کتابخانه تفاسیر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 253
(35) سورة الملائكة
مكية و آيها خمس و أربعون آية
[سورة فاطر (35): آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ مبدعهما من الفطر بمعنى الشق كأنه شق العدم بإخراجهما منه، و الإضافة محضة لأنه بمعنى الماضي. جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وسائط بين اللّه و بين أنبيائه و الصالحين من عباده، يبلغون إليهم رسالاته بالوحي و الإلهام و الرؤيا الصادقة، أو بينه و بين خلقه يوصلون إليهم آثار صنعه.
أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ ذوي أجنحة متعددة متفاوتة بتفاوت ما لهم من المراتب ينزلون بها و يعرجون، أو يسرعون بها نحو ما وكلهم اللّه عليه فيتصرفون فيه على أمرهم به، و لعله لم يرد به خصوصية الأعداد و نفي ما زاد عليها، لما
روي أنه عليه الصلاة و السلام رأى جبريل ليلة المعراج و له ستمائة جناح
يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ استئناف للدلالة على أن تفاوتهم في ذلك بمقتضى مشيئته و مؤدى حكمته لا أمر تستدعيه ذواتهم، لأن اختلاف الأصناف و الأنواع، بالخواص و الفصول إن كان لذواتهم المشتركة لزم تنافي لوازم الأمور المتفقة و هو محال، و الآية متناولة زيادات الصور و المعاني كملاحة الوجه و حسن الصوت و حصافة العقل و سماحة النفس. إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ و تخصيص بعض الأشياء بالتحصيل دون بعض، إنما هو من جهة الإرادة.
[سورة فاطر (35): آية 2]
ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ ما يطلق لهم و يرسل و هو من تجوز السبب للمسبب. مِنْ رَحْمَةٍ كنعمة و أمن و صحة و علم و نبوة. فَلا مُمْسِكَ لَها يحبسها. وَ ما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ يطلقه، و اختلاف الضميرين لأن الموصول الأول مفسر بالرحمة و الثاني مطلق بتناولها و الغضب، و في ذلك إشعار بأن رحمته سبقت غضبه.
مِنْ بَعْدِهِ من بعد إمساكه. وَ هُوَ الْعَزِيزُ الغالب على ما يشاء ليس لأحد أن ينازعه فيه. الْحَكِيمُ لا يفعل إلا بعلم و إتقان. ثم لما بين أنه الموجد للملك و الملكوت و المتصرف فيهما على الإطلاق أمر الناس بشكر إنعامه فقال:
[سورة فاطر (35): الآيات 3 الى 4]
يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ احفظوها بمعرفة حقها و الاعتراف بها و طاعة موليها، ثم أنكر أن يكون لغيره في ذلك مدخل فيستحق أن يشرك به بقوله: هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 254
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ فمن أي وجه تصرفون عن التوحيد إلى إشراك غيره به، و رفع غَيْرُ للحمل على محل مِنْ خالِقٍ بأنه وصف أو بدل، فإن الاستفهام بمعنى النفي، أو لأنه فاعل خالِقٍ و جره حمزة و الكسائي حملا على لفظه، و قد نصب على الاستثناء، و يَرْزُقُكُمْ صفة ل خالِقٍ أو استئناف مفسر له أو كلام مبتدأ، و على الأخير يكون إطلاق هَلْ مِنْ خالِقٍ مانعا من إطلاقه على غير اللّه.
وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ أي فتأس بهم في الصبر على تكذيبهم، فوضع فَقَدْ كُذِّبَتْ موضعه استغناء بالسبب عن المسبب، و تنكير رسل للتعظيم المقتضي زيادة التسلية و الحث على المصابرة.
وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ فيجازيك و إياهم على الصبر و التكذيب.
