کتابخانه تفاسیر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 123
فشهدت له، فقال لا أرضى منك إلا أن تأتيه فتطأ قفاه و تبزق في وجهه، فوجده ساجدا في دار الندوة ففعل ذلك، فقال عليه الصلاة و السلام: لا ألقاك خارجا من مكة إلا علوت رأسك بالسيف، فأسر يوم بدر فأمر عليا فقتله و طعن أبيا بأحد في المبارزة فرجع إلى مكة و مات.
يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا طريقا إلى النجاة أو طريقا واحدا و هو طريق الحق و لم تتشعب بي طرق الضلالة.
يا وَيْلَتى و قرئ بالياء على الأصل. لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا يعني من أضله و فلان كناية عن الأعلام كما أن هنا كناية عن الأجناس.
لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ عن ذكر اللّه أو كتابه أو موعظة الرسول، أو كلمة الشهادة. بَعْدَ إِذْ جاءَنِي و تمكنت منه. وَ كانَ الشَّيْطانُ يعني الخليل المضل أو إبليس لأنه حمله على مخالته و مخالفة الرسول، أو كل من تشيطن من جن و إنس. لِلْإِنْسانِ خَذُولًا يواليه حتى يؤديه إلى الهلاك ثم يتركه و لا ينفعه، فعول من الخذلان.
[سورة الفرقان (25): الآيات 30 الى 31]
وَ قالَ الرَّسُولُ محمّد يومئذ أو في الدنيا بثا إلى اللّه تعالى. يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي قريشا. اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً بأن تركوه و صدوا عنه، و
عنه عليه الصلاة و السلام «من تعلم القرآن و علق مصحفه و لم يتعاهده و لم ينظر فيه جاء يوم القيامة متعلقا به يقول: يا رب عبدك هذا اتخذني مهجورا اقض بيني و بينه»
أو هجروا و لغوا فيه إذا سمعوه أو زعموا أنه هجر و أساطير الأولين، فيكون أصله مَهْجُوراً فيه فحذف الجار و يجوز أن يكون بمعنى الهجر كالمجلود و المعقول، و فيه تخويف لقومه فإن الأنبياء عليهم الصلاة و السلام إذا شكوا إلى اللّه تعالى قومهم عجل لهم العذاب.
وَ كَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ كما جعلناه لك فاصبر كما صبروا، و فيه دليل على أنه خالق الشر، و العدو يحتمل الواحد و الجمع. وَ كَفى بِرَبِّكَ هادِياً إلى طريق قهرهم. وَ نَصِيراً لك عليهم.
[سورة الفرقان (25): آية 32]
وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ أي أنزل عليه كخبر بمعنى أخبر لئلا يناقض قوله: جُمْلَةً واحِدَةً دفعة واحدة كالكتب الثلاثة، و هو اعتراض لا طائل تحته لأن الإعجاز لا يختلف بنزوله جملة أو مفرقا مع أن للتفريق فوائد منها ما أشار إليه بقوله: كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ أي كذلك أنزلناه مفرقا لنقوي بتفريقه فؤادك على حفظه و فهمه، لأن حاله يخالف حال موسى و داود و عيسى حيث كان عليه الصلاة و السلام أميا و كانوا يكتبون، فلو ألقي عليه جملة لعيل بحفظه، و لعله لم يستتب له فإن التلقف لا يتأتى إلا شيئا فشيئا، و لأن نزوله بحسب الوقائع يوجب مزيد بصيرة و غوص في المعنى، و لأنه إذا نزل منجما و هو يتحدى بكل نجم فيعجزون عن معارضته زاد ذلك قوة قلبه، و لأنه إذا نزل به جبريل حالا بعد حال يثبت به فؤاده و منها معرفة الناسخ و المنسوخ و منها انضمام القرائن الحالية إلى الدلالات اللفظية، فإنه يعين على البلاغة، و كذلك صفة مصدر محذوف و الإشارة إلى إنزاله مفرقا فإنه مدلول عليه بقوله لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً و يحتمل أن يكون من تمام كلام الكفرة و لذلك وقف عليه فيكون حالا و الإشارة إلى الكتب السابقة، و اللام على الوجهين متعلق بمحذوف. وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا و قرأناه عليك شيئا بعد شيء على تؤدة و تمهل في عشرين سنة أو ثلاث و عشرين و أصل الترتيل في الأسنان و هو تفليجها.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 124
[سورة الفرقان (25): الآيات 33 الى 34]
وَ لا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ سؤال عجيب كأنه مثل في البطلان يريدون به القدح في نبوتك. إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِ الدامغ له في جوابه. وَ أَحْسَنَ تَفْسِيراً و بما هو أحسن بيانا أو معنى من سؤالهم، أو لا يَأْتُونَكَ بحال عجيبة يقولون هلا كانت هذه حاله إلا أعطيناك من الأحوال ما يحق لك في حكمتنا و ما هو أحسن كشفا لما بعثت له.
الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أي مقلوبين أو مسحوبين عليها، أو متعلقة قلوبهم بالسفليات متوجهة وجوههم إليها. و
عنه عليه الصلاة و السلام «يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أصناف، صنف على الدواب و صنف على الأقدام و صنف على الوجوه»
و هو ذم منصوب أو مرفوع أو مبدأ خبره. أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَ أَضَلُّ سَبِيلًا و المفضل عليه هو الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم على طريقة قوله تعالى: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَ غَضِبَ عَلَيْهِ كأنه قيل إن حاملهم على هذه الأسئلة تحقير مكانه و تضليل سبيله و لا يعلمون حالهم ليعلموا أنهم شر مكانا و أضل سبيلا، و قيل إنه متصل بقوله أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا و وصف السبيل بالضلال من الإسناد المجازي للمبالغة.
[سورة الفرقان (25): الآيات 35 الى 37]
وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَ جَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً يوازره في الدعوة و إعلاء الكلمة و لا ينافي ذلك مشاركته في النبوة، لأن المتشاركين في الأمر متوازرون عليه.
فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا يعني فرعون و قومه. بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً أي فذهبا إليهم فكذبوهما فدمرناهم، فاقتصر على حاشيتي القصة اكتفاء بما هو المقصود منها و هو إلزام الحجة ببعثة الرسل و استحقاق التدمير بتكذيبهم و التعقيب باعتبار الحكم لا الوقوع، و قرئ «فدمرتهم» «فدمراهم» «فدمرانهم» على التأكيد بالنون الثقيلة.
وَ قَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ كذبوا نوحا و من قبله، أو نوحا وحده و لكن تكذيب واحد من الرسل كتكذيب الكل أو بعثة الرسل مطلقا كالبراهمة. أَغْرَقْناهُمْ بالطوفان. وَ جَعَلْناهُمْ و جعلنا إغراقهم أو قصتهم. لِلنَّاسِ آيَةً عبرة. وَ أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً يحتمل التعميم و التخصيص فيكون وضعا للظاهر موضع المضمر تظليما لهم.
[سورة الفرقان (25): الآيات 38 الى 39]
وَ عاداً وَ ثَمُودَ عطف على هم في جَعَلْناهُمْ أو على «الظالمين» لأن المعنى و وعدنا الظالمين، و قرأ حمزة و حفص «و ثمود» على تأويل القبيلة. وَ أَصْحابَ الرَّسِ قوم كان يعبدون الأصنام فبعث اللّه تعالى إليهم شعيبا فكذبوه، فبينما هم حول الرس و هي البئر الغير المطوية فانهارت فخسف بهم و بديارهم. و قيل الرَّسِ قرية بفلج اليمامة كان فيها بقايا ثمود فبعث إليهم نبي فقتلوه فهلكوا. و قيل الأخدود و قيل بئر بأنطاكية قتلوا
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 125
فيها حبيبا النجار، و قيل هم أصحاب حنظلة بن صفوان النبي ابتلاهم اللّه تعالى بطير عظيم كان فيها من كل لون، و سموها عنقاء لطول عنقها و كانت تسكن جبلهم الّذي يقال له فتخ أو دمخ و تنقض على صبيانهم فتخطفهم إذا أعوزها الصيد، و لذلك سميت مغربا فدعا عليها حنظلة فأصابتها الصاعقة ثم أنهم قتلوه فأهلكوا.
و قيل هم قوم كذبوا نبيهم و رسوه أي دسوه في بئر. وَ قُرُوناً و أهل أعصار قيل القرن أربعون سنة و قيل سبعون و قيل مائة و عشرون. بَيْنَ ذلِكَ إشارة إلى ما ذكر. كَثِيراً لا يعلمها إلا اللّه.
وَ كُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ بينا له القصص العجيبة من قصص الأولين إنذارا و إعذارا فلما أصروا أهلكوا كما قال: وَ كُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً فتتناه تفتيتا و منه التبر لفتات الذهب و الفضة، وَ كُلًّا الأول منصوب بما دل عليه ضَرَبْنا كأنذرنا و الثاني ب تَبَّرْنا لأنه فارغ.
[سورة الفرقان (25): آية 40]
وَ لَقَدْ أَتَوْا يعني قريشا مروا مرارا في متاجرهم إلى الشام. عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ يعني سدوم عظمى قرى قوم لوط أمطرت عليها الحجارة. أَ فَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها في مرار مرورهم فيتعظوا بما يرون فيها من آثار عذاب اللّه. بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً بل كانوا كفرة لا يتوقعون نشورا و لا عاقبة فلذلك لم ينظروا و لم يتعظوا فمروا بها كما مرت ركابهم، أو لا يأملون نشورا كما يأمله المؤمنون طمعا في الثواب، أو لا يخافونه على اللغة التهامية.
[سورة الفرقان (25): الآيات 41 الى 42]
وَ إِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً ما يتخذونك إلا موضع هزء أو مهزوءا به. أَ هذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا محكي بعد قول مضمر و الإشارة للاستحقار، و إخراج بعث اللّه رسولا في معرض التسليم يجعله صلة و هم على غاية الإنكار تهكم و استهزاء و لولاه لقالوا أ هذا الّذي زعم أنه بعثه اللّه رسولا.
إِنْ إنه كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا ليصرفنا عن عبادتها بفرط اجتهاده في الدعاء إلى التوحيد و كثرة ما يوردها مما يسبق إلى الذهن بأنها حجج و معجزات. لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها ثبتنا عليها و استمسكنا بعبادتها و لَوْ لا في مثله تقيد الحكم المطلق من حيث المعنى دون اللفظ. وَ سَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا كالجواب لقولهم إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا فإنه يفيد نفي ما يلزمه و يكون الموجب له، و فيه وعيد و دلالة على أنه لا يهملهم و إن أمهلهم.
[سورة الفرقان (25): الآيات 43 الى 44]
أَ رَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ بأن أطاعه و بنى عليه دينه لا يسمع حجة و لا يبصر دليلا، و إنما قدم المفعول الثاني للعناية به. أَ فَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا حفيظا تمنعه عن الشرك و المعاصي و حاله هذا فالاستفهام الأول للتقرير و التعجيب و الثاني للإنكار.
