کتابخانه تفاسیر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 268
[سورة يس (36): الآيات 35 الى 36]
لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ ثمر ما ذكر و هو الجنات، و قيل الضمير للّه تعالى على طريقة الالتفات و الإضافة إليه لأن الثمر بخلقه، و قرأ حمزة و الكسائي بضمتين و هو لغة فيه، أو جمع ثمار و قرئ بضمة و سكون. وَ ما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ عطف على الثمر و المراد ما يتخذ منه كالعصير و الدبس و نحوهما، و قيل ما نافية و المراد أن الثمر بخلق اللّه لا بفعلهم، و يؤيد الأول قراءة الكوفيين غير حفص بلا هاء فإن حذفه من الصلة أحسن من غيرها. أَ فَلا يَشْكُرُونَ أمر بالشكر من حيث إنه إنكار لتركه.
سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها الأنواع و الأصناف. مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ من النبات و الشجر. وَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ الذكر و الأنثى. وَ مِمَّا لا يَعْلَمُونَ و أزواجا مما لم يطلعهم اللّه تعالى عليه و لم يجعل لهم طريقا إلى معرفته.
[سورة يس (36): الآيات 37 الى 38]
وَ آيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ نزيله و نكشفه عن مكانه مستعار من سلخ الجلد و الكلام في إعرابه ما سبق. فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ داخلون في الظلام.
وَ الشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها لحد معين ينتهي إليه دورها، فشبه بمستقر المسافر إذا قطع مسيره، أو لكبد السماء فإن حركتها فيه يوجد فيها بطء بحيث يظن أن لها هناك وقفة قال:
و الشّمس حيرى لها بالجوّ تدويم أو لاستقرار لها على نهج مخصوص، أو لمنتهى مقدر لكل يوم من المشارق و المغارب فإن لها في دورها ثلاثمائة و ستين مشرقا و مغربا، تطلع كل يوم من مطلع و تغرب من مغرب ثم لا تعود إليهما إلى العام القابل، أو لمنقطع جريها عند خراب العالم. و قرئ «لا مستقر لها» أي لا سكون فإنها متحركة دائما و «لا مستقر» على أن «لا» بمعنى ليس. ذلِكَ الجري على هذا التقدير المتضمن للحكم الّتي تكل الفطن عن إحصائها. تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الغالب بقدرته على كل مقدور. الْعَلِيمِ المحيط علمه بكل معلوم.
[سورة يس (36): الآيات 39 الى 40]
وَ الْقَمَرَ قَدَّرْناهُ قدرنا مسيره. مَنازِلَ أو سيره في منازل و هي ثمانية و عشرون: الشرطان، البطين، الثريا، الدبران، الهقعة، الهنعة، الذراع، النثرة، الطرف، الجبهة، الزبرة، الصرفة، العواء، السماك، الغفر، الزبانا، الإكليل، القلب، الشولة، النعائم، البلدة، سعد الذابح، سعد بلع، سعد السعود، سعد الأخبية، فرغ الدلو المقدم، فرغ الدلو المؤخر، الرشا، و هو بطن الحوت ينزل كل ليلة في واحد منها لا يتخطاه و لا يتقاصر عنه، فإذا كان في آخر منازله و هو الّذي يكون فيه قبيل الاجتماع دق و استقوس، و قرأ الكوفيون و ابن عامر وَ الْقَمَرَ بنصب الراء. حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ كالشمراخ المعوج، فعلون من الانعراج و هو الاعوجاج، و قرئ «كالعرجون» و هما لغتان كالبزيون و البزيون. الْقَدِيمِ العتيق و قيل ما مر عليه حول فصاعدا.
لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها يصح لها و يتسهل. أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ في سرعة سيره فإن ذلك يخل بتكون
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 269
النبات و تعيش الحيوان، أو في آثاره و منافعه أو مكانه بالنزول إلى محله، أو سلطانه فتطمس نوره، و إيلاء حرف النفي الشَّمْسُ للدلالة على أنها مسخرة لا يتيسر لها إلا ما أريد بها. وَ لَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ يسبقه فيفوته و لكن يعاقبه، و قيل المراد بهما آيتاهما و هما النيران، و بالسبق سبق القمر إلى سلطان الشمس فيكون عكسا للأول و تبديل الإدراك بالسبق لأنه الملائم لسرعة سيره. وَ كُلٌ و كلهم و التنوين عوض عن المضاف إليه، و الضمير للشموس و الأقمار فإن اختلاف الأحوال يوجب تعددا ما في الذات، أو للكواكب فإن ذكرهما مشعر بهما. فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ يسيرون فيه بانبساط.
[سورة يس (36): الآيات 41 الى 42]
وَ آيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ أولادهم الذين يبعثونهم إلى تجاراتهم، أو صبيانهم و نساءهم الذين يستصحبونهم، فإن الذرية تقع عليهن لأنهن مزارعها. و تخصيصهم لأن استقرارهم في السفن أشق و تماسكهم فيها أعجب، و قرأ نافع و ابن عامر ذرياتهم. فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ المملوء، و قيل المراد فلك نوح عليه الصلاة و السلام، و حمل اللّه ذرياتهم فيها أنه حمل فيها آباءهم الأقدمين و في أصلابهم هم و ذرياتهم، و تخصيص الذرية لأنه أبلغ في الامتنان و أدخل في التعجب مع الإيجاز.
وَ خَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ من مثل الفلك. ما يَرْكَبُونَ من الإبل فإنها سفائن البر أو من السفن و الزوارق.
[سورة يس (36): الآيات 43 الى 44]
وَ إِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ فلا مغيث لهم يحرسهم عن الغرق، أو فلا إغاثة كقولهم أتاهم الصريخ. وَ لا هُمْ يُنْقَذُونَ ينجون من الموت به.
إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَ مَتاعاً إلا لرحمة و لتمتيع بالحياة. إِلى حِينٍ زمان قدر لآجالهم.
[سورة يس (36): الآيات 45 الى 46]
وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَ ما خَلْفَكُمْ الوقائع الّتي خلت أو العذاب المعد في الآخرة، أو نوازل السماء و نوائب الأرض كقوله: أَ فَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ أو عذاب الدنيا و عذاب الآخرة أو عكسه، أو ما تقدم من الذنوب و ما تأخر. لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ لتكونوا راجين رحمة اللّه، و جواب إذا محذوف دل عليه قوله: وَ ما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ كأنه قال و إذا قيل لهم اتقوا العذاب أعرضوا لأنهم اعتادوه و تمرنوا عليه.
[سورة يس (36): آية 47]
وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ على محاويجكم. قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا بالصانع يعني معطلة كانوا بمكة. لِلَّذِينَ آمَنُوا تهكما بهم من إقرارهم به و تعليقهم الأمور بمشيئته. أَ نُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ على زعمكم، و قيل قاله مشركو قريش حين استطعمهم فقراء المؤمنين إيهاما بأن اللّه تعالى لما كان قادرا أن يطعمهم و لم يطعمهم فنحن أحق بذلك، و هذا من فرط جهالتهم فإن اللّه يطعم بأسباب منها حث الأغنياء على إطعام الفقراء و توفيقهم له. إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ حيث أمرتمونا ما يخالف مشيئة اللّه، و يجوز أن
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 270
يكون جوابا من اللّه لهم أو حكاية لجواب المؤمنين لهم.
[سورة يس (36): الآيات 48 الى 50]
وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ يعنون وعد البعث.
ما يَنْظُرُونَ ما ينتظرون. إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً هي النفخة الأولى. تَأْخُذُهُمْ وَ هُمْ يَخِصِّمُونَ يتخاصمون في متاجرهم و معاملاتهم لا يخطر ببالهم أمرها كقوله: أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ و أصله يختصمون فسكنت التاء و أدغمت ثم كسرت الخاء لالتقاء الساكنين، و قرأ أبو بكر بكسر الياء للاتباع، و قرأ ابن كثير و ورش و هشام بفتح الخاء على إلقاء حركة التاء إليه، و أبو عمرو و قالون به مع الاختلاس و عن نافع الفتح فيه و الإسكان و التشديد و كأنه جوز الجمع بين الساكنين إذا كان الثاني مدغما، و قرأ حمزة يَخِصِّمُونَ من خصمه إذا جادله.
فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً في شيء من أمورهم. وَ لا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ فيروا حالهم بل يموتون حيث تبغتهم.
[سورة يس (36): الآيات 51 الى 52]
وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ أي مرة ثانية و قد سبق تفسيره في سورة «المؤمنين». فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ من القبور جمع جدث و قرئ بالفاء. إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ يسرعون و قرئ بالضم.
قالُوا يا وَيْلَنا و قرئ «يا ويلتنا» مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا و قرئ «من أهبنا» من هب من نومه إذا انتبه و من هبنا بمعنى أهبنا، و فيه ترشيخ و رمز و إشعار بأنهم لاختلاط عقولهم يظنون أنهم كانوا نياما، و مَنْ بَعَثَنا و «من هبنا» على من الجارة و المصدر، و سكت حفص وحده عليها سكتة لطيفة و الوقف عليها في سائر القراءات حسن. هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَ صَدَقَ الْمُرْسَلُونَ مبتدأ و خبر و ما مصدرية، أو موصولة محذوفة الراجع، أو هذا صفة ل مَرْقَدِنا و ما وَعَدَ خبر محذوف، أو مبتدأ خبره محذوف أي هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَ صَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ، أو ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَ صَدَقَ الْمُرْسَلُونَ حق و هو من كلامهم، و قيل جواب للملائكة أو المؤمنين عن سؤالهم، معدول عن سننه تذكيرا لكفرهم و تقريعا لهم عليه و تنبيها بأن الّذي يهمهم هو السؤال عن البعث دون الباعث كأنهم قالوا: بعثكم الرحمن الّذي وعدكم البعث و أرسل إليكم الرسل فصدقوكم و ليس الأمر كما تظنون، فإنه ليس يبعث النائم فيهمكم السؤال عن الباعث و إنما هو البعث الأكبر ذو الأهوال.
[سورة يس (36): الآيات 53 الى 54]
إِنْ كانَتْ ما كانت الفعلة. إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً هي النفخة الأخيرة، و قرئت بالرفع على كان التامة.
فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ بمجرد تلك الصيحة و في كل ذلك تهوين أمر البعث و الحشر و استغناؤهما عن الأسباب الّتي ينوطان بها فيما يشاهدونه.
فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَ لا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ حكاية لما يقال لهم حينئذ تصويرا للموعود
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 271
و تمكينا له في النفوس و كذا قوله:
[سورة يس (36): الآيات 55 الى 56]
إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ متلذذون في النعمة من الفكاهة، و في تنكير شُغُلٍ و إبهامه تعظيم لما هم فيه من البهجة و التلذذ، و تنبيه على أنه أعلى ما يحيط به الأفهام و يعرب عن كنهه الكلام، و قرأ ابن كثير و نافع و أبو عمرو فِي شُغُلٍ بالسكون، و يعقوب في رواية «فكهون» للمبالغة و هما خبران ل إِنَ ، و يجوز أن يكون فِي شُغُلٍ صلة ل فاكِهُونَ ، و قرئ «فكهون» بالضم و هو لغة كنطس و نطس «و فاكهين» «و فكهين» على الحال من المستكن في الظرف، و شُغُلٍ بفتحتين و فتحة و سكون و الكل لغات.
هُمْ وَ أَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ جمع ظل كشعاب أو ظلة كقباب و يؤيده قراءة حمزة و الكسائي في «ظلل».
عَلَى الْأَرائِكِ على السرر المزينة. مُتَّكِؤُنَ و هُمْ مبتدأ خبره فِي ظِلالٍ ، و عَلَى الْأَرائِكِ جملة مستأنفة أو خبر ثان أو مُتَّكِؤُنَ و الجارّان صلتان له، أو تأكيد للضمير في شغل أو في فاكهون، و على الأرائك متكئون خبر آخر لإن و أزواجهم عطف على هُمْ للمشاركة في الأحكام الثلاثة، و فِي ظِلالٍ حال من المعطوف و المعطوف عليه.
