کتابخانه تفاسیر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 120
لأنهم في مقابلتهم.
لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ ما يشاءونه من النعيم، و لعله تقصر همم كل طائفة على ما يليق برتبته إذ الظاهر أن الناقص لا يدرك شأو الكامل بالتشهي، و فيه تنبيه على أن كل المرادات لا تحصل إلا في الجنة.
خالِدِينَ حال من أحد ضمائرهم. كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلًا الضمير في كانَ ل ما يَشاؤُنَ و الوعد الموعود أي: كان ذلك موعودا حقيقا بأن يسأل و يطلب، أو مسؤولا سأله الناس في دعائهم رَبَّنا وَ آتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ . أو الملائكة بقولهم رَبَّنا وَ أَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ ، و ما في عَلى من معنى الوجوب لامتناع الخلف في وعده تعالى و لا يلزم منه الإلجاء إلى الإنجاز، فإن تعلق الإرادة بالوعود مقدم على الوعد الموجب للإنجاز.
[سورة الفرقان (25): آية 17]
و يوم نحشرهم للجزاء، و قرئ بكسر الشين و قرأ ابن كثير و يعقوب و حفص بالياء. وَ ما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعم كل معبود سواه تعالى، و استعمال ما إما لأن وضعه أعم و لذلك يطلق لكل شبح يرى و لا يعرف، أو لأنه أريد به الوصف كأنه قيل و معبودهم أو لتغليب الأصنام تحقيرا أو اعتبار الغلبة عبادها، أو يخص الملائكة و عزيرا و المسيح بقرينة السؤال و الجواب، أو الأصنام ينطقها اللّه أو تتكلم بلسان الحال كما قيل في كلام الأيدي و الأرجل. فَيَقُولُ أي للمعبودين و هو على تلوين الخطاب، و قرأ ابن عامر بالنون.
أَ أَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ لإخلالهم بالنظر الصحيح و إعراضهم عن المرشد النصيح، و هو استفهام تقريع و تبكيت للعبدة، و أصله أ أضللتم أم ضَلُّوا فغير النظم ليلي حرف الاستفهام المقصود بالسؤال و هو المتولي للفعل دونه لأنه لا شبهة فيه و إلا لما توجه العتاب، و حذف صلة الضل مبالغة.
[سورة الفرقان (25): الآيات 18 الى 19]
قالُوا سُبْحانَكَ تعجبا مما قيل لهم لأنهم إما ملائكة أو أنبياء معصومون، أو جمادات لا تقدر على شيء أو إشعارا بأنهم الموسومون بتسبيحه و توحيده فكيف يليق بهم إضلال عبيده، أو تنزيها للّه تعالى عن الأنداد. ما كانَ يَنْبَغِي لَنا ما يصح لنا. أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ للعصمة أو لعدم القدرة فكيف يصح لنا أن ندعو غيرنا أن يتولى أحدا دونك، و قرئ نَتَّخِذَ على البناء للمفعول من اتخذ الّذي له مفعولان كقوله تعالى: وَ اتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا و مفعوله الثاني مِنْ أَوْلِياءَ* و مِنْ للتبعيض و على الأول مزيدة لتأكيد النفي. وَ لكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَ آباءَهُمْ بأنواع النعم فاستغرقوا في الشهوات. حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ حتى غفلوا عن ذكرك أو التذكر لآلائك و التدبر في آياتك، و هو نسبة للضلال إليهم من حيث إنه بكسبهم و إسناد له إلى ما فعل اللّه بهم فحملهم عليه، و هو عين ما ذهبنا إليه فلا ينتهض حجة علينا للمعتزلة.
وَ كانُوا في قضائك. قَوْماً بُوراً هالكين مصدر وصف به و لذلك يستوي فيه الواحد و الجمع، أو جمع بائر كعائذ و عوذ.
فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ التفات إلى العبدة بالاحتجاج و الإلزام على حذف القول و المعنى فقد كذبكم المعبودون. بِما تَقُولُونَ في قولكم إنهم آلهة أو هؤلاء أضلونا و الباء بمعنى في، أو مع المجرور بدل من
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 121
الضمير، و عن ابن كثير بالياء أي: كَذَّبُوكُمْ بقولهم سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا . فما يستطيعون أي المعبودون و قرأ حفص بالتاء على خطاب العابدين. صَرْفاً دفعا للعذاب عنكم، و قيل حيلة من قولهم إنه ليتصرف أي يحتال. وَ لا نَصْراً يعينكم عليه. وَ مَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ أيها المكلفون. نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً هي النار و الشرط و إن عم كل من كفر أو فسق لكنه في اقتضاء الجزاء مقيد بعدم المزاحم وفاقا، و هو التوبة و الإحباط بالطاعة إجماعا و بالعفو عندنا.
[سورة الفرقان (25): آية 20]
وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَ يَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ أي إلا رسلا إنهم فحذف الموصوف لدلالة المرسلين عليه و أقيمت الصفة مقامه كقوله تعالى: وَ ما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ ، و يجوز أن تكون حالا اكتفى فيها بالضمير و هو جواب لقولهم ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَ يَمْشِي فِي الْأَسْواقِ .
و قرئ «يمشون» أي تمشيهم حوائجهم أو الناس. وَ جَعَلْنا بَعْضَكُمْ أيها الناس. لِبَعْضٍ فِتْنَةً ابتلاء و من ذلك ابتلاء الفقراء بالأغنياء، و المرسلين بالمرسل إليهم و مناصبتهم لهم العداوة و إيذائهم لهم، و هو تسلية لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم على ما قالوه بعد نقضه، و فيه دليل على القضاء و القدر. أَ تَصْبِرُونَ علة للجعل و المعنى وَ جَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً لنعلم أيكم يصبر و نظيره قوله تعالى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا* ، أو حث على الصبر على ما افتتنوا به. وَ كانَ رَبُّكَ بَصِيراً بمن يصبر أو بالصواب فيما يبتلي به و غيره.
[سورة الفرقان (25): آية 21]
وَ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لا يأملون. لِقاءَنا بالخير لكفرهم بالبعث، أولا يخافون لِقاءَنا بالشر على لغة تهامة، و أصل اللقاء الوصول إلى الشيء و منه الرؤية فإنه وصول إلى المرئي، و المراد به الوصول إلى جزائه و يمكن أن يراد به الرؤية على الأول. لَوْ لا هلا. أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ فتخبرنا بصدق محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم، و قيل فيكونوا رسلا إلينا. أَوْ نَرى رَبَّنا فيأمرنا بتصديقه و اتباعه. لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ أي في شأنها حتى أرادوا لها ما يتفق لأفراد من الأنبياء الذين هم أكمل خلق اللّه في أكمل أوقاتها و ما هو أعظم من ذلك.
وَ عَتَوْا و تجاوزوا الحد في الظلم. عُتُوًّا كَبِيراً بالغا أقصى مراتبه حيث عاينوا المعجزات القاهرة فأعرضوا عنها، و اقترحوا لأنفسهم الخبيثة ما سدت دونه مطامح النفوس القدسية، و اللام جواب قسم محذوف و في الاستئناف بالجملة حسن و إشعار بالتعجب من استكبارهم و عتوهم كقوله:
و جارة جسّاس أبأنا بنابها
كليبا علت ناب كليب بواؤها
[سورة الفرقان (25): الآيات 22 الى 23]
يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ ملائكة الموت أو العذاب، و يَوْمَ نصب باذكر أو بما دل عليه. لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ فإنه بمعنى يمنعون البشرى أو يعدمونها، و يَوْمَئِذٍ تكرير أو خبر و لِلْمُجْرِمِينَ تبيين أو خبر ثان أو ظرف لما يتعلق به اللام، أو ل بُشْرى إن قدرت منونة غير مبنية مع لا فإنها لا تعمل، و لِلْمُجْرِمِينَ إما عام يتناول حكمه حكمهم من طريق البرهان و لا يلزم من نفي البشرى لعامة المجرمين حينئذ نفي البشرى بالعفو و الشفاعة في وقت آخر، و إما خاص وضع موضع ضميرهم تسجيلا على جرمهم
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 122
و إشعارا بما هو المانع للبشرى و الموجب لما يقابلها. وَ يَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً عطف على المدلول أي و يقول الكفرة حينئذ، هذه الكلمة استعاذة و طلبا من اللّه تعالى أن يمنع لقاءهم و هي مما كانوا يقولون عند لقاء عدو أو هجوم مكروه، أو تقولها الملائكة بمعنى حراما محرما عليكم الجنة أو البشرى. و قرئ «حجرا» بالضم و أصله الفتح غير أنه لما اختص بموضع مخصوص غير كقعدك و عمرك و لذلك لا يتصرف فيه و لا يظهر ناصبه، و وصفه ب مَحْجُوراً للتأكيد كقولهم: موت مائت.
وَ قَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً أي و عمدنا إلى ما عملوا في كفرهم من المكارم كقرى الضيف وصلة الرحم و إغاثة الملهوف فأحبطناه لفقد ما هو شرط اعتباره، و هو تشبيه حالهم و أعمالهم بحال قوم استعصوا على سلطانهم فقدم إلى أشيائهم فمزقها و أبطلها و لم يبق لها أثرا، و ال هَباءً غبار يرى في شعاع يطلع من الكوة من الهبوة و هي الغبار، و مَنْثُوراً صفته شبه عملهم المحبط بالهباء في حقارته و عدم نفعه ثم بالمنثور منه في انتثاره بحيث لا يمكن نظمه أو تفرقه نحو أغراضهم الّتي كانوا يتوجهون به نحوها، أو مفعول ثالث من حيث إنه كالخبر بعد الخبر كقوله تعالى: كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ* .
[سورة الفرقان (25): آية 24]
أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَ أَحْسَنُ مَقِيلاً (24)
أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا مكانا يستقر فيه أكثر الأوقات للتجالس و التحادث. وَ أَحْسَنُ مَقِيلًا مكانا يؤوى إليه للاسترواح بالأزواج و التمتع بهن تجوزا له من مكان القيلولة على التشبيه، أو لأنه لا يخلو من ذلك غالبا إذ لا نوم في الجنة و في أحسن رمز إلى ما يتميز به مقيلهم من حسن الصور و غيره من التحاسين، و يحتمل أن يراد بأحدهما المصدر أو الزمان إشارة إلى أن مكانهم و زمانهم أطيب ما يتخيل من الأمكنة و الأزمنة، و التفضيل إما لإرادة الزيادة مطلقا أو بالإضافة إلى ما للمترفين في الدنيا.
روي أنه يفرغ من الحساب في نصف ذلك اليوم فيقيل أهل الجنة في الجنة و أهل النار في النار.
[سورة الفرقان (25): الآيات 25 الى 26]
وَ يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ أصله تتشقق فحذفت التاء، و أدغمها ابن كثير و نافع و ابن عامر و يعقوب.
بِالْغَمامِ بسبب طلوع الغمام منها و هو الغمام المذكور في قوله هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَ الْمَلائِكَةُ . وَ نُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا في ذلك الغمام بصحائف أعمال العباد، و قرأ ابن كثير «و ننزل» و قرئ «و نزلت» «و أنزل» «و نزل الملائكة» بحذف نون الكلمة.
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ الثابت له لأن كل ملك يبطل يومئذ و لا يبقى إلا ملكه فهو الخبر و لِلرَّحْمنِ صلته، أو تبيين و يَوْمَئِذٍ مفعول الْمُلْكُ لا الْحَقُ لأنه متأخر أو صفته و الخبر يَوْمَئِذٍ أو لِلرَّحْمنِ . وَ كانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً شديدا.
