کتابخانه تفاسیر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 22
(20) سورة طه
مكية و هي مائة أربع و ثلاثون آية
[سورة طه (20): آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طه فخمها قالون و ابن كثير و ابن عامر و حفص و يعقوب على الأصل، و فخم الطاء وحده أبو عمرو و ورش لاستعلائه و أمالهما الباقون. و هما من أسماء الحروف. و قيل معناه يا رجل على لغة عك، فإن صح فلعل أصله يا هذا فتصرفوا فيه بالقلب و الاختصار و الاستشهاد بقوله:
إنّ السفاهة طاها في خلائقكم
لا قدّس اللّه أخلاق الملاعين
ضعيف لجواز أن يكون قسما كقوله حم لا ينصرون، و قرئ طه على أنه أمر للرسول صلّى اللّه عليه و سلّم بأن يطأ الأرض بقدميه، فإنه كان يقوم في تهجده على إحدى رجليه و أن أصله طأ فقلبت همزته هاء أو قلبت في يطأ ألفا كقوله: لا هناك المرتع. ثم بني عليه الأمر و ضم إليه هاء السكت و على هذا يحتمل أن يكون أصل طه طأها و الألف مبدلة من الهمزة و الهاء كناية الأرض، لكن يرد ذلك كتابتهما على صورة الحرف و كذا التفسير بيا رجل أو اكتفى بشطري الكلمتين و عبر عنهما باسمهما.
[سورة طه (20): الآيات 2 الى 3]
ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (2) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (3)
ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى خبر طه إن جعلته مبتدأ على أنه مؤول بالسورة، أو الْقُرْآنَ و القرآن فيه واقع موقع العائد و جوابه إن جعلته مقسما به و منادى له إن جعلته نداء، و استئناف إن كانت جملة فعلية أو اسمية بإضمار مبتدأ، أو طائفة من الحروف محكية و المعنى: ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب بفرط تأسفك على كفر قريش إذ ما عليك إلا أن تبلغ، أو بكثرة الرياضة و كثرة التهجد و القيام على ساق. و الشقاء شائع بمعنى التعب و منه أشقى من رائض المهر، و سيد القوم أشقاهم. و لعله عدل إليه للإشعار بأنه أنزل عليه ليسعد. و قيل رد و تكذيب للكفرة، فإنهم لما رأوا كثرة عبادته قالوا إنك لتشقى بترك ديننا و إن القرآن أنزل عليك لتشقى به.
إِلَّا تَذْكِرَةً لكن تذكيرا، و انتصابها على الاستثناء المنقطع، و لا يجوز أن يكون بدلا من محل لِتَشْقى لاختلاف الجنسين و لا مفعولا له ل أَنْزَلْنا ، فإن الفعل الواحد لا يتعدى إلى علتين. و قيل هو مصدر في موقع الحال من الكاف أو القرآن، أو مفعول له على أن لِتَشْقى متعلق بمحذوف هو صفة القرآن أي ما أنزلنا عليك القرآن المنزل لتتعب بتبليغه إلا تذكرة. لِمَنْ يَخْشى لمن في قلبه خشية ورقة تتأثر بالإنذار، أو لمن علم اللّه منه أنه يخشى بالتخويف منه فإنه المنتفع به.
[سورة طه (20): آية 4]
تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَ السَّماواتِ الْعُلى (4)
تَنْزِيلًا نصب بإضمار فعله أو ب يَخْشى ، أو على المدح أو البدل من تَذْكِرَةً إن جعل حالا،
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 23
و إن جعل مفعولا له لفظا أو معنى فلا لأن الشيء لا يعلل بنفسه و لا بنوعه. مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَ السَّماواتِ الْعُلى مع ما بعده إلى قوله لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى تفخيم لشأن المنزل بفرط تعظيم المنزل بذكر أفعاله و صفاته على الترتيب الّذي هو عند العقل، فبدأ بخلق الأرض و السموات الّتي هي أصول العالم، و قدم الأرض لأنها أقرب إلى الحس و أظهر عنده من السموات العلى، و هو جمع العليا تأنيث الأعلى، ثم أشار إلى وجه إحداث الكائنات و تدبير أمرها بأن قصد العرش فأجرى منه الأحكام و التقادير، و أنزل منه الأسباب على ترتيب و مقادير حسب ما اقتضته حكمته و تعلقت به مشيئته فقال:
[سورة طه (20): الآيات 5 الى 6]
الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما وَ ما تَحْتَ الثَّرى ليدل بذلك على كمال قدرته و إرادته، و لما كانت القدرة تابعة للإرادة و هي لا تنفك عن العلم عقب ذلك بإحاطة علمه تعالى بجليات الأمور و خفياتها على سواء فقال:
[سورة طه (20): آية 7]
وَ إِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَ أَخْفى (7)
وَ إِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَ أَخْفى أي و إن تجهر بذكر اللّه و دعائه فاعلم أنه غني عن جهرك فإنه سبحانه يعلم السر و أخفى منه، و هو ضمير النفس. و فيه تنبيه على أن شرع الذكر و الدعاء و الجهر فيما ليس لإعلام اللّه بل لتصوير النفس بالذكر و رسوخه فيها و منعها عن الاشتغال بغيره و هضمها بالتضرع و الجؤار، ثم إنه لما ظهر بذلك أنه المستجمع لصفات الألوهية بين أنه المتفرد بها و المتوحد بمقتضاها فقال:
[سورة طه (20): آية 8]
اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (8)
اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى و من في مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ صلة ل تَنْزِيلًا أو صفة له، و الانتقال من التكلم إلى الغيبة للتفنن في الكلام و تفخيم المنزل من وجهين إسناد إنزاله إلى ضمير الواحد العظيم الشأن، و نسبته إلى المختص بصفات الجلال و الإكرام و التنبيه على أنه واجب الإيمان به و الانقياد له من حيث إنه كلام من هذا شأنه، و يجوز أن يكون أنزلنا حكاية كلام جبريل و الملائكة النازلين معه. و قرئ الرَّحْمنُ على الجر صفة لمن خلق فيكون عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى خبر محذوف، و كذا إن رفع الرَّحْمنُ على المدح دون الابتداء، و يجوز أن يكون خبرا ثانيا، و الثرى الطبقة الترابية من الأرض و هي آخر طبقاتها، و الْحُسْنى تأنيث الأحسن، و فضل أسماء اللّه تعالى على سائر الأسماء في الحسن لدلالتها على معان هي أشرف المعاني و أفضلها.
[سورة طه (20): الآيات 9 الى 10]
وَ هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى قفى تمهيد نبوته صلّى اللّه عليه و سلّم بقصة موسى ليأتم به في تحمل أعباء النبوة و تبليغ الرسالة و الصبر على مقاساة الشدائد، فإن هذه السورة من أوائل ما نزل.
إِذْ رَأى ناراً ظرف لل حَدِيثُ لأنه حدث أو مفعول لأذكر. قيل إنه استأذن شعيبا عليهما الصلاة و السلام في الخروج إلى أمه، و خرج بأهله فلما وافى وادي طوى و فيه الطور ولد له ابن في ليلة شاتية مظلمة مثلجة، و كانت ليلة الجمعة و قد ضل الطريق و تفرقت ماشيته إذ رأى من جانب الطور نارا. فَقالَ لِأَهْلِهِ
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 24
امْكُثُوا أقيموا مكانكم. و قرأ حمزة «لأهله امكثوا ها هنا»، و في «القصص» بضم الهاء في الوصل و الباقون بكسرها. إِنِّي آنَسْتُ ناراً أبصرتها إبصارا لا شبهة فيه، و قيل الإيناس إبصار ما يؤنس به. لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ بشعلة من النار و قيل جمرة. أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً هاديا يدلني على الطريق أو يهديني أبواب الدين، فإن أفكار الأبرار مائلة إليها في كل ما يعن لهم. و لما كان حصولهما مترتبا بني الأمر فيهما على الرجاء بخلاف الإيناس، فإنه كان محققا و لذلك حققه لهم ليوطنوا أنفسهم عليه، و معنى الاستعلاء في عَلَى النَّارِ أن أهلها مشرفون عليها أو مستعلون المكان القريب منها كما قال سيبويه في: مررت بزيد إنه لصوق بمكان يقرب منه.
[سورة طه (20): الآيات 11 الى 12]
فَلَمَّا أَتاها أي النار وجد نارا بيضاء تتقد في شجرة خضراء. نُودِيَ يا مُوسى .
إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فتحه ابن كثير و أبو عمرو أي بأني و كسره الباقون بإضمار القول أو إجراء النداء مجراه، و تكرير الضمير للتوكيد و التحقيق. قيل إنه لما نودي قال: من المتكلم قال: إني أنا اللّه، فوسوس إليه إبليس لعلك تسمع كلام شيطان فقال: أنا عرفت أنه كلام اللّه بأني أسمعه من جميع الجهات و بجميع الأعضاء. و هو إشارة إلى أنه عليه الصلاة و السلام تلقى من ربه كلامه تلقيا روحانيا، ثم تمثل ذلك الكلام لبدنه و انتقل إلى الحس المشترك فانتقش به من غير اختصاص بعضو وجهة. فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ أمره بذلك لأن الحفوة تواضع و أدب و لذلك طاف السلف حافين. و قيل لنجاسة نعليه فإنهما كانتا من جلد حمار غير مدبوغ. و قيل معناه فرغ قلبك من الأهل و المال. إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ تعليل للأمر باحترام البقعة و المقدس يحتمل المعنيين.
طُوىً عطف بيان للوادي و نونه ابن عامر و الكوفيون بتأويل المكان. و قيل هو كثني من الطي مصدر ل نُودِيَ أو الْمُقَدَّسِ أي: نودي نداءين أو قدس مرتين.
[سورة طه (20): الآيات 13 الى 14]
وَ أَنَا اخْتَرْتُكَ اصطفيتك للنبوة و قرأ حمزة «و أنّا اخترناك». فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى للذي يوحى إليك، أو للوحي و اللام تحتمل التعلق بكل من الفعلين.
إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي بدل مما يوحى دال على أنه مقصور على تقرير التوحيد الّذي هو منتهى العلم و الأمر بالعبادة الّتي هي كمال العمل. وَ أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي خصها بالذكر و أفردها بالأمر للعلة الّتي أناط بها إقامتها، و هو تذكر المعبود و شغل القلب و اللسان بذكره. و قيل لِذِكْرِي لأني ذكرتها في الكتب و أمرت بها، أو لأن أذكرك بالثناء، أو لِذِكْرِي خاصة لا ترائي بها و لا تشوبها بذكر غيري. و قيل لأوقات ذكري و هي مواقيت الصلاة أو لذكر صلاتي. لما
روي أنه عليه الصلاة و السلام قال «من نام عن صلاة أو نسيها فليقضها إذا ذكرها إن اللّه تعالى يقول وَ أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي .
[سورة طه (20): الآيات 15 الى 16]
إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ كائنة لا محالة. أَكادُ أُخْفِيها أريد إخفاء وقتها، أو أقرب أن أخفيها فلا أقول إنها آتية و لو لا ما في الإخبار بإتيانها من اللطف و قطع الأعذار لما أخبرت به، أو أكاد أظهرها من أخفاه إذا سلب خفاءه، و يؤيده القراءة بالفتح من خفاه إذا أظهره. لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى متعلق ب آتِيَةٌ أو ب
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 25
أُخْفِيها على المعنى الأخير.
فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها عن تصديق الساعة، أو عن الصلاة. مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها نهي الكافر أن يصد موسى عليه الصلاة و السلام عنها، و المراد نهيه أن ينصد عنها كقولهم: لا أرينك ها هنا، تنبيها على أن فطرته السليمة لو خليت بحالها لاختارها و لم يعرض عنها، و أنه ينبغي أن يكون راسخا في دينه فإن صد الكافر إنما يكون بسبب ضعفه فيه. وَ اتَّبَعَ هَواهُ ميل نفسه إلى اللذات المحسوسة المخدجة فقصر نظره عن غيرها.
فَتَرْدى فتهلك بالانصداد بصده.
[سورة طه (20): الآيات 17 الى 18]
وَ ما تِلْكَ استفهام يتضمن استيقاظا لما يريه فيها من العجائب. بِيَمِينِكَ حال من معنى الإشارة، و قيل صلة تِلْكَ . يا مُوسى تكرير لزيادة الاستئناس و التنبيه.
قالَ هِيَ عَصايَ و قرئ «عصيّ» على لغة هذيل. أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها أعتمد عليها إذا أعييت أو وقفت على رأس القطيع. وَ أَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي و أخبط الورق بها على رؤوس غنمي، و قرئ «أهش» و كلاهما من هش الخبز يهش إذا انكسر لهشاشته، و قرئ بالسين من الهس و هو زجر الغنم أي أنحى عليها زاجرا لها.
وَ لِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى حاجات أخر مثل أن كان إذا سار ألقاها على عاتقه فعلق بها أدواته، و عرض الزندين على شعبتيها و ألقى عليها الكساء و استظل به، و إذا قصر الرشاء وصله بها، و إذا تعرضت السباع لغنمه قاتل بها، و كأنه صلّى اللّه عليه و سلّم فهم أن المقصود من السؤال أن يذكر حقيقتها و ما يرى من منافعها، حتى إذا رآها بعد ذلك على خلاف تلك الحقيقة و وجد منها خصائص أخرى خارقة للعادة مثل أن تشتعل شعبتاه بالليل كالشمع، و تصيران دلوا عند الاستقاء، و تطول بطول البئر و تحارب عنه إذا ظهر عدو، و ينبع الماء بركزها، و ينضب بنزعها و تورق و تثمر إذا اشتهى ثمرة فركزها، على أن ذلك آيات باهرة و معجزات قاهرة أحدثها اللّه فيها لأجله و ليست من خواصها، فذكر حقيقتها و منافعها مفصلا و مجملا على معنى أنها من جنس العصي تنفع منافع أمثالها ليطابق جوابه الغرض الّذي فهمه.
[سورة طه (20): الآيات 19 الى 21]
قالَ أَلْقِها يا مُوسى فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى قيل لما ألقاها انقلبت حية صفراء بغلظ العصا ثم تورمت و عظمت فلذلك سماها جانا تارة نظرا إلى المبدأ و ثعبانا مرة باعتبار المنتهى، و حية أخرى باعتبار الاسم الّذي يعم الحالين. و قيل كانت في ضخامة الثعبان و جلادة الجان و لذلك قال كَأَنَّها جَانٌّ* .
قالَ خُذْها وَ لا تَخَفْ فإنه لما رآها حية تسرع و تبتلع الحجر و الشجر خاف و هرب منها. سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى هيئتها و حالتها المتقدمة، و هي فعلة من السير تجوز بها للطريقة و الهيئة و انتصابها على نزع الخافض أو على أن أعاد منقول من عاده بمعنى عاد إليه، أو على الظرف أي سنعيدها في طريقتها أو على تقدير فعلها أي سنعيد العصا بعد ذهابها تسير سيرتها الأولى فتنتفع بها ما كنت تنتفع قبل. قيل لما قال له ربه ذلك اطمأنت نفسه حتى أدخل يده في فمها و أخذ بلحييها.
[سورة طه (20): الآيات 22 الى 24]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 26
وَ اضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ إلى جنبك تحت العضد يقال لكل ناحيتين جناحان كجناحي العسكر، استعارة من جناحي الطائر سميا بذلك لأنه يجنحهما عند الطيران. تَخْرُجْ بَيْضاءَ كأنها مشعة. مِنْ غَيْرِ سُوءٍ من غير عاهة و قبح، كني به عن البرص كما كني بالسوأة عن العورة لأن الطباع تعافه و تنفر عنه. آيَةً أُخْرى معجزة ثانية و هي حال من ضمير تَخْرُجْ بَيْضاءَ أو من ضميرها، أو مفعول بإضمار خذ أو دونك.
لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى متعلق بهذا المضمر أو بما دل عليه آية أو القصة الّتي دللنا بها، أو فعلنا ذلك لِنُرِيَكَ و الْكُبْرى صفة آياتِنَا أو مفعول «نريك» و مِنْ آياتِنَا حال منها.
اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ بهاتين الآيتين و ادعه إلى العبادة. إِنَّهُ طَغى عصى و تكبر.
[سورة طه (20): الآيات 25 الى 28]
قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَ يَسِّرْ لِي أَمْرِي لما أمره اللّه بخطب عظيم و أمر جسيم سأله أن يشرح صدره و يفسح قلبه لتحمل أعبائه و الصبر على مشاقه، و التلقي لما ينزل عليه و يسهل الأمر له بإحداث الأسباب و رفع الموانع، و فائدة لي إبهام المشروح و الميسر أولا، ثم رفعه بذكر الصدر و الأمر تأكيدا و مبالغة.
وَ احْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي فإنما يحسن التبليغ من البليغ و كان في لسانه رتة من جمرة أدخلها فاه، و ذلك أن فرعون حمله يوما فأخذ بلحيته و نتفها، فغضب و أمر بقتله فقالت آسية: إنه صبي لا يفرق بين الجمر و الياقوت، فأحضرا بين يديه فأخذ الجمرة و وضعها في فيه. و لعل تبييض يده كان لذلك.
و قيل احترقت يده فاجتهد فرعون في علاجها فلم تبرأ، ثم لما دعاه قال إلى أي رب تدعوني قال إلى الّذي أبرأ يدي و قد عجزت عنه. و اختلف في زوال العقدة بكمالها فمن قال به تمسك بقوله قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى و من لم يقل احتج بقوله هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً و قوله وَ لا يَكادُ يُبِينُ و أجاب عن الأول بأنه لم يسأل حل عقدة لسانه مطلقا بل عقدة تمنع الإفهام و لذلك نكرها و جعل يفقهوا جواب الأمر، و من لساني يحتمل أن يكون صفة عقدة و أن يكون صلة احلل.
[سورة طه (20): الآيات 29 الى 32]
وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي يعينني على ما كلفتني به، و اشتقاق الوزير إما من الوزر لأنه يحمل الثقل عن أميره، أو من الوزر و هو الملجأ لأن الأمير يعتصم برأيه و يلتجئ إليه في أموره، و منه الموازرة و قيل أصله أزير من الأزر بمعنى القوة، فعيل بمعنى مفاعل كالعشير و الجليس قلبت همزته واوا كقلبها في موازر. و مفعولا اجعل وَزِيراً ، و هارُونَ قدم ثانيهما للعناية به و لِي صلة أو حال أو لِي وَزِيراً و هارُونَ عطف بيان للوزير، أو وَزِيراً مِنْ أَهْلِي و لِي تبيين كقوله وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ . و أَخِي على الوجوه بدل من هارُونَ أو مبتدأ خبره.
اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي على لفظ الأمر و قرأهما ابن عامر بلفظ الخبر على أنهما جواب الأمر.
[سورة طه (20): الآيات 33 الى 35]
كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (33) وَ نَذْكُرَكَ كَثِيراً (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (35)
كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَ نَذْكُرَكَ كَثِيراً فإن التعاون يهيج الرغبات و يؤدي إلى تكاثر الخير و تزايده.
إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً عالما بأحوالنا و أن التعاون مما يصلحنا، و أن هارون نعم المعين لي فيما أمرتني به.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 27
[سورة طه (20): الآيات 36 الى 38]
قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى أي مسؤولك، فعل بمعنى مفعول كالخبز و الأكل بمعنى المخبوز و المأكول.
وَ لَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى أي أنعمنا عليك في وقت آخر.
إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ بإلهام أو في منام أو على لسان نبي في وقتها أو ملك. لا على وجه النبوة. كما أوحي إلى مريم. ما يُوحى ما لا يعلم إلا بالوحي، أو مما ينبغي أن يوحى و لا يخل به لعظم شأنه و فرط الاهتمام به.
[سورة طه (20): آية 39]
أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ بأن اقذفيه، أو أي اقذفيه لأن الوحي بمعنى القول. فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِ و القذف يقال للإلقاء و للوضع كقوله تعالى: وَ قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ* و كذلك الرمي كقوله: غلام رماه اللّه بالحسن يافعا. فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ لما كان إلقاء البحر إياه إلى الساحل أمرا واجب الحصول لتعلق الإرادة به، جعل البحر كأنه ذو تمييز مطيع أمره بذلك و أخرج الجواب مخرج الأمر، و الأولى أن تجعل الضمائر كلها لموسى مراعاة للنظم، فالمقذوف في البحر و الملقى إلى الساحل و إن كان التابوت بالذات فموسى بالعرض.
يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَ عَدُوٌّ لَهُ جواب فَلْيُلْقِهِ و تكرير عَدُوٌّ للمبالغة، أو لأن الأول باعتبار الواقع و الثاني باعتبار المتوقع. قيل إنها جعلت في التابوت قطنا و وضعته فيه ثم قبرته و ألقته في اليم، و كان يشرع منه إلى بستان فرعون نهر فدفعه الماء إليه فأداه إلى بركة في البستان، و كان فرعون جالسا على رأسها مع امرأته آسية بنت مزاحم، فأمر به فأخرج ففتح فإذا هو صبي أصبح الناس وجها فأحبه حبا شديدا كما قال سبحانه و تعالى:
وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي أي محبة كائنة مني قد زرعتها في القلوب بحيث لا يكاد يصبر عنك من رآك فلذلك أحبك فرعون، و يجوز أن يتعلق مِنِّي ب أَلْقَيْتُ أي أحببتك و من أحبه اللّه أحبته القلوب، و ظاهر اللفظ أن اليم ألقاه بساحله و هو شاطئه لأن الماء يسحله فالتقط منه، لكن لا يبعد أن يؤول الساحل بجنب فوهة نهره. وَ لِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي لتربى و يحسن إليك و أنا راعيك و راقبك، و العطف على علة مضمرة مثل ليتعطف عليك، أو على الجملة السابقة بإضمار فعل معلل مثل فعلت ذلك. و قرئ وَ لِتُصْنَعَ بكسر اللام و سكونها و الجزم على أنه أمر وَ لِتُصْنَعَ بالنصب و فتح التاء أي و ليكون عملك على عين مني لئلا تخالف به عن أمري.
[سورة طه (20): آية 40]
إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ ظرف ل أَلْقَيْتُ أو لِتُصْنَعَ أو بدل من إِذْ أَوْحَيْنا على أن المراد بها وقت متسع. فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ و ذلك لأنه كان لا يقبل ثدي المراضع، فجاءت أخته مريم متفحصة خبره فصادفتهم يطلبون له مرضعة يقبل ثديها فقالت هَلْ أَدُلُّكُمْ فجاءت بأمه فقبل ثديها. فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ وفاء بقولنا إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها بلقائك. وَ لا تَحْزَنَ هي بفراقك أو أنت على فراقها و فقد إشفاقها. وَ قَتَلْتَ نَفْساً نفس القبطي الّذي استغاثه عليه الإسرائيلي. فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِ غم قتله خوفا
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 28
من عقاب اللّه تعالى و اقتصاص فرعون بالمغفرة و الأمن منه بالهجرة إلى مدين. وَ فَتَنَّاكَ فُتُوناً و ابتليناك ابتلاء، أو أنواعا من الابتلاء على أنه جمع فتن أو فتنة على ترك الاعتداد بالتاء كحجوز و بدور في حجزة و بدرة، فخلصناك مرة بعد أخرى و هو إجمال لما ناله في سفره من الهجرة عن الوطن و مفارقة الألّاف، و المشي راجلا على حذر و فقد الزاد و أجر نفسه إلى غير ذلك أوله و لما سبق ذكره. فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ لبثت فيهم عشر سنين قضاء لأوفى الأجلين، و مدين على ثمان مراحل من مصر. ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ قدرته لأن أكلمك و أستنبئك غير مستقدم وقته المعين و لا مستأخر، أو على مقدار من السن يوحى فيه إلى الأنبياء. يا مُوسى كرره عقيب ما هو غاية الحكاية للتنبيه على ذلك.
[سورة طه (20): الآيات 41 الى 42]
وَ اصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اذْهَبْ أَنْتَ وَ أَخُوكَ بِآياتِي وَ لا تَنِيا فِي ذِكْرِي (42)
وَ اصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي و اصطفيتك لمحبتي مثله فيما خوله من الكرامة بمن قربه الملك و استخلصه لنفسه.
اذْهَبْ أَنْتَ وَ أَخُوكَ بِآياتِي بمعجزاتي. وَ لا تَنِيا و لا تفترا و لا تقصرا، و قرئ تَنِيا بكسر التاء.
فِي ذِكْرِي لا تنسياني حيثما تقلبتما. و قيل في تبليغ ذكري و الدعاء إليّ.
[سورة طه (20): الآيات 43 الى 44]
اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى أمر به أولا موسى عليه الصلاة و السلام وحده و هاهنا إياه و أخاه فلا تكرير.
قيل أوحى إلى هارون أن يتلقى موسى، و قيل سمع بمقبله فاستقبله.
فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً مثل هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى وَ أَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى فإنه دعوة في صورة عرض و مشورة حذرا أن تحمله الحماقة على أن يسطو عليكما، أو احتراما لما له من حق التربية عليك. و قيل كنياه و كان له ثلاث كنى: أبو العباس و أبو الوليد و أبو مرة. و قيل عداه شبابا لا يهرم بعده و ملكا لا يزول إلا بالموت. لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى متعلق ب اذْهَبا أو «قولا» أي: باشرا الأمر على رجائكما. و طمعكما أنه يثمر و لا يخيب سعيكما، فإن الراجي مجتهد و الآيس متكلف، و الفائدة في إرسالهما و المبالغة عليهما في الاجتهاد مع علمه بأنه لا يؤمن إلزام الحجة و قطع المعذرة و إظهار ما حدث في تضاعيف ذلك من الآيات و التذكر للمتحقق و الخشية للمتوهم، و لذلك قدم الأول أي إن لم يتحقق صدقكما و لم يتذكر فلا أقل من أن يتوهمه فيخشى.
[سورة طه (20): الآيات 45 الى 46]
قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أن يعجل علينا بالعقوبة و لا يصبر إلى تمام الدعوة و إظهار المعجزة، من فرط إذا تقدم و منه الفارط و فرس فرط يسبق الخيل. و قرئ «يفرط» من أفرطته إذا حملته على العجلة، أي نخاف أن يحمله حامل من استكبار أو خوف على الملك أو شيطان إنسي أو جني على المعاجلة بالعقاب، و «يفرط» من الإفراط في الأذية. أَوْ أَنْ يَطْغى أو أن يزداد طغيانا فيتخطى إلى أن يقول فيك ما لا ينبغي لجراءته و قساوته و إطلاقه من حسن الأدب.