[سورة يس (36): الآيات 57 الى 58]
لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَ لَهُمْ ما يَدَّعُونَ (57) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)
لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَ لَهُمْ ما يَدَّعُونَ ما يدعون به لأنفسهم يفتعلون من الدعاء كاشتوى و اجتمل إذا شوى و جمل لنفسه، أو ما يتداعونه كقولك ارتموه بمعنى تراموه، أو يتمنون من قولهم ادّع علي ما شئت بمعنى تمنه علي، أو ما يدعونه في الدنيا من الجنة و درجاتها و ما موصولة أو موصوفة مرتفعة بالابتداء، و لَهُمْ خبرها و قوله:
سَلامٌ بدل منها أو صفة أخرى، و يجوز أن يكون خبرها أو خبرها محذوف أو مبتدأ محذوف الخبر أي و لهم سلام، و قرئ بالنصب على المصدر أو الحال أي لهم مرادهم خالصا. قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ أي يقول اللّه أو يقال لهم قولا كائنا من جهته، و المعنى أن اللّه يسلم عليهم بواسطة الملائكة أو بغير واسطة تعظيما لهم و ذلك مطلوبهم و متمناهم، و يحتمل نصبه على الاختصاص.
[سورة يس (36): الآيات 59 الى 61]
وَ امْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ و انفردوا عن المؤمنين و ذلك حين يسار بهم إلى الجنة كقوله: وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ . و قيل اعتزلوا من كل خير أو تفرقوا في النار فإن لكل كافر بيتا ينفرد به لا يرى و لا يرى.
أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ من جملة ما يقال لهم تقريعا و إلزاما للحجة، و عهده إليهم ما نصب لهم من الحجج العقلية و السمعية الآمرة بعبادته الزاجرة عن عبادة غيره و جعلها عبادة الشيطان، لأنه الآمر بها و المزين لها، و قرئ «اعهد» بكسر حرف المضارعة و «أحهد» و «أحد» على لغة بني تميم.
إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ تعليل للمنع عن عبادته بالطاعة فيما يحملهم عليه.
وَ أَنِ اعْبُدُونِي عطف على أَنْ لا تَعْبُدُوا . هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ إشارة إلى ما عهد إليهم أو إلى عبادته، فالجملة استئناف لبيان المقتضي للعهد بشقيه أو بالشق الآخر، و التنكير للمبالغة و التعظيم، أو للتبعيض
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 272
فإن التوحيد سلوك بعض الطريق المستقيم.
[سورة يس (36): الآيات 62 الى 64]
وَ لَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً أَ فَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ رجوع إلى بيان معاداة الشيطان مع ظهور عداوته و وضوح إضلاله لمن له أدنى عقل و رأي، و الجبل الخلق، و قرأ يعقوب بضمتين و ابن كثير و حمزة و الكسائي بهما مع تخفيف اللام و ابن عامر و أبو عمرو بضمة و سكون مع التخفيف و الكل لغات، و قرئ «جبلا» جمع جبلة كخلقة و خلق و «جيلا» واحد الأجيال.
هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ .
اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ذوقوا حرها اليوم بكفركم في الدنيا.
[سورة يس (36): الآيات 65 الى 66]
الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ نمنعها عن الكلام. وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ بظهور آثار المعاصي عليها و دلالتها على أفعالها، أو إنطاق اللّه إياها و
في الحديث «إنهم يجحدون و يخاصمون فيختم على أفواههم و تتكلم أيديهم و أرجلهم».
وَ لَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ لمسحنا أعينهم حتى تصير ممسوحة. فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فاستبقوا إلى الطريق الّذي اعتادوا سلوكه، و انتصابه بنزع الخافض أو بتضمين الاستباق معنى الابتدار، أو جعل المسبوق إليه مسبوقا على الاتساع أو بالظرف. فَأَنَّى يُبْصِرُونَ الطريق وجهة السلوك فضلا عن غيره.
[سورة يس (36): الآيات 67 الى 68]
وَ لَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ بتغيير صورهم و إبطال قواهم. عَلى مَكانَتِهِمْ مكانهم بحيث يجمدون فيه، و قرأ أبو بكر «مكاناتهم». فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا ذهابا. وَ لا يَرْجِعُونَ و لا رجوعا فوضع الفعل موضعه للفواصل، و قيل لا يَرْجِعُونَ عن تكذيبهم، و قرئ «مضيا» بإتباع الميم الضاد المكسورة لقلب الواو ياء كالعتي و العتي و «مضيا» كصبي، و المعنى أنهم بكفرهم و نقضهم ما عهد إليهم أحقاء بأن يفعل بهم ذلك لكنا لم نفعل لشمول الرحمة لهم و اقتضاء الحكمة إمهالهم.
وَ مَنْ نُعَمِّرْهُ و من نطل عمره. نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ نقلبه فيه فلا يزال يتزايد ضعفه و انتقاض بنيته و قواه عكس ما كان عليه بدء أمره، و ابن كثير على هذه يشبع ضمة الهاء على أصله، و قرأ عاصم و حمزة نُنَكِّسْهُ من التنكيس و هو أبلغ و النكس أشهر. أَ فَلا يَعْقِلُونَ أن من قدر على ذلك قدر على الطمس و المسخ فإنه مشتمل عليهما و زيادة غير أنه على تدرج، و قرأ نافع برواية ابن عامر و ابن ذكوان و يعقوب بالتاء لجري الخطاب قبله.
[سورة يس (36): الآيات 69 الى 70]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 273
وَ ما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ رد لقولهم إن محمّدا شاعر أي ما علمناه الشعر بتعليم القرآن، فإنه لا يماثله لفظا و لا معنى لأنه غير مقفى و لا موزون، و ليس معناه ما يتوخاه الشعراء من التخيلات المرغبة و المنفرة و نحوها.
وَ ما يَنْبَغِي لَهُ و ما يصح له الشعر و لا يتأتى له إن أراد قرضه على ما خبرتم طبعه نحوا من أربعين سنة، و
قوله عليه الصلاة و السلام: «أنا النبي لا كذب* أنا ابن عبد المطلب»
و
قوله: هل أنت إلا إصبع دميت* و في سبيل اللّه ما لقيت
اتفاقي من غير تكلف و قصد منه إلى ذلك، و قد يقع مثله كثيرا في تضاعيف المنثورات على أن الخليل ما عد المشطور من الرجز شعرا، هذا و قد روي أنه حرك الباءين و كسر التاء الأولى بلا إشباع و سكن الثانية، و قيل الضمير لل قُرْآنٌ أي و ما يصح للقرآن أن يكون شعرا. إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ عظة و إرشاد من اللّه تعالى.
وَ قُرْآنٌ مُبِينٌ و كتاب سماوي يتلى في المعابد، ظاهر أنه ليس من كلام البشر لما فيه من الإعجاز.
لِيُنْذِرَ القرآن أو الرسول صلّى اللّه عليه و سلّم، و يؤيده قراءة نافع و ابن عامر و يعقوب بالتاء. مَنْ كانَ حَيًّا عاقلا فهما فإن الغافل كالميت، أو مؤمنا في علم اللّه تعالى فإن الحياة الأبدية بالإيمان، و تخصيص الإنذار به لأنه المنتفع به. وَ يَحِقَّ الْقَوْلُ و تجب كلمة العذاب. عَلَى الْكافِرِينَ المصرين على الكفر، و جعلهم في مقابلة من كان حيا إشعارا بأنهم لكفرهم و سقوط حجتهم و عدم تأملهم أموات في الحقيقة.