[سورة الفرقان (25): الآيات 27 الى 29]
وَ يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ من فرط الحسرة، و عض اليدين و أكل البنان و حرق الأسنان و نحوها كنايات عن الغيظ و الحسرة لأنها من روادفهما، و المراد ب الظَّالِمُ الجنس. و
قيل عقبة بن أبي معيط كان يكثر مجالسة النبي صلّى اللّه عليه و سلّم، فدعاه إلى ضيافته فأبى أن يأكل من طعامه حتى ينطق بالشهادتين ففعل، و كان أبي بن خلف صديقه فعاتبه و قال صبأت فقال: لا، و لكن آلى أن لا يأكل من طعامي و هو في بيتي فاستحيت منه
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 123
فشهدت له، فقال لا أرضى منك إلا أن تأتيه فتطأ قفاه و تبزق في وجهه، فوجده ساجدا في دار الندوة ففعل ذلك، فقال عليه الصلاة و السلام: لا ألقاك خارجا من مكة إلا علوت رأسك بالسيف، فأسر يوم بدر فأمر عليا فقتله و طعن أبيا بأحد في المبارزة فرجع إلى مكة و مات.
يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا طريقا إلى النجاة أو طريقا واحدا و هو طريق الحق و لم تتشعب بي طرق الضلالة.
يا وَيْلَتى و قرئ بالياء على الأصل. لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا يعني من أضله و فلان كناية عن الأعلام كما أن هنا كناية عن الأجناس.
لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ عن ذكر اللّه أو كتابه أو موعظة الرسول، أو كلمة الشهادة. بَعْدَ إِذْ جاءَنِي و تمكنت منه. وَ كانَ الشَّيْطانُ يعني الخليل المضل أو إبليس لأنه حمله على مخالته و مخالفة الرسول، أو كل من تشيطن من جن و إنس. لِلْإِنْسانِ خَذُولًا يواليه حتى يؤديه إلى الهلاك ثم يتركه و لا ينفعه، فعول من الخذلان.
[سورة الفرقان (25): الآيات 30 الى 31]
وَ قالَ الرَّسُولُ محمّد يومئذ أو في الدنيا بثا إلى اللّه تعالى. يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي قريشا. اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً بأن تركوه و صدوا عنه، و
عنه عليه الصلاة و السلام «من تعلم القرآن و علق مصحفه و لم يتعاهده و لم ينظر فيه جاء يوم القيامة متعلقا به يقول: يا رب عبدك هذا اتخذني مهجورا اقض بيني و بينه»
أو هجروا و لغوا فيه إذا سمعوه أو زعموا أنه هجر و أساطير الأولين، فيكون أصله مَهْجُوراً فيه فحذف الجار و يجوز أن يكون بمعنى الهجر كالمجلود و المعقول، و فيه تخويف لقومه فإن الأنبياء عليهم الصلاة و السلام إذا شكوا إلى اللّه تعالى قومهم عجل لهم العذاب.
وَ كَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ كما جعلناه لك فاصبر كما صبروا، و فيه دليل على أنه خالق الشر، و العدو يحتمل الواحد و الجمع. وَ كَفى بِرَبِّكَ هادِياً إلى طريق قهرهم. وَ نَصِيراً لك عليهم.
[سورة الفرقان (25): آية 32]
وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ أي أنزل عليه كخبر بمعنى أخبر لئلا يناقض قوله: جُمْلَةً واحِدَةً دفعة واحدة كالكتب الثلاثة، و هو اعتراض لا طائل تحته لأن الإعجاز لا يختلف بنزوله جملة أو مفرقا مع أن للتفريق فوائد منها ما أشار إليه بقوله: كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ أي كذلك أنزلناه مفرقا لنقوي بتفريقه فؤادك على حفظه و فهمه، لأن حاله يخالف حال موسى و داود و عيسى حيث كان عليه الصلاة و السلام أميا و كانوا يكتبون، فلو ألقي عليه جملة لعيل بحفظه، و لعله لم يستتب له فإن التلقف لا يتأتى إلا شيئا فشيئا، و لأن نزوله بحسب الوقائع يوجب مزيد بصيرة و غوص في المعنى، و لأنه إذا نزل منجما و هو يتحدى بكل نجم فيعجزون عن معارضته زاد ذلك قوة قلبه، و لأنه إذا نزل به جبريل حالا بعد حال يثبت به فؤاده و منها معرفة الناسخ و المنسوخ و منها انضمام القرائن الحالية إلى الدلالات اللفظية، فإنه يعين على البلاغة، و كذلك صفة مصدر محذوف و الإشارة إلى إنزاله مفرقا فإنه مدلول عليه بقوله لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً و يحتمل أن يكون من تمام كلام الكفرة و لذلك وقف عليه فيكون حالا و الإشارة إلى الكتب السابقة، و اللام على الوجهين متعلق بمحذوف. وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا و قرأناه عليك شيئا بعد شيء على تؤدة و تمهل في عشرين سنة أو ثلاث و عشرين و أصل الترتيل في الأسنان و هو تفليجها.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 124
[سورة الفرقان (25): الآيات 33 الى 34]
وَ لا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ سؤال عجيب كأنه مثل في البطلان يريدون به القدح في نبوتك. إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِ الدامغ له في جوابه. وَ أَحْسَنَ تَفْسِيراً و بما هو أحسن بيانا أو معنى من سؤالهم، أو لا يَأْتُونَكَ بحال عجيبة يقولون هلا كانت هذه حاله إلا أعطيناك من الأحوال ما يحق لك في حكمتنا و ما هو أحسن كشفا لما بعثت له.
الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أي مقلوبين أو مسحوبين عليها، أو متعلقة قلوبهم بالسفليات متوجهة وجوههم إليها. و
عنه عليه الصلاة و السلام «يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أصناف، صنف على الدواب و صنف على الأقدام و صنف على الوجوه»
و هو ذم منصوب أو مرفوع أو مبدأ خبره. أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَ أَضَلُّ سَبِيلًا و المفضل عليه هو الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم على طريقة قوله تعالى: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَ غَضِبَ عَلَيْهِ كأنه قيل إن حاملهم على هذه الأسئلة تحقير مكانه و تضليل سبيله و لا يعلمون حالهم ليعلموا أنهم شر مكانا و أضل سبيلا، و قيل إنه متصل بقوله أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا و وصف السبيل بالضلال من الإسناد المجازي للمبالغة.
[سورة الفرقان (25): الآيات 35 الى 37]
وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَ جَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً يوازره في الدعوة و إعلاء الكلمة و لا ينافي ذلك مشاركته في النبوة، لأن المتشاركين في الأمر متوازرون عليه.
فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا يعني فرعون و قومه. بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً أي فذهبا إليهم فكذبوهما فدمرناهم، فاقتصر على حاشيتي القصة اكتفاء بما هو المقصود منها و هو إلزام الحجة ببعثة الرسل و استحقاق التدمير بتكذيبهم و التعقيب باعتبار الحكم لا الوقوع، و قرئ «فدمرتهم» «فدمراهم» «فدمرانهم» على التأكيد بالنون الثقيلة.
وَ قَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ كذبوا نوحا و من قبله، أو نوحا وحده و لكن تكذيب واحد من الرسل كتكذيب الكل أو بعثة الرسل مطلقا كالبراهمة. أَغْرَقْناهُمْ بالطوفان. وَ جَعَلْناهُمْ و جعلنا إغراقهم أو قصتهم. لِلنَّاسِ آيَةً عبرة. وَ أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً يحتمل التعميم و التخصيص فيكون وضعا للظاهر موضع المضمر تظليما لهم.
[سورة الفرقان (25): الآيات 38 الى 39]
وَ عاداً وَ ثَمُودَ عطف على هم في جَعَلْناهُمْ أو على «الظالمين» لأن المعنى و وعدنا الظالمين، و قرأ حمزة و حفص «و ثمود» على تأويل القبيلة. وَ أَصْحابَ الرَّسِ قوم كان يعبدون الأصنام فبعث اللّه تعالى إليهم شعيبا فكذبوه، فبينما هم حول الرس و هي البئر الغير المطوية فانهارت فخسف بهم و بديارهم. و قيل الرَّسِ قرية بفلج اليمامة كان فيها بقايا ثمود فبعث إليهم نبي فقتلوه فهلكوا. و قيل الأخدود و قيل بئر بأنطاكية قتلوا
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 125
فيها حبيبا النجار، و قيل هم أصحاب حنظلة بن صفوان النبي ابتلاهم اللّه تعالى بطير عظيم كان فيها من كل لون، و سموها عنقاء لطول عنقها و كانت تسكن جبلهم الّذي يقال له فتخ أو دمخ و تنقض على صبيانهم فتخطفهم إذا أعوزها الصيد، و لذلك سميت مغربا فدعا عليها حنظلة فأصابتها الصاعقة ثم أنهم قتلوه فأهلكوا.
و قيل هم قوم كذبوا نبيهم و رسوه أي دسوه في بئر. وَ قُرُوناً و أهل أعصار قيل القرن أربعون سنة و قيل سبعون و قيل مائة و عشرون. بَيْنَ ذلِكَ إشارة إلى ما ذكر. كَثِيراً لا يعلمها إلا اللّه.
وَ كُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ بينا له القصص العجيبة من قصص الأولين إنذارا و إعذارا فلما أصروا أهلكوا كما قال: وَ كُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً فتتناه تفتيتا و منه التبر لفتات الذهب و الفضة، وَ كُلًّا الأول منصوب بما دل عليه ضَرَبْنا كأنذرنا و الثاني ب تَبَّرْنا لأنه فارغ.
[سورة الفرقان (25): آية 40]
وَ لَقَدْ أَتَوْا يعني قريشا مروا مرارا في متاجرهم إلى الشام. عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ يعني سدوم عظمى قرى قوم لوط أمطرت عليها الحجارة. أَ فَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها في مرار مرورهم فيتعظوا بما يرون فيها من آثار عذاب اللّه. بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً بل كانوا كفرة لا يتوقعون نشورا و لا عاقبة فلذلك لم ينظروا و لم يتعظوا فمروا بها كما مرت ركابهم، أو لا يأملون نشورا كما يأمله المؤمنون طمعا في الثواب، أو لا يخافونه على اللغة التهامية.
[سورة الفرقان (25): الآيات 41 الى 42]
وَ إِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً ما يتخذونك إلا موضع هزء أو مهزوءا به. أَ هذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا محكي بعد قول مضمر و الإشارة للاستحقار، و إخراج بعث اللّه رسولا في معرض التسليم يجعله صلة و هم على غاية الإنكار تهكم و استهزاء و لولاه لقالوا أ هذا الّذي زعم أنه بعثه اللّه رسولا.
إِنْ إنه كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا ليصرفنا عن عبادتها بفرط اجتهاده في الدعاء إلى التوحيد و كثرة ما يوردها مما يسبق إلى الذهن بأنها حجج و معجزات. لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها ثبتنا عليها و استمسكنا بعبادتها و لَوْ لا في مثله تقيد الحكم المطلق من حيث المعنى دون اللفظ. وَ سَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا كالجواب لقولهم إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا فإنه يفيد نفي ما يلزمه و يكون الموجب له، و فيه وعيد و دلالة على أنه لا يهملهم و إن أمهلهم.
[سورة الفرقان (25): الآيات 43 الى 44]
أَ رَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ بأن أطاعه و بنى عليه دينه لا يسمع حجة و لا يبصر دليلا، و إنما قدم المفعول الثاني للعناية به. أَ فَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا حفيظا تمنعه عن الشرك و المعاصي و حاله هذا فالاستفهام الأول للتقرير و التعجيب و الثاني للإنكار.
