کتابخانه تفاسیر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 243
و ما يدلان عليه. لَآيَةً لدلالة. لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ راجع إلى ربه فإنه يكون كثير التأمل في أمره.
[سورة سبإ (34): الآيات 10 الى 11]
وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا أي على سائر الأنبياء و هو ما ذكر بعد، أو على سائر الناس فيندرج فيه النبوة و الكتاب و الملك و الصوت الحسن. يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ رجعي معه التسبيح أو النوحة على الذنب، و ذلك إما بخلق صوت مثل صوته فيها أو بحملها إياه على التسبيح إذا تأمل ما فيها، أو سيري معه حيث سار. و قرئ «أوبي» من الأوب أي ارجعي في التسبيح كلما رجع فيه، و هو بدل من فَضْلًا أو من آتَيْنا بإضمار قولنا أو قلنا. وَ الطَّيْرَ عطف على محل الجبال و يؤيده القراءة بالرفع عطفا على لفظها تشبيها للحركة البنائية العارضة بالحركة الإعرابية أو على فَضْلًا ، أو مفعول معه ل أَوِّبِي و على هذا يجوز أن يكون الرفع بالعطف على ضميره و كان الأصل: و لقد آتينا داود منا فضلا تأويب الجبال و الطير، فبدل بهذا النظم لما فيه من الفخامة و الدلالة على عظم شأنه و كبرياء سلطانه، حيث جعل الجبال و الطيور كالعقلاء المنقادين لأمره في نفاذ مشيئته فيها. وَ أَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ جعلناه في يده كالشمع يصرفه كيف يشاء من غير إحماء و طرق بآلاته أو بقوته.
أَنِ اعْمَلْ أمرناه أن اعمل ف أَنِ مفسرة أو مصدرية. سابِغاتٍ دروعا واسعات، و قرئ «صابغات» و هو أول من اتخذها. وَ قَدِّرْ فِي السَّرْدِ و قدر في نسجها بحيث يتناسب حلقها، أو قدر مساميرها فلا تجعلها دقاقا فتقلق و لا غلاظا فتنخرق.
ورد بأن دروعه لم تكن مسمرة
و يؤيده قوله: وَ أَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ .
وَ اعْمَلُوا صالِحاً الضمير فيه لداود و أهله. إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فأجازيكم عليه.
[سورة سبإ (34): الآيات 12 الى 13]
وَ لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ أي و سخرنا له الريح، و قرئ «الريح» بالرفع أي و لسليمان الريح مسخرة و قرئ «الرياح». غُدُوُّها شَهْرٌ وَ رَواحُها شَهْرٌ جريها بالغداة مسيرة شهر و بالعشي كذلك، و قرئ «غدوتها» «و روحتها». وَ أَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ النحاس المذاب أساله له من معدنه فنبع منه نبوع الماء من الينبوع، و لذلك سماه عينا و كان ذلك باليمن. وَ مِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ عطف على الرِّيحَ وَ مِنَ الْجِنِ حال مقدمة، أو جملة مِنَ مبتدأ و خبر. بِإِذْنِ رَبِّهِ بأمره. وَ مَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ و من يعدل منهم. عَنْ أَمْرِنا عما أمرناه من طاعة سليمان، و قرئ «يزغ» من أزاغه. نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ عذاب الآخرة.
يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ قصور حصينة و مساكن شريفة سميت بها لأنها يذب عنها و يحارب عليها. وَ تَماثِيلَ و صورا هي تماثيل للملائكة و الأنبياء على ما اعتادوا من العبادات ليراها الناس فيعبدوا نحو عبادتهم و حرمة التصاوير شرع مجدد.
روي أنهم عملوا له أسدين في أسفل كرسيه و نسرين فوقه، فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان له ذراعيهما و إذا قعد أظله النسران بأجنحتهما.
وَ جِفانٍ و صحاف. كَالْجَوابِ كالحياض الكبار جمع جابية من الجباية و هي من الصفات الغالبة كالدابة. وَ قُدُورٍ راسِياتٍ ثابتات على الأثافي لا تنزل عنها لعظمها. اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً حكاية عما قيل لهم و شُكْراً نصب على العلة أي:
اعملوا له و اعبدوه شكرا، أو المصدر لأن العمل له شكرا أو الوصف له أو الحال أو المفعول به. وَ قَلِيلٌ مِنْ
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 244
عِبادِيَ الشَّكُورُ المتوفر على أداء الشكر بقلبه و لسانه و جوارحه أكثر أوقاته و مع ذلك لا يوفى حقه، لأن توفيقه الشكر نعمة تستدعي شكرا آخر لا إلى نهايته، و لذلك قيل الشكور من يرى عجزه عن الشكر.
