کتابخانه تفاسیر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 19
[سورة مريم (19): الآيات 79 الى 80]
كَلَّا ردع و تنبيه على أنه مخطئ فيما تصوره لنفسه. سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ سنظهر له أنا كتبنا قوله على طريقة قوله:
إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة أي تبين أني لم تلدني لئيمة، أو سننتقم منه انتقام من كتب جريمة العدو و حفظها عليه فإن نفس الكتابة لا تتأخر عن القول لقوله تعالى: ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ . وَ نَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا و نطول له من العذاب ما يستأهله، أو نزيد عذابه و نضاعفه له لكفره و افترائه و استهزائه على اللّه جلت عظمته، و لذلك أكده بالمصدر دلالة على فرط غضبه عليه. وَ نَرِثُهُ بموته. ما يَقُولُ يعني المال و الولد. وَ يَأْتِينا يوم القيامة. فَرْداً لا يصحبه مال و لا ولد كان له في الدنيا فضلا أن يؤتى ثم زائدا و قيل فَرْداً رافضا لهذا القول منفردا عنه.
[سورة مريم (19): الآيات 81 الى 82]
وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا ليتعززوا بهم حيث يكونون لهم وصلة إلى اللّه و شفعاء عنده.
كَلَّا ردع و إنكار لتعززهم بها. سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ ستجحد الآلهة عبادتهم و يقولون ما عبدتمونا لقوله تعالى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا أو سينكر الكفرة لسوء العاقبة أنهم عبدوها لقوله تعالى:
ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَ اللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ . وَ يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا يؤيد الأول إذا فسر الضد بضد العز، أي و يكونون عليهم ذلا، أو بضدهم على معنى أنها تكون معونة في عذابهم بأن توقد بها نيرانهم، أو جعل الواو للكفرة أي يكونون كافرين بهم بعد أن كانوا يعبدونها و توحيده لوحدة المعنى الذي به مضادتهم، فإنهم بذلك كالشيء الواحد و نظيره
قوله عليه الصلاة و السلام «و هم يد على من سواهم».
و قرئ كَلَّا بالتنوين على قلب الألف نونا في الوقف قلب ألف الإطلاق في قوله:
أقلي اللّوم عاذل و العتابن أو على معنى كل هذا الرأي كلا و كلا على إضمار فعل يفسره ما بعده أي سيجحدون كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ .
[سورة مريم (19): الآيات 83 الى 84]
أَ لَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ بأن سلطناهم عليهم أو قيضنا لهم قرناء. تَؤُزُّهُمْ أَزًّا تهزهم و تعزيهم على المعاصي بالتسويلات و تحبيب الشهوات، و المراد تعجيب رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم من أقاويل الكفرة و تماديهم في الغي و تصميمهم على الكفر بعد وضوح الحق على ما نطقت به الآيات المتقدمة.
فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ بأن يهلكوا حتى تستريح أنت و المؤمنون من شرورهم و تطهر الأرض من فسادهم.
إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ أيام آجالهم. عَدًّا و المعنى لا تعجل بهلاكهم فإنه لم يبقى لهم إلا أيام محصورة و أنفاس معدودة.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 20
[سورة مريم (19): آية 85]
يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (85)
يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ نجمعهم. إِلَى الرَّحْمنِ إلى ربهم الّذي غمرهم برحمته، و لاختيار هذا الاسم في هذه السورة شأن و لعله لأن مساق هذا الكلام فيها لتعداد نعمه الجسام و شرح حال الشاكرين لها و الكافرين بها وَفْداً وافدين عليه كما يفد الوفاد على الملوك منتظرين لكرامتهم و إنعامهم.
[سورة مريم (19): الآيات 86 الى 87]
وَ نَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ كما تساق البهائم. إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً عطاشا فإن من يرد الماء لا يرده إلا لعطش، أو كالدواب الّتي ترد الماء.
لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ الضمير فيها للعباد المدلول عليها بذكر القسمين و هو الناصب لليوم. إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً إلا من تحلى بما يستعد به و يستأهل أن يشفع للعصاة من الإيمان و العمل الصالح على ما وعد اللّه تعالى، أو إلا من اتخذ من اللّه إذنا فيها كقوله تعالى: لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ من قولهم: عهد الأمير إلى فلان بكذا إذا أمره به، و محله الرفع على البدل من الضمير أو النصب على تقدير مضاف أي إلا شفاعة من اتخذ، أو على الاستثناء. و قيل الضمير للمجرمين و المعنى: لا يملكون الشفاعة فيهم إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا يستعد به أن يشفع له بالإسلام.
[سورة مريم (19): الآيات 88 الى 90]
وَ قالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً الضمير يحتمل الوجهين لأن هذا لما كان مقولا فيما بين الناس جاز أن ينسب إليهم.
لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا على الالتفات للمبالغة في الذم و التسجيل عليهم بالجراءة على اللّه تعالى، و الأد بالفتح و الكسر العظيم المنكر و الإدة الشدة و أدنى الأمر، و آدني أثقلني و عظم عليّ.
تَكادُ السَّماواتُ و قرأ نافع و الكسائي بالياء. يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ يتشققن مرة بعد أخرى، و قرأ أبو عمرو و ابن عامر و حمزة و أبو بكر و يعقوب «ينفطرن»، و الأول أبلغ لأن التفعل مطاوع فعل و الانفعال مطاوع فعل و لأن أصل التفعل التكلف. وَ تَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَ تَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا تهد هدا أو مهدودة، أو لأنها تهد أي تكسر و هو تقرير لكونه أدا، و المعنى: أن هول هذه الكلمة و عظمها بحيث لو تصورت بصورة محسوسة لم تتحملها هذه الأجرام العظام و تفتت من شدتها، أو أن فظاعتها مجلبة لغضب اللّه بحيث لولا حلمه لخرب العالم و بدد قوائمه غضبا على من تفوه بها.
[سورة مريم (19): الآيات 91 الى 92]
أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (91) وَ ما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (92)
أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً يحتمل النصب على العلة ل تَكادُ أو ل هَدًّا على حذف اللام و إفضاء الفعل إليه، و الجر بإضمار اللام أو بالإبدال من الهاء في منه و الرفع على أنه خبر محذوف تقديره الموجب لذلك أَنْ دَعَوْا ، أو فاعل هَدًّا أي هدها دعاء الولد للرحمن و هو من دعا بمعنى سمى المتعدي إلى مفعولين، و إنما اقتصر على المفعول الثاني ليحيط بكل ما دعي له ولدا، أو من دعا بمعنى نسب الّذي مطاوعه ادعى إلى فلان إذا انتسب إليه.
وَ ما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً و لا يليق به اتخاذ الولد و لا ينطلب له لو طلب مثلا له لأنه
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 21
مستحيل، و لعل ترتيب الحكم بصفة الرحمانية للإشعار بأن كل ما عداه نعمة و منعم عليه فلا يجانس من هو مبدأ النعم كلها و مولي أصولها و فروعها، فكيف يمكن أن يتخذه ولدا ثم صرح به في قوله:
[سورة مريم (19): الآيات 93 الى 95]
إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أي ما منهم. إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً إلا و هو مملوك له يأوي إليه بالعبودية و الانقياد، و قرئ «آت الرّحمن» على الأصل.
لَقَدْ أَحْصاهُمْ حصرهم و أحاط بهم بحيث لا يخرجون عن حوز علمه و قبضة قدرته. وَ عَدَّهُمْ عَدًّا عد أشخاصهم و أنفاسهم و أفعالهم فإن كل شيء عنده بمقدار.
وَ كُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً منفردا عن الاتباع و الأنصار فلا يجانسه شيء من ذلك ليتخذه ولدا و لا يناسبه ليشرك به.
[سورة مريم (19): الآيات 96 الى 97]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا سيحدث لهم في القلوب مودة من غير تعرض منهم لأسبابها، و
عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم «إذا أحب اللّه عبدا يقول لجبريل أحببت فلانا فأحبه فيحبه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء إن اللّه قد أحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء، ثم توضع له المحبة في الأرض».
و السين إما لأن السورة مكية و كانوا ممقوتين حينئذ بين الكفرة فوعدهم ذلك إذا دجا الإسلام، أو لأن الموعود في القيامة حين تعرض حسناتهم على رؤوس الأشهاد فينزع ما في صدورهم من الغل.
فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ بأن أنزلناه بلغتك، و الباء بمعنى على أو على أصله لتضمن يَسَّرْناهُ معنى أنزلناه أي أنزلناه بلغتك. لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ الصائرين إلى التقوى. وَ تُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا أشداء الخصومة آخذين في كل لديد، أي شق من المراء لفرط لجاجهم فبشر به و أنذر.
[سورة مريم (19): آية 98]
وَ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ تخويف للكفرة و تجسير للرسول صلّى اللّه عليه و سلّم على إنذارهم. هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ هل تشعر بأحد منهم و تراه. أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً و قرئ تَسْمَعُ من أسمعت و الركز الصوت الخفي، و أصل التركيب هو الخفاء و منه ركز الرمح إذا غيب طرفه في الأرض، و الركاز المال المدفون.
عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم «من قرأ سورة مريم أعطي عشر حسنات بعدد من كذب زكريا و صدق به و يحيى و مريم و عيسى و سائر الأنبياء عليهم الصلاة و السلام المذكورين فيها و بعدد من دعا اللّه في الدنيا و من لم يدع اللّه».
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 22
(20) سورة طه
مكية و هي مائة أربع و ثلاثون آية
[سورة طه (20): آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طه فخمها قالون و ابن كثير و ابن عامر و حفص و يعقوب على الأصل، و فخم الطاء وحده أبو عمرو و ورش لاستعلائه و أمالهما الباقون. و هما من أسماء الحروف. و قيل معناه يا رجل على لغة عك، فإن صح فلعل أصله يا هذا فتصرفوا فيه بالقلب و الاختصار و الاستشهاد بقوله:
إنّ السفاهة طاها في خلائقكم
لا قدّس اللّه أخلاق الملاعين
ضعيف لجواز أن يكون قسما كقوله حم لا ينصرون، و قرئ طه على أنه أمر للرسول صلّى اللّه عليه و سلّم بأن يطأ الأرض بقدميه، فإنه كان يقوم في تهجده على إحدى رجليه و أن أصله طأ فقلبت همزته هاء أو قلبت في يطأ ألفا كقوله: لا هناك المرتع. ثم بني عليه الأمر و ضم إليه هاء السكت و على هذا يحتمل أن يكون أصل طه طأها و الألف مبدلة من الهمزة و الهاء كناية الأرض، لكن يرد ذلك كتابتهما على صورة الحرف و كذا التفسير بيا رجل أو اكتفى بشطري الكلمتين و عبر عنهما باسمهما.
[سورة طه (20): الآيات 2 الى 3]
ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (2) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (3)
ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى خبر طه إن جعلته مبتدأ على أنه مؤول بالسورة، أو الْقُرْآنَ و القرآن فيه واقع موقع العائد و جوابه إن جعلته مقسما به و منادى له إن جعلته نداء، و استئناف إن كانت جملة فعلية أو اسمية بإضمار مبتدأ، أو طائفة من الحروف محكية و المعنى: ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب بفرط تأسفك على كفر قريش إذ ما عليك إلا أن تبلغ، أو بكثرة الرياضة و كثرة التهجد و القيام على ساق. و الشقاء شائع بمعنى التعب و منه أشقى من رائض المهر، و سيد القوم أشقاهم. و لعله عدل إليه للإشعار بأنه أنزل عليه ليسعد. و قيل رد و تكذيب للكفرة، فإنهم لما رأوا كثرة عبادته قالوا إنك لتشقى بترك ديننا و إن القرآن أنزل عليك لتشقى به.
إِلَّا تَذْكِرَةً لكن تذكيرا، و انتصابها على الاستثناء المنقطع، و لا يجوز أن يكون بدلا من محل لِتَشْقى لاختلاف الجنسين و لا مفعولا له ل أَنْزَلْنا ، فإن الفعل الواحد لا يتعدى إلى علتين. و قيل هو مصدر في موقع الحال من الكاف أو القرآن، أو مفعول له على أن لِتَشْقى متعلق بمحذوف هو صفة القرآن أي ما أنزلنا عليك القرآن المنزل لتتعب بتبليغه إلا تذكرة. لِمَنْ يَخْشى لمن في قلبه خشية ورقة تتأثر بالإنذار، أو لمن علم اللّه منه أنه يخشى بالتخويف منه فإنه المنتفع به.
