في أمرهم من أولئك المتنازعين أو من المتنازعين في زمانهم، أو من المتنازعين فيهم على عهد الرسول صلى اللّه عليه و سلم، أو من المتنازعين للرد إلى اللّه بعد ما تذكروا أمرهم و تناقلوا الكلام في أنسابهم و أحوالهم فلم يتحقق لهم ذلك.
حكي أن المبعوث لما دخل السوق و أخرج الدراهم و كان عليها اسم دقيانوس اتهموه بأنه وجد كنزا فذهبوا به إلى الملك. و كان نصرانيا موحدا. فقص عليه القصص، فقال بعضهم: إن آباءنا أخبرونا أن فتية فروا بدينهم من دقيانوس فلعلهم هؤلاء، فانطلق الملك و أهل المدينة من مؤمن و كافر و أبصروهم و كلموهم، ثم قالت الفتية للملك نستودعك اللّه و نعيذك به من شر الجن و الإنس ثم رجعوا إلى مضاجعهم فماتوا فدفنهم الملك في الكهف و بني عليهم مسجدا. و قيل لما انتهوا إلى الكهف قال لهم الفتى مكانكم حتى أدخل أولا لئلا يفزعوا، فدخل فعمي عليهم المدخل فبنوا ثم مسجدا.
[سورة الكهف (18): آية 22]
سَيَقُولُونَ أي الخائضون في قصتهم في عهد الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم من أهل الكتاب و المؤمنين. ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ أي هم ثلاثة رجال يربعهم كلبهم بانضمامه إليهم. قيل هو قول اليهود و قيل هو قول السيد من نصارى نجران و كان يعقوبيا. وَ يَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ قاله النصارى أو العاقب منهم و كان نسطوريا. رَجْماً بِالْغَيْبِ يرمون رميا بالخبر الخفي الذي لا مطلع لهم عليه و إتيانا به، أو ظنا بالغيب من قولهم رجم بالظن إذا ظن و إنما لم يذكر بالسين اكتفاء بعطفه على ما هو فيه. وَ يَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَ ثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ إنما قاله المسلمون بإخبار الرسول لهم عن جبريل عليهما الصلاة و السلام و إيماء اللّه تعالى إليه بأن اتبعه قوله قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ و أتبع الأولين قوله رجما بالغيب و بأن أثبت العلم بهم لطائفة بعد ما حصر أقوال الطوائف في الثلاثة المذكورة، فإن عدم إيراد رابع في نحو هذا المحل دليل العدم مع أن الأصل ينفيه، ثم رد الأولين بأن أتبعهما قوله رَجْماً بِالْغَيْبِ ليتعين الثالث و بأن أدخل فيه الواو على الجملة الواقعة صفة للنكرة تشبيها لها بالواقعة حالا من المعرفة، لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف و الدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت. و
عن علي رضي اللّه عنه هم سبعة و ثامنهم كلبهم و أسماؤهم: يمليخا و مكشلينيا
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 278
و مشلينيا هؤلاء أصحاب يمين الملك، و مرنوش و دبرنوش و شاذنوش أصحاب يساره و كان يستشيرهم، و السابع الراعي الذي وافقهم و اسم كلبهم قطمير و اسم مدينتهم أفسوس.
و قيل الأقوال الثلاثة لأهل الكتاب و القليل منهم. فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً فلا تجادل في شأن الفتية إلّا جدالا ظاهرا غير متعمق فيه، و هو أن تقص عليهم ما في القرآن من غير تجهيل لهم و الرد عليهم. وَ لا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً و لا تسأل أحدا منهم عن قصتهم سؤال مسترشد فإن فيما أوحي إليك لمندوحة من غيره، مع أنه لا علم لهم بها و لا سؤال متعنت تريد تفضيح المسؤول و تزييف ما عنده فإنه مخل بمكارم الأخلاق.
[سورة الكهف (18): الآيات 23 الى 24]
وَ لا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ نهي تأديب من اللّه تعالى لنبيه
حين قالت اليهود لقريش: سلوه عن الروح و أصحاب الكهف و ذي القرنين، فسألوه فقال: «ائتوني غدا أخبركم»
و لم يستثن فأبطأ عليه الوحي بضعة عشر يوما حتى شق عليه و كذبته قريش. و الاستثناء من النهي أي و لا تقولن لأجل شيء تعزم عليه إني فاعله فيما يستقبل إلا ب أَنْ يَشاءَ اللَّهُ ، أي إلا ملتبسا بمشيئته قائلا إن شاء اللّه أو إلا وقت أن يشاء اللّه أن تقوله بمعنى أن يأذن لك فيه، و لا يجوز تعليقه بفاعل لأن استثناء اقتران المشيئة بالفعل غير سديد و استثناء اعتراضها دونه لا يناسب النهي وَ اذْكُرْ رَبَّكَ مشيئة ربك و قل إن شاء اللّه. كما
روي أنه لما نزل قال عليه الصلاة و السلام: «إن شاء اللّه».
إِذا نَسِيتَ إذا فرط منك نسيان لذلك ثم تذكرته. و عن ابن عباس و لو بعد سنة ما لم يحنث، و لذلك جوز تأخير الاستثناء عنه. و عامة الفقهاء على خلافه لأنه لو صح ذلك لم يتقرر إقرار و لا طلاق و لا عتاق و لم يعلم صدق و لا كذب، و ليس في الآية و الخبر أن الاستثناء المتدارك به من القول السابق بل هو من مقدر مدلول به عليه، و يجوز أن يكون المعنى و اذكر ربك بالتسبيح و الاستغفار إذا نسيت الاستثناء مبالغة في الحث عليه، أو اذكر ربك و عقابه إذا تركت بعض ما أمرك به ليبعثك على التدارك، أو اذكره إذا اعتراك النسيان ليذكرك المنسي. وَ قُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي يدلني. لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً لأقرب رشدا و أظهر دلالة على أني نبي من نبأ أصحاب الكهف. و قد هداه لأعظم من ذلك كقصص الأنبياء المتباعدة عنه أيامهم، و الإخبار بالغيوب و الحوادث النازلة في الأعصار المستقبلة إلى قيام الساعة، أو لأقرب رشدا و أدنى خيرا من المنسي.
[سورة الكهف (18): آية 25]
وَ لَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَ ازْدَادُوا تِسْعاً (25)
وَ لَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَ ازْدَادُوا تِسْعاً يعني لبثهم فيه أحياء مضروبا على آذانهم، و هو بيان لما أجمل قبل. و قيل إنه حكاية كلام أهل الكتاب فإنهم اختلفوا في مدة لبثهم كما اختلفوا في عدتهم فقال بعضهم ثلاثمائة و قال بعضهم ثلاثمائة و تسع سنين. و قرأ حمزة و الكسائي ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ بالإضافة على وضع الجمع موضع الواحد، و يحسنه ها هنا أن علامة الجمع فيه جبر لما حذف من الواحد و أن الأصل في العدد إضافته إلى الجمع و من لم يضف أبدل السنين من ثلاثمائة.
[سورة الكهف (18): آية 26]
قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ له ما غاب فيهما و خفي من أحوال أهلهما، فلا خلق يخفى عليه علما. أَبْصِرْ بِهِ وَ أَسْمِعْ ذكر بصيغة التعجب للدلالة على أن أمره في الإدراك خارج عما
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 279
عليه إدراك السامعين و المبصرين، إذ لا يحجبه شيء و لا يتفاوت دونه لطيف و كثيف و صغير و كبير و خفي و جلي، و الهاء تعود إلى اللّه و محله الرفع على الفاعلية و الباء مزيدة عند سيبويه و كان أصله أبصر أي صار ذا بصر، ثم نقل إلى صيغة الأمر بمعنى الإنشاء، فبرز الضمير لعدم لياق الصيغة له أو لزيادة الباء كما في قوله تعالى وَ كَفى بِهِ* و النصب على المفعولية عند الأخفش و الفاعل ضمير المأمور و هو كل أحد و الباء مزيدة إن كانت الهمزة للتعدية و معدية إن كانت للصيرورة. ما لَهُمْ الضمير لأهل السموات و الأرض. مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍ من يتولى أمورهم. وَ لا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ في قضائه. أَحَداً منهم و لا بجعل له فيه مدخلا. و قرأ ابن عامر و قالون عن يعقوب بالتاء و الجزم على نهي كل أحد عن الإشراك، ثم لما دل اشتمال القرآن على قصة أصحاب الكهف من حيث إنها من المغيبات بالإضافة إلى الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم على أنه وحي معجز أمره أن يداوم درسه و يلازم أصحابه فقال:
[سورة الكهف (18): الآيات 27 الى 28]
وَ اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ من القرآن، و لا تسمع لقولهم: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ .
لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ لا أحد يقدر على تبديلها و تغييرها غيره. وَ لَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً ملتجأ عليه إن هممت به.
وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ و احبسها و ثبتها. مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِ في مجامع أوقاتهم، أو في طرفي النهار. و قرأ ابن عامر «بالغدوة» و فيه أن غدوة علم في الأكثر فتكون اللام فيه على تأويل التنكير.
يُرِيدُونَ وَجْهَهُ رضا اللّه و طاعته. وَ لا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ و لا يجاوزهم نظرك إلى غيرهم، و تعديته بعن لتضمينه معنى نبا. و قرئ «و لا تعد عينيك» «و لا تعد» من أعداه و عداه. و المراد نهي الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم أن يزدري بفقراء المؤمنين و تعلو عينه عن رثاثة زيهم طموحا إلى طراوة زي الأغنياء. تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا حال من الكاف في المشهورة و من المستكن في الفعل في غيرها. وَ لا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ من جعلنا قلبه غافلا.
عَنْ ذِكْرِنا كأمية بن خلف في دعائك إلى طرد الفقراء عن مجلسك لصناديد قريش. و فيه تنبيه على أن الداعي له إلى هذا الاستدعاء غفلة قلبه عن المعقولات و انهماكه في المحسوسات، حتى خفي عليه أن الشرف بحلية النفس لا بزينة الجسد، و أنه لو أطاعه كان مثله في الغباوة. و المعتزلة لما غاظهم إسناد الإغفال إلى اللّه تعالى قالوا: إنه مثل أجبنته إذا وجدته كذلك أو نسبته إليه، أو من أغفل إبله إذا تركها بغير سمة أي لم نسمه بذكرنا كقلوب الذين كتبنا في قلوبهم الإيمان، و احتجوا على أن المراد ليس ظاهر ما ذكر أولا بقوله: وَ اتَّبَعَ هَواهُ و جوابه ما مر غير مرة. و قرئ «أغفلنا» بإسناد الفعل إلى القلب على معنى حسبنا قلبه غافلين عن ذكرنا إياه بالمؤاخذة. وَ كانَ أَمْرُهُ فُرُطاً أي تقدما على الحق و نبذا له وراء ظهره يقال: فرس فرط أي متقدم للخيل و منه الفرط.
[سورة الكهف (18): آية 29]