کتابخانه تفاسیر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 227
[سورة الأحزاب (33): آية 13]
وَ إِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يعني أوس بن قيظي و أتباعه. يا أَهْلَ يَثْرِبَ أهل المدينة، و قيل هو اسم أرض وقعت المدينة في ناحية منها. لا مُقامَ لا موضع قيام. لَكُمْ ها هنا، و قرأ حفص بالضم على أنه مكان أو مصدر من أقام. فَارْجِعُوا إلى منازلكم هاربين، و قيل المعنى لا مقام لكم على دين محمّد فارجعوا إلى الشرك و أسلموه لتسلموا، أو لا مقام لكم بيثرب فارجعوا كفارا ليمكنكم المقام بها. وَ يَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَ للرجوع. يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ غير حصينة و أصلها الخلل، و يجوز أن يكون تخفيف العورة من عورت الدار إذا اختلت و قد قرئ بها. وَ ما هِيَ بِعَوْرَةٍ بل هي حصينة. إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً أي و ما يريدون بذلك إلا الفرار من القتال.
[سورة الأحزاب (33): آية 14]
وَ لَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ دخلت المدينة أو بيوتهم. مِنْ أَقْطارِها من جوانبها و حذف الفاعل للإيماء بأن دخول هؤلاء المتحزبين عليهم و دخول غيرهم من العساكر سيان في اقتضاء الحكم المرتب عليه. ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ الردة و مقاتلة المسلمين. لَآتَوْها لأعطوها، و قرأ الحجازيان بالقصر بمعنى لجاءوها و فعلوها. وَ ما تَلَبَّثُوا بِها بالفتنة أو بإعطائها. إِلَّا يَسِيراً ريثما يكون السؤال و الجواب، و قيل ما لبثوا بالمدينة بعد تمام الارتداد إلا يسيرا.
[سورة الأحزاب (33): الآيات 15 الى 16]
وَ لَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ يعني بني حارثة عاهدوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يوم أحد حين فشلوا ثم تابوا أن لا يعودوا لمثله. وَ كانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا عن الوفاء به مجازى عليه.
قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ فإنه لا بد لكل شخص من حتف أنف، أو قتل في وقت معين سبق به القضاء و جرى عليه القلم. وَ إِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا أي و إن نفعكم الفرار مثلا فمتعتم بالتأخير لم يكن ذلك التمتيع إلا تمتيعا، أو زمانا قليلا.
[سورة الأحزاب (33): الآيات 17 الى 18]
قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً أي أو يصيبكم بسوء إن أراد بكم رحمة فاختصر الكلام كما في قوله:
متقلدا سيفا و رمحا أو حمل الثاني على الأول لما في العصمة من معنى المنع. وَ لا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا ينفعهم. وَ لا نَصِيراً يدفع الضر عنهم.
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ المثبطين عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و هم المنافقون. وَ الْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ من
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 228
ساكني المدينة. هَلُمَّ إِلَيْنا قربوا أنفسكم إلينا و قد ذكر أصله في «الإنعام». وَ لا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا إلا إتيانا أو زمانا أو بأسا قليلا، فإنهم يعتذرون و يتثبطون ما أمكن لهم، أو يخرجون مع المؤمنين و لكن لا يقاتلون إلا قليلا كقوله ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا و قيل إنه من تتمة كلامهم و معناه لا يأتي أصحاب محمّد حرب الأحزاب و لا يقاومونهم إلا قليلا.
[سورة الأحزاب (33): آية 19]
أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ بخلاء عليكم بالمعاونة أو النفقة في سبيل اللّه أو الظفر أو الغنيمة، جمع شحيح و نصبها على الحال من فاعل يَأْتُونَ أو الْمُعَوِّقِينَ أو على الذم. فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ في أحداقهم. كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ كنظر المغشي عليه أو كدوران عينية، أو مشبهين به أو مشبهة بعينه. مِنَ الْمَوْتِ من معالجة سكرات الموت خوفا و لواذا بك. فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ و حيزت الغنائم. سَلَقُوكُمْ ضربوكم. بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ ذربة يطلبون الغنيمة، و السلق البسط بقهر باليد أو باللسان.
أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ نصب على الحال أو الذم، و يؤيده قراءة الرفع و ليس بتكرير لأن كلّا منهما مقيد من وجه. أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا إخلاصا. فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ فأظهر بطلانها إذ لم تثبت لهم أعمال فتبطل أو أبطل تصنعهم و نفاقهم. وَ كانَ ذلِكَ الإحباط. عَلَى اللَّهِ يَسِيراً هينا لتعلق الإرادة به و عدم ما يمنعه عنه.
[سورة الأحزاب (33): آية 20]
يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا أي هؤلاء لجبنهم يظنون أن الأحزاب لم ينهزموا، و قد انهزموا ففروا إلى داخل المدينة. وَ إِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ كرة ثانية. يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ تمنوا أنهم خارجون إلى البدو حاصلون بين الأعراب. يَسْئَلُونَ كل قادم من جانب المدينة. عَنْ أَنْبائِكُمْ عما جرى عليكم.
وَ لَوْ كانُوا فِيكُمْ هذه الكرة و لم يرجعوا إلى المدينة و كان قتال. ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا رياء و خوفا من التعيير.
[سورة الأحزاب (33): آية 21]
لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ خصلة حسنة من حقها أن يؤتسى بها كالثبات في الحرب و مقاساة الشدائد، أو هو في نفسه قدوة يحسن التأسي به كقولك في البيضة عشرون منا حديدا أي هي في نفسها هذا القدر من الحديد، و قرأ عاصم بضم الهمزة و هو لغة فيه. لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ أي ثواب اللّه أو لقاءه و نعيم الآخرة، أو أيام اللّه و اليوم الآخر خصوصا. و قيل هو كقولك أرجو زيدا و فضله، فإن الْيَوْمَ الْآخِرَ داخل فيها بحسب الحكم و الرجاء يحتمل الأمل و الخوف و لِمَنْ كانَ صلة لحسنة أو صفة لها. و قيل بدل من لَكُمْ و الأكثر على أن ضمير المخاطب لا يبدل منه. وَ ذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً و قرن بالرجاء كثرة الذكر المؤدية إلى ملازمة الطاعة، فإن المؤتسي بالرسول من كان كذلك.
[سورة الأحزاب (33): آية 22]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 229
وَ لَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَ رَسُولُهُ بقوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ الآية، و
قوله عليه الصلاة و السلام «سيشتد الأمر باجتماع الأحزاب عليكم و العاقبة لكم عليهم».
و
قوله عليه الصلاة و السلام: إنهم سائرون إليكم بعد تسع أو عشر»
و قرأ حمزة و أبو بكر بكسر الراء و فتح الهمزة. وَ صَدَقَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ ظهر صدق خبر اللّه و رسوله أو صدقا في النصرة و الثواب كما صدقا في البلاء، و إظهار الاسم للتعظيم. وَ ما زادَهُمْ فيه ضمير لَمَّا رأوا، أو الخطب أو البلاء. إِلَّا إِيماناً باللّه و مواعيده. وَ تَسْلِيماً لأوامره و مقاديره.
[سورة الأحزاب (33): الآيات 23 الى 24]
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ من الثبات مع الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم و المقاتلة لإعلاء الدين من صدقني إذا قال لك الصدق، فإن المعاهد إذا و في بعهده فقد صدق فيه. فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ نذره بأن قاتل حتى استشهد كحمزة و مصعب بن عمير و أنس بن النضر، و النحب النذر و استعير للموت لأنه كنذر لازم في رقبة كل حيوان. وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ الشهادة كعثمان و طلحة رضي اللّه عنهما. وَ ما بَدَّلُوا العهد و لا غيروه. تَبْدِيلًا شيئا من التبديل.
روي أن طلحة ثبت مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم يوم أحد حتى أصيبت يده فقال عليه الصلاة و السلام: «أوجب طلحة»
و فيه تعريض لأهل النفاق و مرض القلب بالتبديل، و قوله:
لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَ يُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ تعليل للمنطوق و المعرض به، فكأن المنافقين قصدوا بالتبديل عاقبة السوء كما قصد المخلصون بالثبات و الوفاء العاقبة الحسنى، و التوبة عليهم مشروطة بتوبتهم أو المراد بها التوفيق للتوبة. إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً لمن تاب.
[سورة الأحزاب (33): آية 25]
وَ رَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني الأحزاب. بِغَيْظِهِمْ متغيظين. لَمْ يَنالُوا خَيْراً غير ظافرين و هما حالان بتداخل أو تعاقب. وَ كَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ بالريح و الملائكة. وَ كانَ اللَّهُ قَوِيًّا على إحداث ما يريده. عَزِيزاً غالبا على كل شيء.
[سورة الأحزاب (33): آية 26]
وَ أَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ ظاهروا الأحزاب. مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ يعني قريظة. مِنْ صَياصِيهِمْ من حصونهم جمع صيصية و هي ما يتحصن به و لذلك يقال لقرن الثور و الظبي و شوكة الديك. وَ قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ الخوف و قرئ بالضم. فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَ تَأْسِرُونَ فَرِيقاً و قرئ بضم السين
روي: أن جبريل أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليهما و سلّم صبيحة الليلة الّتي انهزم فيها الأحزاب فقال: أ تنزع لأمتك و الملائكة لم يضعوا السلاح إن اللّه يأمرك بالسير إلى بني قريظة و أنا عامد إليهم فأذن في الناس أن لا يصلوا العصر إلا في بني قريظة، فحاصرهم إحدى و عشرين أو خمسا و عشرين حتى جهدهم الحصار فقال لهم: تنزلون على
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 230
حكمي فأبوا فقال: على حكم سعد بن معاذ فرضوا به، فحكم سعد بقتل مقاتليهم و سبي ذراريهم و نسائهم، فكبر النبي عليه الصلاة و السلام فقال: لقد حكمت بحكم اللّه من فوق سبعة أرقعة، فقتل منهم ستمائة أو أكثر و أسر منهم سبعمائة.
[سورة الأحزاب (33): آية 27]
وَ أَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ مزارعهم. وَ دِيارَهُمْ حصونهم. وَ أَمْوالَهُمْ نقودهم و مواشيهم و أثاثهم.
روي أنه عليه الصلاة و السلام جعل عقارهم للمهاجرين فتكلم فيه الأنصار فقال: إنكم في منازلكم و قال عمر رضي اللّه عنه: أما تخمس كما خمست يوم بدر فقال: لا إنما جعلت هذه لي طعمة.
وَ أَرْضاً لَمْ تَطَؤُها كفارس و الروم، و قيل خيبر و قيل كل أرض تفتح إلى يوم القيامة. وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً فيقدر على ذلك.
[سورة الأحزاب (33): الآيات 28 الى 29]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا السعة و التنعم فيها. وَ زِينَتَها زخارفها.
فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَ أعطكن المتعة. وَ أُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا طلاقا من غير ضرار و بدعة.
روي أنهن سألنه ثياب الزينة و زيادة النفقة فنزلت. فبدأ بعائشة رضي اللّه عنها فخيرها فاختارت اللّه و رسوله، ثم اختارت الباقيات اختيارها فشكر اللّه لهن ذلك فأنزل
لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ و تعليق التسريح بإرادتهن الدنيا و جعلها قسيما لإرادتهن الرسول يدل على أن المخيرة إذا اختارت زوجها لم تطلق خلافا لزيد و الحسن و مالك و إحدى الروايتين عن علي، و يؤيده
قول عائشة رضي اللّه عنها «خيرنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم فاخترناه».
و لم يعده طلاقا و تقديم التمتع على التسريح المسبب عنه من الكرم و حسن الخلق. قيل لأن الفرقة كانت بإرادتهن كاختيار المخيرة نفسها فإنه طلقة رجعية عندنا و بائنة عند الحنفية، و اختلف في وجوبه للمدخول بها و ليس فيه ما يدل عليه، و قرئ «أمتعكن و أسرحكن» بالرفع على الاستئناف.
وَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ الدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً يستحقر دونه الدنيا و زينتها و من للتبيين لأنهن كلهن كن محسنات.
[سورة الأحزاب (33): الآيات 30 الى 31]
يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ بكبيرة. مُبَيِّنَةٍ ظاهر قبحها على قراءة ابن كثير و أبي بكر و الباقون بكسر الياء. يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ ضعفي عذاب غيرهن أي مثليه، لأن الذنب منهن أقبح فإن زيادة قبحه تتبع زيادة فضل المذنب و النعمة عليه و لذلك جعل حد الحر ضعفي حد العبد، و عوتب الأنبياء بما لا يعاتب به غيرهم و قرأ البصريان «يضعف» على البناء للمفعول، و رفع الْعَذابُ و ابن كثير و ابن عامر «نضعف» بالنون و بناء الفاعل و نصب الْعَذابُ . وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً لا يمنعه عن التضعيف كونهن نساء النبي و كيف و هو سببه.
وَ مَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَ و من يدم على الطاعة. لِلَّهِ وَ رَسُولِهِ و لعل ذكر اللّه للتعظيم أو لقوله: وَ تَعْمَلْ
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 231
صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ مرة على الطاعة و مرة على طلبهن رضا النبي عليه الصلاة و السلام بالقناعة و حسن المعاشرة. و قرأ حمزة و الكسائي «و يعمل» بالياء حملا على لفظ «من و يؤتها» على أن فيه ضمير اسم اللّه، وَ أَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً في الجنة زيادة على أجرها.
[سورة الأحزاب (33): آية 32]
يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ أصل أحد و حد بمعنى الواحد، ثم وضع في النفي العام مستويا فيه المذكر و المؤنث و الواحد و الكثير، و المعنى لستن كجماعة واحدة من جماعات النساء في الفضل. إِنِ اتَّقَيْتُنَ مخالفة حكم اللّه و رضا رسوله. فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فلا تجئن بقولكن خاضعا لينا مثل قول المريبات. فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ فجور، و قرئ بالجزم عطفا على محل فعل النهي على أنه نهي مريض القلب عن الطمع عقيب نهيهن عن الخضوع بالقول. وَ قُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً حسنا بعيدا عن الريبة.
[سورة الأحزاب (33): آية 33]
وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ من وقر يقر و قارا أو من قر يقر حذفت الأولى من راءي اقررن و نقلت كسرتها إلى القاف، فاستغني عن همزة الوصل و يؤيده قراءة نافع و عاصم بالفتح من قررت أقر و هو لغة فيه، و يحتمل أن يكون من قار يقار إذا اجتمع. وَ لا تَبَرَّجْنَ و لا تتبخترن في مشيكن. تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى تبرجا مثل تبرج النساء في أيام الجاهلية القديمة، و قيل هي ما بين آدم و نوح، و قيل الزمان الّذي ولد فيه إبراهيم عليه الصلاة و السلام كانت المرأة تلبس درعا من اللؤلؤ فتمشي وسط الطريق تعرض نفسها على الرجال و الجاهلية الأخرى ما بين عيسى و محمّد عليهما الصلاة و السلام، و قيل الجاهلية الأولى جاهلية الكفر قبل الإسلام، و الجاهلية الأخرى جاهلية الفسوق في الإسلام و يعضده
قوله عليه الصلاة و السلام لأبي الدرداء رضي اللّه عنه «إن فيك جاهلية، قال جاهلية كفر أو إسلام قال بل جاهلية كفر».
وَ أَقِمْنَ الصَّلاةَ وَ آتِينَ الزَّكاةَ وَ أَطِعْنَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ في سائر ما أمركن به و نهاكن عنه. إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ الذنب المدنس لعرضكم و هو تعليل لأمرهن و نهيهن على الاستئناف و لذلك عمم الحكم. أَهْلَ الْبَيْتِ نصب على النداء أو المدح.
وَ يُطَهِّرَكُمْ عن المعاصي. تَطْهِيراً و استعارة الرجس للمعصية و الترشيح بالتطهير للتنفير عنها، و تخصيص الشيعة أهل البيت بفاطمة و علي و ابنيهما رضي اللّه عنهم لما
روي «أنه عليه الصلاة و السلام خرج ذات غدوة و عليه مرط مرجل من شعر أسود فجلس فأتت فاطمة رضي اللّه عنها فأدخلها فيه، ثم جاء علي فأدخله فيه ثم جاء الحسن و الحسين رضي اللّه عنهما فأدخلهما فيه ثم قال: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ »،
و الاحتجاج بذلك على عصمتهم و كون إجماعهم حجة ضعيف لأن التخصيص بهم لا يناسب ما قبل الآية و ما بعدها، و الحديث يقتضي أنهم من أهل البيت لا أنه ليس غيرهم.
[سورة الأحزاب (33): آية 34]
وَ اذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَ الْحِكْمَةِ من الكتاب الجامع بين الأمرين و هو تذكير بما أنعم اللّه عليهن من حيث جعلهن أهل بيت النبوة و مهبط الوحي و ما شاهدن من برحاء الوحي مما يوجب قوة الإيمان و الحرص على الطاعة حثا على الانتهاء و الائتمار فيما كلفن به. إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً يعلم و يدبر ما يصلح في الدين و لذلك خيركن و وعظكن، أو يعلم من يصلح لنبوته و من يصلح أن يكون أهل بيته.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 232
[سورة الأحزاب (33): آية 35]
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَ الْمُسْلِماتِ الداخلين في السلم المنقادين لحكم اللّه. وَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ المصدقين بما يجب أن يصدق به. وَ الْقانِتِينَ وَ الْقانِتاتِ المداومين على الطاعة. وَ الصَّادِقِينَ وَ الصَّادِقاتِ في القول و العمل وَ الصَّابِرِينَ وَ الصَّابِراتِ على الطاعات و عن المعاصي. وَ الْخاشِعِينَ وَ الْخاشِعاتِ المتواضعين للّه بقلوبهم و جوارحهم. وَ الْمُتَصَدِّقِينَ وَ الْمُتَصَدِّقاتِ بما وجب في مالهم. وَ الصَّائِمِينَ وَ الصَّائِماتِ الصوم المفروض. وَ الْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَ الْحافِظاتِ عن الحرام. وَ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَ الذَّاكِراتِ بقلوبهم و ألسنتهم. أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً لما اقترفوا من الصغائر لأنهن مكفرات. وَ أَجْراً عَظِيماً على طاعتهم، و الآية وعد لهن و لأمثالهم على الطاعة و التدرع بهذه الخصال.
روي: أن أزواج النبي صلى اللّه عليه و سلّم قلن: يا رسول اللّه ذكر اللّه الرجال في القرآن بخير فما فينا خير نذكر به فنزلت.
و قيل: لما نزل فيهن ما نزل قال نساء المسلمين فما نزل فينا شيء فنزلت. و عطف الإناث على الذكور لاختلاف الجنسين و هو ضروري، و عطف الزوجين على الزوجين لتغاير الوصفين فليس بضروري و لذلك ترك في قوله مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ و فائدته الدلالة على أن إعداد المعد لهم للجمع بين هذه الصفات.
[سورة الأحزاب (33): آية 36]
وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ ما صح له. إِذا قَضَى اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أي قضى رسول اللّه، و ذكر اللّه لتعظيم أمره و الإشعار بأن قضاءه قضاء اللّه، لأنه نزل في زينب بنت جحش بنت عمته أميمة بنت عبد المطلب خطبها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم لزيد بن حارثة فأبت هي و أخوها عبد اللّه. و قيل في أم كلثوم بنت عقبة و هبت نفسها للنبي صلّى اللّه عليه و سلّم فزوجها من زيد. أن تكون لهم الخيرة من أمرهم أن يختاروا من أمرهم شيئا بل يجب عليهم أن يجعلوا اختيارهم تبعا لاختيار اللّه و رسوله، و الخيرة ما يتخير و جمع الضمير الأول لعموم مؤمن و مؤمنة من حيث إنهما في سياق النفي، و جمع الثاني للتعظيم. و قرأ الكوفيون و هشام «يَكُونَ» بالياء. وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً بين الانحراف عن الصواب.
[سورة الأحزاب (33): آية 37]
وَ إِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بتوفيقه للإسلام و توفيقك لعتقه و اختصاصه. وَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ بما وفقك اللّه فيه و هو زيد بن حارثة. أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ زينب. و ذلك:
أنه عليه الصلاة و السلام أبصرها بعد ما أنكحها إياه فوقعت في نفسه فقال سبحان اللّه مقلب القلوب، و سمعت زينب بالتسبيحة فذكرت لزيد ففطن لذلك و وقع في نفسه كراهة صحبتها، فأتى النبي عليه الصلاة و السلام و قال: أريد أن أفارق صاحبتي، فقال: ما لك أ رابك منها شيء، فقال: لا و اللّه ما رأيت منها إلا خيرا و لكنها لشرفها تتعظم علي، فقال له:
أمسك عليك زوجك. وَ اتَّقِ اللَّهَ في أمرها فلا تطلقها ضرارا و تعللا بتكبرها.
وَ تُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ و هو نكاحها إن طلقها أو إرادة طلاقها. وَ تَخْشَى النَّاسَ تعييرهم إياك به. وَ اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ إن
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 233
كان فيه ما يخشى، و الواو للحال، و ليست المعاتبة على الإخفاء وحده فإنه حسن بل على الإخفاء مخافة قالة الناس و إظهار ما ينافي إضماره، فإن الأولى في أمثال ذلك أن يصمت أو يفوض الأمر إلى ربه. فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً حاجة بحيث ملها و لم يبق له فيها حاجة و طلقها و انقضت عدتها. زَوَّجْناكَها و قيل قضاء الوطر كناية عن الطلاق مثل لا حاجة لي فيك. و قرئ «زوجتكها»، و المعنى أنه أمر بتزويجها منه أو جعلها زوجته بلا واسطة عقد. و يؤيده أنها كانت تقول لسائر نساء النبي صلّى اللّه عليه و سلّم: إن اللّه تعالى تولى إنكاحي و أنتن زوجكن أولياؤكن. و قيل كان زيد السفير في خطبتها و ذلك ابتلاء عظيم و شاهد بين على قوة إيمانه. لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً علة للتزويج، و هو دليل على أن حكمه و حكم الأمة واحد إلا ما خصه الدليل وَ كانَ أَمْرُ اللَّهِ أمره الّذي يريده مَفْعُولًا مكونا لا محالة كما كان تزويج زينب.
[سورة الأحزاب (33): الآيات 38 الى 39]
ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ قسم له و قدر من قولهم فرض له في الديوان، و منه فروض العسكر لأرزاقهم. سُنَّةَ اللَّهِ سن ذلك سنة. فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ من الأنبياء، و هو نفي الحرج عنهم فيما أباح لهم. وَ كانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً قضاء مقضيا و حكما مبتوتا.
الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ صفة للذين خلوا أو مدح لهم منصوب أو مرفوع، و قرئ «رسالة اللّه».
وَ يَخْشَوْنَهُ وَ لا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ تعريض بعد تصريح. وَ كَفى بِاللَّهِ حَسِيباً كافيا للمخاوف أو محاسبا فينبغي أن لا يخشى إلا منه.
[سورة الأحزاب (33): آية 40]
ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ على الحقيقة فيثبت بينه و بينه ما بين الوالد و ولده من حرمة المصاهرة و غيرها، و لا ينتقض عمومه بكونه أبا للطاهر و القاسم و إبراهيم لأنهم لم يبلغوا مبلغ الرجال و لو بلغوا كانوا رجاله لا رجالهم. وَ لكِنْ رَسُولَ اللَّهِ و كل رسول أبو أمته لا مطلقا بل من حيث إنه شفيق ناصح لهم، واجب التوقير و الطاعة عليهم و زيد منهم ليس بينه و بينه ولادة. و قرئ «رسول اللّه» بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف و لكن بالتشديد على حذف الخبر أي وَ لكِنْ رَسُولَ اللَّهِ من عرفتم أنه لم يعش له ولد ذكر.
وَ خاتَمَ النَّبِيِّينَ و آخرهم الّذي ختمهم أو ختموا به على قراءة عاصم بالفتح، و لو كان له ابن بالغ لاق بمنصبه أن يكون نبيا كما
قال عليه الصلاة و السلام في إبراهيم حين توفي: لو عاش لكان نبيا
، و لا يقدح فيه نزول عيسى بعده لأنه إذا نزل كان على دينه، مع أن المراد منه أنه آخر من نبىء. وَ كانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً فيعلم من يليق بأن يختم به النبوة و كيف ينبغي شأنه.
[سورة الأحزاب (33): الآيات 41 الى 42]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً يغلب الأوقات و يعم الأنواع بما هو أهله من التقديس و التحميد و التهليل و التمجيد.