کتابخانه تفاسیر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 211
و صارت علما لها بالغلبة كالكوكب للزهرة. يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا في الدنيا أو في القبور أو فيما بين فناء الدنيا و البعث و انقطاع عذابهم، و
في الحديث «ما بين فناء الدنيا و البعث أربعون»
و هو محتمل للساعات و الأيام و الأعوام. غَيْرَ ساعَةٍ استقلوا مدة لبثهم إضافة إلى مدة عذابهم في الآخرة أو نسيانا. كَذلِكَ مثل ذلك الصرف عن الصدق و التحقيق. كانُوا يُؤْفَكُونَ يصرفون في الدنيا.
[سورة الروم (30): الآيات 56 الى 57]
وَ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَ الْإِيمانَ من الملائكة و الإنس. لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ في علمه أو قضائه، أو ما كتبه لكم أي أوجبه أو اللوح أو القرآن و هو قوله: وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ . إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ ردوا بذلك ما قالوه و حلفوا عليه. فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ الّذي أنكرتموه. وَ لكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ أنه حق لتفريطكم في النظر، و الفاء لجواب شرط محذوف تقديره: إن كنتم منكرين البعث فهذا يومه، أي فقد تبين بطلان إنكاركم.
فيومئذ لا تنفع الّذين ظلموا معذرتهم و قرأ الكوفيون بالياء لأن المعذرة بمعنى العذر، أو لأن تأنيثها غير حقيقي و قد فصل بينهما. وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ لا يدعون إلى ما يقتضي إعتابهم أي إزالة عتبهم من التوبة و الطاعة كما دعوا إليه في الدنيا من قولهم استعتبني فلان فأعتبته أي استرضاني فأرضيته.
[سورة الروم (30): الآيات 58 الى 59]
وَ لَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ و لقد وصفناهم فيه بأنواع الصفات الّتي هي في الغرابة كالأمثال، مثل صفة المبعوثين يوم القيامة فيما يقولون و ما يقال لهم و ما لا يكون لهم من الانتفاع بالمعذرة و الاستعتاب، أو بينا لهم من كل مثل ينبههم على التوحيد و البعث و صدق الرسول. وَ لَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ من آيات القرآن. لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا من فرط عنادهم و قساوة قلوبهم. إِنْ أَنْتُمْ يعنون الرسول و المؤمنين.
إِلَّا مُبْطِلُونَ مزورون.
كَذلِكَ مثل ذلك الطبع. يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لا يطلبون العلم و يصرون على خرافات اعتقدوها فإن الجهل المركب يمنع إدراك الحق و يوجب تكذيب المحق.
[سورة الروم (30): آية 60]
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَ لا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (60)
فَاصْبِرْ على أذاهم. إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بنصرتك و إظهار دينك على الدين كله. حَقٌ لا بد من إنجازه. وَ لا يَسْتَخِفَّنَّكَ و لا يحملنك على الخفة و القلق. الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ بتكذيبهم و إيذائهم فإنهم شاكون ضالون لا يستبدع منهم ذلك. و عن يعقوب بتخفيف النون، و قرئ «و لا يستحقنك» أي لا يزيغنك فيكونوا أحق بك مع المؤمنين.
عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم «من قرأ سورة الروم كان له من الأجر عشر حسنات بعدد كل ملك سبح اللّه بين السماء و الأرض و أدرك ما ضيع في يومه و ليلته».
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 212
(31) سورة لقمان
مكية إلا آية و هي (الذين يقيمون الصلاة و يؤتون الزكاة) فإن وجوبهما بالمدينة و هو ضعيف لأنه لا ينافي شرعيتهما بمكة و قيل إلا ثلاثا من قوله و لو أن ما في الأرض من شجرة أقلام) و هي أربع و ثلاثون آية، و قيل ثلاث و ثلاثون.
[سورة لقمان (31): الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (2) هُدىً وَ رَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3)
الم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ سبق بيانه في «يونس».
هُدىً وَ رَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ حالان من الآيات و العامل فيهما معنى الإشارة، و رفعهما حمزة على الخبر بعد الخبر أو الخبر لمحذوف.
[سورة لقمان (31): الآيات 4 الى 5]
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ بيان لإحسانهم أو تخصيص لهذه الثلاثة من شعبه لفضل اعتداد بها و تكرير الضمير للتوكيد و لما حيل بينه و بين خبره.
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ لاستجماعهم العقيدة الحقة و العمل الصالح.
