کتابخانه تفاسیر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 205
[سورة الروم (30): آية 23]
وَ مِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ ابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ منامكم في الزمانين لاستراحة القوى النفسانية و تقوى القوى الطبيعية و طلب معاشكم فيهما، أو منامكم بالليل و ابتغاؤكم بالنهار فلف و ضم بين الزمانين و الفعلين بعاطفين إشعارا بأن كلا من الزمانين و إن اختص بأحدهما فهو صالح للآخر عند الحاجة، و يؤيده سائر الآيات الواردة فيه. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ سماع تفهم و استبصار فإن الحكمة فيه ظاهرة.
[سورة الروم (30): آية 24]
وَ مِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ مقدر بأن المصدرية كقوله:
ألا أيهذا الزّاجري أحضر الوغى
و أن أشهد اللّذّات هل أنت مخلدي
أو الفعل فيه منزلة المصدر كقولهم: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، أو صفة لمحذوف تقديره آية يريكم بها البرق كقوله:
فما الدّهر إلّا تارتان فمنهما
أموت و أخرى أبتغي العيش أكدح
خَوْفاً من الصاعقة للمسافر. وَ طَمَعاً في الغيث للمقيم، و نصبهما على العلة لفعل يلزم المذكور فإن إراءتهم تستلزم رؤيتهم أوله على تقدير مضاف نحو إرادة خوف و طمع، أو تأويل الخوف و الطمع بالإخافة و الإطماع كقولك فعلته رغما للشيطان، أو على الحال مثل كلّمته شفاها. وَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً و قرئ بالتشديد. فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بالنبات. بَعْدَ مَوْتِها يبسها. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يستعملون عقولهم في استنباط أسبابها و كيفية تكونها ليظهر لهم كمال قدرة الصانع و حكمته.
[سورة الروم (30): الآيات 25 الى 26]
وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَ الْأَرْضُ بِأَمْرِهِ قيامهما بإقامته لهما و إرادته لقيامهما في حيزيهما المعينين من غير مقيم محسوس، و التعبير بالأمر للمبالغة في كمال القدرة و الغنى عن الآلة. ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ عطف على أَنْ تَقُومَ على تأويل مفرد كأنه قيل: و من آياته قيام السموات و الأرض بأمره ثم خروجكم من القبور إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً واحدة فيقول أيها الموتى اخرجوا، و المراد تشبيه سرعة ترتب حصول ذلك على تعلق إرادته بلا توقف و احتياج إلى تجشم عمل بسرعة ترتب إجابة الداعي المطاع على دعائه، و ثم إما لتراخي زمانه أو لعظم ما فيه و من الأرض متعلق بدعا كقولك: دعوته من أسفل الوادي فطلع إلي لا بتخرجون لأن ما بعد إذا لا يعمل فيما قبلها، و إِذا الثانية للمفاجأة و لذلك نابت مناب الفاء في جواب الأولى.
وَ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ منقادون لفعله فيهم لا يمتنعون عليه.
[سورة الروم (30): آية 27]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 206
وَ هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ بعد هلاكهم. وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ و الإعادة أسهل عليه من الأصل بالإضافة إلى قدركم و القياس على أصولكم و إلا فهما عليه سواء و لذلك قيل الهاء ل الْخَلْقَ ، و قيل أَهْوَنُ بمعنى هين و تذكير هو لأهون أو لأن الإعادة بمعنى أن يعيد. وَ لَهُ الْمَثَلُ الوصف العجيب الشأن كالقدرة العامة و الحكمة التامة و من فسره بقول لا إله إلا اللّه أراد به الوصف بالوحدانية. الْأَعْلى الّذي ليس لغيره ما يساويه أو يدانيه. فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يصفه به ما فيها دلالة و نطقا. وَ هُوَ الْعَزِيزُ القادر الّذي لا يعجز عن إبداء ممكن و إعادته. الْحَكِيمُ الّذي يجري الأفعال على مقتضى حكمته.
[سورة الروم (30): الآيات 28 الى 29]
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ منتزعا من أحوالها الّتي هي أقرب الأمور إليكم. هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ من مماليككم. مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ من الأموال و غيرها. فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ فتكونون أنتم و هم فيه شرعا يتصرفون فيه كتصرفكم مع أنهم بشر مثلكم و أنها معارة لكم، و مِنْ الأولى للابتداء و الثانية للتبعيض و الثالثة مزيدة لتأكيد الاستفهام الجاري مجرى النفي. تَخافُونَهُمْ أن يستبدوا بتصرف فيه.
كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كما يخاف الأحرار بعضهم من بعض. كَذلِكَ مثل ذلك التفصيل. نُفَصِّلُ الْآياتِ نبينها فإن التفصيل مما يكشف المعاني و يوضحها. لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يستعملون عقولهم في تدبر الأمثال.
بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا بالإشراك. أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ جاهلين لا يكفهم شيء فإن العالم إذا اتبع هواه ربما ردعه علمه. فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ فمن يقدر على هدايته. وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ يخلصونهم من الضلالة و يحفظونهم عن آفاتها.
[سورة الروم (30): الآيات 30 الى 31]
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فقومه له غير ملتفت أو ملتفت عنه، و هو تمثيل للإقبال و الاستقامة عليه و الاهتمام به. فِطْرَتَ اللَّهِ خلقته نصب على الإغراء أو المصدر لما دل عليه ما بعدها. الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها خلقهم عليها و هي قبولهم للحق و تمكنهم من إدراكه، أو ملة الإسلام فإنهم لو خلوا و ما خلقوا عليه أدى بهم إليها، و قيل العهد المأخوذ من آدم و ذريته. لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ لا يقدر أحد أن يغيره أو ما ينبغي أن يغير. ذلِكَ إشارة إلى الدين المأمور بإقامة الوجه له أو الفطرة إن فسرت بالملة. الدِّينُ الْقَيِّمُ المستقيم الّذي لا عوج فيه. وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ استقامته لعدم تدبرهم.
مُنِيبِينَ إِلَيْهِ راجعين إليه من أناب إذا رجع مرة بعد أخرى، و قيل منقطعين إليه من الناب و هو حال من الضمير في الناصب المقدر لفطرة اللّه أو في أقم لأن الآية خطاب للرسول صلّى اللّه عليه و سلّم و الأمة لقوله: وَ اتَّقُوهُ وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ لا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ غير أنها صدرت بخطاب الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم تعظيما له.
[سورة الروم (30): آية 32]
مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)
مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ بدل من المشركين و تفريقهم اختلافهم فيما يعبدونه على اختلاف أهوائهم،
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 207
و قرأ حمزة و الكسائي فارقوا بمعنى تركوا دينهم الّذي أمروا به. وَ كانُوا شِيَعاً فرقا تشايع كل إمامها الّذي أضل دينها. كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ مسرورون ظنا بأنه الحق، و يجوز أن يجعل فرحون صفة كل على أن الخبر مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا .
[سورة الروم (30): الآيات 33 الى 35]
وَ إِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ شدة. دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ راجعين إليه من دعاء غيره. ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً خلاصا من تلك الشدة. إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ فاجأ فريق منهم بالإشراك بربهم الّذي عافاهم.
لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ اللام فيه للعاقبة و قيل للأمر بمعنى التهديد لقوله: فَتَمَتَّعُوا غير أنه التفت فيه مبالغة و قرئ و «ليتمتعوا». فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ عاقبة تمتعكم، و قرئ بالياء التحتية على أن تمتعوا ماض.
أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً حجة و قيل ذا سلطان أي ملكا معه برهان. فَهُوَ يَتَكَلَّمُ تكلم دلالة كقوله كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ أو نطق. بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ بإشراكهم و صحته، أو بالأمر الّذي بسببه يشركون به في ألوهيته.
[سورة الروم (30): الآيات 36 الى 37]
وَ إِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً نعمة من صحة و سعة. فَرِحُوا بِها بطروا بسببها. وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ شدة. بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ بشؤم معاصيهم. إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ فاجؤوا القنوط من رحمته و قرأ الكسائي و أبو عمرو بكسر النون.
أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ فما لهم لم يشكروا و لم يحتسبوا في السراء و الضراء كالمؤمنين. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فيستدلون بها على كمال القدرة و الحكمة.
[سورة الروم (30): آية 38]
فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ كصلة الرحم، و احتج به الحنفية على وجوب النفقة للمحارم و هو غير مشعر به.
وَ الْمِسْكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ ما وظف لهما من الزكاة، و الخطاب لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أو لمن بسط له و لذلك رتب على ما قبله بالفاء. ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ ذاته أو جهته أي يقصدون بمعروفهم إياه خالصا، أو جهة التقرب إليه لا جهة أخرى. وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ حيث حصلوا بما بسط لهم النعيم المقيم.