[سورة سبإ (34): الآيات 14 الى 15]
فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ أي على سليمان. ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ ما دل الجن و قيل آله. إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ أي الأرضة أضيفت إلى فعلها، و قرئ بفتح الراء و هو تأثر الخشبة من فعلها يقال: أرضت الأرضة الخشبة أرضا فأرضت أرضا مثل أكلت القوادح الأسنان أكلا فأكلت أكلا. تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ عصاه من نسأت البعير إذا طردته لأنها يطرد بها، و قرئ بفتح الميم و تخفيف الهمزة قلبا و حذفا على غير قياس إذ القياس إخراجها بين بين، و «منساءته» على مفعالة كميضاءة في ميضأة و «من سأته» أي طرف عصاه مستعار من سأت القوس، و فيه لغتان كما في قحة و قحة، و قرأ نافع و أبو عمرو مِنْسَأَتَهُ بألف بدلا من الهمزة و ابن ذكوان بهمزة ساكنة و حمزة إذا وقف جعلها بين بين. فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُ علمت الجن بعد التباس الأمر عليهم.
أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ أنهم لو كانوا يعلمون الغيب كما يزعمون لعلموا موته حينما وقع فلم يلبثوا بعده حولا في تسخيره إلى أن خرّ، أو ظهرت الجن و أن بما في حيزه بدل منه أي ظهر أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب. و ذلك أن داود أسس بيت المقدس في موضع فسطاط موسى عليهما الصلاة و السلام فمات قبل تمامه، فوصى به إلى سليمان عليه السلام فاستعمل الجن فيه فلم يتم بعد إذ دنا أجله و أعلم به، فأراد أن يعمي عليهم موته ليتموه فدعاهم فبنوا عليه صرحا من قوارير ليس له باب، فقام يصلي متكئا على عصاه فقبض روحه و هو متكئ عليها، فبقي كذلك حتى أكلتها الأرضة فخرّ ثم فتحوا عنه و أرادوا أن يعرفوا وقت موته، فوضعوا الأرضة على العصا فأكلت يوما و ليلة مقدارا فحسبوا على ذلك فوجدوه قد مات منذ سنة، و كان عمره ثلاثا و خمسين سنة و ملك و هو ابن ثلاثة عشرة سنة، و ابتدأ عمارة بيت المقدس لأربع مضين من ملكه. لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ لأولاد سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، و منع الصرف عنه ابن كثير و أبو عمرو لأنه صار اسم القبيلة، و عن ابن كثير قلب همزته ألفا و لعله أخرجه بين بين فلم يؤده الراوي كما وجب. في مساكنهم في مواضع سكناهم، و هي باليمن يقال لها مأرب، بينها و بين صنعاء مسيرة ثلاث، و قرأ حمزة و حفص بالإفراد و الفتح، و الكسائي بالكسر حملا على ما شذ من القياس كالمسجد و المطلع. آيَةٌ علامة دالة على وجود الصانع المختار، و أنه قادر على ما يشاء من الأمور العجيبة مجاز للمحسن و المسيء معاضدة للبرهان السابق كما في قصتي داود و سليمان عليهما السلام. جَنَّتانِ بدل من آيَةٌ أو خبر محذوف تقديره الآية جنتان، و قرئ بالنصب على المدح و المراد جماعتان من البساتين.
عَنْ يَمِينٍ وَ شِمالٍ جماعة عن يمين بلدهم و جماعة عن شماله كل واحدة منهما في تقاربها و تضامهما كأنها جنة واحدة، أو بستانا كل رجل منهم عن يمين مسكنه و عن شماله. كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَ اشْكُرُوا لَهُ حكاية لما قال لهم نبيهم، أو لسان الحال أو دلالة بأنهم كانوا أحقاء بأن يقال لهم ذلك. بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَ رَبٌّ غَفُورٌ استئناف للدلالة على موجب الشكر، أي هذه البلدة الّتي فيها رزقكم بلدة طيبة و ربكم الّذي رزقكم و طلب شكركم رب غفور فرطات من يشكره. و قرئ الكل بالنصب على المدح. قيل كانت أخصب البلاد و أطيبها لم يكن فيها عاهة و لا هامة.
[سورة سبإ (34): الآيات 16 الى 17]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 245
فَأَعْرَضُوا عن الشكر. فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ سيل الأمر العرم أي الصعب من عرم الرجل فهو عارم، و عرم إذا شرس خلقه و صعب، أو المطر الشديد أو الجرذ، أضاف إليه ال سَيْلَ لأنه نقب عليهم سكرا ضربته لهم بلقيس فحقنت به ماء الشجر و تركت فيه ثقبا على مقدار ما يحتاجون إليه، أو المسناة الّتي عقدت سكرا على أنه جمع عرمة و هي الحجارة المركومة، و قيل اسم واد جاء السيل من قبله و كان ذلك بين عيسى و محمّد عليهما الصلاة و السلام. وَ بَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ ثمر بشع فإن الخمط كل نبت أخذ طعما من مرارة، و قيل الأراك أو كل شجر لا شوك له، و التقدير أكل أكل خمط فحذف المضاف و أقيم المضاف إليه مقامه في كونه بدلا، أو عطف بيان. وَ أَثْلٍ وَ شَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ معطوفان على أُكُلٍ لا على خَمْطٍ ، فإن الأثل هو الطرفاء و لا ثمر له، و قرئا بالنصب عطفا على جَنَّتَيْنِ و وصف السدر بالقلة فإن جناه و هو النبق مما يطيب أكله و لذلك يغرس في البساتين، و تسمية البدل جَنَّتَيْنِ للمشاكلة و التهكم. و قرأ أبو عمرو «ذواتي أكل» بغير تنوين اللام و قرأ الحرميان بتخفيف أُكُلٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا بكفرانهم النعمة أو بكفرهم بالرسل، إذ روي أنه بعث إليهم ثلاثة عشر نبيا فكذبوهم، و تقديم المفعول للتعظيم لا للتخصيص. و هل يجازى إلّا الكفور و هل يجازى بمثل ما فعلنا بهم إلا البليغ في الكفران أو الكفر. و قرأ حمزة و الكسائي و يعقوب و حفص نُجازِي بالنون و الْكَفُورَ بالنصب.
[سورة سبإ (34): الآيات 18 الى 19]
وَ جَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها بالتوسعة على أهلها و هي قرى الشأم. قُرىً ظاهِرَةً متواصلة يظهر بعضها لبعض، أو راكبة متن الطريق ظاهرة لأبناء السبيل. وَ قَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ بحيث يقيل الغادي في قرية و يبيت الرائح في قرية إلى أن يبلغ الشام. سِيرُوا فِيها على إرادة القول بلسان الحال أو المقال. لَيالِيَ وَ أَيَّاماً متى شئتم من ليل أو نهار. آمِنِينَ لا يختلف الأمن فيها باختلاف الأوقات، أو سيروا آمنين و إن طالت مدة سفركم فيها، أو سيروا فيها ليالي أعماركم و أيامها لا تلقون فيها إلا الأمن.
فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا أشروا النعمة و ملوا العافية كبني إسرائيل فسألوا اللّه أن يجعل بينهم و بين الشأم مفاوز ليتطاولوا فيها على الفقراء بركوب الرواحل و تزود الأزواد، فأجابهم اللّه بتخريب القرى المتوسطة.
و قرأ ابن كثير و أبو عمرو و هشام «بعد»، و يعقوب رَبَّنا باعِدْ بلفظ الخبر على أنه شكوى منهم لبعد سفرهم إفراطا في الترفه و عدم الاعتداد بما أنعم اللّه عليهم فيه، و مثله قراءة من قرأ «ربنا بعد» أو «بعد» على النداء و إسناد الفعل إلى بَيْنَ . وَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ حيث بطروا النعمة و لم يعتدوا بها. فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ يتحدث الناس بهم تعجبا و ضرب مثل فيقولون: تفرقوا أيدي سبأ. وَ مَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ففرقناهم غاية التفريق حتى لحق غسان منهم بالشأم، و أنمار بيثرب، و جذام بتهامة، و الأزد بعمان. إِنَّ فِي ذلِكَ فيما ذكر. لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ عن المعاصي. شَكُورٍ على النعم.
[سورة سبإ (34): الآيات 20 الى 21]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 246
وَ لَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ أي صدق في ظنه أو صدق بظن ظنه مثل فعلته جهدك، و يجوز أن يعدى الفعل إليه بنفسه كما في: صدق وعده. لأنه نوع من القول، و شدده الكوفيون بمعنى حقق ظنه أو وجده صادقا. و قرئ بنصب إبليس و رفع الظن مع التشديد بمعنى وجده ظنه صادقا، و التخفيف بمعنى قال له ظنه الصدق حين خيله إغواءهم، و برفعهما و التخفيف على الأبدان و ذلك إما ظنه بسبإ حين رأى انهماكهم في الشهوات أو ببني آدم حين رأى أباهم النبي ضعيف العزم، أو ما ركب فيهم من الشهوة و الغضب، أو سمع من الملائكة قولهم أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها فقال: لَأُضِلَّنَّهُمْ و لَأُغْوِيَنَّهُمْ* .
فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إلا فريقا هم المؤمنون لم يتبعوه، و تقليلهم بالإضافة إلى الكفار، أو إلا فريقا من فرق المؤمنين لم يتبعوه في العصيان و هم المخلصون.
وَ ما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ تسلط و استيلاء بالوسوسة و الاستغواء. إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍ إلا ليتعلق علمنا بذلك تعلقا يترتب عليه الجزاء، أو ليتميز المؤمن من الشاك، أو ليؤمن من قدر إيمانه و يشك من قدر ضلاله، و المراد من حصول العلم حصول متعلقه مبالغة، و في نظم الصلتين نكتة لا تخفى. وَ رَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ محافظ و الزنتان متآخيتان.
[سورة سبإ (34): الآيات 22 الى 23]
قُلِ للمشركين. ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أي زعمتموهم آلهة، و هما مفعولا زعم حذف الأول لطول الموصول بصلته و الثاني لقيام صفته مقامه، و لا يجوز أن يكون هو مفعوله الثاني لأنه لا يلتئم مع الضمير كلاما و لا لا يَمْلِكُونَ لأنهم لا يزعمونه. مِنْ دُونِ اللَّهِ و المعنى ادعوهم فيما يهمكم من جلب نفع أو دفع ضر لعلهم يستجيبون لكم إن صح دعواكم، ثم أجاب عنهم إشعارا بتعين الجواب و أنه لا يقبل المكابرة فقال: لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ من خير أو شر. فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ في أمر ما و ذكرهما للعموم العرفي، أو لأن آلهتهم بعضها سماوية كالملائكة و الكواكب و بعضها أرضية كالأصنام، أو لأن الأسباب القريبة للشر و الخير سماوية و أرضية و الجملة استئناف لبيان حالهم. وَ ما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ من شركة لا خلقا و لا ملكا. وَ ما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ يعينه على تدبير أمرهما.
وَ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ فلا ينفعهم شفاعة أيضا كما يزعمون إذ لا تنفع الشفاعة عند اللّه. إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ أذن له أن يشفع، أو أذن أن يشفع له لعلو شأنه و لم يثبت ذلك، و اللام على الأول كاللام في قولك:
الكرم لزيد و على الثاني كاللام في قولك: جئتك لزيد، و قرأ أبو عمرو و حمزة و الكسائي بضم الهمزة. حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ غاية لمفهوم الكلام من أن ثم توقفا و انتظارا للإذن أي: يتربصون فزعين حتى إذا كشف الفزع عن قلوب الشافعين و المشفوع لهم بالإذن، و قيل الضمير للملائكة و قد تقدم ذكرهم ضمنا. و قرأ ابن عامر و يعقوب فُزِّعَ على البناء للفاعل. و قرئ «فرغ» أي نفي الوجل من فرغ الزاد إذا فني. قالُوا قال بعضهم لبعض. ما ذا قالَ رَبُّكُمْ في الشفاعة. قالُوا الْحَقَ قالوا قال القول الحق و هو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى و هم المؤمنون، و قرئ بالرفع أي مقوله الحق. وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ذو العلو و الكبرياء ليس لملك و لا نبي من الأنبياء أن يتكلم ذلك اليوم إلا بإذنه.
[سورة سبإ (34): آية 24]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 247
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يريد به تقرير قوله لا يَمْلِكُونَ . قُلِ اللَّهُ إذ لا جواب سواه، و فيه إشعار بأنهم إن سكتوا أو تلعثموا في الجواب مخافة الإلزام فهم مقرون به بقلوبهم. وَ إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي و إن أحد الفريقين من الموحدين المتوحد بالرزق و القدرة الذاتية بالعبادة، و المشركين به الجماد النازل في أدنى المراتب الإمكانية لعلى أحد الأمرين من الهدى و الضلال المبينين، و هو بعد ما تقدم من التقرير البليغ الدال على من هو على الهدى و من هو في الضلال أبلغ من التصريح لأنه في صورة الإنصاف المسكت للخصم المشاغب، و نظيره قول حسان:
أ تهجوه و لست له بكفء
فشرّكما لخير كما الفداء
و قيل إنه على اللف و النشر و فيه نظر، و اختلاف الحرفين لأن الهادي كمن صعد منارا ينظر الأشياء و يتطلع عليها أو ركب جوادا يركضه حيث يشاء، و الضال كأنه منغمس في ظلام مرتبك لا يرى شيئا أو محبوس في مطمورة لا يستطيع أن يتفصى منها.
[سورة سبإ (34): الآيات 25 الى 26]
قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَ لا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ هذا أدخل في الإنصاف و أبلغ في الإخبات حيث أسند الإجرام إلى أنفسهم و العمل إلى المخاطبين.
قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا يوم القيامة. ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِ يحكم و يفصل بأن يدخل المحقين الجنة و المبطلين النار. وَ هُوَ الْفَتَّاحُ الحاكم الفاصل في القضايا المنغلقة. الْعَلِيمُ بما ينبغي أن يقضى به.
[سورة سبإ (34): الآيات 27 الى 28]
قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ لأرى بأي صفة ألحقتموهم باللّه في استحقاق العبادة، و هو استفسار عن شبهتهم بعد إلزام الحجة عليهم زيادة في تبكيتهم. كَلَّا ردع لهم عن المشاركة بعد إبطال المقايسة.
بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الموصوف بالغلبة و كمال القدرة و الحكمة، و هؤلاء الملحقون به متسمون بالذلة متأبية عن قبول العلم و القدرة رأسا، و الضمير للّه أو للشأن.
وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ إلا إرسالة عامة لهم من الكف فإنها إذا عمتهم فقد كفتهم أن يخرج منها أحد منهم، أو إلا جامعا لهم في الإبلاغ فهي حال من الكاف و التاء للمبالغة، و لا يجوز جعلها حالا من الناس على المختار. بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ فيحملهم جهلهم على مخالفتك.
[سورة سبإ (34): الآيات 29 الى 30]
وَ يَقُولُونَ من فرط جهلهم. مَتى هذَا الْوَعْدُ يعنون المبشر به و المنذر عنه أو الموعود بقوله:
يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا . إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ يخاطبون به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و المؤمنين.
قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ وعد يوم أو زمان وعد، و إضافته إلى اليوم للتبيين و يؤيده أنه قرئ «يوم» على البدل، و قرئ «يوما» بإضمار أعني. لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَ لا تَسْتَقْدِمُونَ إذا فاجأكم و هو جواب تهديد جاء مطابقا لما قصدوه بسؤالهم من التعنت و الإنكار.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 248
[سورة سبإ (34): الآيات 31 الى 32]
وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَ لا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ و لا بما تقدمه من الكتب الدالة على النعت. قيل إن كفار مكة سألوا أهل الكتاب عن الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم فأخبروهم أنهم يجدون نعته في كتبهم فغضبوا و قالوا ذلك، و قيل الّذي بين يديه يوم القيامة. وَ لَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي في موضع المحاسبة. يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يتحاورون و يتراجعون القول. يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا يقول الأتباع. لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا للرؤساء. لَوْ لا أَنْتُمْ لولا إضلالكم و صدكم إيانا عن الإيمان. لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ باتباع الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم.
قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَ نَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ أنكروا أنهم كانوا صادّين لهم عن الإيمان و أثبتوا أنهم هم الذين صدوا أنفسهم حيث أعرضوا عن الهدى و آثروا التقليد عليه، و لذلك بنوا الإنكار على الإسم.