[سورة طه (20): آية 4]
تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَ السَّماواتِ الْعُلى (4)
تَنْزِيلًا نصب بإضمار فعله أو ب يَخْشى ، أو على المدح أو البدل من تَذْكِرَةً إن جعل حالا،
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 23
و إن جعل مفعولا له لفظا أو معنى فلا لأن الشيء لا يعلل بنفسه و لا بنوعه. مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَ السَّماواتِ الْعُلى مع ما بعده إلى قوله لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى تفخيم لشأن المنزل بفرط تعظيم المنزل بذكر أفعاله و صفاته على الترتيب الّذي هو عند العقل، فبدأ بخلق الأرض و السموات الّتي هي أصول العالم، و قدم الأرض لأنها أقرب إلى الحس و أظهر عنده من السموات العلى، و هو جمع العليا تأنيث الأعلى، ثم أشار إلى وجه إحداث الكائنات و تدبير أمرها بأن قصد العرش فأجرى منه الأحكام و التقادير، و أنزل منه الأسباب على ترتيب و مقادير حسب ما اقتضته حكمته و تعلقت به مشيئته فقال:
[سورة طه (20): الآيات 5 الى 6]
الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما وَ ما تَحْتَ الثَّرى ليدل بذلك على كمال قدرته و إرادته، و لما كانت القدرة تابعة للإرادة و هي لا تنفك عن العلم عقب ذلك بإحاطة علمه تعالى بجليات الأمور و خفياتها على سواء فقال:
[سورة طه (20): آية 7]
وَ إِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَ أَخْفى (7)
وَ إِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَ أَخْفى أي و إن تجهر بذكر اللّه و دعائه فاعلم أنه غني عن جهرك فإنه سبحانه يعلم السر و أخفى منه، و هو ضمير النفس. و فيه تنبيه على أن شرع الذكر و الدعاء و الجهر فيما ليس لإعلام اللّه بل لتصوير النفس بالذكر و رسوخه فيها و منعها عن الاشتغال بغيره و هضمها بالتضرع و الجؤار، ثم إنه لما ظهر بذلك أنه المستجمع لصفات الألوهية بين أنه المتفرد بها و المتوحد بمقتضاها فقال:
[سورة طه (20): آية 8]
اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (8)
اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى و من في مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ صلة ل تَنْزِيلًا أو صفة له، و الانتقال من التكلم إلى الغيبة للتفنن في الكلام و تفخيم المنزل من وجهين إسناد إنزاله إلى ضمير الواحد العظيم الشأن، و نسبته إلى المختص بصفات الجلال و الإكرام و التنبيه على أنه واجب الإيمان به و الانقياد له من حيث إنه كلام من هذا شأنه، و يجوز أن يكون أنزلنا حكاية كلام جبريل و الملائكة النازلين معه. و قرئ الرَّحْمنُ على الجر صفة لمن خلق فيكون عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى خبر محذوف، و كذا إن رفع الرَّحْمنُ على المدح دون الابتداء، و يجوز أن يكون خبرا ثانيا، و الثرى الطبقة الترابية من الأرض و هي آخر طبقاتها، و الْحُسْنى تأنيث الأحسن، و فضل أسماء اللّه تعالى على سائر الأسماء في الحسن لدلالتها على معان هي أشرف المعاني و أفضلها.
[سورة طه (20): الآيات 9 الى 10]
وَ هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى قفى تمهيد نبوته صلّى اللّه عليه و سلّم بقصة موسى ليأتم به في تحمل أعباء النبوة و تبليغ الرسالة و الصبر على مقاساة الشدائد، فإن هذه السورة من أوائل ما نزل.