[سورة الروم (30): آية 39]
وَ ما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً زيادة محرمة في المعاملة أو عطية يتوقع بها مزيد مكافأة، و قرأ ابن كثير بالقصر بمعنى ما جئتم به من إعطاء ربا. لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ ليزيد و يزكو في أموالهم. فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ فلا
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 208
يزكو عنده و لا يبارك فيه، و قرأ نافع و يعقوب لتربو أي لتزيدوا أو لتصيروا ذوي ربا. وَ ما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ تبتغون به وجهه خالصا فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ذوو الأضعاف من الثواب و نظير المضعف المقوي و الموسر لذي القوة و اليسار، أو الذين ضعفوا ثوابهم و أموالهم ببركة الزكاة، و قرئ بفتح العين و تغييره عن سنن المقابلة عبارة و نظما للمبالغة، و الالتفات فيه للتعظيم كأنه خاطب به الملائكة و خواص الخلق تعريفا لحالهم، أو للتعميم كأنه قال: فمن فعل ذلك فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ، و الراجع منه محذوف إن جعلت ما موصولة تقديره المضعفون به، أو فمؤتوه أولئك هم المضعفون.
[سورة الروم (30): آية 40]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ أثبت له لوازم الألوهية و نفاها رأسا عما اتخذوه شركاء له من الأصنام و غيرها مؤكدا بالإنكار على ما دل عليه البرهان و العيان و وقع عليه الوفاق، ثم استنتج من ذلك تقدسه عن أن يكون له شركاء فقال: سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ و يجوز أن تكون الكلمة الموصولة صفة و الخبر هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ و الرابط مِنْ ذلِكُمْ لأنه بمعنى من أفعاله، و مِنْ الأولى و الثانية تفيد أن شيوع الحكم في جنس الشركاء و الأفعال و الثالثة مزيدة لتعميم المنفي و كل منها مستقلة بتأكيد لتعجيز الشركاء، و قرأ حمزة و الكسائي بالتاء.
[سورة الروم (30): الآيات 41 الى 42]
ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ كالجدب و الموتان و كثرة الحرق و الغرق و إخفاق الغاصة و محق البركات و كثرة المضار، أو الضلالة و الظلم. و قيل المراد بالبحر قرى السواحل و قرئ و «البحور». بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ بشؤم معاصيهم أو بكسبهم إياه، و قيل ظهر الفساد في البر بقتل قابيل أخاه و في البحر بأن جلندا ملك عمان كان يأخذ كل سفينة غصبا. لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا بعض جزائه فإن تمامه في الآخرة و اللام للعلة أو للعاقبة. و عن ابن كثير و يعقوب لِنُذِيقَهُمْ بالنون. لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عما هم عليه.
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ لتشاهدوا مصداق ذلك و تتحققوا صدقه.
كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ استئناف للدلالة على أن سوء عاقبتهم كان لفشو الشرك و غلبته فيهم، أو كان الشرك في أكثرهم و ما دونه من المعاصي في قليل منهم.
[سورة الروم (30): آية 43]
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ البليغ الاستقامة. مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ لا يقدر أن يرده أحد، و قوله: مِنَ اللَّهِ متعلق ب يَأْتِيَ ، و يجوز أن يتعلق ب مَرَدَّ لأنه مصدر على معنى لا يرده اللّه لتعلق إرادته القديمة بمجيئه. يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ يتصدعون أي يتفرقون فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَ فَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ كما قال
[سورة الروم (30): الآيات 44 الى 45]
مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ أي وباله و هو النار المؤبدة. وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ يسوون منزلا في الجنة، و تقديم الظرف في الموضعين للدلالة على الاختصاص.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 209
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ علة ل يَمْهَدُونَ أو ل يَصَّدَّعُونَ ، و الاقتصار على جزاء المؤمنين للإشعار بأنه المقصود بالذات و الاكتفاء على فحوى قوله: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ فإن فيه إثبات البغض لهم و المحبة للمؤمنين، و تأكيد اختصاص الصلاح المفهوم من ترك ضميرهم إلى التصريح بهم تعليل له و من فضله دال على أن الإثابة تفضل محض، و تأويله بالعطاء أو الزيادة على الثواب عدول عن الظاهر.
[سورة الروم (30): آية 46]
وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ الشمال و الصبا و الجنوب فإنها رياح الرحمة و أما الدبور فريح العذاب، و منه
قوله عليه الصلاة و السلام «اللهم اجعلها رياحا و لا تجعلها ريحا»
و قرأ ابن كثير و حمزة و الكسائي الريح على إرادة الجنس. مُبَشِّراتٍ بالمطر. وَ لِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ يعني المنافع التابعة لها، و قيل الخصب التابع لنزول المطر المسبب عنها أو الروح الّذي هو مع هبوبها و العطف على علة محذوفة دل عليها مُبَشِّراتٍ أو عليها باعتبار المعنى، أو على يُرْسِلَ بإضمار فعل معلل دل عليه. وَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ يعني تجارة البحر. وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ و لتشكروا نعمة اللّه تعالى فيها.
[سورة الروم (30): آية 47]
وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا بالتدمير. وَ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ إشعار بأن الانتقام لهم و إظهار لكرامتهم حيث جعلهم مستحقين على اللّه أن ينصرهم، و
عنه عليه الصلاة و السلام «ما من امرئ مسلم يرد عن عرض أخيه إلا كان حقا على اللّه أن يرد عنه نار جهنم ثم تلا ذلك».
و قد يوقف على حَقًّا على أنه متعلق بالانتقام.
[سورة الروم (30): الآيات 48 الى 49]
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ متصلا تارة. فِي السَّماءِ في سمتها. كَيْفَ يَشاءُ سائرا أو واقفا مطبقا و غير مطبق من جانب دون جانب إلى غير ذلك. وَ يَجْعَلُهُ كِسَفاً قطعا تارة أخرى، و قرأ ابن عامر بالسكون على أنه مخفف أو جمع كسفة أو مصدر وصف به. فَتَرَى الْوَدْقَ المطر. يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ في التارتين. فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ يعني بلادهم و أراضيهم. إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ لمجيء الخصب.
وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ المطر. مِنْ قَبْلِهِ تكرير للتأكيد و الدلالة على تطاول عهدهم بالمطر و استحكام يأسهم، و قيل الضمير للمطر أو السحاب أو الإرسال. لَمُبْلِسِينَ لآيسين.
[سورة الروم (30): آية 50]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 210
فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ أثر الغيث من النبات و الأشجار و أنواع الثمار و لذلك جمعه ابن عامر و حمزة و الكسائي و حفص. كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها و قرئ بالتاء على إسناده إلى ضمير الرحمة. إِنَّ ذلِكَ يعني إن الّذي قدر على إحياء الأرض بعد موتها. لَمُحْيِ الْمَوْتى لقادر على إحيائهم فإنه إحداث لمثل ما كان في مواد أبدانهم من القوى الحيوانية، كما أن إحياء الأرض إحداث لمثل ما كان فيها من القوى النباتية، هذا و من المحتمل أن يكون من الكائنات الراهنة ما يكون من مواد تفتتت و تبددت من جنسها في بعض الأعوام السالفة. وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لأن نسبة قدرته إلى جميع الممكنات على سواء.
[سورة الروم (30): آية 51]
وَ لَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51)
وَ لَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا فرأوا الأثر أو الزرع فإنه مدلول عليه بما تقدم، و قيل السحاب لأنه إذا كان مُصْفَرًّا* لم يمطر و اللام موطئة للقسم دخلت على حرف الشرط و قوله: لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ جواب سد مسد الجزاء و لذلك فسر بالاستقبال. و هذه الآية ناعية على الكفار بقلة تثبتهم و عدم تدبرهم و سرعة تزلزلهم لعدم تفكرهم و سوء رأيهم، فإن النظر السوي يقتضي أن يتوكلوا على اللّه و يلتجئوا إليه بالاستغفار إذا احتبس القطر عنهم و لا ييأسوا من رحمته، و أن يبادروا إلى الشكر و الاستدامة بالطاعة إذا أصابهم برحمته و لم يفرطوا في الاستبشار و أن يصبروا على بلائه إذا ضرب زروعهم بالاصفرار و لا يكفروا نعمه.
[سورة الروم (30): الآيات 52 الى 53]
فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى و هم مثلهم لما سدوا عن الحق مشاعرهم. وَ لا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ قيد الحكم به ليكون أشد استحالة، فإن الأصم المقبل و إن لم يسمع الكلام يفطن منه بواسطة الحركات شيئا، و قرأ ابن كثير بالياء مفتوحة و رفع الصُّمَ .
وَ ما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ سماهم عميا لفقدهم المقصود الحقيقي من الأبصار أو لعمي قلوبهم، و قرأ حمزة وحده «تهدي العمي». إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فإن إيمانهم يدعوهم إلى تلقي اللفظ و تدبر المعنى، و يجوز أن يراد بالمؤمن المشارف للإيمان. فَهُمْ مُسْلِمُونَ لما تأمرهم به.
[سورة الروم (30): آية 54]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ أي ابتدأكم ضعفاء و جعل الضعف أساس أمركم كقوله خُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً* أو خلقكم من أصل ضعيف و هو النطفة. ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً و ذلك إذا بلغتم الحلم أو تعلق بأبدانكم الروح. ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَ شَيْبَةً إذا أخذ منكم السن، و فتح عاصم و حمزة الضاد في جميعها و الضم أقوى لقول ابن عمر رضي اللّه عنهما: قرأتها على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم «من ضعف فأقرأني من ضعف». و هما لغتان كالفقر و الفقر و التنكير مع التكرير لأن المتأخر ليس عين المتقدم. يَخْلُقُ ما يَشاءُ من ضعف و قوة و شبية و شيبة. وَ هُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ فإن الترديد في الأحوال المختلفة مع إمكان غيره دليل العلم و القدرة.
[سورة الروم (30): آية 55]
وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ القيامة سميت بها لأنها تقوم في آخر ساعة من ساعات الدنيا، أو لأنها تقع بغتة
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 211
و صارت علما لها بالغلبة كالكوكب للزهرة. يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا في الدنيا أو في القبور أو فيما بين فناء الدنيا و البعث و انقطاع عذابهم، و
في الحديث «ما بين فناء الدنيا و البعث أربعون»
و هو محتمل للساعات و الأيام و الأعوام. غَيْرَ ساعَةٍ استقلوا مدة لبثهم إضافة إلى مدة عذابهم في الآخرة أو نسيانا. كَذلِكَ مثل ذلك الصرف عن الصدق و التحقيق. كانُوا يُؤْفَكُونَ يصرفون في الدنيا.
[سورة الروم (30): الآيات 56 الى 57]
وَ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَ الْإِيمانَ من الملائكة و الإنس. لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ في علمه أو قضائه، أو ما كتبه لكم أي أوجبه أو اللوح أو القرآن و هو قوله: وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ . إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ ردوا بذلك ما قالوه و حلفوا عليه. فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ الّذي أنكرتموه. وَ لكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ أنه حق لتفريطكم في النظر، و الفاء لجواب شرط محذوف تقديره: إن كنتم منكرين البعث فهذا يومه، أي فقد تبين بطلان إنكاركم.
فيومئذ لا تنفع الّذين ظلموا معذرتهم و قرأ الكوفيون بالياء لأن المعذرة بمعنى العذر، أو لأن تأنيثها غير حقيقي و قد فصل بينهما. وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ لا يدعون إلى ما يقتضي إعتابهم أي إزالة عتبهم من التوبة و الطاعة كما دعوا إليه في الدنيا من قولهم استعتبني فلان فأعتبته أي استرضاني فأرضيته.
[سورة الروم (30): الآيات 58 الى 59]
وَ لَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ و لقد وصفناهم فيه بأنواع الصفات الّتي هي في الغرابة كالأمثال، مثل صفة المبعوثين يوم القيامة فيما يقولون و ما يقال لهم و ما لا يكون لهم من الانتفاع بالمعذرة و الاستعتاب، أو بينا لهم من كل مثل ينبههم على التوحيد و البعث و صدق الرسول. وَ لَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ من آيات القرآن. لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا من فرط عنادهم و قساوة قلوبهم. إِنْ أَنْتُمْ يعنون الرسول و المؤمنين.
إِلَّا مُبْطِلُونَ مزورون.
كَذلِكَ مثل ذلك الطبع. يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لا يطلبون العلم و يصرون على خرافات اعتقدوها فإن الجهل المركب يمنع إدراك الحق و يوجب تكذيب المحق.
[سورة الروم (30): آية 60]
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَ لا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (60)
فَاصْبِرْ على أذاهم. إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بنصرتك و إظهار دينك على الدين كله. حَقٌ لا بد من إنجازه. وَ لا يَسْتَخِفَّنَّكَ و لا يحملنك على الخفة و القلق. الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ بتكذيبهم و إيذائهم فإنهم شاكون ضالون لا يستبدع منهم ذلك. و عن يعقوب بتخفيف النون، و قرئ «و لا يستحقنك» أي لا يزيغنك فيكونوا أحق بك مع المؤمنين.