[سورة لقمان (31): آية 6]
وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ ما يلهي عما يعني كالأحاديث الّتي لا أصل لها و الأساطير الّتي لا اعتبار بها و المضاحك و فضول الكلام، و الإضافة بمعنى من و هي تبيينية إن أراد بالحديث المنكر و تبعيضية إن أراد به الأعم منه. و قيل نزلت في النضر بن الحرث اشترى كتب الأعاجم و كان يحدث بها قريشا و يقول:
إن كان محمّد يحدثكم بحديث عاد و ثمود فأنا أحدثكم بحديث رستم و إسفنديار و الأكاسرة. و قيل كان يشتري القيان و يحملهن على معاشرة من أراد الإسلام و منعه عنه. لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ دينه أو قراءة كتابه، و قرأ ابن كثير و أبو عمرو بفتح الياء بمعنى ليثبت على ضلاله و يزيد فيه. بِغَيْرِ عِلْمٍ بحال ما يشتريه أو بالتجارة حيث استبدل اللهو بقراءة القرآن. وَ يَتَّخِذَها هُزُواً و يتخذ السبيل سخرية، و قد نصبه حمزة و الكسائي و يعقوب و حفص عطفا على لِيُضِلَ . أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ لإهانتهم الحق باستئثار الباطل عليه.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 213
[سورة لقمان (31): آية 7]
وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً متكبرا لا يعبأ بها. كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها مشابها حاله حال من لم يسمعها. كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً مشابها من في أذنيه ثقل لا يقدر أن يسمع، و الأولى حال من المستكن في وَلَّى أو في مُسْتَكْبِراً ، و الثانية بدل منها أو حال من المستكن في لَمْ يَسْمَعْها و يجوز أن يكونا استئنافين، و قرأ نافع فِي أُذُنَيْهِ . فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ أعلمه بأن العذاب يحيق به لا محالة و ذكر البشارة على التهكم.
[سورة لقمان (31): الآيات 8 الى 9]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ أي لهم نعيم الجنات فعكس للمبالغة.
خالِدِينَ فِيها حال من الضمير في لَهُمْ أو من جَنَّاتُ النَّعِيمِ و العامل ما تعلق به اللام. وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا مصدران مؤكدان الأول لنفسه و الثاني لغيره لأن قوله لَهُمْ جَنَّاتُ وعد و ليس كل وعد حقا. وَ هُوَ الْعَزِيزُ . الّذي لا يغلبه شيء فيمنعه عن إنجاز وعده و وعيده. الْحَكِيمُ الّذي لا يفعل إلا ما تستدعيه حكمته.
[سورة لقمان (31): الآيات 10 الى 11]
خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها قد سبق في «الرعد». وَ أَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ جبالا شوامخ.
أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ كراهة أن تميد بكم، فإن تشابه أجزائها يقتضي تبدل أحيازها و أوضاعها لامتناع اختصاص كل منها لذاته أو لشيء من لوازمه بحيز و وضع معينين. وَ بَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ من كل صنف كثير المنفعة و كأنه استدل بذلك على عزته الّتي هي كمال القدرة، و حكمته الّتي هي كمال العلم، و مهد به قاعدة التوحيد و قررها بقوله:
هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ هذا الّذي ذكر مخلوقه فماذا خلق آلهتكم حتى استحقوا مشاركته، و ما ذا نصب ب خَلْقُ أو ما مرتفع بالابتداء و خبره ذا بصلته فَأَرُونِي معلق عنه. بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ إضراب عن تبكيتهم إلى التسجيل عليهم بالضلال الّذي لا يخفى على ناظر، و وضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على أنهم ظالمون بإشراكهم.
[سورة لقمان (31): آية 12]
وَ لَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ يعني لقمان بن باعوراء من أولاد آزر ابن أخت أيوب أو خالته، و عاش حتى أدرك داود عليه الصلاة و السلام و أخذ منه العلم و كان يفتي قبل مبعثه، و الجمهور على أنه كان حكيما و لم يكن نبيا.