[سورة سبإ (34): آية 33]
وَ قالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ إضراب عن إضرابهم أي: لم يكن إجرامنا الصاد بل مكركم لنا دائبا ليلا و نهارا حتى أعورتم علينا رأينا. إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَ نَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً و العاطف يعطفه على كلامهم الأول و إضافة ال مَكْرُ إلى الظرف على الاتساع، و قرئ «مكر الليل» بالنصب على المصدر و «مكر الليل» بالتنوين و نصب الظرف و «مكر الليل» من الكرور. وَ أَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ و أضمر الفريقان الندامة على الضلال و الإضلال و أخفاها كل عن صاحبه مخافة التعيير، أو أظهروها فإنه من الأضداد إذ الهمزة تصلح للإثبات و السلب كما في أشكيته. وَ جَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا أي في أعناقهم فجاء بالظاهر تنويها بذمهم و إشعارا بموجب أغلالهم. هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي لا يفعل بهم ما يفعل إلا جزاء على أعمالهم، و تعدية يجزى إما لتضمين معنى يقضى أو بنزع الخافض.
[سورة سبإ (34): الآيات 34 الى 36]
وَ ما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها تسلية لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم مما مني به من قومه، و تخصيص المتنعمين بالتكذيب لأن الداعي المعظم إليه التكبر و المفاخرة بزخارف الدنيا و الانهماك في الشهوات و الاستهانة بمن لم يحظ منها، و لذلك ضموا التهكم و المفاخرة إلى التكذيب فقالوا: إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ على مقابلة الجمع بالجمع.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 249
وَ قالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَ أَوْلاداً فنحن أولى بما تدعونه إن أمكن. وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ إما لأن العذاب لا يكون، أو لأنه أكرمنا بذلك فلا يهيننا بالعذاب.
قُلْ ردا لحسبانهم. إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ و لذلك يختلف فيه الأشخاص المتماثلة في الخصائص و الصفات، و لو كان ذلك لكرامة و هوان يوجبانه لم يكن بمشيئته. وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ فيظنون أن كثرة الأموال و الأولاد للشرف و الكرامة و كثيرا ما يكون للاستدراج كما قال:
[سورة سبإ (34): الآيات 37 الى 38]
وَ ما أَمْوالُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى قربة و الّتي إما لأن المراد و ما جماعة أموالكم و أولادكم، أو لأنها صفة محذوف كالتقوى و الخصلة. و قرئ «بالذي» أي بالشيء الّذي يقربكم. إِلَّا مَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً استثناء من مفعول تُقَرِّبُكُمْ ، أي الأموال و الأولاد لا تقرب أحدا إلا المؤمن الصالح الّذي ينفق ماله في سبيل اللّه و يعلم ولده الخير و يربيه على الصلاح، أو من أَمْوالُكُمْ و أَوْلادُكُمْ على حذف المضاف. فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ أن يجازوا الضعف إلى عشر فما فوقه، و الإضافة إضافة المصدر إلى المفعول، و قرئ بالإعمال على الأصل و عن يعقوب رفعهما على إبدال الضعف، و نصب الجزاء على التمييز أو المصدر لفعله الّذي دل عليه لهم. بِما عَمِلُوا وَ هُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ من المكاره، و قرئ بفتح الراء و سكونها، و قرأ حمزة «في الغرفة» على إرادة الجنس.
وَ الَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا بالرد و الطعن فيها. مُعاجِزِينَ مسابقين لأنبيائنا أو ظانين أنهم يفوتوننا.
أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ .
[سورة سبإ (34): آية 39]
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ يَقْدِرُ لَهُ يوسع عليه تارة و يضيق عليه أخرى، فهذا في شخص واحد باعتبار وقتين و ما سبق في شخصين فلا تكرير. وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ عوضا إما عاجلا أو آجلا. وَ هُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ فإن غيره وسط في إيصال رزقه لا حقيقة لرازقيته.
[سورة سبإ (34): الآيات 40 الى 41]
و يوم نحشرهم جميعا المستكبرين و المستضعفين ثمّ نقول للملائكة أ هؤلاء إيّاكم كانوا يعبدون تقريعا للمشركين و تبكيتا لهم و إقناطا لهم عما يتوقعون من شفاعتهم، و تخصيص الملائكة لأنهم أشرف شركائهم و الصالحون للخطاب منهم، و لأن عبادتهم مبدأ الشرك و أصله. و قرأ حفص و يعقوب بالياء فيهما.