أَمْ تَحْسَبُ بل أ تحسب. أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ فتجدي لهم الآيات أو الحجج فتهتم بشأنهم و تطمع في إيمانهم، و هو أشد مذمة مما قبله حتى حق بالإضراب عنه إليه، و تخصيص الأكثر لأنه كان
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 126
منهم من آمن و منهم من عقل الحق و كابر استكبارا و خوفا على الرئاسة. إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ في عدم انتفاعهم بقرع الآيات آذانهم و عدم تدبرهم فيما شاهدوا من الدلائل و المعجزات. بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا من الأنعام لأنها تنقاد لمن يتعهدها و تميز من يحسن إليها ممن يسيء إليها، و تطلب ما ينفعها و تتجنب ما يضرها و هؤلاء لا ينقادون لربهم و لا يعرفون إحسانه من إساءة الشيطان، و لا يطلبون الثواب الّذي هو أعظم المنافع و لا يتقون العقاب الّذي هو أشد المضار، و لأنها إن لم تعتقد حقا و لم تكتسب خيرا لم تعتقد باطلا و لم تكتسب شرا، بخلاف هؤلاء و لأن جهالتها لا تضر بأحد و جهالة هؤلاء تؤدي إلى هيج الفتن و صد الناس عن الحق، و لأنها غير متمكنة من طلب الكمال فلا تقصير منها و لا ذم و هؤلاء مقصرون و مستحقون أعظم العقاب على تقصيرهم.
[سورة الفرقان (25): الآيات 45 الى 46]
أَ لَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ ألم تنظر إلى صنعه. كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ كيف بسطه أو ألم تنظر إلى الظل كيف مده ربك، فغير النظم إشعارا بأنه المعقول من هذا الكلام لوضوح برهانه و هو دلالة حدوثه و تصرفه على الوجه النافع بأسباب ممكنة على أن ذلك فعل الصانع الحكيم كالمشاهد المرئي فكيف بالمحسوس منه، أو ألم ينته علمك إلى أن ربك كيف مد الظل و هو فيما بين طلوع الفجر و الشمس و هو أطيب الأحوال، فإن الظلمة الخالصة تنفر الطبع و تسد النظر و شعاع الشمس: يسخن الجو و يبهر البصر، و لذلك وصف به الجنة فقال وَ ظِلٍّ مَمْدُودٍ . وَ لَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثابتا من السكنى أو غير متقلص من السكون بأن يجعل الشمس مقيمة على وضع واحد. ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا فإنه لا يظهر للحس حتى تطلع فيقع ضوؤها على بعض الأجرام، أو لا يوجد و لا يتفاوت إلا بسبب حركتها.
ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا أي أزلناه بإيقاع الشمس موقعه لما عبر عن إحداثه بالمد بمعنى التسيير عبر عن إزالته بالقبض إلى نفسه الّذي هو في معنى الكف. قَبْضاً يَسِيراً قليلا قليلا حسبما ترتفع الشمس لينتظم بذلك مصالح الكون و يتحصل به ما لا يحصى من منافع الخلق، و ثُمَ في الموضعين لتفاضل الأمور أو لتفاضل مبادئ أوقات ظهورها، و قيل مَدَّ الظِّلَ لما بنى السماء بلا نير، و دحا الأرض تحتها فألقت عليها ظلها و لو شاء لجعله ثابتا على تلك الحالة، ثم خلق الشمس عليه دليلا، أي مسلطا عليه مستتبعا إياه كما يستتبع الدليل المدلول، أو دليل الطريق من يهديه فإنه يتفاوت بحركتها و يتحول بتحولها، ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً شيئا فشيئا إلى أن تنتهي غاية نقصانه، أو قَبْضاً سهلا عند قيام الساعة بقبض أسبابه من الأجرام المظلة و المظل عليها.
[سورة الفرقان (25): آية 47]
وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً شبه ظلامه باللباس في ستره. وَ النَّوْمَ سُباتاً راحة للأبدان بقطع المشاغل، و أصل السبت القطع أو موتا كقوله: وَ هُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ لأنه قطع الحياة و منه المسبوت للميت. وَ جَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً ذا نشور أي انتشار ينتشر فيه الناس للمعاش، أو بعث من النوم بعث الأموات فيكون إشارة إلى أن النوم و اليقظة أنموذج للموت و النشور. و عن لقمان عليه السلام يا بني كما تنام فتوقظ كذلك تموت فتنشر.
[سورة الفرقان (25): الآيات 48 الى 49]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 127
وَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ و قرأ ابن كثير على التوحيد إرادة للجنس. نَشْراً ناشرات للحساب جمع نشور، و قرأ ابن عامر بالسكون على التخفيف و حمزة و الكسائي به و بفتح النون على أنه مصدر وصف به و عاصم بُشْراً تخفيف بشر جمع بشور بمعنى مبشر بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ يعني قدام المطر. وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً مطهرا لقوله لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ . و هو اسم لما يتطهر به كالوضوء و الوقود لما يتوضأ به و يوقد به.
قال عليه الصلاة و السلام «التراب طهور المؤمن»،
«طهور إناء أحدكم إذا ولغ الكلب فيه أن يغسل سبعا إحداهن بالتراب».
و قيل بليغا في الطهارة و فعول و إن غلب في المعنيين لكنه قد جاء للمفعول كالضبوث و للمصدر كالقبول و للاسم كالذنوب، و توصيف الماء به إشعارا بالنعمة فيه و تتميم للمنة فيما بعده فإن الماء الطهور أهنأ و أنفع مما خالطه ما يزيل طهوريته، و تنبيه على أن ظواهرهم لما كانت مما ينبغي أن يطهروها فبواطنهم بذلك أولى.
لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً بالنبات و تذكير مَيْتاً لأن البلدة في معنى البلد، و لأنه غير جار على الفعل كسائر أبنية المبالغة فأجري مجرى الجامد. وَ نُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَ أَناسِيَّ كَثِيراً يعني أهل البوادي الذين يعيشون بالحيا و لذلك نكر الأنعام و الأناسي، و تخصيصهم لأن أهل المدن و القرى يقيمون بقرب الأنهار، و المنافع فيهم و بما حولهم من الأنعام غنية عن سقيا السماء و سائر الحيوانات تبعد في طلب الماء فلا يعوزها الشرب غالبا مع أن مساق هذه الآيات كما هو للدلالة على عظم القدرة، فهو لتعداد أنواع النعمة و الأنعام قنية الإنسان و عامة منافعهم و علية معايشهم منوطة بها، و لذلك قدم سقيها على سقيهم كما قدم عليها إحياء الأرض فإنه سبب لحياتها و تعيشها، و قرئ «نسفيه» بالفتح و سقى و أسقى لغتان، و قيل أسقاه جعل له سقيا «و أناسي» بحذف ياء و هو جمع انسي أو إنسان كظرابي في ظربان على أن أصله أناسين فقلبت النون ياء.
[سورة الفرقان (25): آية 50]
وَ لَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (50)
وَ لَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ صرفنا هذا القول بين الناس في القرآن و سائر الكتب، أو المطر بينهم في البلدان المختلفة و الأوقات المتغايرة و على الصفات المتفاوتة من وابل و طل و غيرهما، و عن ابن عباس رضي اللّه عنه:
«ما عام أمطر من عام و لكن اللّه قسم ذلك بين عباده على ما شاء و تلا هذه الآية» أو في الأنهار و المنافع.
لِيَذَّكَّرُوا ليتفكروا و يعرفوا كمال القدرة و حق النعمة في ذلك و يقوموا بشكره، أو ليعتبروا بالصرف عنهم و إليهم. فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً إلا كفران النعمة و قلة الاكتراث لها، أو جحودها بأن يقولوا مطرنا بنوء كذا، و من لا يرى الأمطار إلا من الأنواء كان كافرا بخلاف من يرى أنها من خلق اللّه، و الأنواء وسائط و أمارات بجعله تعالى.