و الحكمة في عرف العلماء: استكمال النفس الإنسانية باقتباس العلوم النظرية، و اكتساب الملكة التامة على الأفعال الفاضلة على قدر طاقتها. و من حكمته أنه صحب داود شهورا و كان يسرد الدرع فلم يسأله عنها فلما أتمها لبسها و قال:
نعم لبوس الحرب أنت فقال: الصمت حكم و قليل فاعله، و أن داود عليه السلام قال له يوما كيف أصبحت فقال أصبحت في يدي غيري، فتفكر داود فيه فصعق صعقة. و أنه أمره بأن يذبح شاة و يأتي بأطيب مضغتين منها فأتى باللسان و القلب، ثم بعد أيام أمره بأن يأتي بأخبث مضغتين منها فأتى بهما أيضا فسأله عن ذلك فقال: هما أطيب شيء
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 214
إذا طابا و أخبث شيء إذا خبثا. أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ لأن أشكر أو أي أشكر فإن إيتاء الحكمة في معنى القول. وَ مَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ لأن نفعه عائد إليها و هو دوام النعمة و استحقاق مزيدها. وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌ لا يحتاج إلى الشكر. حَمِيدٌ حقيق بالحمد و إن لم يحمد، أو محمود ينطق بحمده جميع مخلوقاته بلسان الحال.
[سورة لقمان (31): آية 13]
وَ إِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ أنعم أو أشكم أو ماثان. وَ هُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَ تصغير إشفاق، و قرأ ابن كثير هنا و في يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ بإسكان الياء، و حفص فيهما و في يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ بفتح الياء و مثله البزي في الأخير و قرأ الباقون في الثلاثة بكسر الياء. لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ قيل كان كافرا فلم يزل به حتى أسلم، و من وقف على لا تُشْرِكْ جعل باللّه قسما. إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ لأنه تسوية بين من لا نعمة إلا منه و من لا نعمة منه.
[سورة لقمان (31): آية 14]
وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً ذات و هن أو تهن وهنا عَلى وَهْنٍ أي تضعف ضعفا فوق ضعف فإنها لا تزال يتضاعف ضعفها و الجملة في موضع الحال، و قرئ بالتحريك يقال وهن يهن و هنا و وهن يوهن وهنا. وَ فِصالُهُ فِي عامَيْنِ و فطامه في انقضاء عامين و كانت ترضعه في تلك المدة، و قرئ «و فصله في عامين» و فيه دليل على أن أقصى مدة الرضاع حولان. أَنِ اشْكُرْ لِي وَ لِوالِدَيْكَ تفسير ل وَصَّيْنَا أو علة له أو بدل من والديه بدل الاشتمال، و ذكر الحمل و الفصال في البين اعتراض مؤكد للتوصية في حقها خصوصا و من ثم
قال عليه الصلاة و السلام لمن قال من أبرّ «أمك ثم أمك ثم أمك ثم قال بعد ذلك أباك».
إِلَيَّ الْمَصِيرُ فأحاسبك على شكرك و كفرك.
[سورة لقمان (31): آية 15]
وَ إِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ باستحقاقه الإشراك تقليدا لهما، و قيل أراد بنفي العلم به نفيه. فَلا تُطِعْهُما في ذلك. وَ صاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً صحابا معروفا يرتضيه الشرع و يقتضيه الكرم. وَ اتَّبِعْ في الدين سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَ بالتوحيد و الإخلاص في الطاعة. ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ مرجعك و مرجعهما. فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بأن أجازيك على إيمانك و أجازيهما على كفرهما، و الآيتان معترضتان في تضاعيف وصية لقمان تأكيدا لما فيها من النهي عن الشرك كأنه قال: و قد وصينا بمثل ما وصى به، و ذكر الوالدين للمبالغة في ذلك فإنهما مع أنهما تلو الباري في استحقاق التعظيم و الطاعة لا يجوز أن يستحقاه في الإشراك فما ظنك بغيرهما و نزولهما في سعد بن أبي وقاص و أمه مكثت لإسلامه ثلاثا لم تطعم فيها شيئا، و لذلك قيل من أناب إليه أبو بكر رضي اللّه عنه فإنه أسلم بدعوته.
[سورة لقمان (31): آية 16]
يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أي أن الخصلة من الإحسان أو الإساءة إن تك مثلا في الصغر كحبة الخردل. و رفع نافع مِثْقالَ على أن الهاء ضمير القصة و كان تامة و تأنيثها لإضافة المثقال إلى الحبة كقول الشاعر:
كما شرقت صدر القناة من الدم
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 215
أو لأن المراد به الحسنة أو السيئة. فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ في أخفى مكان و أحرزه كجوف صخرة أو أعلاه كمحدب السموات أو أسفله كمقعر الأرض. و قرئ بكسر الكاف من وكن الطائر إذا استقر في وكنته. يَأْتِ بِهَا اللَّهُ يحضرها فيحاسب عليها. إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ يصل علمه إلى كل خفي. خَبِيرٌ عالم بكنهه.
[سورة لقمان (31): آية 17]
يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ تكميلا لنفسك. وَ أْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَ انْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ تكميلا لغيرك. وَ اصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ من الشدائد سيما في ذلك. إِنَّ ذلِكَ إشارة إلى الصبر أو إلى كل ما أمر به. مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ مما عزمه اللّه من الأمور أي قطعه قطع إيجاب مصدر أطلق للمفعول، و يجوز أن يكون بمعنى الفاعل من قوله فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ أي جد.
[سورة لقمان (31): الآيات 18 الى 19]
وَ لا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ لا تمله عنهم و لا تولهم صفحة وجهك كما يفعله المتكبرون من الصعر و هو داء يعتري البعير فيلوي عنقه. و قرأ نافع و أبو عمرو و حمزة و الكسائي و لا تصاعر، و قرئ «و لا تصعر» و الكل واحد مثل علاه و أعلاه و عالاه. وَ لا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً أي فرحا مصدر وقع موقع الحال أي تمرح مرحا أو لأجل المرح و هو البطر. إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ علة للنهي و تأخير ال فَخُورٍ و هو مقابل للمصعر خده و المختال للماشي مرحا لتوافق رؤوس الآي.
وَ اقْصِدْ فِي مَشْيِكَ توسط فيه بين الدبيب و الإسراع. و
عنه عليه الصلاة و السلام: «سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن»
، و قول عائشة في عمر رضي اللّه عنهما كان إذا مشى أسرع فالمراد ما فوق دبيب المتماوت، و قرئ بقطع الهمزة من أقصد الرامي إذا سدد سهمه نحو الرمية. وَ اغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ و انقص منه و اقصر. إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ أوحشها. لَصَوْتُ الْحَمِيرِ و الحمار مثل في الذم سيما نهاقه و لذلك يكنى عنه فيقال طويل الأذنين، و في تمثيل الصوت المرتفع بصوته ثم إخراجه مخرج الاستعارة مبالغة شديدة و توحيد الصوت لأن المراد تفضيل الجنس في النكير دون الآحاد أو لأنه مصدر في الأصل.
[سورة لقمان (31): آية 20]
أَ لَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ بأن جعله أسبابا محصلة لمنافعكم. وَ ما فِي الْأَرْضِ بأن مكنكم من الانتفاع به بوسط أو غير وسط وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَ باطِنَةً محسوسة و معقولة ما تعرفونه و ما لا تعرفونه و قد مر شرح النعمة و تفصيلها في الفاتحة، و قرئ «و أصبغ» بالإبدال و هو جار في كل سين اجتمع من الغين أو الخاء أو القاف كصلخ و صقر، و قرأ نافع و أبو عمرو و حفص نعمه بالجمع و الإضافة.
وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ في توحيده و صفاته. بِغَيْرِ عِلْمٍ مستفاد من دليل. وَ لا هُدىً راجع إلى رسول. وَ لا كِتابٍ مُنِيرٍ أنزله اللّه بل بالتقليد كما قال:
[سورة لقمان (31): الآيات 21 الى 22]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 216
وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا و هو منع صريح من التقليد في الأصول. أَ وَ لَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ يحتمل أن يكون الضمير لهم و لآبائهم. إِلى عَذابِ السَّعِيرِ إلى ما يؤول إليه من التقليد أو الإشراك و جواب لو محذوف مثل لاتبعوه، و الاستفهام للإنكار و التعجب.
وَ مَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ بأن فوض أمره إليه و أقبل بشراشره عليه من أسلمت المتاع إلى الزبون، و يؤيده القراءة بالتشديد و حيث عدي باللام فلتضمن معنى الإخلاص. وَ هُوَ مُحْسِنٌ في عمله. فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى تعلق بأوثق ما يتعلق به، و هو تمثيل للمتوكل المشتغل بالطاعة بمن أراد أن يترقى إلى شاهق جبل فتمسك بأوثق عرى الحبل المتدلي منه. وَ إِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ إذ الكل صائر إليه.
[سورة لقمان (31): الآيات 23 الى 24]
وَ مَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ فإنه لا يضرك في الدنيا و الآخرة، و قرئ «فلا يحزنك» من أحزن و ليس بمستفيض. إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ في الدارين. فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا بالإهلاك و التعذيب. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ فمجاز عليه فضلا عما في الظاهر.
نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا تمتيعا أو زمانا قليلا فإن ما يزول بالنسبة إلى ما يدوم قليل. ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ يثقل عليهم ثقل الأجرام الغلاظ أو يضم إلى الإحراق الضغط.
[سورة لقمان (31): الآيات 25 الى 26]
وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ لوضوح الدليل المانع من إسناد الخلق إلى غيره بحيث اضطروا إلى إذعانه. قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ على إلزامهم و إلجائهم إلى الاعتراف بما يوجب بطلان معتقدهم.
بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أن ذلك يلزمهم.
لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لا يستحق العبادة فيهما غيره إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُ عن حمد الحامدين.
الْحَمِيدُ المستحق للحمد و إن لم يحمد.
[سورة لقمان (31): آية 27]
وَ لَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ و لو ثبت كون الأشجار أقلاما، و توحيد شَجَرَةٍ لأن المراد تفصيل الآحاد. وَ الْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ و البحر المحيط بسعته مدادا ممدودا بسبعة أبحر، فأغنى عن ذكر المداد يمده لأنه من مد الدواة و أمدها، و رفعه للعطف على محل أن و معموليها و يمده حال أو للابتداء على أنه مستأنف أو الواو للحال، و نصبه البصريان بالعطف على اسم أَنَ أو إضمار فعل يفسره يَمُدُّهُ ، و قرئ «تمده» «و يمده» بالياء و التاء. ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ بكتبها بتلك الأقلام بذلك المداد و إيثار جمع القلة للإشعار بأن ذلك لا يفي بالقليل فكيف بالكثير. إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ لا يعجزه شيء. حَكِيمٌ لا يخرج عن علمه و حكمته أمر، و الآية جواب لليهود سألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم أو أمروا وفد قريش أن يسألوه عن قوله تعالى: وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا و قد أنزل التوراة و فيها علم كل شيء.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 217
[سورة لقمان (31): الآيات 28 الى 30]
ما خَلْقُكُمْ وَ لا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إلا كخلقها و بعثها إذ لا يشغله شأن عن شأن لأنه يكفي لوجود الكل تعلق إرادته الواجبة مع قدرته الذاتية كما قال إنما أمرنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون.
إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ يسمع كل مسموع بَصِيرٌ يبصر كل مبصر لا يشغله إدراك بعضها عن بعض فكذلك الخلق.
أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَ يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي كل من النيرين يجري في فلكه. إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إلى منتهى معلوم الشمس إلى آخر السنة و القمر إلى آخر الشهر.
و قيل إلى يوم القيامة و الفرق بينه و بين قوله لِأَجَلٍ مُسَمًّى* أن ال أَجَلٍ ها هنا منتهى الجري و ثمة غرضه حقيقة أو مجازا و كلا المعنيين حاصل في الغايات. وَ أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ عالم بكنهه.
ذلِكَ إشارة إلى الّذي ذكر من سعة العلم و شمول القدرة و عجائب الصنع و اختصاص الباري بها.
بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُ بسبب أنه الثابت في ذاته الواجب من جميع جهاته، أو الثابت إلهيته. و أنّ ما تدعون من دونه الباطل المعدوم في حد ذاته لأنه لا يوجد و لا يتصف إلا بجعله أو الباطل إلهيته، و قرأ البصريان و الكوفيون غير أبي بكر بالياء. وَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ مترفع على كل شيء و متسلط عليه.
[سورة لقمان (31): الآيات 31 الى 32]
أَ لَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ بإحسانه في تهيئة أسبابه و هو استشهاد آخر على باهر قدرته و كمال حكمته و شمول إنعامه و الباء للصلة أو الحال، و قرئ «الفلك» بالتثقيل و «بنعمات اللّه» بسكون العين، و قد جوز في مثله الكسر و الفتح و السكون. لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ دلائله. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ على المشاق فيتعب نفسه بالتفكر في الأفاق و الأنفس. شَكُورٍ يعرف النعم و يتعرف مانحها، أو للمؤمنين فإن الإيمان نصفان نصف صبر و نصف شكر.
وَ إِذا غَشِيَهُمْ علاهم و غطاهم. مَوْجٌ كَالظُّلَلِ كما يظل من جبل أو سحاب أو غيرهما، و قرئ كالظلال جمع ظله كقلة و قلال. دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لزوال ما ينازع الفطرة من الهوى و التقليد بما دهاهم من الخوف الشديد. فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ مقيم على الطريق القصد الّذي هو التوحيد، أو متوسط في الكفر لانزجاره بعض الانزجار. وَ ما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ غدار فإنه نقض للعهد الفطري، أو لما كان في البحر و الختر أشد الغدر. كَفُورٍ للنعم.
[سورة لقمان (31): آية 33]