کتابخانه تفاسیر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 246
وَ لَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ أي صدق في ظنه أو صدق بظن ظنه مثل فعلته جهدك، و يجوز أن يعدى الفعل إليه بنفسه كما في: صدق وعده. لأنه نوع من القول، و شدده الكوفيون بمعنى حقق ظنه أو وجده صادقا. و قرئ بنصب إبليس و رفع الظن مع التشديد بمعنى وجده ظنه صادقا، و التخفيف بمعنى قال له ظنه الصدق حين خيله إغواءهم، و برفعهما و التخفيف على الأبدان و ذلك إما ظنه بسبإ حين رأى انهماكهم في الشهوات أو ببني آدم حين رأى أباهم النبي ضعيف العزم، أو ما ركب فيهم من الشهوة و الغضب، أو سمع من الملائكة قولهم أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها فقال: لَأُضِلَّنَّهُمْ و لَأُغْوِيَنَّهُمْ* .
فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إلا فريقا هم المؤمنون لم يتبعوه، و تقليلهم بالإضافة إلى الكفار، أو إلا فريقا من فرق المؤمنين لم يتبعوه في العصيان و هم المخلصون.
وَ ما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ تسلط و استيلاء بالوسوسة و الاستغواء. إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍ إلا ليتعلق علمنا بذلك تعلقا يترتب عليه الجزاء، أو ليتميز المؤمن من الشاك، أو ليؤمن من قدر إيمانه و يشك من قدر ضلاله، و المراد من حصول العلم حصول متعلقه مبالغة، و في نظم الصلتين نكتة لا تخفى. وَ رَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ محافظ و الزنتان متآخيتان.
[سورة سبإ (34): الآيات 22 الى 23]
قُلِ للمشركين. ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أي زعمتموهم آلهة، و هما مفعولا زعم حذف الأول لطول الموصول بصلته و الثاني لقيام صفته مقامه، و لا يجوز أن يكون هو مفعوله الثاني لأنه لا يلتئم مع الضمير كلاما و لا لا يَمْلِكُونَ لأنهم لا يزعمونه. مِنْ دُونِ اللَّهِ و المعنى ادعوهم فيما يهمكم من جلب نفع أو دفع ضر لعلهم يستجيبون لكم إن صح دعواكم، ثم أجاب عنهم إشعارا بتعين الجواب و أنه لا يقبل المكابرة فقال: لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ من خير أو شر. فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ في أمر ما و ذكرهما للعموم العرفي، أو لأن آلهتهم بعضها سماوية كالملائكة و الكواكب و بعضها أرضية كالأصنام، أو لأن الأسباب القريبة للشر و الخير سماوية و أرضية و الجملة استئناف لبيان حالهم. وَ ما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ من شركة لا خلقا و لا ملكا. وَ ما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ يعينه على تدبير أمرهما.
وَ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ فلا ينفعهم شفاعة أيضا كما يزعمون إذ لا تنفع الشفاعة عند اللّه. إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ أذن له أن يشفع، أو أذن أن يشفع له لعلو شأنه و لم يثبت ذلك، و اللام على الأول كاللام في قولك:
الكرم لزيد و على الثاني كاللام في قولك: جئتك لزيد، و قرأ أبو عمرو و حمزة و الكسائي بضم الهمزة. حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ غاية لمفهوم الكلام من أن ثم توقفا و انتظارا للإذن أي: يتربصون فزعين حتى إذا كشف الفزع عن قلوب الشافعين و المشفوع لهم بالإذن، و قيل الضمير للملائكة و قد تقدم ذكرهم ضمنا. و قرأ ابن عامر و يعقوب فُزِّعَ على البناء للفاعل. و قرئ «فرغ» أي نفي الوجل من فرغ الزاد إذا فني. قالُوا قال بعضهم لبعض. ما ذا قالَ رَبُّكُمْ في الشفاعة. قالُوا الْحَقَ قالوا قال القول الحق و هو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى و هم المؤمنون، و قرئ بالرفع أي مقوله الحق. وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ذو العلو و الكبرياء ليس لملك و لا نبي من الأنبياء أن يتكلم ذلك اليوم إلا بإذنه.
