کتابخانه تفاسیر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 258
وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات الشاهدة على نبوتهم.
وَ بِالزُّبُرِ كصحف إبراهيم عليه السلام. وَ بِالْكِتابِ الْمُنِيرِ كالتوراة و الإنجيل على إرادة التفصيل دون الجمع، و يجوز أن يراد بهما واحد و العطف لتغاير الوصفين.
ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أي إنكاري بالعقوبة.
[سورة فاطر (35): الآيات 27 الى 28]
أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها أجناسها و أصنافها على أن كلّا منها ذو أصناف مختلفة، أو هيئاتها من الصفرة و الخضرة و نحوهما. وَ مِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ أي ذو جدد أي خطط و طرائق يقال جدة الحمار للخطة السوداء على ظهره، و قرئ «جدد» بالضم جمع جديدة بمعنى الجدة و جُدَدٌ بفتحتين و هو الطريق الواضح. بِيضٌ وَ حُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها بالشدة و الضعف. وَ غَرابِيبُ سُودٌ عطف على بِيضٌ أو على جُدَدٌ كأنه قيل: و من الجبال ذو جدد مختلفة اللون و منها غَرابِيبُ متحدة اللون، و هو تأكيد مضمر يفسره ما بعده فإن الغربيب تأكيد للأسود و من حق التأكيد أن يتبع المؤكد و نظير ذلك في الصفة قول النابغة:
و المؤمن العائذات الطير يمسحها و في مثله مزيد تأكيد لما فيه من التكرير باعتبار الإضمار و الإظهار.
وَ مِنَ النَّاسِ وَ الدَّوَابِّ وَ الْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ كاختلاف الثمار و الجبال. إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إذ شرط الخشية معرفة المخشي و العلم بصفاته و أفعاله، فمن كان أعلم به كان أخشى منه و لذلك
قال عليه الصلاة و السلام «إني أخشاكم للّه و أتقاكم له»
و لذلك أتبعه بذكر أفعاله الدالة على كمال قدرته، و تقديم المفعول لأن المقصود حصر الفاعلية و لو أخر انعكس الأمر. و قرئ برفع اسم اللّه و نصب العلماء على أن الخشية مستعارة للتعظيم فإن المعظم يكون مهيبا. إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ تعليل لوجوب الخشية لدلالته على أنه معاقب للمصر على طغيانه غفور للتائب عن عصيانه.
[سورة فاطر (35): الآيات 29 الى 30]
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ يداومون على قراءته أو متابعة ما فيه حتى صارت سمة لهم و عنوانا، و المراد بكتاب اللّه القرآن أو جنس كتب اللّه فيكون ثناء على المصدقين من الأمم بعد اقتصاص حال المكذبين. وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَ عَلانِيَةً كيف اتفق من غير قصد إليهما. و قيل السر في المسنونة و العلانية في المفروضة. يَرْجُونَ تِجارَةً تحصيل ثواب بالطاعة و هو خبر إن. لَنْ تَبُورَ لن تكسد و لن تهلك بالخسران صفة للتجارة و قوله:
لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ علة لمدلوله أي ينتفي عنها الكساد و تنفق عند اللّه ليوفيهم بنفاقها أجور أعمالهم، أو لمدلول ما عد من امتثالهم نحو فعلوا ذلك لِيُوَفِّيَهُمْ أو عاقبة ل يَرْجُونَ . وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ على ما
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 259
يقابل أعمالهم. إِنَّهُ غَفُورٌ لفرطاتهم. شَكُورٌ لطاعاتهم أي مجازيهم عليها، و هو علة للتوفية و الزيادة أو خبر إن و يَرْجُونَ حال من واو وَ أَنْفَقُوا .
