کتابخانه تفاسیر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 181
[سورة القصص (28): الآيات 52 الى 53]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ نزلت في مؤمني أهل الكتاب، و قيل في أربعين من أهل الإنجيل اثنان و ثلاثون جاءوا مع جعفر من الحبشة و ثمانية من الشام، و الضمير في مِنْ قَبْلِهِ للقرآن كالمستكن في:
وَ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ أي بأنه كلام اللّه تعالى. إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا استئناف لبيان ما أوجب إيمانهم به. إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ استئناف آخر للدلالة على أن إيمانهم به ليس مما أحدثوه حينئذ، و إنما هو أمر تقادم عهده لما رأوا ذكره في الكتب المتقدمة و كونهم على دين الإسلام قبل نزول القرآن، أو تلاوته عليهم باعتقادهم صحته في الجملة.
[سورة القصص (28): الآيات 54 الى 55]
أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ مرة على إيمانهم بكتابهم و مرة على إيمانهم بالقرآن. بِما صَبَرُوا بصبرهم و ثباتهم على الإيمانين، أو على الإيمان بالقرآن قبل النزول و بعده، أو على أذى المشركين و من هاجرهم من أهل دينهم. وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ و يدفعون بالطاعة المعصية
لقوله صلّى اللّه عليه و سلّم «أتبع السيئة الحسنة تمحها».
وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ في سبيل الخير.
وَ إِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ تكرما. وَ قالُوا للاغين. لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ متاركة لهم و توديعا، أو دعاء لهم بالسلامة عما هم فيه. لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ لا نطلب صحبتهم و لا نريدها.
[سورة القصص (28): الآيات 56 الى 57]
إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ لا تقدر على أن تدخلهم في الإسلام. وَ لكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ فيدخله في الإسلام. وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ بالمستعدين لذلك. و الجمهور على
أنها نزلت في أبي طالب فإنه لما احتضر جاءه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و قال: يا عم قل لا إله إلا اللّه كلمة أحاج لك بها عند اللّه، قال: يا ابن أخي قد علمت إنك لصادق و لكن أكره أن يقال خدع عند الموت.
وَ قالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا نخرج منها. نزلت في الحرث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف، أتى النبي صلّى اللّه عليه و سلّم فقال: نحن نعلم أنك على الحق و لكنا نخاف إن اتبعناك و خالفنا العرب و إنما نحن أكلة رأس أن يتخطفونا من أرضنا فرد اللّه عليهم بقوله: أَ وَ لَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً أو لم نجعل مكانهم حرما ذا أمن بحرمة البيت الّذي فيه يتناحر العرب حوله و هم آمنون فيه. يُجْبى إِلَيْهِ يحمل إليه و يجمع فيه، و قرأ نافع و يعقوب في رواية بالتاء. ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ من كل أوب. رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا فإذا كان هذا حالهم و هم عبدة الأصنام فكيف نعرضهم للتخوف و التخطف إذا ضموا إلى حرمة البيت حرمة التوحيد. وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ جهلة لا يتفطنون له و لا يتفكرون ليعلموه، و قيل إنه متعلق بقوله مِنْ لَدُنَّا أي قليل منهم يتدبرون فيعلمون أن ذلك رزق من عند اللّه، و أكثرهم لا يعلمون إذ لو علموا لما خافوا غيره، و انتصاب رِزْقاً على المصدر من معنى يُجْبى ، أو حال من ال ثَمَراتُ لتخصصها بالإضافة، ثم بين أن الأمر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 182
بالعكس فإنهم أحقاء بأن يخافوا من بأس اللّه على ما هم عليه بقوله:
[سورة القصص (28): الآيات 58 الى 59]
وَ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها أي و كم من أهل قرية كانت حالهم كحالهم في الأمن و خفض العيش حتى أشروا فدمر اللّه عليهم و خرب ديارهم. فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ خاوية. لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا من السكنى إذ لا يسكنها إلا المارة يوما أو بعض يوم، أو لا يبقى من يسكنها من شؤم معاصيهم.
وَ كُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ منهم إذ لم يخلفهم أحد يتصرف تصرفهم في ديارهم و سائر متصرفاتهم، و انتصاب مَعِيشَتَها بنزع الخافض أو بجعلها ظرفا بنفسها كقولك: زيد ظني مقيم، أو بإضمار زمان مضاف إليها أو مفعولا على تضمين بطرت معنى كفرت.
وَ ما كانَ رَبُّكَ و ما كانت عادته. مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها في أصلها الّتي هي أعمالها، لأن أهلها تكون أفطن و أنبل. رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا لإلزام الحجة و قطع المعذرة. وَ ما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَ أَهْلُها ظالِمُونَ بتكذيب الرسل و العتو في الكفر.
[سورة القصص (28): الآيات 60 الى 61]
وَ ما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ من أسباب الدنيا. فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ زِينَتُها تمتعون و تتزينون به مدة حياتكم المنقضية. وَ ما عِنْدَ اللَّهِ و هو ثوابه. خَيْرٌ في نفسه من ذلك لأنه لذة خالصة و بهجة كاملة. وَ أَبْقى لأنه أبدي. أَ فَلا تَعْقِلُونَ فتستبدلون الّذي هو أدنى بالذي هو خير، و قرأ أبو عمرو بالياء و هو أبلغ في الموعظة.
أَ فَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً وعدا بالجنة فإن حسن الوعد بحسن الموعود. فَهُوَ لاقِيهِ مدركه لا محالة لامتناع الخلف في وعده، و لذلك عطفه بالفاء المعطية معنى السببية. كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا الّذي هو مشوب بالآلام مكدر بالمتاعب مستعقب بالتحسر على الانقطاع. ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ للحساب أو العذاب، و ثُمَ للتراخي في الزمان أو الرتبة، و قرأ نافع و ابن عامر في رواية و الكسائي ثُمَّ هُوَ بسكون الهاء تشبيها للمنفصل بالمتصل، و هذه الآية كالنتيجة للتي قبلها و لذلك رتبت عليها بالفاء.
[سورة القصص (28): الآيات 62 الى 63]
وَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ عطف على يوم القيامة أو منصوب باذكر. فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أي الذين كنتم تزعمونهم شركائي، فحذف المفعولان لدلالة الكلام عليهما.
قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ بثبوت مقتضاه و حصول مؤداه و هو قوله تعالى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ* و غيره من آيات الوعيد. رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أي هؤُلاءِ الَّذِينَ أغويناهم فحذف الراجع إلى الموصول. أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا أي أَغْوَيْناهُمْ فغووا غيا مثل ما غوينا، و هو استئناف للدلالة على أنهم غووا باختيارهم و أنهم لم يفعلوا بهم إلا وسوسة و تسويلا، و يجوز أن يكون الَّذِينَ صفة
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 183
و أَغْوَيْناهُمْ الخبر لأجل ما اتصل به فإفادة زيادة على الصفة و هو و إن كان فضلة لكنه صار من اللوازم.
تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ منهم و مما اختاروه من الكفر هوى منهم، و هو تقرير للجملة المتقدمة و لذلك خلت عن العاطف و كذا. ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ أي ما كانوا يعبدوننا، و إنما كانوا يعبدون أهواءهم. و قيل ما مصدرية متصلة ب تَبَرَّأْنا أي تبرأنا من عبادتهم إيانا.
[سورة القصص (28): آية 64]
وَ قِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ من فرط الحيرة. فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ لعجزهم عن الإجابة و النصرة.
وَ رَأَوُا الْعَذابَ لازما بهم. لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ لوجه من الحيل يدفعون به العذاب، أو إلى الحق لما رأوا العذاب و قيل لَوْ للتمني أي تمنوا أنهم كانوا مهتدين.
[سورة القصص (28): الآيات 65 الى 66]
وَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ عطف على الأول فإنه تعالى يسأل أولا عن إشراكهم به ثم عن تكذيبهم الأنبياء.
فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فصارت الأنباء كالعمي عليهم لا تهتدي إليهم، و أصله فعموا عن الأنباء لكنه عكس مبالغة و دلالة على أن ما يحضر الذهن إنما يقبض و يرد عليه من خارج فإذا أخطأه لم يكن له حيلة إلى استحضاره، و المراد بالأنباء ما أجابوا به الرسل أو ما يعمها و غيرها، فإذا كانت الرسل يتتعتعون في الجواب عن مثل ذلك من الهول و يفوضون إلى علم اللّه تعالى فما ظنك بالضلال من أممهم، و تعدية الفعل بعلى لتضمنه معنى الخفاء. فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ لا يسأل بعضهم بعضا عن الجواب لفرط الدهشة و العلم بأنه مثله في العجز.
[سورة القصص (28): الآيات 67 الى 68]
فَأَمَّا مَنْ تابَ من الشرك. وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً . و جمع بين الإيمان و العمل الصالح. فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ عند اللّه و عسى تحقيق على عادة الكرام، أو ترج من التائب بمعنى فليتوقع أن يفلح.
وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ لا موجب عليه و لا مانع له. ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ أي التخير كالطيرة بمعنى التطير، و ظاهره نفي الاختيار عنهم رأسا و الأمر كذلك عند التحقيق، فإن اختيار العباد مخلوق باختيار اللّه منوط بدواع لا اختيار لهم فيها، و قيل المراد أنه ليس لأحد من خلقه أن يختار عليه و لذلك خلا عن العاطف، و يؤيده ما روي أنه نزل في قولهم لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ . و قيل ما موصولة مفعول ل يَخْتارُ و الراجع إليه محذوف و المعنى: و يختار الّذي كان لهم فيه الخيرة أي الخير و الصلاح. سُبْحانَ اللَّهِ تنزيه له أن ينازعه أحد أو يزاحم اختياره اختيار. وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ عن إشراكهم أو مشاركة ما يشركونه به.
[سورة القصص (28): الآيات 69 الى 70]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 184
وَ رَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ كعداوة الرسول و حقده. وَ ما يُعْلِنُونَ كالطعن فيه.
وَ هُوَ اللَّهُ المستحق للعبادة. لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لا أحد يستحقها إلا هو. لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَ الْآخِرَةِ لأنه المولي للنعم كلها عاجلها و آجلها يحمده المؤمنون في الآخرة كما حمدوه في الدنيا بقولهم الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ . الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ ابتهاجا بفضله و التذاذا بحمده. وَ لَهُ الْحُكْمُ القضاء النافذ في كل شيء. وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ بالنشور.
[سورة القصص (28): آية 71]
قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً دائما من السرد و هو المتابعة و الميم مزيدة كميم دلامص.
إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ بإسكان الشمس تحت الأرض أو تحريكها حول الأفق الغائر. مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ كان حقه هل إله فذكر ب مَنْ على زعمهم أن غيره آلهة. و عن ابن كثير «بضئاء» بهمزتين. أَ فَلا تَسْمَعُونَ سماع تدبر و استبصار.
[سورة القصص (28): الآيات 72 الى 73]
قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ بإسكانها في وسط السماء أو تحريكها على مدار فوق الأفق. مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ استراحة عن متاعب الأشغال، و لعله لم يصف الضياء بما يقابله لأن الضوء نعمة في ذاته مقصود بنفسه و لا كذلك الليل، و لأن منافع الضوء أكثر مما يقابله و لذلك قرن به أَ فَلا تَسْمَعُونَ و بالليل. أَ فَلا تُبْصِرُونَ لأن استفادة العقل من السمع اكثر من استفادته من البصر.
وَ مِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ في الليل وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ في النهار بأنواع المكاسب. وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ و لكي تعرفوا نعمة اللّه في ذلك فتشكروه عليها.
[سورة القصص (28): الآيات 74 الى 75]
وَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ تقريع بعد تقريع للإشعار بأنه لا شيء أجلب لغضب اللّه من الإشراك به، أو الأول لتقرير فساد رأيهم و الثاني لبيان أنه لم يكن عن سند و إنما كان محض تشه و هوى.
وَ نَزَعْنا و أخرجنا. مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً و هو نبيهم يشهد عليهم بما كانوا عليه. فَقُلْنا للأمم.
هاتُوا بُرْهانَكُمْ على صحة ما كنتم تدينون به. فَعَلِمُوا حينئذ. أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ في الألوهية لا يشاركه فيها أحد. وَ ضَلَّ عَنْهُمْ و غاب عنهم غيبة الضائع. ما كانُوا يَفْتَرُونَ من الباطل.
[سورة القصص (28): الآيات 76 الى 78]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 185
إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى كان ابن عمه يصهر بن قاهث بن لاوى و كان ممن آمن به. فَبَغى عَلَيْهِمْ فطلب الفضل عليهم و أن يكونوا تحت أمره، أو تكبر عليهم أو ظلمهم. قيل و ذلك حين ملكه فرعون على بني إسرائيل، أو حسدهم لما
روي أنه قال لموسى عليه السلام: لك الرسالة و لهارون الحبورة و أنا في غير شيء إلى متى أصبر قال موسى هذا صنع اللّه.
وَ آتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ من الأموال المدخرة. ما إِنَّ مَفاتِحَهُ مفاتيح صناديقه جمع مفتح بالكسر و هو ما يفتح به، و قيل خزائنه و قياس واحدها المفتح. لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ خبر إن و الجملة صلة ما و هو ثاني مفعولي آتى، و ناء به الحمل إذا أثقله حتى أماله، و العصبة و العصابة الجماعة الكثيرة و اعصوصبوا اجتمعوا. و قرئ «لينوء» بالياء على إعطاء المضاف حكم المضاف إليه. إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ منصوب ب «تنوء». لا تَفْرَحْ لا تبطر و الفرح بالدنيا مذموم مطلقا لأنه نتيجة حبها و الرضا بها و الذهول عن ذهابها، فإن العلم بأن ما فيها من اللذة مفارقة لا محالة يوجب الترح كما قيل:
أشد الغمّ عندي في سرور
تيقّن عنه صاحبه انتقالا
و لذلك قال تعالى: وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ ، و علل النهي ها هنا بكونه مانعا من محبة اللّه تعالى فقال:
إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ أي بزخارف الدنيا.
وَ ابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ من الغنى. الدَّارَ الْآخِرَةَ بصرفه فيما يوجبها لك فإن المقصود منه أن يكون وصلة إليها. وَ لا تَنْسَ و لا تترك ترك المنسي. نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا و هو أن تحصل بها آخرتك و تأخذ منها ما يكفيك. وَ أَحْسِنْ إلى عباد اللّه. كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ فيما أنعم اللّه عليك. و قيل أَحْسِنْ بالشكر و الطاعة كَما أَحْسَنَ إليك بالإنعام. وَ لا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ بأمر يكون علة للظلم و البغي، نهي له عما كان عليه من الظلم و البغي. إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ لسوء أفعالهم.
قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي فضلت به على الناس و استوجبت به التفوق عليهم بالجاه و المال، و عَلى عِلْمٍ في موضع الحال و هو علم التوراة و كان أعلمهم بها، و قيل هو الكيمياء و قيل علم التجارة و الدهقنة و سائر المكاسب، و قيل العلم بكنوز يوسف، و عِنْدِي صفة له أو متعلق ب أُوتِيتُهُ كقولك:
جاز هذا عندي أي في ظني و اعتقادي. أَ وَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَ أَكْثَرُ جَمْعاً تعجب و توبيخ على اغتراره بقوته و كثرة ماله مع علمه بذلك لأنه قرأه في التوراة و سمعه من حفاظ التواريخ، أو رد لادعائه للعلم و تعظمه به بنفي هذا العلم عنه أي أ عنده مثل ذلك العلم الّذي ادعى و لم يعلم هذا حتى يقي به نفسه مصارع الهالكين. وَ لا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ سؤال استعلام فإنه تعالى مطلع عليها أو معاتبة فإنهم يعذبون بها بغتة، كأنه لما هدد قارون بذكر إهلاك من قبله ممن كانوا أقوى منه و اغنى أكد ذلك بأن بين أنه لم يكن مطلعا على ما يخصهم بل اللّه مطلع على ذنوب المجرمين كلهم معاقبهم عليها لا محالة.
[سورة القصص (28): الآيات 79 الى 80]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 186
فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ كما قيل إنه خرج على بغلة شهباء عليه الأرجوان و عليها سرج من ذهب و معه أربعة آلاف على زيه. قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا على ما هو عادة الناس من الرغبة. يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ تمنوا مثله لا عينه حذرا عن الحسد. إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ من الدنيا.
وَ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ بأحوال الآخرة للمتمنين. وَيْلَكُمْ دعاء بالهلاك استعمل للزجر عما لا يرتضى. ثَوابُ اللَّهِ في الآخرة. خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً مما أوتي قارون بل من الدنيا و ما فيها.
وَ لا يُلَقَّاها الضمير فيه للكلمة الّتي تكلم بها العلماء أو لل ثَوابُ ، فإنه بمعنى المثوبة أو الجنة أو للإيمان و العمل الصالح فإنهما في معنى السيرة و الطريقة. إِلَّا الصَّابِرُونَ على الطاعات و عن المعاصي.
[سورة القصص (28): آية 81]
فَخَسَفْنا بِهِ وَ بِدارِهِ الْأَرْضَ
روي أنه كان يؤذي موسى عليه السلام كل وقت و هو يداريه لقرابته حتى نزلت الزكاة، فصالحه عن كل ألف على واحد فحسبه فاستكثره، فعمد إلى أن يفضح موسى بين بني إسرائيل ليرفضوه، فبرطل بغية لترميه بنفسها فلما كان يوم العيد قام موسى خطيبا فقال: من سرق قطعناه، و من زنى غير محصن جلدناه و من زنى محصنا رجمناه، فقال قارون و لو كنت قال: و لو كنت، قال إن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة فأحضرت، فناشدها موسى عليه السلام باللّه أن تصدق فقالت: جعل لي قارون جعلا على أن أرميك بنفسي، فخر موسى شاكيا منه إلى ربه فأوحى اللّه إليه أن مر الأرض بما شئت فقال: يا أرض خذيه فأخذته إلى ركبتيه، ثم قال خذيه فأخذته إلى وسطه، ثم قال خذيه فأخذته إلى عنقه، ثم قال خذيه فخسفت به و كان قارون يتضرع إليه في هذه الأحوال فلم يرحمه، فأوحى اللّه إليه ما أفظك استرحمك مرارا فلم ترحمه، و عزتي و جلالي لو دعاني مرة لأجبته، ثم قال بنو إسرائيل: إنما فعله ليرثه، فدعا اللّه تعالى حتى خسف بداره و أمواله.
فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ أعوان مشتقة من فأوت رأسه إذا ميلته. يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ فيدفعون عنه عذابه. وَ ما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ الممتنعين منه من قولهم نصره من عدوه فانتصر إذا منعه منه فامتنع.
[سورة القصص (28): الآيات 82 الى 83]
وَ أَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ منزلته. بِالْأَمْسِ منذ زمان قريب. يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ يَقْدِرُ يَبْسُطُ وَ يَقْدِرُ بمقتضى مشيئته لا لكرامة تقتضي البسط و لا لهوان يوجب القبض، و وَيْكَأَنَ عند البصريين مركب من «وي» للتعجب «و كأن» للتشبيه و المعنى: ما أشبه الأمر أن اللّه يبسط الرزق. و قيل من «ويك» بمعنى ويلك و «أن» تقديره ويك اعلم أن اللّه. لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا فلم يعطنا ما تمنينا. لَخَسَفَ بِنا لتوليده فينا ما ولده فيه فخسف بنا لأجله. و قرأ حفص بفتح الخاء و السين. وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ لنعمة اللّه أو المكذبون برسله و بما وعدوا لهم ثواب الآخرة.
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ إشارة تعظيم كأنه قال: تلك الّتي سمعت خبرها و بلغك وصفها، و الدَّارُ صفة و الخبر: نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ غلبة و قهرا. وَ لا فَساداً ظلما على الناس كما أراد فرعون و قارون. وَ الْعاقِبَةُ المحمودة. لِلْمُتَّقِينَ ما لا يرضاه اللّه.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 187
[سورة القصص (28): الآيات 84 الى 85]
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها ذاتا و قدرا و وصفا. وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ وضع فيه الظاهر موضع الضمير تهجينا لحالهم بتكرير إسناد السيئة إليهم. إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي إلا مثل ما كانوا يعملون فحذف المثل و أقيم ما كانُوا يَعْمَلُونَ مقامة مبالغة في المماثلة.
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ أوجب عليك تلاوته و تبليغه و العمل بما فيه. لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ أي معاد و هو المقام المحمود الّذي وعدك أن يبعثك فيه، أو مكة الّتي اعتدت بها على أنه من العادة رده إليها يوم الفتح، كأنه لما حكم بأن الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ و أكد ذلك بوعد المحسنين و وعيد المسيئين وعده بالعاقبة الحسنى في الدارين.
روي أنه لما بلغ جحفة في مهاجره اشتاق إلى مولده و مولد آبائه فنزلت.
قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى و ما يستحقه من الثواب و النصر و من منتصب بفعل يفسره أعلم. وَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ و ما استحقه من العذاب و الإذلال يعني به نفسه و المشركين، و هو تقرير للوعد السابق و كذا قوله:
[سورة القصص (28): الآيات 86 الى 87]
وَ ما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ أي سيردك إلى معادك كما ألقى إليك الكتاب و ما كنت ترجوه.
إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ و لكن ألقاه رحمة منه، و يجوز أن يكون استثناء محمولا على المعنى كأنه قال: و ما ألقي إليك الكتاب إلا رحمة. فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ بمداراتهم و التحمل عنهم و الإجابة إلى طلبتهم.
وَ لا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ عن قراءتها و العمل بها. بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ و قرئ يَصُدُّنَّكَ من أصد. وَ ادْعُ إِلى رَبِّكَ إلى عبادته و توحيده. وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بمساعدتهم.
[سورة القصص (28): آية 88]
وَ لا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ هذا و ما قبله للتهييج و قطع أطماع المشركين عن مساعدته لهم. لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ إلا ذاته فإن ما عداه ممكن هالك في حد ذاته معدوم. لَهُ الْحُكْمُ القضاء النافذ في الخلق. وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ للجزاء بالحق.