[سورة سبإ (34): آية 24]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 247
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يريد به تقرير قوله لا يَمْلِكُونَ . قُلِ اللَّهُ إذ لا جواب سواه، و فيه إشعار بأنهم إن سكتوا أو تلعثموا في الجواب مخافة الإلزام فهم مقرون به بقلوبهم. وَ إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي و إن أحد الفريقين من الموحدين المتوحد بالرزق و القدرة الذاتية بالعبادة، و المشركين به الجماد النازل في أدنى المراتب الإمكانية لعلى أحد الأمرين من الهدى و الضلال المبينين، و هو بعد ما تقدم من التقرير البليغ الدال على من هو على الهدى و من هو في الضلال أبلغ من التصريح لأنه في صورة الإنصاف المسكت للخصم المشاغب، و نظيره قول حسان:
أ تهجوه و لست له بكفء
فشرّكما لخير كما الفداء
و قيل إنه على اللف و النشر و فيه نظر، و اختلاف الحرفين لأن الهادي كمن صعد منارا ينظر الأشياء و يتطلع عليها أو ركب جوادا يركضه حيث يشاء، و الضال كأنه منغمس في ظلام مرتبك لا يرى شيئا أو محبوس في مطمورة لا يستطيع أن يتفصى منها.
[سورة سبإ (34): الآيات 25 الى 26]
قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَ لا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ هذا أدخل في الإنصاف و أبلغ في الإخبات حيث أسند الإجرام إلى أنفسهم و العمل إلى المخاطبين.
قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا يوم القيامة. ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِ يحكم و يفصل بأن يدخل المحقين الجنة و المبطلين النار. وَ هُوَ الْفَتَّاحُ الحاكم الفاصل في القضايا المنغلقة. الْعَلِيمُ بما ينبغي أن يقضى به.
[سورة سبإ (34): الآيات 27 الى 28]
قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ لأرى بأي صفة ألحقتموهم باللّه في استحقاق العبادة، و هو استفسار عن شبهتهم بعد إلزام الحجة عليهم زيادة في تبكيتهم. كَلَّا ردع لهم عن المشاركة بعد إبطال المقايسة.
بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الموصوف بالغلبة و كمال القدرة و الحكمة، و هؤلاء الملحقون به متسمون بالذلة متأبية عن قبول العلم و القدرة رأسا، و الضمير للّه أو للشأن.
وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ إلا إرسالة عامة لهم من الكف فإنها إذا عمتهم فقد كفتهم أن يخرج منها أحد منهم، أو إلا جامعا لهم في الإبلاغ فهي حال من الكاف و التاء للمبالغة، و لا يجوز جعلها حالا من الناس على المختار. بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ فيحملهم جهلهم على مخالفتك.
[سورة سبإ (34): الآيات 29 الى 30]
وَ يَقُولُونَ من فرط جهلهم. مَتى هذَا الْوَعْدُ يعنون المبشر به و المنذر عنه أو الموعود بقوله:
يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا . إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ يخاطبون به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم و المؤمنين.
قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ وعد يوم أو زمان وعد، و إضافته إلى اليوم للتبيين و يؤيده أنه قرئ «يوم» على البدل، و قرئ «يوما» بإضمار أعني. لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَ لا تَسْتَقْدِمُونَ إذا فاجأكم و هو جواب تهديد جاء مطابقا لما قصدوه بسؤالهم من التعنت و الإنكار.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 248
[سورة سبإ (34): الآيات 31 الى 32]
وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَ لا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ و لا بما تقدمه من الكتب الدالة على النعت. قيل إن كفار مكة سألوا أهل الكتاب عن الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم فأخبروهم أنهم يجدون نعته في كتبهم فغضبوا و قالوا ذلك، و قيل الّذي بين يديه يوم القيامة. وَ لَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي في موضع المحاسبة. يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يتحاورون و يتراجعون القول. يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا يقول الأتباع. لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا للرؤساء. لَوْ لا أَنْتُمْ لولا إضلالكم و صدكم إيانا عن الإيمان. لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ باتباع الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم.
قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَ نَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ أنكروا أنهم كانوا صادّين لهم عن الإيمان و أثبتوا أنهم هم الذين صدوا أنفسهم حيث أعرضوا عن الهدى و آثروا التقليد عليه، و لذلك بنوا الإنكار على الإسم.
[سورة سبإ (34): آية 33]
وَ قالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ إضراب عن إضرابهم أي: لم يكن إجرامنا الصاد بل مكركم لنا دائبا ليلا و نهارا حتى أعورتم علينا رأينا. إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَ نَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً و العاطف يعطفه على كلامهم الأول و إضافة ال مَكْرُ إلى الظرف على الاتساع، و قرئ «مكر الليل» بالنصب على المصدر و «مكر الليل» بالتنوين و نصب الظرف و «مكر الليل» من الكرور. وَ أَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ و أضمر الفريقان الندامة على الضلال و الإضلال و أخفاها كل عن صاحبه مخافة التعيير، أو أظهروها فإنه من الأضداد إذ الهمزة تصلح للإثبات و السلب كما في أشكيته. وَ جَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا أي في أعناقهم فجاء بالظاهر تنويها بذمهم و إشعارا بموجب أغلالهم. هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي لا يفعل بهم ما يفعل إلا جزاء على أعمالهم، و تعدية يجزى إما لتضمين معنى يقضى أو بنزع الخافض.
[سورة سبإ (34): الآيات 34 الى 36]
وَ ما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها تسلية لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم مما مني به من قومه، و تخصيص المتنعمين بالتكذيب لأن الداعي المعظم إليه التكبر و المفاخرة بزخارف الدنيا و الانهماك في الشهوات و الاستهانة بمن لم يحظ منها، و لذلك ضموا التهكم و المفاخرة إلى التكذيب فقالوا: إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ على مقابلة الجمع بالجمع.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 249
وَ قالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَ أَوْلاداً فنحن أولى بما تدعونه إن أمكن. وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ إما لأن العذاب لا يكون، أو لأنه أكرمنا بذلك فلا يهيننا بالعذاب.
قُلْ ردا لحسبانهم. إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ و لذلك يختلف فيه الأشخاص المتماثلة في الخصائص و الصفات، و لو كان ذلك لكرامة و هوان يوجبانه لم يكن بمشيئته. وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ فيظنون أن كثرة الأموال و الأولاد للشرف و الكرامة و كثيرا ما يكون للاستدراج كما قال:
[سورة سبإ (34): الآيات 37 الى 38]
وَ ما أَمْوالُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى قربة و الّتي إما لأن المراد و ما جماعة أموالكم و أولادكم، أو لأنها صفة محذوف كالتقوى و الخصلة. و قرئ «بالذي» أي بالشيء الّذي يقربكم. إِلَّا مَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً استثناء من مفعول تُقَرِّبُكُمْ ، أي الأموال و الأولاد لا تقرب أحدا إلا المؤمن الصالح الّذي ينفق ماله في سبيل اللّه و يعلم ولده الخير و يربيه على الصلاح، أو من أَمْوالُكُمْ و أَوْلادُكُمْ على حذف المضاف. فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ أن يجازوا الضعف إلى عشر فما فوقه، و الإضافة إضافة المصدر إلى المفعول، و قرئ بالإعمال على الأصل و عن يعقوب رفعهما على إبدال الضعف، و نصب الجزاء على التمييز أو المصدر لفعله الّذي دل عليه لهم. بِما عَمِلُوا وَ هُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ من المكاره، و قرئ بفتح الراء و سكونها، و قرأ حمزة «في الغرفة» على إرادة الجنس.
وَ الَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا بالرد و الطعن فيها. مُعاجِزِينَ مسابقين لأنبيائنا أو ظانين أنهم يفوتوننا.
أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ .
[سورة سبإ (34): آية 39]
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ يَقْدِرُ لَهُ يوسع عليه تارة و يضيق عليه أخرى، فهذا في شخص واحد باعتبار وقتين و ما سبق في شخصين فلا تكرير. وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ عوضا إما عاجلا أو آجلا. وَ هُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ فإن غيره وسط في إيصال رزقه لا حقيقة لرازقيته.
[سورة سبإ (34): الآيات 40 الى 41]
و يوم نحشرهم جميعا المستكبرين و المستضعفين ثمّ نقول للملائكة أ هؤلاء إيّاكم كانوا يعبدون تقريعا للمشركين و تبكيتا لهم و إقناطا لهم عما يتوقعون من شفاعتهم، و تخصيص الملائكة لأنهم أشرف شركائهم و الصالحون للخطاب منهم، و لأن عبادتهم مبدأ الشرك و أصله. و قرأ حفص و يعقوب بالياء فيهما.
قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ أنت الّذي نواليه من دونهم لا موالاة بيننا و بينهم، كأنهم بينوا بذلك براءتهم من الرضا بعبادتهم ثم أضربوا عن ذلك و نفوا أنهم عبدوهم على الحقيقة بقولهم: بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَ أي الشياطين حيث أطاعوهم في عبادة غير اللّه. و قيل كانوا يتمثلون لهم و يخيلون إليهم أنهم
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 250
الملائكة فيعبدونهم. أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ الضمير الأول للإنس أو للمشركين، و الأكثر بمعنى الكل و الثاني ل الْجِنَ .