[سورة فاطر (35): آية 31]
وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ يعني القرآن و مِنَ للتبيين أو الجنس و مِنَ للتبعيض. هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ أحقه مصدقا لما تقدمه من الكتب السماوية حال مؤكدة لأن حقيته تستلزم موافقته إياه في العقائد و أصول الأحكام. إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ عالم بالبواطن و الظواهر فلو كان في أحوالك ما ينافي النبوة لم يوح إليك مثل هذا الكتاب المعجز الّذي هو عيار على سائر الكتب، و تقديم الخبير للدلالة على أن العمدة في ذلك الأمور الروحانية.
[سورة فاطر (35): آية 32]
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ حكمنا بتوريثه منك أو نورثه فعبر عنه بالماضي لتحققه، أو أورثناه من الأمم السالفة، و العطف على إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ ، وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ اعتراض لبيان كيفية التوريث. الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا يعني علماء الأمة من الصحابة و من بعدهم، أو الأمة بأسرهم فإن اللّه اصطفاهم على سائر الأمم فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ بالتقصير في العمل به. وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ يعمل به في غالب الأوقات. وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ بضم التعليم و الإرشاد إلى العمل، و قيل الظالم الجاهل و المقتصد المتعلم و السابق العالم. و قيل الظالم المجرم و المقتصد الّذي خلط الصالح بالسيء و السابق الّذي ترجحت حسناته بحيث صارت سيئاته مكفرة، و هو معنى
قوله عليه الصلاة و السلام «أما الذين سبقوا فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب، و أما الذين اقتصدوا فأولئك يحاسبون حسابا يسيرا، و أما الذين ظلموا أنفسهم فأولئك يحبسون في طول المحشر ثم يتلقاهم اللّه برحمته».
و قيل الظالم الكافر على أن الضمير للعباد، و تقدميه لكثرة الظالمين و لأن الظلم بمعنى الجهل و الركون إلى الهوى مقتضى الجبلة و الاقتصاد و السبق عارضان. ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ إشارة إلى التوريث أو الاصطفاء أو السبق.
[سورة فاطر (35): الآيات 33 الى 35]
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها مبتدأ و خبر و الضمير للثلاثة أو ل الَّذِينَ أو لل مُقْتَصِدٌ و ال سابِقٌ ، فإن المراد بهما الجنس و قرئ «جنة عدن» و «جنات عدن» منصوب بفعل يفسره الظاهر، و قرأ أبو عمرو يَدْخُلُونَها على البناء للمفعول. يُحَلَّوْنَ فِيها خبر ثان أو حال مقدرة، و قرئ يحلون من حليت المرأة فهي حالية. مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ مِنْ الأولى للتبعيض و الثانية للتبيين. وَ لُؤْلُؤاً عطف على ذَهَبٍ أي مِنْ ذَهَبٍ مرصع باللؤلؤ، أو مِنْ ذَهَبٍ في صفاء اللؤلؤ و نصبه نافع و عاصم رحمهما اللّه عطفا على محل مِنْ أَساوِرَ . وَ لِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ .
وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ همهم من خوف العاقبة، أو همهم من أجل المعاش و آفاته
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 260
أو من وسوسة إبليس و غيرها، و قرئ الْحَزَنَ . و إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ للمذنبين. شَكُورٌ للمطيعين.
الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ دار الإقامة. مِنْ فَضْلِهِ من إنعامه و تفضله إذ لا واجب عليه. لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ تعب. وَ لا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ كلال، إذ لا تكليف فيها و لا كد، أتبع نفي النصب نفي ما يتبعه مبالغة.
[سورة فاطر (35): الآيات 36 الى 37]
وَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ لا يحكم عليهم بموت ثان. فَيَمُوتُوا فيتسريحوا، و نصبه بإضمار أن، و قرئ «فيموتون» عطفا على يُقْضى كقوله: وَ لا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ . وَ لا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها بل كلما خبت زيد إسعارها. كَذلِكَ مثل ذلك الجزاء. نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ مبالغ في الكفر أو الكفران، و قرأ أبو عمرو «يجزى» على بناء المفعول و إسناده إلى كُلِّ* ، و قرى «يجازي».
وَ هُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها يستغيثون يفتعلون من الصراخ و هو الصياح استعمل في الاستغاثة لجهر المستغيث صوته. رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ بإضمار القول و تقييد العمل الصالح بالوصف المذكور للتحسر على ما عملوه من غير الصالح و الاعتراف به، و الإشعار بأن استخراجهم لتلافيه و أنهم كانوا يحسبون أنه صالح و الآن تحقق لهم خلافه. أَ وَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَ جاءَكُمُ النَّذِيرُ جواب من اللّه و توبيخ لهم و ما يَتَذَكَّرُ فيه متناول كل عمر يمكن المكلف فيه من التفكر و التذكر، و قيل ما بين العشرين إلى الستين. و
عنه عليه الصلاة و السلام «العمر الّذي أعذر اللّه فيه إلى ابن آدم ستون سنة».
و العطف على معنى أَ وَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ فإنه للتقرير كأنه قال: عمرناكم و جاءكم النذير و هو النبي صلّى اللّه عليه و سلّم أو الكتاب، و قيل العقل أو الشيب أو موت الأقارب. فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ يدفع العذاب عنهم.
[سورة فاطر (35): الآيات 38 الى 39]
إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لا يخفى عليه خافية فلا يخفى عليه أحوالهم. إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ تعليل له لأنه إذا علم مضمرات الصدور و هي أخفى ما يكون كان أعلم بغيرها.
هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ ملقى إليكم مقاليد التصرف فيها، و قيل خلفا بعد خلف جمع خليفة و الخلفاء جمع خليف. فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ جزاء كفره. وَ لا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً وَ لا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً بيان له، و التكرير للدلالة على أن اقتضاء الكفر لكل واحد من الأمرين مستقل باقتضاء قبحه و وجوب التجنب عنه، و المراد بالمقت و هو أشد البغض مقت اللّه و بالخسار خسار الآخرة.
[سورة فاطر (35): آية 40]
قُلْ أَ رَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني آلهتهم و الإضافة إليهم لأنهم جعلوهم شركاء للّه
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 261
أو لأنفسهم فيما يملكونه. أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ بدل من أَ رَأَيْتُمْ بدل الاشتمال لأنه بمعنى أخبروني كأنه قال: أخبروني عن هؤلاء الشركاء أروني أي جزء من الأرض استبدوا بخلقه. أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أم لهم شركة مع اللّه في خلق السموات فاستحقوا بذلك شركة في الألوهية ذاتية. أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً ينطق على أنا اتخذناهم شركاء. فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ على حجة من ذلك الكتاب بأن لهم شركة جعلية، و يجوز أن يكون هم للمشركين كقوله: أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً و قرأ نافع و ابن عامر و يعقوب و أبو بكر و الكسائي على بينات فيكون إيماء إلى أن الشرك خطير لا بد فيه من تعاضد الدلائل. بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً لما نفى أنواع الحجج في ذلك أضرب عنه بذكر ما حملهم عليه و هو تغرير الأسلاف الأخلاف، أو الرؤساء الأتباع بأنهم شفعاء عند اللّه يشفعون لهم بالتقرب إليه.
[سورة فاطر (35): آية 41]
إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ أَنْ تَزُولا كراهة أن تزولا فإن الممكن حال بقائه لا بد له من حافظ، أو يمنعهما أن تزولا لأن الإمساك منع. وَ لَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ ما أمسكهما. مِنْ بَعْدِهِ من بعد اللّه أو من بعد الزوال، و الجملة سادة مسد الجوابين و من الأولى زائدة و الثانية للابتداء. إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً حيث أمسكهما و كانتا جديرتين بأن تهدا هدا كما قال: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَ تَنْشَقُّ الْأَرْضُ .