[سورة الفرقان (25): الآيات 51 الى 52]
وَ لَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً نبيا ينذر أهلها فيخف عليك أعباء النبوة لكن قصرنا الأمر عليك إجلالا لك و تعظيما لشأنك و تفضيلا لك على سائر الرسل، فقابل ذلك بالثبات و الاجتهاد في الدعوة و إظهار الحق.
فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ فيما يريدونك عليه، و هو تهييج له عليه الصلاة و السلام و للمؤمنين. وَ جاهِدْهُمْ بِهِ بالقرآن أو بترك طاعتهم الّذي يدل عليه فلا تطع، و المعنى أنهم يجتهدون في إبطال حقك فقابلهم
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 128
بالاجتهاد في مخالفتهم و إزاحة باطلهم. جِهاداً كَبِيراً لأن مجاهدة السفهاء بالحجج أكبر من مجاهدة الأعداء بالسيف، أو لأن مخالفتهم و معاداتهم فيما بين أظهرهم مع عتوهم و ظهورهم، أو لأنه جهاد مع كل الكفرة لأنه مبعوث إلى كافة القرى.
[سورة الفرقان (25): آية 53]
وَ هُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ خلاهما متجاورين متلاصقين بحيث لا يتمازجان من مرج دابته إذا خلاها.
هذا عَذْبٌ فُراتٌ قامع للعطش من فرط عذوبته. وَ هذا مِلْحٌ أُجاجٌ بليغ الملوحة، و قرئ «ملح» على فعل و لعل أصله مالح فخفف كبرد في بارد. وَ جَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً حاجزا من قدرته. وَ حِجْراً مَحْجُوراً و تنافرا بليغا كأن كلا منهما يقول للآخر ما يقوله المتعوذ للمتعوذ عنه، و قيل حدا محدودا و ذلك كدجلة تدخل البحر فتشقه فتجري في خلاله فراسخ لا يتغير طعمها، و قيل المراد بالبحر العذب النهر العظيم مثل النيل و بالبحر الملح البحر الكبير و بالبرزخ ما يحول بينهما من الأرض فتكون القدرة في الفصل و اختلاف الصفة مع أن مقتضى طبيعة أجزاء كل عنصر أن تضامت و تلاصقت و تشابهت في الكيفية.
[سورة الفرقان (25): الآيات 54 الى 55]
وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً يعني الّذي خمر به طينة آدم، أو جعله جزءا من مادة البشر لتجتمع و تسلس و تقبل الأشكال و الهيئات بسهولة، أو النطفة. فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً أي قسمه قسمين ذوي نسب أي ذكورا ينسب إليهم، و ذوات صهر أي إناثا يصاهر بهن كقوله تعالى: فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى .
وَ كانَ رَبُّكَ قَدِيراً حيث خلق من مادة واحدة بشرا ذا أعضاء مختلفة و طباع متباعدة و جعله قسمين متقابلين، و ربما يخلق من نطفة واحدة توأمين ذكرا و أنثى.
وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَ لا يَضُرُّهُمْ يعني الأصنام أو كل ما عبد من دون اللّه إذ ما من مخلوق يستقل بالنفع و الضر. وَ كانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً يظاهر الشيطان بالعداوة و الشرك و المراد ب الْكافِرُ الجنس أو أبو جهل. و قيل هينا مهينا لا وقع له عنده من قولهم ظهرت به إذا نبذته خلف ظهرك فيكون كقوله وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَ لا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ .
[سورة الفرقان (25): الآيات 56 الى 57]
وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَ نَذِيراً للمؤمنين و الكافرين.
قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ على تبليغ الرسالة الّذي يدل عليه إِلَّا مُبَشِّراً وَ نَذِيراً . مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ إلا فعل من شاء. أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا أن يتقرب إليه و يطلب الزلفى عنده بالإيمان و الطاعة، فصور ذلك بصورة الأجر من حيث إنه مقصود فعله و استثناه منه قلعا لشبهة الطمع و إظهارا لغاية الشفقة، حيث اعتد بإنفاعك نفسك بالتعرض للثواب و التخلص عن العقاب أجرا وافيا مرضيا به مقصورا عليه، و إشعارا بأن طاعتهم تعود عليه بالثواب من حيث إنها بدلالته. و قيل الاستثناء منقطع معناه لكن من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا فليفعل.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 129
[سورة الفرقان (25): الآيات 58 الى 59]
وَ تَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ في استكفاء شرورهم و الإغناء عن أجورهم، فإنه الحقيق بأن يتوكل عليه دون الأحياء الذين يموتون فإنهم إذا ماتوا ضاع من توكل عليهم. وَ سَبِّحْ بِحَمْدِهِ و نزهه عن صفات النقصان مثنيا عليه بأوصاف الكمال طالبا لمزيد الأنعام بالشكر على سوابغه. وَ كَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ ما ظهر منها و ما بطن. خَبِيراً مطلعا فلا عليك أن آمنوا أو كفروا.
الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ قد سبق الكلام فيه، و لعل ذكره زيادة تقرير لكونه حقيقا بأن يتوكل عليه من حيث إنه الخالق للكل و المتصرف فيه، و تحريض على الثبات و التأني في الأمر فإنه تعالى مع كمال قدرته و سرعة نفاذ أمره في كل مراد خلق الأشياء على تؤدة و تدرج، و الرَّحْمنُ خبر للذي إن جعلته مبتدأ و لمحذوف إن جعلته صفة للحي، أو بدل من المستكن في اسْتَوى و قرئ بالجر صفة للحي. فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً فاسأل عما ذكر من الخلق و الاستواء عالما يخبرك بحقيقته و هو اللّه تعالى، أو جبريل أو من وجده في الكتب المتقدمة ليصدقك فيه، و قيل الضمير للرحمن و المعنى إن أنكروا إطلاقه على اللّه تعالى فاسأل عنه من يخبرك من أهل الكتاب ليعرفوا مجيء ما يرادفه في كتبهم، و على هذا يجوز أن يكون الرَّحْمنُ مبتدأ و الخبر ما بعده و السؤال كما يعدى بعن لتضمنه معنى التفتيش يعدى بالياء لتضمنه معنى الاعتناء. و قيل إنه صلة خَبِيراً .
[سورة الفرقان (25): الآيات 60 الى 61]
وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَ مَا الرَّحْمنُ لأنهم ما كانوا يطلقونه على اللّه، أو لأنهم ظنوا أنه أراد به غيره و لذلك قالوا: أَ نَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا أي للذي تأمرناه يعني تأمرنا بسجوده أو لأمرك لنا من غير عرفان. و قيل لأنه كان معربا لم يسمعوه. و قرأ حمزة و الكسائي «يأمرنا» بالياء على أنه قول بعضهم لبعض.
وَ زادَهُمْ أي الأمر بالسجود لِلرَّحْمنِ . نُفُوراً عن الإيمان.
تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً يعني البروج الاثني عشر سميت به و هي القصور العالية لأنها للكواكب السيارة كالمنازل لسكانها و اشتقاقه من التبرج لظهوره. وَ جَعَلَ فِيها سِراجاً يعني الشمس لقوله وَ جَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً . و قرأ حمزة و الكسائي «سرجا» و هي الشمس و الكواكب الكبار. وَ قَمَراً مُنِيراً مضيئا بالليل، و قرئ «و قمرا» أي ذا قمر و هو جمع قمراء و يحتمل أن يكون بمعنى القمر كالرشد و الرشد و العرب و العرب.
[سورة الفرقان (25): آية 62]
وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ خِلْفَةً أي ذوي خلفة يخلف كل منهما الآخر بأن يقوم مقامه فيما ينبغي أن يعمل فيه، أو بأن يعتقبا لقوله تعالى: وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ* . و هي للحالة من خلف كالركبة و الجلسة.