أَمْ تَحْسَبُ بل أ تحسب. أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ فتجدي لهم الآيات أو الحجج فتهتم بشأنهم و تطمع في إيمانهم، و هو أشد مذمة مما قبله حتى حق بالإضراب عنه إليه، و تخصيص الأكثر لأنه كان
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 126
منهم من آمن و منهم من عقل الحق و كابر استكبارا و خوفا على الرئاسة. إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ في عدم انتفاعهم بقرع الآيات آذانهم و عدم تدبرهم فيما شاهدوا من الدلائل و المعجزات. بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا من الأنعام لأنها تنقاد لمن يتعهدها و تميز من يحسن إليها ممن يسيء إليها، و تطلب ما ينفعها و تتجنب ما يضرها و هؤلاء لا ينقادون لربهم و لا يعرفون إحسانه من إساءة الشيطان، و لا يطلبون الثواب الّذي هو أعظم المنافع و لا يتقون العقاب الّذي هو أشد المضار، و لأنها إن لم تعتقد حقا و لم تكتسب خيرا لم تعتقد باطلا و لم تكتسب شرا، بخلاف هؤلاء و لأن جهالتها لا تضر بأحد و جهالة هؤلاء تؤدي إلى هيج الفتن و صد الناس عن الحق، و لأنها غير متمكنة من طلب الكمال فلا تقصير منها و لا ذم و هؤلاء مقصرون و مستحقون أعظم العقاب على تقصيرهم.
[سورة الفرقان (25): الآيات 45 الى 46]
أَ لَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ ألم تنظر إلى صنعه. كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ كيف بسطه أو ألم تنظر إلى الظل كيف مده ربك، فغير النظم إشعارا بأنه المعقول من هذا الكلام لوضوح برهانه و هو دلالة حدوثه و تصرفه على الوجه النافع بأسباب ممكنة على أن ذلك فعل الصانع الحكيم كالمشاهد المرئي فكيف بالمحسوس منه، أو ألم ينته علمك إلى أن ربك كيف مد الظل و هو فيما بين طلوع الفجر و الشمس و هو أطيب الأحوال، فإن الظلمة الخالصة تنفر الطبع و تسد النظر و شعاع الشمس: يسخن الجو و يبهر البصر، و لذلك وصف به الجنة فقال وَ ظِلٍّ مَمْدُودٍ . وَ لَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثابتا من السكنى أو غير متقلص من السكون بأن يجعل الشمس مقيمة على وضع واحد. ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا فإنه لا يظهر للحس حتى تطلع فيقع ضوؤها على بعض الأجرام، أو لا يوجد و لا يتفاوت إلا بسبب حركتها.
ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا أي أزلناه بإيقاع الشمس موقعه لما عبر عن إحداثه بالمد بمعنى التسيير عبر عن إزالته بالقبض إلى نفسه الّذي هو في معنى الكف. قَبْضاً يَسِيراً قليلا قليلا حسبما ترتفع الشمس لينتظم بذلك مصالح الكون و يتحصل به ما لا يحصى من منافع الخلق، و ثُمَ في الموضعين لتفاضل الأمور أو لتفاضل مبادئ أوقات ظهورها، و قيل مَدَّ الظِّلَ لما بنى السماء بلا نير، و دحا الأرض تحتها فألقت عليها ظلها و لو شاء لجعله ثابتا على تلك الحالة، ثم خلق الشمس عليه دليلا، أي مسلطا عليه مستتبعا إياه كما يستتبع الدليل المدلول، أو دليل الطريق من يهديه فإنه يتفاوت بحركتها و يتحول بتحولها، ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً شيئا فشيئا إلى أن تنتهي غاية نقصانه، أو قَبْضاً سهلا عند قيام الساعة بقبض أسبابه من الأجرام المظلة و المظل عليها.
[سورة الفرقان (25): آية 47]
وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً شبه ظلامه باللباس في ستره. وَ النَّوْمَ سُباتاً راحة للأبدان بقطع المشاغل، و أصل السبت القطع أو موتا كقوله: وَ هُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ لأنه قطع الحياة و منه المسبوت للميت. وَ جَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً ذا نشور أي انتشار ينتشر فيه الناس للمعاش، أو بعث من النوم بعث الأموات فيكون إشارة إلى أن النوم و اليقظة أنموذج للموت و النشور. و عن لقمان عليه السلام يا بني كما تنام فتوقظ كذلك تموت فتنشر.
[سورة الفرقان (25): الآيات 48 الى 49]