[سورة سبإ (34): الآيات 42 الى 43]
فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَ لا ضَرًّا إذ الأمر فيه كله له لأن الدار دار جزاء و هو المجازي وحده. وَ نَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ عطف على لا يَمْلِكُ مبين للمقصود من تمهيده.
وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا يعنون محمّدا عليه الصلاة و السلام. إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ فيستتبعكم بما يستبدعه. وَ قالُوا ما هذا يعنون القرآن. إِلَّا إِفْكٌ لعدم مطابقة ما فيه الواقع. مُفْتَرىً بإضافته إلى اللّه سبحانه و تعالى. وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ لأمر النبوة أو للإسلام أو للقرآن، و الأول باعتبار معناه و هذا باعتبار لفظه و إعجازه. إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ظاهر سحريته، و في تكرير الفعل و التصريح بذكر الكفرة و ما في اللامين من الإشارة إلى القائلين و المقول فيه، و ما في لَمَّا من المبادهة إلى البت بهذا القول إنكار عظيم له و تعجيب بليغ منه.
[سورة سبإ (34): الآيات 44 الى 45]
وَ ما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها فيها دليل على صحة الإشراك. وَ ما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ يدعوهم إليه و ينذرهم على تركه، و قد بان من قبل أن لا وجه له فمن أين وقع لهم هذه الشبهة، و هذا في غاية التجهيل لهم و التسفيه لرأيهم ثم هددهم فقال:
وَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كما كذبوا. وَ ما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ و ما بلغ هؤلاء عشر ما آتينا أولئك من القوة و طول العمر و كثرة المال، أو ما بلغ أولئك عشر ما آتينا هؤلاء من البينات و الهدى. فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ فحين كذبوا رسلي جاءهم إنكاري بالتدمير فكيف كان نكيري لهم فليحذر هؤلاء من مثله، و لا تكرير في كذب لأن الأول للتكثير و الثاني للتكذيب، أو الأول مطلق و الثاني مقيد و لذلك عطف عليه بالفاء.
[سورة سبإ (34): آية 46]
قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أرشدكم و أنصح لكم بخصلة واحدة هي ما دل عليه: أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ و هو القيام من مجلس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم، أو الانتصاب في الأمر خالصا لوجه اللّه معرضا عن المراء و التقليد. مَثْنى وَ فُرادى متفرقين اثنين اثنين و واحدا واحدا، فإن الازدحام يشوش الخاطر و يخلط القول. ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا في أمر محمّد صلّى اللّه عليه و سلّم و ما جاء به لتعلموا حقيقته، و محله الجر على البدل أو البيان أو الرفع أو النصب بإضمار هو أو أعني. ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ فتعلموا ما به من جنون يحمله على ذلك، أو استئناف منبه لهم على أن ما عرفوا من رجاحة عقله كاف في ترجيح صدقه، فإنه لا يدعه أن يتصدى لادعاء أمر خطير و خطب عظيم من
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 251
غير تحقق و وثوق ببرهان، فيفتضح على رؤوس الأشهاد و يلقي نفسه إلى الهلاك، فكيف و قد انضم إليه معجزات كثيرة. و قيل ما استفهامية و المعنى: ثم تتفكروا أي شيء به من آثار الجنون: إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ قدامه لأنه مبعوث في نسم الساعة.
[سورة سبإ (34): آية 47]
قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ أي شيء سألتكم من أجر على الرسالة. فَهُوَ لَكُمْ و المراد نفي السؤال عنه، كأنه جعل التنبي مستلزما لأحد الأمرين إما الجنون و إما توقع نفع دنيوي عليه، لأنه إما أن يكون لغرض أو لغيره و أيا ما كان يلزم أحدهما ثم نفى كلا منهما. و قيل ما موصولة مراد بها ما سألهم بقوله: ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا و قوله: لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى و اتخاذ السبيل ينفعهم و قرباه قرباهم. إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ مطلع يعلم صدقي و خلوص نيتي، و قرأ ابن كثير و أبو بكر و حمزة و الكسائي بإسكان الياء.
[سورة سبإ (34): الآيات 48 الى 49]
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِ يلقيه و ينزله على من يجتبيه من عباده، أو يرمي به الباطل فيدمغه أو يرمي به إلى أقطار الآفاق، فيكون وعدا بإظهار الإسلام و إفشائه. و قرأ نافع و أبو عمرو بفتح الياء. عَلَّامُ الْغُيُوبِ صفة محمولة على محل إِنَ و اسمها، أو بدل من المستكن في يَقْذِفُ أو خبر ثان أو خبر محذوف.
و قرئ بالنصب صفة ل رَبِّي أو مقدرا بأعني. و قرأ حمزة و أبو بكر «الغيوب» بالكسر كالبيوت و بالضم كالعشور، و قرئ بالفتح كالصبور على أنه مبالغة غائب.
قُلْ جاءَ الْحَقُ أي الإسلام. وَ ما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَ ما يُعِيدُ و زهق الباطل أي الشرك بحيث لم يبق له أثر مأخوذ من هلاك الحي، فإنه إذا هلك لم يبق له إبداء و لا إعادة قال:
أقفر من أهله عبيد
فاليوم لا يبدي و لا يعيد
و قيل الباطل إبليس أو الصنم، و المعنى لا ينشئ خلقا و لا يعيده، أو لا يبدئ خيرا لأهله و لا يعيده.
و قيل ما استفهامية منتصبة بما بعدها.
[سورة سبإ (34): آية 50]
قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ عن الحق. فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي فإن وبال ضلالي عليها لأنه بسببها إذ هي الجاهلة بالذات و الأمارة بالسوء، و بهذا الاعتبار قابل الشرطية بقوله: وَ إِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي فإن الاهتداء بهدايته و توفيقه. إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ يدرك قول كل ضال و مهتد و فعله و إن أخفاه.
[سورة سبإ (34): آية 51]
وَ لَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَ أُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (51)
وَ لَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا عند الموت أو البعث أو يوم بدر، و جواب لَوْ محذوف تقديره لرأيت أمرا فظيعا. فَلا فَوْتَ فلا يفوتون اللّه بهرب أو تحصن. وَ أُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ من ظهر الأرض إلى بطنها، أو من الموقف إلى النار أو من صحراء بدر إلى القليب، و العطف على فَزِعُوا أو لا فوت و يؤيده أنه قرئ «و أخذ» عطفا على محله أي: فلا فوت هناك و هناك أخذ.
[سورة سبإ (34): آية 52]
وَ قالُوا آمَنَّا بِهِ وَ أَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (52)
.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 252
وَ قالُوا آمَنَّا بِهِ بمحمّد عليه الصلاة و السلام، و قد مر ذكره في قوله: ما بِصاحِبِكُمْ . وَ أَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ و من أين لهم أن يتناولوا الإيمان تناولا سهلا. مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ فإنه في حيز التكليف و قد بعد عنهم، و هو تمثيل لحالهم في الاستخلاص بالإيمان بعد ما فات عنهم أوانه و بعد عنهم، بحال من يريد أن يتناول الشيء من غلوة تناوله من ذراع في الاستحالة، و قرأ أبو عمرو و الكوفيون غير حفص بالهمز على قلب الواو لضمتها.
أو أنه من نأشت الشيء إذا طلبته قال رؤبة:
أقحمني جار أبي الجاموش
إليك نأش القدر النؤوش
أو من نأشت إذا تأخرت و منه قوله:
تمنّى نشيشا أن يكون أطاعني
و قد حدثت بعد الأمور أمور
فيكون بمعنى التناول من بعد.
[سورة سبإ (34): الآيات 53 الى 54]
وَ قَدْ كَفَرُوا بِهِ بمحمّد عليه الصلاة و السلام أو بالعذاب. مِنْ قَبْلُ من قبل ذلك أوان التكليف.
وَ يَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ و يرجمون بالظن و يتكلمون بما لم يظهر لهم في الرسول عليه الصلاة و السلام من المطاعن، أو في العذاب من البت على نفيه. مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ من جانب بعيد من أمره، و هو الشبه الّتي تمحلوها في أمر الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم، أو حال الآخرة كما حكاه من قبل. و لعله تمثيل لحالهم في ذلك بحال من يرمي شيئا لا يراه من مكان بعيد لا مجال للظن في لحوقه، و قرئ «و يقذفون» على أن الشيطان يلقي إليهم و يلقنهم ذلك، و العطف على وَ قَدْ كَفَرُوا على حكاية الحال الماضية أو على قالوا فيكون تمثيلا لحالهم بحال القاذف في تحصيل ما ضيعوه من الإيمان في الدنيا.
وَ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ ما يَشْتَهُونَ من نفع الإيمان و النجاة به من النار، و قرأ ابن عامر و الكسائي بإشمام الضم للحاء. كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ بأشباههم من كفرة الأمم الدارجة. إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ موقع في الريبة، أو ذي ريبة منقول من المشكك، أو الشك نعت به الشك للمبالغة.