[سورة فاطر (35): الآيات 42 الى 43]
وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ . و ذلك أن قريشا لما بلغهم أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم قالوا: لعن اللّه اليهود و النصارى لو أتانا رسول لنكونن أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ ، أي من واحدة من الأمم اليهود و النصارى و غيرهم، أو من الأمة الّتي يقال فيها هي إِحْدَى الْأُمَمِ تفضيلا لها على غيرها في الهدى و الاستقامة. فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ يعني محمّدا عليه الصلاة و السلام. ما زادَهُمْ أي النذير أو مجيئه على التسبب. إِلَّا نُفُوراً تباعدا عن الحق.
اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ بدل من نفورا أو مفعول له. وَ مَكْرَ السَّيِّئِ أصله و إن مكروا المكر السيئ فحذف الموصوف استغناء بوصفه، ثم بدل أن مع الفعل بالمصدر، ثم أضيف. و قرأ حمزة وحده بسكون الهمزة في الوصل. وَ لا يَحِيقُ و لا يحيط. الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ و هو الماكر و قد حاق بهم يوم بدر، و قرئ «و لا يحيق المكر» أي و لا يحيق اللّه. فَهَلْ يَنْظُرُونَ ينتظرون. إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ سنة اللّه فيهم بتعذيب مكذبيهم. فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا إذ لا يبدلها بجعله غير التعذيب تعذيبا و لا يحولها بأن ينقله من المكذبين إلى غيرهم، و قوله:
[سورة فاطر (35): الآيات 44 الى 45]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 262
أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ استشهاد علم بما يشاهدونه في مسايرهم إلى الشام و اليمن و العراق من آثار الماضين. وَ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ ليسبقه و يفوته. فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً بالأشياء كلها. قَدِيراً عليها.
وَ لَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا من المعاصي. ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها ظهر الأرض مِنْ دَابَّةٍ من نسمة تدب عليها بشؤم معاصيهم، و قيل المراد بالدابة الإنس وحده لقوله: وَ لكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى هو يوم القيامة. فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً فيجازيهم على أعمالهم.
عن النبي صلّى اللّه عليه و سلّم «من قرأ سورة الملائكة دعته ثمانية أبواب الجنة: أن أدخل من أي باب شئت».
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 263
(36) سورة يس
مكية و عنه عليه الصلاة و السلام «يس تدعى المعمة تعم صاحبها خير الدارين و الدافعة و القاضية تدفع عنه كل سوء و تقضي له كل حاجة» و آيها ثلاث و ثمانون آية
[سورة يس (36): الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يس (1) وَ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (4)
يس ك الم* في المعنى و الإعراب، و قيل معناه يا إنسان لغة طيئ، على أن أصله يا أنيسين فاقتصر على شطره لكثرة النداء به كما قيل (من اللّه) في أيمن. و قرئ بالكسر كجير و بالفتح على البناء كأين، أو الإعراب على اتل يس أو بإضمار حرف القسم و الفتحة لمنع الصرف و بالضم بناء كحيث، أو إعرابا على هذه يس و أمال الياء حمزة و الكسائي و روح و أبو بكر، و أدغم النون في واو: وَ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ ابن عامر و الكسائي و أبو بكر و ورش و يعقوب، و هي واو القسم أو العطف إن جعل يس مقسما به.
إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ لمن الذين أرسلوا.
عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ و هو التوحيد و الاستقامة في الأمور، و يجوز أن يكون عَلى صِراطٍ خبرا ثانيا أو حالا من المستكن في الجار و المجرور، و فائدته وصف الشرع صريحا بالاستقامة و إن دل عليه لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ التزاما.
[سورة يس (36): الآيات 5 الى 6]
تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (6)
تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ خبر محذوف و المصدر بمعنى المفعول. و قرأ ابن عامر و حمزة و الكسائي و حفص بالنصب بإضمار أعني أو فعله على أنه على أصله، و قرئ بالجر على البدل من القرآن.
لِتُنْذِرَ قَوْماً متعلق ب تَنْزِيلَ أو بمعنى لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ . ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ قوما غير منذر آباؤهم يعني آباءهم الأقربين لتطاول مدة الفترة، فيكون صفة مبينة لشدة حاجتهم إلى إرساله، أو الّذي أنذر به أو شيئا أنذر به آباؤهم الأبعدون، فيكون مفعولا ثانيا لِتُنْذِرَ ، أو إنذار آبائهم على المصدر. فَهُمْ غافِلُونَ متعلق بالنفي على الأول أي لم ينذروا فبقوا غافلين، أو بقوله إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ على الوجوه الأخرى أي أرسلناك إليهم لتنذرهم فإنهم غافلون.
[سورة يس (36): الآيات 7 الى 9]
لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ يعني قوله: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ* . فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ لأنهم ممن علم اللّه أنهم لا يؤمنون.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 264
إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا تقرير لتصميمهم على الكفر و الطبع على قلوبهم بحيث لا تغني عنهم الآيات و النذر، بتمثيلهم بالذين غلت أعناقهم. فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فالأغلال، واصلة إلى أذقانهم فلا تخليهم يطأطئون رؤوسهم له. فَهُمْ مُقْمَحُونَ رافعون رؤوسهم غاضون أبصارهم في أنهم لا يلتفتون لفت الحق و لا يعطفون أعناقهم نحوه و لا يطأطئون رؤوسهم له.
وَ جَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَ مِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ و بمن أحاط بهم سدان فغطى أبصارهم بحيث لا يبصرون قدامهم و وراءهم في أنهم محبوسون في مطمورة الجهالة ممنوعون عن النظر في الآيات و الدلائل. و قرأ حمزة و الكسائي و حفص سدا بالفتح و هو لغة فيه، و قيل ما كان بفعل الناس فبالفتح و ما كان بخلق اللّه فبالضم. و قرئ «فأعشيناهم» من العشاء. و قيل الآيتان في بني مخزوم حلف أبو جهل أن يرضخ رأس النبي صلّى اللّه عليه و سلّم فأتاه و هو يصلي و معه حجر ليدمغه، فلما رفع يده انثنت إلى عنقه و لزق الحجر بيده حتى فكوه عنها بجهد، فرجع إلى قومه فأخبرهم، فقال مخزومي آخر: أنا أقتله بهذا الحجر فذهب فأعمى اللّه بصره.
[سورة يس (36): الآيات 10 الى 11]
وَ سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ سبق في «البقرة» تفسيره.
إِنَّما تُنْذِرُ إنذارا يترتب عليه البغية المرومة. مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ أي القرآن بالتأمل فيه و العمل به.
وَ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ و خاف عقابه قبل حلوله و معاينة أهواله، أو في سريرته و لا يغتر برحمته فإنه كما هو رحمن، منتقم قهار. فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَ أَجْرٍ كَرِيمٍ .
[سورة يس (36): آية 12]
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى الأموات بالبعث أو الجهال بالهداية. وَ نَكْتُبُ ما قَدَّمُوا ما أسلفوا من الأعمال الصالحة و الطالحة. وَ آثارَهُمْ الحسنة كعلم علموه و حبيس وقفوه، و السيئة كإشاعة باطل و تأسيس ظلم.
وَ كُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ يعني اللوح المحفوظ.
[سورة يس (36): الآيات 13 الى 14]
وَ اضْرِبْ لَهُمْ و مثل لهم من قولهم هذه الأشياء على ضرب واحد أي مثال واحد، و هو يتعدى إلى مفعولين لتضمنه معنى الجعل و هما: مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ على حذف مضاف أي اجعل لهم مثل أصحاب القرية مثلا، و يجوز أن يقتصر على واحد و يجعل المقدر بدلا من الملفوظ أو بيانا له، و القرية أنطاكية. إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ بدل من أصحاب القرية، و الْمُرْسَلُونَ رسل عيسى عليه الصلاة و السلام إلى أهلها و إضافته إلى نفسه في قوله: