کتابخانه تفاسیر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 28
من عقاب اللّه تعالى و اقتصاص فرعون بالمغفرة و الأمن منه بالهجرة إلى مدين. وَ فَتَنَّاكَ فُتُوناً و ابتليناك ابتلاء، أو أنواعا من الابتلاء على أنه جمع فتن أو فتنة على ترك الاعتداد بالتاء كحجوز و بدور في حجزة و بدرة، فخلصناك مرة بعد أخرى و هو إجمال لما ناله في سفره من الهجرة عن الوطن و مفارقة الألّاف، و المشي راجلا على حذر و فقد الزاد و أجر نفسه إلى غير ذلك أوله و لما سبق ذكره. فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ لبثت فيهم عشر سنين قضاء لأوفى الأجلين، و مدين على ثمان مراحل من مصر. ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ قدرته لأن أكلمك و أستنبئك غير مستقدم وقته المعين و لا مستأخر، أو على مقدار من السن يوحى فيه إلى الأنبياء. يا مُوسى كرره عقيب ما هو غاية الحكاية للتنبيه على ذلك.
[سورة طه (20): الآيات 41 الى 42]
وَ اصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اذْهَبْ أَنْتَ وَ أَخُوكَ بِآياتِي وَ لا تَنِيا فِي ذِكْرِي (42)
وَ اصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي و اصطفيتك لمحبتي مثله فيما خوله من الكرامة بمن قربه الملك و استخلصه لنفسه.
اذْهَبْ أَنْتَ وَ أَخُوكَ بِآياتِي بمعجزاتي. وَ لا تَنِيا و لا تفترا و لا تقصرا، و قرئ تَنِيا بكسر التاء.
فِي ذِكْرِي لا تنسياني حيثما تقلبتما. و قيل في تبليغ ذكري و الدعاء إليّ.
[سورة طه (20): الآيات 43 الى 44]
اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى أمر به أولا موسى عليه الصلاة و السلام وحده و هاهنا إياه و أخاه فلا تكرير.
قيل أوحى إلى هارون أن يتلقى موسى، و قيل سمع بمقبله فاستقبله.
فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً مثل هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى وَ أَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى فإنه دعوة في صورة عرض و مشورة حذرا أن تحمله الحماقة على أن يسطو عليكما، أو احتراما لما له من حق التربية عليك. و قيل كنياه و كان له ثلاث كنى: أبو العباس و أبو الوليد و أبو مرة. و قيل عداه شبابا لا يهرم بعده و ملكا لا يزول إلا بالموت. لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى متعلق ب اذْهَبا أو «قولا» أي: باشرا الأمر على رجائكما. و طمعكما أنه يثمر و لا يخيب سعيكما، فإن الراجي مجتهد و الآيس متكلف، و الفائدة في إرسالهما و المبالغة عليهما في الاجتهاد مع علمه بأنه لا يؤمن إلزام الحجة و قطع المعذرة و إظهار ما حدث في تضاعيف ذلك من الآيات و التذكر للمتحقق و الخشية للمتوهم، و لذلك قدم الأول أي إن لم يتحقق صدقكما و لم يتذكر فلا أقل من أن يتوهمه فيخشى.
[سورة طه (20): الآيات 45 الى 46]
قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أن يعجل علينا بالعقوبة و لا يصبر إلى تمام الدعوة و إظهار المعجزة، من فرط إذا تقدم و منه الفارط و فرس فرط يسبق الخيل. و قرئ «يفرط» من أفرطته إذا حملته على العجلة، أي نخاف أن يحمله حامل من استكبار أو خوف على الملك أو شيطان إنسي أو جني على المعاجلة بالعقاب، و «يفرط» من الإفراط في الأذية. أَوْ أَنْ يَطْغى أو أن يزداد طغيانا فيتخطى إلى أن يقول فيك ما لا ينبغي لجراءته و قساوته و إطلاقه من حسن الأدب.
قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما بالحفظ و النصر. أَسْمَعُ وَ أَرى ما يجري بينكما و بينه من قول و فعل، فأحدث في كل ما يصرف شره عنكما و يوجب نصرتي لكما، و يجوز أن لا يقدر شيء على معنى إنني حافظكما سامعا و مبصرا، و الحافظ إذا كان قادرا سميعا بصيرا تم الحفظ.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 29
[سورة طه (20): الآيات 47 الى 48]
فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ أطلقهم. وَ لا تُعَذِّبْهُمْ بالتكاليف الصعبة و قتل الولدان، فإنهم كانوا في أيدي القبط يستخدمونهم و يتعبونهم في العمل و يقتلون ذكور أولادهم في عام دون عام، و تعقيب الإتيان بذلك دليل على أن تخليص المؤمنين من الكفرة أهم من دعوتهم إلى الإيمان، و يجوز أن يكون للتدريج في الدعوة. قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ جملة مقررة لما تضمنه الكلام السابق من دعوى الرسالة، و إنما وحد الآية و كان معه آيتان لأن المراد إثبات الدعوى ببرهانها لا الإشارة إلى وحدة الحجة و تعددها، و كذلك قوله: قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ ، فَأْتِ بِآيَةٍ ، قالَ أَ وَ لَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ . وَ السَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى و سلام الملائكة و خزنة الجنة على المهتدين، أو السلامة في الدارين لهم.
إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى أن عذاب المنزلين على المكذبين للرسل، و لعل تغيير النظم و التصريح بالوعيد و التوكيد فيه لأن التهديد في أول الأمر أهم و أنجع و بالواقع أليق.
[سورة طه (20): الآيات 49 الى 50]
قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى أن بعد ما أتياه و قالا له ما أمرا به، و لعله حذف لدلالة الحال عليه فإن المطيع إذا أمر بشيء فعله لا محالة، و إنما خاطب الاثنين و خص موسى عليه الصلاة و السلام بالنداء لأنه الأصل و هارون وزيره و تابعه، أو لأنه عرف أن له رتة و لأخيه فصاحة فأراد أن يفحمه و يدل عليه قوله أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَ لا يَكادُ يُبِينُ .
قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ من الأنواع خَلْقَهُ صورته و شكله الّذي يطابق كماله الممكن له، أو أعطى خليقته كل شيء يحتاجون إليه و يرتفقون به، فقدم المفعول الثاني لأنه المقصود بيانه. و قيل أعطى كل حيوان نظيره في الخلق و الصورة زوجا. و قرئ خلقه صفة للمضاف إليه أو المضاف على شذوذ فيكون المفعول الثاني محذوفا أي: أعطى كل مخلوق ما يصلحه. ثُمَّ هَدى ثم عرفه كيف يرتفق بما أعطي و كيف يتوصل به إلى بقائه و كماله اختيارا أو طبعا، و هو جواب في غاية البلاغة لاختصاره و إعرابه عن الموجودات بأسرها على مراتبها، و دلالته على أن الغني القادر بالذات المنعم على الإطلاق هو اللّه تعالى و أن جميع ما عداه مفتقر إليه منعم عليه في حد ذاته و صفاته و أفعاله، و لذلك بهت الّذي كفر و أفحم عن الدخل عليه فلم ير إلّا صرف الكلام عنه.
[سورة طه (20): الآيات 51 الى 52]
قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى فما حالهم بعد موتهم من السعادة و الشقاوة.
قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي أي هو غيب لا يعلمه إلا هو و إنما أنا عبد مثلك لا أعلم منه إلا ما أخبرني به.
فِي كِتابٍ مثبت في اللوح المحفوظ، و يجوز أن يكون تمثيلا لتمكنه في علمه بما استحفظه العالم و قيده بالكتبة و يؤيده. لا يَضِلُّ رَبِّي وَ لا يَنْسى و الضلال أن تخطئ الشيء في مكانه فلم تهتد إليه، و النسيان أن تذهب عنه بحيث لا يخطر ببالك، و هما محالان على العالم بالذات، و يجوز أن يكون سؤاله دخلا على إحاطة قدرة اللّه تعالى بالأشياء كلها و تخصيصه أبعاضها بالصور و الخواص المختلفة، بأن ذلك يستدعي علمه بتفاصيل الأشياء و جزئياتها، و القرون الخالية مع كثرتهم و تمادي مدتهم و تباعد أطرافهم كيف أحاط علمه بهم
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 30
و بأجزائهم و أحوالهم فيكون معنى الجواب: أن علمه تعالى محيط بذلك كله و أنه مثبت عنده لا يضل و لا ينسى.
[سورة طه (20): آية 53]
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً مرفوع صفة ل رَبِّي أو خبر لمحذوف أو منصوب على المدح. و قرأ الكوفيون هنا و في «الزخرف» مَهْداً أي كالمهد تتمدونها، و هو مصدر سمي به، و الباقون مهادا و هو اسم ما يمهد كالفراش أو جمع مهد و لم يختلفوا في الّذي في «النبأ». وَ سَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا و جعل لكم فيها سبلا بين الجبال و الأودية و البراري تسلكونها من أرض إلى أرض لتبلغوا منافعها. وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً مطرا.
فَأَخْرَجْنا بِهِ عدل به عن لفظ الغيبة إلى صيغة التكلم على الحكاية لكلام اللّه تعالى، تنبيها على ظهور ما فيه من الدلالة على كمال القدرة و الحكمة و إيذانا بأنه مطاع تنقاد الأشياء المختلفة لمشيئته، و على هذا نظائره كقوله: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ الآية. أَزْواجاً أصنافا سميت بذلك لازدواجها و اقتران بعضها ببعض. مِنْ نَباتٍ بيان أو صفة لأزواجا و كذلك: شَتَّى و يحتمل أن يكون صفة ل نَباتٍ فإنه من حيث إنه مصدر في الأصل يستوي فيه الواحد و الجمع، و هو جمع شتيت كمريض و مرضى أي متفرقات في الصور و الأغراض و المنافع يصلح بعضها للناس و بعضها للبهائم فلذلك قال:
[سورة طه (20): الآيات 54 الى 55]
كُلُوا وَ ارْعَوْا أَنْعامَكُمْ و هو حال من ضمير فَأَخْرَجْنا على إرادة القول أي أخرجنا أصناف النبات قائلين كُلُوا وَ ارْعَوْا ، و المعنى معديها لانتفاعكم بالأكل و العلف آذنين فيه. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى لذوي العقول الناهية عن اتباع الباطل و ارتكاب القبائح جمع نهية.
مِنْها خَلَقْناكُمْ فإن التراب أصل خلقة أول آبائكم و أول مواد أبدانكم. وَ فِيها نُعِيدُكُمْ بالموت و تفكيك الأجزاء. وَ مِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى بتأليف أجزائكم المتفتتة المختلطة بالتراب على الصور السابقة ورد الأرواح إليها.
[سورة طه (20): الآيات 56 الى 57]
وَ لَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا بصرناه إياها أو عرفناه صحتها. كُلَّها تأكيد لشمول الأنواع أو لشمول الأفراد، على أن المراد بآياتنا آيات معهودة و هي الآيات التسع المختصة بموسى، أو أنه عليه السلام أراه آياته و عدد عليه ما أوتي غيره من المعجزات فَكَذَّبَ موسى من فرط عناده. وَ أَبى الإيمان و الطاعة لعتوه ..
قالَ أَ جِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا أرض مصر. بِسِحْرِكَ يا مُوسى هذا تعلل و تحير و دليل على أنه علم كونه محقا حتى خاف منه على ملكه، فإن الساحر لا يقدر أن يخرج ملكا مثله من أرضه.
[سورة طه (20): آية 58]
فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ مثل سحرك. فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَ بَيْنَكَ مَوْعِداً وعدا لقوله: لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَ لا
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 31
أَنْتَ فإن الإخلاف لا يلائم الزمان و المكان و انتصاب. مَكاناً سُوىً بفعل دل عليه المصدر لا به لأنه موصوف، أو بأنه بدل من مَوْعِداً على تقدير مكان مضاف إليه و على هذا يكون طباق الجواب في قوله.
[سورة طه (20): آية 59]
قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَ أَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59)
قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ من حيث المعنى فإن يوم الزينة يدل على مكان مشتهر باجتماع الناس فيه في ذلك اليوم، أو بإضمار مثل مكان موعدكم مكان يوم الزينة كما هو على الأول، أو وعدكم وعد يوم الزينة، و قرئ «يوم» بالنصب و هو ظاهر في أن المراد بهما المصدر، و معنى سُوىً منتصفا يستوي مسافته إلينا و إليك و هو في النعت كقولهم: قوم عدي في الشذوذ، و قرأ ابن عامر و عاصم و حمزة و يعقوب بالضم، و قيل في يَوْمُ الزِّينَةِ يوم عاشوراء، أو يوم النيروز، أو يوم عيد كان لهم في كل عام، و إنما عينه ليظهر الحق و يزهق الباطل على رؤوس الأشهاد و يشيع ذلك في الأقطار. وَ أَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى عطف على ال يَوْمُ أو الزِّينَةِ ، و قرئ على البناء للفاعل بالتاء على خطاب فرعون و الياء على أن فيه ضمير ال يَوْمُ أو ضمير فِرْعَوْنُ على أن الخطاب لقومه.
[سورة طه (20): الآيات 60 الى 61]
فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ما يكاد به يعني السحرة و آلاتهم. ثُمَّ أَتى الموعد.
قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً بأن تدعوا آياته سحرا. فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ فيهلككم و يستأصلكم، و به قرأ حمزة و الكسائي و حفص و يعقوب بالضم من الاسحات و هو لغة نجد و تميم، و السحت لغة الحجاز. وَ قَدْ خابَ مَنِ افْتَرى كما خاب فرعون، فإنه افترى و احتال ليبقى الملك عليه فلم ينفعه.
[سورة طه (20): الآيات 62 الى 63]
فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ أي تنازعت السحرة في أمر موسى حين سمعوا كلامه فقال بعضهم: ليس هذا من كلام السحرة. وَ أَسَرُّوا النَّجْوى بأن موسى إن غلبنا اتبعنا أو تنازعوا و اختلفوا فيما يعارضون به موسى و تشاوروا في السر. و قيل الضمير لفرعون و قومه و قوله:
قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ تفسير ل أَسَرُّوا النَّجْوى كأنهم تشاوروا في تلفيقه حذرا أن يغلبا فيتبعهما الناس، و هذانِ اسم إن على لغة بلحرث بن كعب فإنهم جعلوا الألف للتثنية و أعربوا المثنى تقديرا. و قيل اسمها ضمير الشأن المحذوف و هذانِ لَساحِرانِ خبرها. و قيل إِنْ بمعنى نعم و ما بعدها مبتدأ و خبر و فيهما إن اللام لا تدخل خبر المبتدأ. و قيل أصله إنه هذان لهما ساحران فحذف الضمير و فيه أن المؤكد باللام لا يليق به الحذف، و قرأ أبو عمرو «إن هذين» و هو ظاهر، و ابن كثير و حفص إِنْ هذانِ على أنها هي المخففة و اللام هي الفارقة أو النافية و اللام بمعنى إلا. يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بالاستيلاء عليها. بِسِحْرِهِما وَ يَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى بمذهبكم الّذي هو أفضل المذاهب بإظهار مذهبهما و إعلاء دينهما لقوله إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ . و قيل أرادوا أهل طريقتكم و هم بنو إسرائيل فإنهم كانوا أرباب علم فيما بينهم لقول موسى فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ . و قيل الطريقة اسم لوجوه القوم و أشرافهم من حيث إنهم قدوة لغيرهم.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 32
[سورة طه (20): الآيات 64 الى 65]
فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ فأزمعوه و اجعلوه مجمعا عليه لا يتخلف عنه واحد منكم. و قرأ أبو عمرو فَأَجْمِعُوا و يعضده قوله فَجَمَعَ كَيْدَهُ و الضمير في قالُوا إن كان للسحرة فهو قول بعضهم لبعض.
ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا مصطفين لأنه أهيب في صدور الرائين. قيل كانوا سبعين ألفا مع كل واحد منهم حبل عصا و أقبلوا عليه إقبالة واحدة. وَ قَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى فاز بالمطلوب من غلب و هو اعتراض.
قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَ إِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى أي بعد ما أتوا مراعاة للأدب و أَنْ بما بعده منصوب بفعل مضمر أو مرفوع بخبرية محذوف، أي اختر إلقاءك أولا أو إلقاءنا أو الأمر إلقاؤك أو إلقاؤنا.
[سورة طه (20): آية 66]
قالَ بَلْ أَلْقُوا مقابلة أدب بأدب و عدم مبالاة بسحرهم، و إسعافا إلى ما أوهموا من الميل إلى البدء بذكر الأول في شقهم و تغيير النظم إلى وجه أبلغ، و لأن يبرزوا ما معهم و يستنفذوا أقصى وسعهم ثم يظهر اللّه سلطانه فيقذف بالحق على الباطل فيدمغه. فَإِذا حِبالُهُمْ وَ عِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى أي فألقوا فإذا حبالهم و عصيهم، و هي للمفاجأة و التحقيق أنها أيضا ظرفية تستدعي متعلقا ينصبها و جملة تضاف إليها، لكنها خصت بأن يكون المتعلق فعل المفاجأة و الجملة ابتدائية و المعنى: فألقوا ففاجأ موسى عليه الصلاة و السلام وقت تخييل سعي حبالهم و عصيهم من سحرهم، و ذلك بأنهم لطخوها بالزئبق فلما ضربت عليها الشمس اضطربت فخيل إليه أنها تتحرك. و قرأ ابن عامر برواية ابن ذكوان و روح «تخيل» بالتاء على إسناده إلى ضمير الحبال و العصي، و إبدال أنها تَسْعى منه بدل الاشتمال، و قرئ «يخيل» بالياء على إسناده إلى اللّه تعالى، و «تخيل» بمعنى تتخيل.
[سورة طه (20): الآيات 67 الى 69]
فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى فأضمر فيها خوفا من مفاجأته على ما هو مقتضى الجبلة البشرية، أو من أن يخالج الناس شك فلا يتبعوه.
قُلْنا لا تَخَفْ ما توهمت. إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى تعليل للنهي و تقرير لغلبته مؤكدا بالاستئناف، و حرف التحقيق و تكرير الضمير و تعريف الخبر و لفظ العلو الدال على الغلبة الظاهرة و صيغة التفضيل.
وَ أَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ أبهمه و لم يقل عصاك تحقيرا لها أي لا تبال بكثرة حبالهم و عصيهم و ألق العويدة الّتي في يدك، أو تعظيما لها أي لا تحتفل بكثرة هذه الأجرام و عظمها فإن في يمينك ما هو أعظم منها أثرا فألقه. تَلْقَفْ ما صَنَعُوا تبتلعه بقدرة اللّه تعالى، و أصله تتلقف فحذفت إحدى التاءين، و تاء المضارعة تحتمل التأنيث و الخطاب على إسناد الفعل إلى المسبب. و قرأ ابن عامر برواية ابن ذكوان بالرفع على الحال أو الاستئناف و حفص بالجزم و التخفيف على أنه من لقفته بمعنى تلقفته. إِنَّما صَنَعُوا أن الّذي زوروا و افتعلوا.
كَيْدُ ساحِرٍ و قرئ بالنصب على أن ما كافة و هو مفعول صنعوا. و قرأ حمزة و الكسائي «سحر» بمعنى ذي سحر، أو بتسمية الساحر سحرا على المبالغة، أو بإضافة الكيد إلى السحر للبيان كقولهم: علم فقه، و إنما وحد الساحر لأن المراد به الجنس المطلق و لذلك قال: وَ لا يُفْلِحُ السَّاحِرُ أي هذا الجنس و تنكير الأول
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 33
لتنكير المضاف كقول العجاج:
يوم ترى النّفوس ما أعدّت
في سعي دنيا طالما قد مدّت
كأنه قيل إنما صنعوا كيد سحري. حَيْثُ أَتى حيث كان و أين أقبل.
[سورة طه (20): آية 70]
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَ مُوسى (70)
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً أي فألقى فتلقفت فتحقق عند السحرة أنه ليس بسحر و إنما هو آية من آيات اللّه و معجزة من معجزاته، فألقاهم ذلك على وجوههم سجدا للّه توبة عما صنعوا و إعتابا و تعظيما لما رأوا. قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَ مُوسى قدم هارون لكبر سنه أو لروي الآية، أو لأن فرعون ربي موسى في صغره فلو اقتصر على موسى أو قدم ذكره لربما توهم أن المراد فرعون و ذكر هارون على الاستتباع. روي أنهم رأوا في سجودهم الجنة و منازلهم فيها.
[سورة طه (20): آية 71]
قالَ آمَنْتُمْ لَهُ أي لموسى و اللام لتضمن الفعل معنى الاتباع. و قرأ قنبل و حفص آمَنْتُمْ لَهُ على الخبر و الباقون على الاستفهام. قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ في الإيمان له. إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ لعظيمكم في فنكم و أعلمكم به أو لأستاذكم. الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ و أنتم تواطأتم على ما فعلتم. فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ اليد اليمنى و الرجل اليسرى، و من ابتدائية كأن القطع ابتدأ من مخالفة العضو العضو و هي مع المجرور بها في حيز النصب على الحال، أي لأقطعنها مختلفات و قرئ «لأقطعن» «و لأصلبن» بالتخفيف.
وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ شبه تمكن المصلوب بالجذع بتمكن المظروف بالظرف و هو أول من صلب.
وَ لَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا يريد نفسه و موسى لقوله آمَنْتُمْ لَهُ و اللام مع الإيمان في كتاب اللّه لغير اللّه أراد به توضيع موسى و الهزء به، فإنه لم يكن من التعذيب في شيء. و قيل رب موسى الّذي آمنوا به. أَشَدُّ عَذاباً وَ أَبْقى و أدوم عقابا.
[سورة طه (20): الآيات 72 الى 73]
قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ لن نختارك. عَلى ما جاءَنا موسى به، و يجوز أن يكون الضمير فيه لما. مِنَ الْبَيِّناتِ المعجزات الواضحات. وَ الَّذِي فَطَرَنا عطف على ما جاءنا أو قسم. فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ ما أنت قاضيه أي صانعه أو حاكم به. إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا إنما تصنع ما تهواه، أو تحكم بما تراه في هذه الدنيا وَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ وَ أَبْقى فهو كالتعليل لما قبله و التمهيد لما بعده. و قرئ «تقضي هذه الحياة الدنيا» كقولك: صيم يوم الجمعة.
إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا من الكفر و المعاصي. وَ ما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ من معارضة المعجزة. روي أنهم قالوا لفرعون أرنا موسى نائما فوجدوه تحرسه العصا فقالوا ما هذا بسحر فإن الساحر إذا نام بطل سحره فأبى إلا أن يعارضوه. وَ اللَّهُ خَيْرٌ وَ أَبْقى جزاء أو خير ثوابا و أبقى عقابا.
[سورة طه (20): الآيات 74 الى 76]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 34
إِنَّهُ إن الأمر. مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً بأن يموت على كفره و عصيانه. فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها فيستريح. وَ لا يَحْيى حياة مهنأة.
وَ مَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ في الدنيا. فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى المنازل الرفيعة.
جَنَّاتُ عَدْنٍ بدل من الدرجات. تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها حال و العامل فيها معنى الإشارة أو الاستقرار. وَ ذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى تطهر من أدناس الكفر و المعاصي، و الآيات الثلاث يحتمل أن تكون من كلام السحرة و أن تكون ابتداء كلام من اللّه تعالى.
[سورة طه (20): آية 77]
وَ لَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي أي من مصر. فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فاجعل لهم، من قولهم ضرب له في ماله سهما أو فاتخذ من ضرب اللبن إذا عمله. فِي الْبَحْرِ يَبَساً يابسا مصدر وصف به يقال يبس يبسا و يبسا كسقم سقما و سقما، و لذلك وصف به المؤنث فقيل شاة يبس للتي جف لبنها، و قرئ «يبسا» و هو إما مخفف منه أو وصف على فعل كصعب أو جمع يابس كصحب وصف به الواحد مبالغة كقوله:
كأنّ قتود رحلي حين ضمّت
حوالب غرزا و معي جياعا
أو لتعدده معنى فإنه جعل لكل سبط منهم طريقا. لا تَخافُ دَرَكاً حال من المأمور أي آمنا من أن يدرككم العدو، أو صفة ثانية و العائد محذوف، و قرأ حمزة «لا تخف» على أنه جواب الأمر. وَ لا تَخْشى استئناف أي و أنت لا تخشى، أو عطف عليه و الألف فيه للإطلاق كقوله وَ تَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا أو حال بالواو و المعنى و لا تخشى الغرق.
[سورة طه (20): الآيات 78 الى 79]
فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ و ذلك أن موسى عليه السلام خرج بهم أول الليل فأخبر فرعون بذلك فقص أثرهم، و المعنى فاتبعهم فرعون نفسه و معه جنوده فحذف المفعول الثاني. و قيل فَأَتْبَعَهُمْ بمعنى فاتبعهم و يؤيده القراءة به و الباء للتعدية و قيل الباء مزيدة و المعنى: فاتبعهم جنوده و ذادهم خلفهم. فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ الضمير لجنوده أوله و لهم، و فيه مبالغة و وجازة أي: غشيهم ما سمعت قصته و لا يعرف كنهه إلا اللّه. و قرئ «فغشاهم ما غشاهم» أي غطاهم ما غطاهم و الفاعل هو اللّه تعالى أو ما غشاهم أو فرعون لأنه الّذي ورطهم للهلاك.
وَ أَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَ ما هَدى أي أضلهم في الدين و ما هداهم و هو تهكم به في قوله وَ ما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ أو أضلهم في البحر و ما نجا.
[سورة طه (20): آية 80]