[سورة فاطر (35): الآيات 5 الى 6]
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالحشر و الجزاء. حَقٌ لا خلف فيه. فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فيذهلكم التمتع بها عن طلب الآخرة و السعي لها. وَ لا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ الشيطان بأن يمنيكم المغفرة مع الإصرار على المعصية، فإنها و إن أمكنت لكن الذنب بهذا التوقع كتناول السم اعتمادا على دفع الطبيعة.
و قرئ بالضم و هو مصدر أو جمع كقعود.
إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ عداوة عامة قديمة. فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا في عقائدكم و أفعالكم و كونوا على حذر منه في مجامع أحوالكم. إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ تقرير لعداوته و بيان لغرضه في دعوة شيعته إلى اتباع الهوى و الركون إلى الدنيا.
[سورة فاطر (35): الآيات 7 الى 8]
الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ وعيد لمن أجاب دعاءه و وعد لمن خالفه و قطع للأماني الفارغة، و بناء للأمر كله على الإيمان و العمل الصالح و قوله.
أَ فَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً تقرير له أي أ فمن زين له سوء عمله بأن غلب و همه و هواه على عقله حتى انتكس رأيه فرأى الباطل حقا و القبيح حسنا، كمن لم يزين له بل وفق حتى عرف الحق و استحسن الأعمال و استقبحها على ما هي عليه، فحذف الجواب لدلالة: فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ و قيل تقديره أ فمن زين له سوء عمله ذهبت نفسك عليهم حسرة، فحذف الجواب لدلالة: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ عليه و معناه فلا تهلك نفسك عليهم للحسرات على غيهم و إصرارهم على التكذيب، و الفاآت الثلاث للسببية غير أن الأوليين دخلتا على السبب و الثالثة دخلت على المسبب، و جمع الحسرات للدلالة على تضاعف اغتمامه على أحوالهم أو كثرة مساوي أفعالهم المقتضية للتأسف، و عليهم ليس صلة لها لأن صلة المصدر لا تتقدمه بل صلة تذهب أو بيان للمتحسر عليه. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ فيجازيهم عليه.
[سورة فاطر (35): آية 9]
وَ اللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ و قرأ ابن كثير و حمزة و الكسائي الريح. فَتُثِيرُ سَحاباً على حكاية الحال
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 255
الماضية استحضارا لتلك الصورة البديعة الدالة على كمال الحكمة، و لأن المراد بيان إحداثها بهذه الخاصية و لذلك أسنده إليها، و يجوز أن يكون اختلاف الأفعال للدلالة على استمرار الأمر. فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ و قرأ نافع و حمزة و الكسائي و حفص بالتشديد. فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بالمطر النازل منه و ذكر السحاب كذكره، أو بالسحاب فإنه سبب السبب أو الصائر مطرا. بَعْدَ مَوْتِها بعد يبسها و العدول فيهما من الغيبة إلى ما هو أدخل في الاختصاص لما فيهما من مزيد الصنع. كَذلِكَ النُّشُورُ أي مثل إحياء الموات نشور الأموات في صحة المقدورية، إذ ليس بينهما إلا احتمال اختلاف المادة في المقيس عليه و ذلك لا مدخل له فيها. و قيل في كيفية الإحياء فإنه تعالى يرسل ماء من تحت العرش تنبت منه أجساد الخلق.
[سورة فاطر (35): آية 10]
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ الشرف و المنعة. فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً أي فليطلبها من عنده فإن له كلها، فاستغنى بالدليل عن المدلول. إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ بيان لما يطلب به العزة و هو التوحيد و العمل الصالح، و صعودهما إليه مجاز عن قبوله إياهما، أو صعود الكتبة بصحيفتهما، و المستكن في يَرْفَعُهُ ل الْكَلِمُ فإن العمل لا يقبل إلا بالتوحيد و يؤيده أنه نصب الْعَمَلُ ، أو ل الْعَمَلُ فإنه يحقق الإيمان و يقويه، أو للّه و تخصيص العمل بهذا الشرف لما فيه من الكلفة. و قرئ «يصعد» على البناءين و المصعد هو اللّه تعالى أو المتكلم به أو الملك. و قيل الْكَلِمُ الطَّيِّبُ يتناول الذكر و الدعاء و قراءة القرآن.
و
عنه عليه الصلاة و السلام «هو سبحان اللّه و الحمد للّه و لا إله إلّا اللّه و اللّه أكبر، فإذا قالها العبد عرج بها الملك إلى السماء فحيا بها وجه الرحمن، فإذا لم يكن عمل صالح لم تقبل».
وَ الَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ المكرات السيئات يعني مكرات قريش للنبي عليه الصلاة و السلام في دار الندوة و تداورهم الرأي في إحدى ثلاث حبسه و قتله و إجلائه. لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ لا يؤبه دونه بما يمكرون به. وَ مَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ يفسد و لا ينفذ لأن الأمور مقدرة لا تتغير به كما دل عليه بقوله:
[سورة فاطر (35): آية 11]
وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ بخلق آدم عليه السلام منه. ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ بخلق ذريته منها. ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً ذكرانا و إناثا. وَ ما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَ لا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ إلّا معلومة له. وَ ما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ و ما يمد في عمر من مصيره إلى الكبر. وَ لا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ من عمر المعمر لغيره بأن يعطى له عمر ناقص من عمره، أو لا ينقص من عمر المنقوص عمره بجعله ناقصا، و الضمير له و إن لم يذكر لدلالة مقابله عليه أو للعمر على التسامح فيه ثقة بفهم السامع كقولهم: لا يثيب اللّه عبدا و لا يعاقبه إلا بحق. و قيل الزيادة و النقصان في عمر واحد باعتبار أسباب مختلفة أثبتت في اللوح مثل: أن يكون فيه إن حج عمرو فعمره ستون سنة و إلا فأربعون. و قيل المراد بالنقصان ما يمر من عمره و ينقضي فإنه يكتب في صحيفة عمره يوما فيوما، و عن يعقوب وَ لا يُنْقَصُ على البناء للفاعل. إِلَّا فِي كِتابٍ هو علم اللّه تعالى أو اللوح المحفوظ أو الصحيفة.
إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ إشارة إلى الحفظ أو الزيادة أو النقص.
[سورة فاطر (35): آية 12]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 256
وَ ما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَ هذا مِلْحٌ أُجاجٌ ضرب مثل للمؤمن و الكافر، و الفرات الّذي يكسر العطش و السائغ الّذي يسهل انحداره، و الأجاج الّذي يحرق بملوحته. و قرئ «سيغ» بالتشديد و «سيغ» بالتخفيف و «ملح» على فعل. وَ مِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَ تَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها استطراد في صفة البحرين و ما فيهما من النعم، أو تمام التمثيل و المعنى: كما أنهما و إن اشتركا في بعض الفوائد لا يتساويان من حيث إنهما لا يتساويان فيما هو المقصود بالذات من الماء، فإنه خالط أحدهما ما أفسده و غيره عن كمال فطرته، لا يتساوى المؤمن و الكافر و إن اتفق اشتراكهما في بعض الصفات كالشجاعة و السخاوة لاختلافهما فيما هو الخاصية العظمى و هي بقاء أحدهما على الفطرة الأصلية دون الآخر، أو تفضيل للأجاج على الكافر بما يشارك فيه العذب من المنافع. و المراد ب الْحِلْيَةِ اللئالئ و اليواقيت. وَ تَرَى الْفُلْكَ فِيهِ في كل. مَواخِرَ تشق الماء بجريها. لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ من فضل اللّه بالنقلة فيها، و اللام متعلقة ب مَواخِرَ ، و يجوز أن تتعلق بما دل عليه الأفعال المذكورة. وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ على ذلك و حرف الترجي باعتبار ما يقتضيه ظاهر الحال.
[سورة فاطر (35): الآيات 13 الى 14]
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَ يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى هي مدة دوره أو منتهاه أو يوم القيامة. ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ الإشارة إلى الفاعل لهذه الأشياء. و فيها إشعار بأن فاعليته لها موجبة لثبوت الأخبار المترادفة، و يحتمل أن يكون لَهُ الْمُلْكُ كلاما مبتدأ في قران. وَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ للدلالة على تفرده بالألوهية و الربوبية، و القطمير لفافة النواة.
إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ لأنهم جماد وَ لَوْ سَمِعُوا على سبيل الفرض. مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ لعدم قدرتهم على الإنفاع، أو لتبرئهم منكم مما تدعون لهم. وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ بإشراككم لهم يقرون ببطلانه أو يقولون ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ . وَ لا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ و لا يخبرك بالأمر مخبر مِثْلُ خَبِيرٍ به أخبرك و هو اللّه سبحانه و تعالى، فإنه الخبير به على الحقيقة دون سائر المخبرين. و المراد تحقيق ما أخبر به من حال آلهتهم و نفي ما يدعون لهم.
[سورة فاطر (35): الآيات 15 الى 17]
يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ في أنفسكم و ما يعن لكم، و تعريف الفقراء للمبالغة في فقرهم كأنهم لشدة افتقارهم و كثرة احتياجهم هم الفقراء، و أن افتقار سائر الخلائق بالإضافة إلى فقرهم غير معتد به و لذلك قال: وَ خُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً . وَ اللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ المستغني على الإطلاق المنعم على سائر الموجودات حتى استحق عليهم الحمد.
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ بقوم آخرين أطوع منكم، أو بعالم آخر غير ما تعرفونه.
وَ ما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ بمتعذر أو متعسر.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 257
[سورة فاطر (35): آية 18]
وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى و لا تحمل نفس آثمة إثم نفس أخرى، و أما قوله: وَ لَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَ أَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ ففي الضالين المضلين فإنهم يحملون أثقال إضلالهم مع أثقال ضلالهم، و كل ذلك أوزارهم ليس فيها شيء من أوزار غيرهم. وَ إِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ نفس أثقلها الأوزار. إِلى حِمْلِها تحمل بعض أوزارها. لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ لم تجب لحمل شيء منه نفى أن يحمل عنها ذنبها كما نفى أن يحمل عليها ذنب غيرها. وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى و لو كان المدعو ذا قرابتها، فأضمر المدعو لدلالة إن تدع عليه. و قرئ «ذو قربى» على حذف الخبر و هو أولى من جعل كان التامة فإنها لا تلائم نظم الكلام. إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ غائبين عن عذابه، أو عن الناس في خلواتهم، أو غائبا عنهم عذابه. وَ أَقامُوا الصَّلاةَ فإنهم المنتفعون بالإنذار لا غير، و اختلاف الفعلين لما مر من الاستمرار. وَ مَنْ تَزَكَّى و من تطهر من دنس المعاصي. فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ إذ نفعه لها، و قرئ «و من أزكى فإنما يزكي» و هو اعتراض مؤكد لخشيتهم و إقامتهم الصلاة لأنهما من جملة التزكي. وَ إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ فيجازيهم على تزكيهم.
[سورة فاطر (35): الآيات 19 الى 23]
وَ ما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ الكافر و المؤمن، و قيل هما مثلان للصنم و للّه عز و جل.
وَ لَا الظُّلُماتُ وَ لَا النُّورُ و لا الباطل و لا الحق.
وَ لَا الظِّلُّ وَ لَا الْحَرُورُ و لا الثواب و لا العقاب، و لا لتأكيد نفي الاستواء و تكريرها على الشقين لمزيد التأكيد. و الْحَرُورُ فعول من الحر غلب على السموم. و قيل السموم ما يهب نهارا و الحرور ما تهب ليلا.
وَ ما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَ لَا الْأَمْواتُ تمثيل آخر للمؤمنين و الكافرين أبلغ من الأول و لذلك كرر الفعل.
و قيل للعلماء و الجهلاء. إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ هدايته فيوفقه لفهم آياته و الاتعاظ بعظاته. وَ ما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ترشيح لتمثيل المصرين على الكفر بالأموات و مبالغة في إقناطه عنهم.
إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ فما عليك إلا الإنذار و أما الإسماع فلا إليك و لا حيلة لك إليه في المطبوع على قلوبهم.
[سورة فاطر (35): آية 24]
إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِ محقين أو محقا، أو إرسالا مصحوبا بالحق، و يجوز أن يكون صلة لقوله:
بَشِيراً وَ نَذِيراً أي بشيرا بالوعد الحق و نذيرا بالوعيد الحق. وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ أهل عصر. إِلَّا خَلا مضى.
فِيها نَذِيرٌ من نبي أو عالم ينذر عنه، و الاكتفاء بذكره للعلم بأن النذارة قرينة البشارة سيما و قد قرن به من قبل، أو لأن الإنذار هو الأهم المقصود من البعثة.
[سورة فاطر (35): الآيات 25 الى 26]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 258
وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات الشاهدة على نبوتهم.
وَ بِالزُّبُرِ كصحف إبراهيم عليه السلام. وَ بِالْكِتابِ الْمُنِيرِ كالتوراة و الإنجيل على إرادة التفصيل دون الجمع، و يجوز أن يراد بهما واحد و العطف لتغاير الوصفين.
ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أي إنكاري بالعقوبة.
[سورة فاطر (35): الآيات 27 الى 28]
أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها أجناسها و أصنافها على أن كلّا منها ذو أصناف مختلفة، أو هيئاتها من الصفرة و الخضرة و نحوهما. وَ مِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ أي ذو جدد أي خطط و طرائق يقال جدة الحمار للخطة السوداء على ظهره، و قرئ «جدد» بالضم جمع جديدة بمعنى الجدة و جُدَدٌ بفتحتين و هو الطريق الواضح. بِيضٌ وَ حُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها بالشدة و الضعف. وَ غَرابِيبُ سُودٌ عطف على بِيضٌ أو على جُدَدٌ كأنه قيل: و من الجبال ذو جدد مختلفة اللون و منها غَرابِيبُ متحدة اللون، و هو تأكيد مضمر يفسره ما بعده فإن الغربيب تأكيد للأسود و من حق التأكيد أن يتبع المؤكد و نظير ذلك في الصفة قول النابغة:
و المؤمن العائذات الطير يمسحها و في مثله مزيد تأكيد لما فيه من التكرير باعتبار الإضمار و الإظهار.
وَ مِنَ النَّاسِ وَ الدَّوَابِّ وَ الْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ كاختلاف الثمار و الجبال. إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إذ شرط الخشية معرفة المخشي و العلم بصفاته و أفعاله، فمن كان أعلم به كان أخشى منه و لذلك
قال عليه الصلاة و السلام «إني أخشاكم للّه و أتقاكم له»
و لذلك أتبعه بذكر أفعاله الدالة على كمال قدرته، و تقديم المفعول لأن المقصود حصر الفاعلية و لو أخر انعكس الأمر. و قرئ برفع اسم اللّه و نصب العلماء على أن الخشية مستعارة للتعظيم فإن المعظم يكون مهيبا. إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ تعليل لوجوب الخشية لدلالته على أنه معاقب للمصر على طغيانه غفور للتائب عن عصيانه.
[سورة فاطر (35): الآيات 29 الى 30]
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ يداومون على قراءته أو متابعة ما فيه حتى صارت سمة لهم و عنوانا، و المراد بكتاب اللّه القرآن أو جنس كتب اللّه فيكون ثناء على المصدقين من الأمم بعد اقتصاص حال المكذبين. وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَ عَلانِيَةً كيف اتفق من غير قصد إليهما. و قيل السر في المسنونة و العلانية في المفروضة. يَرْجُونَ تِجارَةً تحصيل ثواب بالطاعة و هو خبر إن. لَنْ تَبُورَ لن تكسد و لن تهلك بالخسران صفة للتجارة و قوله:
لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ علة لمدلوله أي ينتفي عنها الكساد و تنفق عند اللّه ليوفيهم بنفاقها أجور أعمالهم، أو لمدلول ما عد من امتثالهم نحو فعلوا ذلك لِيُوَفِّيَهُمْ أو عاقبة ل يَرْجُونَ . وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ على ما
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 259
يقابل أعمالهم. إِنَّهُ غَفُورٌ لفرطاتهم. شَكُورٌ لطاعاتهم أي مجازيهم عليها، و هو علة للتوفية و الزيادة أو خبر إن و يَرْجُونَ حال من واو وَ أَنْفَقُوا .
[سورة فاطر (35): آية 31]
وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ يعني القرآن و مِنَ للتبيين أو الجنس و مِنَ للتبعيض. هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ أحقه مصدقا لما تقدمه من الكتب السماوية حال مؤكدة لأن حقيته تستلزم موافقته إياه في العقائد و أصول الأحكام. إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ عالم بالبواطن و الظواهر فلو كان في أحوالك ما ينافي النبوة لم يوح إليك مثل هذا الكتاب المعجز الّذي هو عيار على سائر الكتب، و تقديم الخبير للدلالة على أن العمدة في ذلك الأمور الروحانية.
[سورة فاطر (35): آية 32]
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ حكمنا بتوريثه منك أو نورثه فعبر عنه بالماضي لتحققه، أو أورثناه من الأمم السالفة، و العطف على إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ ، وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ اعتراض لبيان كيفية التوريث. الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا يعني علماء الأمة من الصحابة و من بعدهم، أو الأمة بأسرهم فإن اللّه اصطفاهم على سائر الأمم فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ بالتقصير في العمل به. وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ يعمل به في غالب الأوقات. وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ بضم التعليم و الإرشاد إلى العمل، و قيل الظالم الجاهل و المقتصد المتعلم و السابق العالم. و قيل الظالم المجرم و المقتصد الّذي خلط الصالح بالسيء و السابق الّذي ترجحت حسناته بحيث صارت سيئاته مكفرة، و هو معنى
قوله عليه الصلاة و السلام «أما الذين سبقوا فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب، و أما الذين اقتصدوا فأولئك يحاسبون حسابا يسيرا، و أما الذين ظلموا أنفسهم فأولئك يحبسون في طول المحشر ثم يتلقاهم اللّه برحمته».
و قيل الظالم الكافر على أن الضمير للعباد، و تقدميه لكثرة الظالمين و لأن الظلم بمعنى الجهل و الركون إلى الهوى مقتضى الجبلة و الاقتصاد و السبق عارضان. ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ إشارة إلى التوريث أو الاصطفاء أو السبق.
[سورة فاطر (35): الآيات 33 الى 35]
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها مبتدأ و خبر و الضمير للثلاثة أو ل الَّذِينَ أو لل مُقْتَصِدٌ و ال سابِقٌ ، فإن المراد بهما الجنس و قرئ «جنة عدن» و «جنات عدن» منصوب بفعل يفسره الظاهر، و قرأ أبو عمرو يَدْخُلُونَها على البناء للمفعول. يُحَلَّوْنَ فِيها خبر ثان أو حال مقدرة، و قرئ يحلون من حليت المرأة فهي حالية. مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ مِنْ الأولى للتبعيض و الثانية للتبيين. وَ لُؤْلُؤاً عطف على ذَهَبٍ أي مِنْ ذَهَبٍ مرصع باللؤلؤ، أو مِنْ ذَهَبٍ في صفاء اللؤلؤ و نصبه نافع و عاصم رحمهما اللّه عطفا على محل مِنْ أَساوِرَ . وَ لِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ .