کتابخانه تفاسیر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 289
الأول لذلك فإنها كانت صغيرة و لم تبلغ الحلم أو أنه لم يرها قد أذنبت ذنبا يقتضي قتلها، أو قتلت نفسا فتقاد بها، نبه به على أن القتل إنما يباح حدا أو قصاصا و كلا الأمرين منتف، و لعل تغيير النظم بأن جعل خرقها جزاء، و اعتراض موسى عليه الصلاة و السلام مستأنفا في الأولى و في الثانية قتله من جملة الشرط و اعتراضه جزاء، لأن القتل أقبح و الاعتراض عليه أدخل فكان جديرا بأن يجعل عمدة الكلام و لذلك فصله بقوله: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً أي منكرا، و قرأ نافع في رواية قالون و ورش و ابن عامر و يعقوب و أبو بكر نُكْراً بضمتين.
[سورة الكهف (18): الآيات 75 الى 76]
قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً زاد فيه لَكَ مكافحة بالعتاب على رفض الوصية، و وسما بقلة الثبات و الصبر لما تكرر منه الاشمئزاز و الاستنكار و لم يرعو بالتذكير أول مرة حتى زاد في الاستنكار ثاني مرة.
قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي و إن سألت صحبتك، و عن يعقوب «فلا تصحبني» أي فلا تجعلني صاحبك. قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً قد وجدت عذرا من قبلي لما خالفتك ثلاث مرات. و
عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم «رحم اللّه أخي موسى استحيا فقال ذلك لو لبث مع صاحبه لأبصر أعجب الأعاجيب».
و قرأ نافع مِنْ لَدُنِّي بتحريك النون و الاكتفاء بها عن نون الدعامة كقوله: قدني من نصر الحبيبين قدى. و أبو بكر لَدُنِّي بتحريك النون و إسكان الضاد من عضد.
[سورة الكهف (18): آية 77]
فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ قرية أنطاكية و قيل أبلة البصرة. و قيل باجروان أرمينية. اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما و قرئ يُضَيِّفُوهُما من أضافه يقال ضافه إذا نزل به ضيفا و أضافه و ضيفه أنزله، و أصل التركيب للميل يقال ضاف السهم عن الغرض إذا مال. فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ يداني أن يسقط فاستعيرت الإرادة للمشارفة كما استعير لها الهم و العزم قال:
يريد الرّمح صدر أبي براء
و يعدل عن دماء بني عقيل
و قال:
إنّ دهرا يلمّ شملي بجمل
لزمان يهمّ بالإحسان
و انقض انفعل من قضضته إذا كسرته، و منه انقضاض الطير و الكواكب لهويه، أو أفعل من النقض.
و قرئ «أن ينقض» و «أن ينقاص» بالصاد المهملة من انقاصت السن إذا انشقت طولا. فَأَقامَهُ بعمارته أو بعمود عمده به، و قيل مسحه بيده فقام. و قيل نقضه و بناه. قالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً تحريضا على أخذ الجعل لينتعشا به، أو تعريضا بأنه فضول لما في لَوْ من النفي كأنه لما رأى الحرمان و مساس الحاجة و اشتغاله بما لا يعنيه لم يتمالك نفسه، و اتخذ افتعل من تخذ كاتبع من تبع و ليس من الأخذ عند البصريين، و قرأ ابن كثير و البصريان «لتخذت» أي لأخذت و أظهر ابن كثير و يعقوب و حفص الدال و أدغمه الباقون.
[سورة الكهف (18): آية 78]
قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَ بَيْنِكَ الإشارة إلى الفراق الموعود بقوله فَلا تُصاحِبْنِي أو إلى الاعتراض
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 290
الثالث، أو الوقت أي هذا الاعتراض سبب فراقنا أو هذا الوقت وقته، و إضافة الفراق إلى البين إضافة المصدر إلى الظرف على الاتساع، و قد قرئ على الأصل. سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً بالخبر الباطن فيما لم تستطع الصبر عليه لكونه منكرا من حيث الظاهر.
[سورة الكهف (18): آية 79]
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ لمحاويج، و هو دليل على أن المسكين يطلق على من يملك شيئا إذا لم يكفه. و قيل سموا مساكين لعجزهم عن دفع الملك أو لزمانتهم فإنها كانت لعشرة إخوة خمسة زمنى و خمسة يعملون في البحر. فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها أن أجعلها ذات عيب. وَ كانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ قدامهم أو خلفهم و كان رجوعهم عليه، و اسمه جلندى بن كركر، و قيل منوار بن جلندي الأزدي. يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً من أصحابها. و كان حق النظم أن يتأخر قوله فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها عن قوله وَ كانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ لأن إرادة التعيب مسببة عن خوف الغصب و إنما قدم للعناية أو لأن السبب لما كان مجموع الأمرين خوف الغصب و مسكنة الملاك رتبه على أقوى الجزأين و أدعاهما و عقبه بالآخر على سبيل التقييد و التتميم، و قرئ «كل سفينة صالحة» و المعنى عليها.
[سورة الكهف (18): الآيات 80 الى 81]
وَ أَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما أن يغشيهما. طُغْياناً وَ كُفْراً لنعمتهما بعقوقه فيلحقهما شرا، أو يقرن بإيمانهما طغيانه و كفره فيجتمع في بيت واحد مؤمنان و طاغ كافر، أو يعديهما بعلته فيرتدا بإضلاله، أو بممالأته على طغيانه و كفره حبّا له. و إنما خشي ذلك لأن اللّه تعالى أعلمه. و عن ابن عباس رضي اللّه تعالى عنهما: أن نجدة الحروري كتب إليه كيف قتله و قد نهى النبي صلّى اللّه عليه و سلّم عن قتل الولدان، فكتب إليه إن كنت علمت من حال الولدان ما علمه عالم موسى فلك أن تقتل. و قرئ «فخاف ربك» أي فكره كراهة من خاف سوء عاقبته، و يجوز أن يكون قوله فَخَشِينا حكاية قول اللّه عز و جل.
فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ أن يرزقهما ولدا خيرا منه. زَكاةً طهارة من الذنوب و الأخلاق الرديئة. وَ أَقْرَبَ رُحْماً رحمة و عطفا على والديه. قيل ولدت لهما جارية فتزوجها نبي فولدت له نبيا هدى اللّه به أمة من الأمم، و قرأ نافع و أبو عمرو يُبْدِلَهُما بالتشديد و ابن عامر و يعقوب و عاصم رُحْماً بالتخفيف، و انتصابه على التمييز و العامل اسم التفضيل و كذلك زَكاةً .
[سورة الكهف (18): آية 82]
وَ أَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ قيل اسمهما أصرم و صريم، و اسم المقتول جيسور.
وَ كانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما من ذهب و فضة، روي ذلك مرفوعا و الذم على كنزهما في قوله تعالى: وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ لمن لا يؤدي زكاتهما و ما تعلق بهما من الحقوق. و قيل من كتب العلم. و قيل كان لوح من ذهب مكتوب فيه: عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن، و عجبت لمن يؤمن بالرزق كيف يتعب،
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 291
و عجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل، و عجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح، و عجبت لمن يعرف الدنيا و تقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها، لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه. وَ كانَ أَبُوهُما صالِحاً تنبيه على أن سعيه ذلك كان لصلاحه. قيل كان بينهما و بين الأب الذي حفظا فيه سبعة آباء و كان سياحا و اسمه كاشح. فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما أي الحلم و كمال الرأي. وَ يَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ مرحومين من ربك، و يجوز أن يكون علة أو مصدرا لأراد فإن إرادة الخير رحمة. و قيل متعلق بمحذوف تقديره فعلت ما فعلت رحمة من ربك، و لعل إسناد الإرادة أولا إلى نفسه لأنه المباشر للتعييب و ثانيا إلى اللّه و إلى نفسه لأن التبديل بإهلاك الغلام و إيجاد اللّه بدله، و ثالثا إلى اللّه وحده لأنه لا مدخل له في بلوغ الغلامين. أو لأن الأول في نفسه شر، و الثالث خير، و الثاني ممتزج. أو لاختلاف حال العارف في الالتفات إلى الوسائط. وَ ما فَعَلْتُهُ و ما فعلت ما رأيته. عَنْ أَمْرِي عن رأيي و إنما فعلته بأمر اللّه عز و جل، و مبني ذلك على أنه إذا تعارض ضرران يجب تحمل أهونهما لدفع أعظمهما، و هو أصل ممهد غير أن الشرائع في تفاصيله مختلفة. ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً أي ما لم تستطع فحذف التاء تخفيفا.
و من فوائد هذه القصة أن لا يعجب المرء بعلمه و لا يبادر إلى إنكار ما لم يستحسنه، فلعل فيه سرا لا يعرفه، و أن يداوم على التعلم و يتذلل للمعلم، و يراعي الأدب في المقابل و أن ينبه المجرم على جرمه و يعفو عنه حتى يتحقق إصراره ثم يهاجر عنه.
[سورة الكهف (18): آية 83]
وَ يَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (83)
وَ يَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ يعني إسكندر الرومي ملك فارس و الروم. و قيل المشرق و المغرب و لذلك سمي ذا القرنين، أو لأنه طاف قرني الدنيا شرقها و غربها، و قيل لأنه انقرض في أيامه قرنان من الناس، و قيل كان له قرنان أي ضفيرتان، و قيل كان لتاجه قرنان. و يحتمل أنه لقب بذلك لشجاعته كما يقال الكبش للشجاع كأنه ينطح أقرانه. و اختلف في نبوته مع الاتفاق على إيمانه و صلاحه، و السائلون هم اليهود سألوه امتحانا أو مشركو مكة. قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً خطاب للسائلين و الهاء لذي القرنين. و قيل للّه.
[سورة الكهف (18): آية 84]
إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَ آتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (84)
إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ أي مكنا له أمره من التصرف فيها كيف شاء فحذف المفعول. وَ آتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أراده و توجه إليه. سَبَباً و صلة توصله إليه من العلم و القدرة و الآلة.
[سورة الكهف (18): الآيات 85 الى 86]
فَأَتْبَعَ سَبَباً أي فأراد بلوغ المغرب فأتبع سببا يوصله إليه، و قرأ الكوفيون و ابن عامر بقطع الألف مخففة التاء.
حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ذات حمأ من حمئت البئر إذا صارت ذات حمأة. و قرأ ابن عامر و حمزة و الكسائي و أبو بكر «حامية» أي حارة، و لا تنافي بينهما لجواز أن تكون العين جامعة للوصفين أو «حمية» على أن ياءها مقلوبة عن الهمزة لكسر ما قبلها. و لعله بلغ ساحل المحيط فرآها كذلك إذ لم يكن في مطمح بصره غير الماء و لذلك قال وَجَدَها تَغْرُبُ و لم يقل كانت تغرب. و قيل إن ابن عباس سمع معاوية يقرأ «حامية» فقال «حمئة» فبعث معاوية إلى كعب الأحبار كيف تجد الشمس تغرب قال في ماء و طين كذلك نجده في التوراة وَ وَجَدَ عِنْدَها عند تلك العين. قَوْماً قيل كان لباسهم جلود
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 292
الوحش و طعامهم ما لفظه البحر، و كانوا كفارا فخيره اللّه بين أن يعذبهم أو يدعوهم إلى الإيمان كما حكى بقوله قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ أي بالقتل على كفرهم. وَ إِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً بالإرشاد و تعليم الشرائع. و قيل خيره اللّه بين القتل و الأسر و سماه إحسانا في مقابلة القتل و يؤيده الأول قوله:
[سورة الكهف (18): الآيات 87 الى 88]
قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً أي فاختار الدعوة و قال: أما من دعوته فظلم نفسه بالإصرار على كفره أو استمر على ظلمه الذي هو الشرك فنعذبه أنا و من معي في الدنيا بالقتل، ثم يعذبه اللّه في الآخرة عذابا منكرا لم يعهد مثله.
وَ أَمَّا مَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً و هو ما يقتضيه الإيمان. فَلَهُ في الدارين. جَزاءً الْحُسْنى فعلته الحسنى. و قرأ حمزة و الكسائي و يعقوب و حفص جَزاءً منونا منصوبا على الحال أي فله المثوبة الحسنى مجزيا بها، أو على المصدر لفعله المقدر حالا أي يجزي بها جزاء أو التمييز، و قرئ منصوبا غير منون على أن تنوينه حذف لالتقاء الساكنين و منونا مرفوعا على أنه المبتدأ و الْحُسْنى بدله، و يجوز أن يكون أَمَّا و أَمَّا للتقسيم دون التخيير أي ليكن شأنك معهم إما التعذيب و إما الإحسان، فالأول لمن أصر على الكفر و الثاني لمن تاب عنه، و نداء اللّه إياه إن كان نبيا فبوحي و إن كان غيره فبإلهام أو على لسان نبي. وَ سَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا بما نأمر به. يُسْراً سهلا ميسرا غير شاق و تقديره ذا يسر، و قرئ بضمتين.
[سورة الكهف (18): الآيات 89 الى 91]
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً ثم أتبع طريقا يوصله إلى المشرق.
حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ يعني الموضع الذي تطلع الشمس عليه أولا من معمورة الأرض، و قرئ بفتح اللام على إضمار مضاف أي مكان مطلع الشمس فإنه مصدر. وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً من اللباس أو البناء، فإن أرضهم لا تمسك الأبنية أو أنهم اتخذوا الأسراب بدل الأبنية.
كَذلِكَ أي أمر ذي القرنين كما وصفناه في رفعة المكان و بسطة الملك، أو أمره فيهم كأمره في أهل المغرب من التخيير و الاختيار. و يجوز أن يكون صفة مصدر محذوف لوجد أو نَجْعَلْ أو صفة قوم أي على قوم مثل ذلك القبيل الذي تغرب عليهم الشمس في الكفر و الحكم. وَ قَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ من الجنود و الآلات و العدد و الأسباب. خُبْراً علما تعلق بظواهره و خفاياه، و المراد أن كثرة ذلك بلغت مبلغا لا يحيط به إلا علم اللطيف الخبير.
[سورة الكهف (18): الآيات 92 الى 93]
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً يعني طريقا ثالثا معترضا بين المشرق و المغرب آخذا من الجنوب إلى الشمال.
حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ بين الجبلين المبني بينهما سده و هما جبلا أرمينية و أذربيجان. و قيل جبلان منيفان في أواخر الشمال في منقطع أرض الترك من ورائهما يأجوج و مأجوج. و قرأ نافع و ابن عامر و حمزة و الكسائي و أبو بكر و يعقوب بَيْنَ السَّدَّيْنِ بالضم و هما لغتان. و قيل المضموم لما خلقه اللّه تعالى و المفتوح لما عمله الناس لأنه في الأصل مصدر سمي به حدث يحدثه الناس. و قيل بالعكس و بين ها هنا مفعول به
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 293
و هو من الظروف المتصرفة. وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا لغرابة لغتهم و قلة فطنتهم. و قرأ حمزة و الكساء «لا يفقهون» أي لا يفهمون السامع كلامهم و لا يبينونه لتلعثمهم فيه.
[سورة الكهف (18): الآيات 94 الى 96]
قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ قال مترجمهم و في مصحف ابن مسعود قال «الذين من دونهم». إِنَّ يَأْجُوجَ وَ مَأْجُوجَ قبيلتان من ولد يافث بن نوح، و قيل يأجوج من الترك و مأجوج من الجبل. و هما اسمان أعجميان بدليل منع الصرف. و قيل عربيان من أج الظليم إذا أسرع و أصلهما الهمز كما قرأ عاصم و منع صرفهما للتعريف و التأنيث. مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أي في أرضنا بالقتل و التخريب و إتلاف الزرع. قيل كانوا يخرجون أيام الربيع فلا يتركون أخضر إلا أكلوه و لا يابسا إلا احتملوه، و قيل كانوا يأكلون الناس. فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً جعلا نخرجه من أموالنا. و قرأ حمزة و الكسائي «خراجا» و كلاهما واحد كالنول و النوال. و قيل الخراج على الأرض و الذمة و الخرج المصدر. عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَ بَيْنَهُمْ سَدًّا يحجز دون خروجهم علينا و قد ضمه من ضم السَّدَّيْنِ غير حمزة و الكسائي.
قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ ما جعلني فيه مكينا من المال و الملك خير مما تبذلون لي من الخراج و لا حاجة بي إليه. و قرأ ابن كثير «مكنني» على الأصل. فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أي بقوة فعلة أو بما أتقوى به من الآلات. أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ رَدْماً حاجزا حصينا و هو أكبر من السد من قولهم ثوب مردم إذا كان رقاعا فوق رقاع.
آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ قطعه و الزبرة القطعة الكبيرة، و هو لا ينافي رد الخراج و الاقتصار على المعونة لأن الإيتاء بمعنى المناولة، و يدل عليه قراءة أبي بكر ردما ائتوني بكسر التنوين موصولة الهمزة على معنى جيئوني بزبر الحديد، و الباء محذوفة حذفها في أمرتك الخير و لأن إعطاء الآلة من الإعانة بالقوة دون الخراج على العمل. حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ بين جانبي الجبلين بتنضيدها. و قرأ ابن كثير و ابن عامر و البصريان بضمتين، و أبو بكر بضم الصاد و سكون الدال، و قرئ فتح الصاد و ضم الدال و كلها لغات من الصدف و هو الميل لأن كلا منهما منعزل عن الآخر و منه التصادف للتقابل. قالَ انْفُخُوا أي قال للعملة انفخوا في الأكوار و الحديد. حَتَّى إِذا جَعَلَهُ جعل المنفوخ فيه. ناراً كالنار بالإحماء. قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً أي آتوني قطرا أي نحاسا مذابا أفرغ عليه قطرا، فحذف الأول لدلالة الثاني عليه. و به تمسك البصريون على أن إعمال الثاني من العاملين المتوجهين نحو معمول واحد أولى، إذ لو كان قطرا مفعول آتوني لأضمر مفعول أفرغ حذرا من الإلباس. و قرأ حمزة و أبو بكر قال أتوني موصولة الألف.
[سورة الكهف (18): آية 97]
فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَ مَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (97)
فَمَا اسْطاعُوا بحذف التاء حذرا من تلاقي متقاربين. و قرأ حمزة بالإدغام جامعا بين الساكنين على غير حده. و قرئ بقلب السين صادا. أَنْ يَظْهَرُوهُ أن يعلوه بالصعود لارتفاعه و انملاسه. وَ مَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً لثخنه و صلابته. و قيل حفر للأساس حتى بلغ الماء، و جعله من الصخر و النحاس المذاب و البنيان من زبر الحديد بينهما الحطب و الفحم حتى ساوى أعلى الجبلين، ثم وضع المنافيخ حتى صارت كالنار فصب النحاس المذاب عليه فاختلط و التصق بعضه ببعض و صار جبلا صلدا. و قيل بناه من الصخور مرتبطا بعضها ببعض بكلاليب من حديد و نحاس مذاب في تجاويفها.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 294
[سورة الكهف (18): آية 98]
قالَ هذا هذا السد أو الأقدار على تسويته. رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي على عباده. فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي وقت وعده بخروج يأجوج و مأجوج، أو بقيام الساعة بأن شارف يوم القيامة. جَعَلَهُ دَكًّا مدكوكا مبسوطا مسوى بالأرض، مصدر بمعنى مفعول و منه جمل أدك لمنبسط السنام. و قرأ الكوفيون دكاء بالمد أي أرضا مستوية. وَ كانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا كائنا لا محالة و هذا آخر حكاية قول ذي القرنين.
[سورة الكهف (18): الآيات 99 الى 101]
وَ تَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ و جعلنا بعض يأجوج و مأجوج حين يخرجون مما وراء السد يموجون في بعض مزدحمين في البلاد، أو يموج بعض الخلق في بعض فيضطربون و يختلطون إنسهم و جنهم حيارى و يؤيده قوله: وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ لقيام الساعة. فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً للحساب و الجزاء.
وَ عَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً و أبرزناها و أظهرناها لهم.
الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي عن آياتي التي ينظر إليها فأذكر بالتوحيد و التعظيم. وَ كانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً استماعا لذكري و كلامي لإفراط صممهم عن الحق، فإن الأصم قد يستطيع السمع إذا صيح به و هؤلاء كأنهم أصمت مسامعهم بالكلية.
[سورة الكهف (18): آية 102]
أَ فَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أ فظنوا و الاستفهام للإنكار. أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي اتخاذهم الملائكة و المسيح.
مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ معبودين نافعهم، أو لا أعذبهم به فحذف المفعول الثاني كما يحذف الخبر للقرينة، أوسد أن يتخذوا مسد مفعوليه و قرئ «أ فحسب الذين كفروا» أي أ فكافيهم في النجاة، و أن بما في حيزها مرتفع بأنه فاعل حسب، فإن النعت إذا اعتمد على الهمزة ساوى الفعل في العمل أو خبر له. إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلًا ما يقام للنزيل، و فيه تهكم و تنبيه على أن لهم وراءها من العذاب ما تستحقر دونه.
[سورة الكهف (18): الآيات 103 الى 104]
قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا نصب على التمييز و جمع لأنه من أسماء الفاعلين أو لتنوع أعمالهم.
الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ضاع و بطل لكفرهم و عجبهم كالرهابنة فإنهم خسروا دنياهم و أخراهم، و محله الرفع على الخبر المحذوف فإنه جواب السؤال أو الجر على البدل أو النصب على الذم.
وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً بعجبهم و اعتقادهم أنهم على الحق.
[سورة الكهف (18): الآيات 105 الى 106]
أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ بالقرآن أو بدلائله المنصوبة على التوحيد و النبوة. وَ لِقائِهِ بالبعث على ما هو عليه أو لقاء عذابه. فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ بكفرهم فلا يثابون عليها. فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج3، ص: 295
وَزْناً فنزدري بهم و لا نجعل لهم مقدارا و اعتبارا، أو لا نضع لهم ميزانا يوزن به أعمالهم لانحباطها.
ذلِكَ أي الأمر ذلك و قوله: جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ جملة مبينة له و يجوز أن يكون ذلِكَ مبتدأ و الجملة خبره و العائد محذوف أي جزاؤهم به، أو جزاؤهم بدله و جَهَنَّمُ خبره أو جَزاؤُهُمْ خبره و جَهَنَّمُ عطف بيان للخبر. بِما كَفَرُوا وَ اتَّخَذُوا آياتِي وَ رُسُلِي هُزُواً أي بسبب ذلك.
[سورة الكهف (18): الآيات 107 الى 108]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا فيما سبق من حكم اللّه و وعده، و الْفِرْدَوْسِ أعلى درجات الجنة، و أصله البستان الذي يجمع الكرم و النخل.
خالِدِينَ فِيها حال مقدرة. لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا تحولا إذ لا يجدون أطيب منها حتى تنازعهم إليه أنفسهم، و يجوز أن يراد به تأكيد الخلود.
[سورة الكهف (18): آية 109]
قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً ما يكتب به، و هو اسم ما يمد الشيء كالحبر للدواة و السليط للسراج.
لِكَلِماتِ رَبِّي لكلمات علمه و حكمته. لَنَفِدَ الْبَحْرُ لنفد جنس البحر بأمره لأن كل جسم متناه. قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي فإنها غير متناهية لا تنفد كعلمه، و قرأ حمزة و الكسائي بالياء. وَ لَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ بمثل البحر الموجود. مَدَداً زيادة و معونة، لأن مجموع المتناهين متناه بل مجموع ما يدخل في الوجود من الأجسام لا يكون إلا متناهيا للدلائل القاطعة على تناهي الأبعاد، و المتناهي ينفد قبل أن ينفد غير المتناهي لا محالة.
و قرئ «ينفد» بالياء و «مددا» بكسر الميم جمع مدة و هي ما يستمده الكاتب و مدادا. و سبب نزولها أن اليهود قالوا في كتابكم وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً و تقرؤون وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا .
[سورة الكهف (18): آية 110]
قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ لا أدعي الإحاطة على كلماته. يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ و إنما تميزت عنكم بذلك. فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ يؤمل حسن لقائه أو يخاف سوء لقائه. فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً يرتضيه اللّه. وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً بأن يرائيه أو يطلب منه أجرا.
روي أن جندب بن زهير قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم: إني لأعمل العمل للّه فإذا أطلع عليه سرني فقال: «إن اللّه لا يقبل ما شورك فيه». فنزلت تصديقا له و عنه عليه الصلاة و السلام «اتقوا الشرك الأصغر» قالوا و ما الشرك الأصغر قال «الرياء».
و الآية جامعة لخلاصتي العلم و العمل و هما التوحيد و الإخلاص في الطاعة. و
عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم «من قرأها عند مضجعه كان له نورا في مضجعه يتلألأ إلى مكة حشو ذلك النور ملائكة يصلون عليه حتى يقوم، فإن كان مضجعه بمكة كان له نورا يتلألأ من مضجعه إلى البيت المعمور حشو ذلك النور ملائكة يصلون عليه حتى يستيقظ».
و