إِذْ رَأى ناراً ظرف لل حَدِيثُ لأنه حدث أو مفعول لأذكر. قيل إنه استأذن شعيبا عليهما الصلاة و السلام في الخروج إلى أمه، و خرج بأهله فلما وافى وادي طوى و فيه الطور ولد له ابن في ليلة شاتية مظلمة مثلجة، و كانت ليلة الجمعة و قد ضل الطريق و تفرقت ماشيته إذ رأى من جانب الطور نارا. فَقالَ لِأَهْلِهِ
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 24
امْكُثُوا أقيموا مكانكم. و قرأ حمزة «لأهله امكثوا ها هنا»، و في «القصص» بضم الهاء في الوصل و الباقون بكسرها. إِنِّي آنَسْتُ ناراً أبصرتها إبصارا لا شبهة فيه، و قيل الإيناس إبصار ما يؤنس به. لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ بشعلة من النار و قيل جمرة. أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً هاديا يدلني على الطريق أو يهديني أبواب الدين، فإن أفكار الأبرار مائلة إليها في كل ما يعن لهم. و لما كان حصولهما مترتبا بني الأمر فيهما على الرجاء بخلاف الإيناس، فإنه كان محققا و لذلك حققه لهم ليوطنوا أنفسهم عليه، و معنى الاستعلاء في عَلَى النَّارِ أن أهلها مشرفون عليها أو مستعلون المكان القريب منها كما قال سيبويه في: مررت بزيد إنه لصوق بمكان يقرب منه.
[سورة طه (20): الآيات 11 الى 12]
فَلَمَّا أَتاها أي النار وجد نارا بيضاء تتقد في شجرة خضراء. نُودِيَ يا مُوسى .
إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فتحه ابن كثير و أبو عمرو أي بأني و كسره الباقون بإضمار القول أو إجراء النداء مجراه، و تكرير الضمير للتوكيد و التحقيق. قيل إنه لما نودي قال: من المتكلم قال: إني أنا اللّه، فوسوس إليه إبليس لعلك تسمع كلام شيطان فقال: أنا عرفت أنه كلام اللّه بأني أسمعه من جميع الجهات و بجميع الأعضاء. و هو إشارة إلى أنه عليه الصلاة و السلام تلقى من ربه كلامه تلقيا روحانيا، ثم تمثل ذلك الكلام لبدنه و انتقل إلى الحس المشترك فانتقش به من غير اختصاص بعضو وجهة. فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ أمره بذلك لأن الحفوة تواضع و أدب و لذلك طاف السلف حافين. و قيل لنجاسة نعليه فإنهما كانتا من جلد حمار غير مدبوغ. و قيل معناه فرغ قلبك من الأهل و المال. إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ تعليل للأمر باحترام البقعة و المقدس يحتمل المعنيين.
طُوىً عطف بيان للوادي و نونه ابن عامر و الكوفيون بتأويل المكان. و قيل هو كثني من الطي مصدر ل نُودِيَ أو الْمُقَدَّسِ أي: نودي نداءين أو قدس مرتين.
[سورة طه (20): الآيات 13 الى 14]
وَ أَنَا اخْتَرْتُكَ اصطفيتك للنبوة و قرأ حمزة «و أنّا اخترناك». فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى للذي يوحى إليك، أو للوحي و اللام تحتمل التعلق بكل من الفعلين.
إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي بدل مما يوحى دال على أنه مقصور على تقرير التوحيد الّذي هو منتهى العلم و الأمر بالعبادة الّتي هي كمال العمل. وَ أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي خصها بالذكر و أفردها بالأمر للعلة الّتي أناط بها إقامتها، و هو تذكر المعبود و شغل القلب و اللسان بذكره. و قيل لِذِكْرِي لأني ذكرتها في الكتب و أمرت بها، أو لأن أذكرك بالثناء، أو لِذِكْرِي خاصة لا ترائي بها و لا تشوبها بذكر غيري. و قيل لأوقات ذكري و هي مواقيت الصلاة أو لذكر صلاتي. لما
روي أنه عليه الصلاة و السلام قال «من نام عن صلاة أو نسيها فليقضها إذا ذكرها إن اللّه تعالى يقول وَ أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي .
[سورة طه (20): الآيات 15 الى 16]
إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ كائنة لا محالة. أَكادُ أُخْفِيها أريد إخفاء وقتها، أو أقرب أن أخفيها فلا أقول إنها آتية و لو لا ما في الإخبار بإتيانها من اللطف و قطع الأعذار لما أخبرت به، أو أكاد أظهرها من أخفاه إذا سلب خفاءه، و يؤيده القراءة بالفتح من خفاه إذا أظهره. لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى متعلق ب آتِيَةٌ أو ب
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 25
أُخْفِيها على المعنى الأخير.
فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها عن تصديق الساعة، أو عن الصلاة. مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها نهي الكافر أن يصد موسى عليه الصلاة و السلام عنها، و المراد نهيه أن ينصد عنها كقولهم: لا أرينك ها هنا، تنبيها على أن فطرته السليمة لو خليت بحالها لاختارها و لم يعرض عنها، و أنه ينبغي أن يكون راسخا في دينه فإن صد الكافر إنما يكون بسبب ضعفه فيه. وَ اتَّبَعَ هَواهُ ميل نفسه إلى اللذات المحسوسة المخدجة فقصر نظره عن غيرها.
فَتَرْدى فتهلك بالانصداد بصده.
[سورة طه (20): الآيات 17 الى 18]
وَ ما تِلْكَ استفهام يتضمن استيقاظا لما يريه فيها من العجائب. بِيَمِينِكَ حال من معنى الإشارة، و قيل صلة تِلْكَ . يا مُوسى تكرير لزيادة الاستئناس و التنبيه.
قالَ هِيَ عَصايَ و قرئ «عصيّ» على لغة هذيل. أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها أعتمد عليها إذا أعييت أو وقفت على رأس القطيع. وَ أَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي و أخبط الورق بها على رؤوس غنمي، و قرئ «أهش» و كلاهما من هش الخبز يهش إذا انكسر لهشاشته، و قرئ بالسين من الهس و هو زجر الغنم أي أنحى عليها زاجرا لها.
وَ لِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى حاجات أخر مثل أن كان إذا سار ألقاها على عاتقه فعلق بها أدواته، و عرض الزندين على شعبتيها و ألقى عليها الكساء و استظل به، و إذا قصر الرشاء وصله بها، و إذا تعرضت السباع لغنمه قاتل بها، و كأنه صلّى اللّه عليه و سلّم فهم أن المقصود من السؤال أن يذكر حقيقتها و ما يرى من منافعها، حتى إذا رآها بعد ذلك على خلاف تلك الحقيقة و وجد منها خصائص أخرى خارقة للعادة مثل أن تشتعل شعبتاه بالليل كالشمع، و تصيران دلوا عند الاستقاء، و تطول بطول البئر و تحارب عنه إذا ظهر عدو، و ينبع الماء بركزها، و ينضب بنزعها و تورق و تثمر إذا اشتهى ثمرة فركزها، على أن ذلك آيات باهرة و معجزات قاهرة أحدثها اللّه فيها لأجله و ليست من خواصها، فذكر حقيقتها و منافعها مفصلا و مجملا على معنى أنها من جنس العصي تنفع منافع أمثالها ليطابق جوابه الغرض الّذي فهمه.
[سورة طه (20): الآيات 19 الى 21]
قالَ أَلْقِها يا مُوسى فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى قيل لما ألقاها انقلبت حية صفراء بغلظ العصا ثم تورمت و عظمت فلذلك سماها جانا تارة نظرا إلى المبدأ و ثعبانا مرة باعتبار المنتهى، و حية أخرى باعتبار الاسم الّذي يعم الحالين. و قيل كانت في ضخامة الثعبان و جلادة الجان و لذلك قال كَأَنَّها جَانٌّ* .
قالَ خُذْها وَ لا تَخَفْ فإنه لما رآها حية تسرع و تبتلع الحجر و الشجر خاف و هرب منها. سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى هيئتها و حالتها المتقدمة، و هي فعلة من السير تجوز بها للطريقة و الهيئة و انتصابها على نزع الخافض أو على أن أعاد منقول من عاده بمعنى عاد إليه، أو على الظرف أي سنعيدها في طريقتها أو على تقدير فعلها أي سنعيد العصا بعد ذهابها تسير سيرتها الأولى فتنتفع بها ما كنت تنتفع قبل. قيل لما قال له ربه ذلك اطمأنت نفسه حتى أدخل يده في فمها و أخذ بلحييها.
[سورة طه (20): الآيات 22 الى 24]