[سورة يس (36): الآيات 71 الى 73]
أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا مما تولينا إحداثه و لم يقدر على إحداثه غيرنا، و ذكر الأيدي و إسناد العمل إليها استعارة تفيد مبالغة في الاختصاص، و التفرد بالإحداث. أَنْعاماً خصها بالذكر لما فيها من بدائع الفطرة و كثرة المنافع. فَهُمْ لَها مالِكُونَ متملكون لها بتمليكنا إياها، أو متمكنون من ضبطها و التصرف فيها بتسخيرنا إياها لهم قال:
أصبحت لا أحمل السّلاح و لا
أملك رأس البعير إن نفرا
وَ ذَلَّلْناها لَهُمْ و صيرناها منقادة لهم. فَمِنْها رَكُوبُهُمْ مركوبهم، و قرئ «ركوبتهم»، و هي بمعناه كالحلوب و الحلوبة، و قيل جمعه و ركوبهم أي ذو ركوبهم أو فمن منافعها رَكُوبُهُمْ . وَ مِنْها يَأْكُلُونَ أي ما يأكلون لحمه.
وَ لَهُمْ فِيها مَنافِعُ من الجلود و الأصواف و الأوبار. وَ مَشارِبُ من اللبن جمع مشرب بمعنى الموضع، أو المصدر و أمال الشين ابن عامر وحده برواية هشام. أَ فَلا يَشْكُرُونَ نعم اللّه في ذلك إذ لولا خلقه لها و تذليله إياها كيف أمكن التوسل إلى تحصيل هذه المنافع المهمة.
[سورة يس (36): الآيات 74 الى 76]
وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً أشركوها به في العبادة بعد ما رأوا منه تلك القدرة الباهرة و النعم المتظاهرة، و علموا أنه المتفرد بها. لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ رجاء أن ينصروهم فيما حزبهم من الأمور و الأمر بالعكس لأنهم.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج4، ص: 274
لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَ هُمْ لَهُمْ لآلهتهم. جُنْدٌ مُحْضَرُونَ معدون لحفظهم و الذب عنهم، أو مُحْضَرُونَ أثرهم في النار.
فَلا يَحْزُنْكَ فلا يهمك، و قرئ بضم الياء من أحزن. قَوْلُهُمْ في اللّه بالإلحاد و الشرك، أو فيك بالتكذيب و التهجين. إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَ ما يُعْلِنُونَ فنجازيهم عليه و كفى ذلك أن تتسلى به، و هو تعليل للنهي على الاستئناف و لذلك لو قرئ إِنَّا بالفتح على حذف لام التعليل جاز.
[سورة يس (36): الآيات 77 الى 78]
أَ وَ لَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ تسلية ثانية بتهوين ما يقولونه بالنسبة إلى إنكارهم الحشر، و فيه تقبيح بليغ لإنكاره حيث عجب منه و جعله إفراطا في الخصومة بينا و منافاة لجحود القدرة على ما هو أهون مما عمله في بدء خلقه، و مقابلة النعمة الّتي لا مزيد عليها و هي خلقه من أخس شيء و أمهنه شريفا مكرما بالعقوق و التكذيب.
روي «أن أبي بن خلف أتى النبي صلّى اللّه عليه و سلّم بعظم بال يفتته بيده و قال:
أ ترى اللّه يحيي هذا بعد ما رمّ، فقال عليه الصلاة و السلام: نعم و يبعثك و يدخلك النار فنزلت.
و قيل معنى فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ فإذا هو بعد ما كان ماء مهينا مميز منطيق قادر على الخصام معرب عما في نفسه.
وَ ضَرَبَ لَنا مَثَلًا أمرا عجيبا و هو نفي القدرة على إحياء الموتى، أو تشبيهه بخلقه بوصفه بالعجز عما عجزوا عنه. وَ نَسِيَ خَلْقَهُ خلقنا إياه. قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ منكرا إياه مستبعدا له، و الرميم ما بلي من العظام، و لعله فعيل بمعنى فاعل من رم الشيء صار اسما بالغلبة و لذلك لم يؤنث، أو بمعنى مفعول من رممته. و فيه دليل على أن العظم ذو حياة فيؤثر فيه الموت كسائر الأعضاء.
[سورة يس (36): الآيات 79 الى 80]
قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ فإن قدرته كما كانت لامتناع التغير فيه و المادة على حالها في القابلية اللازمة لذاتها. وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ يعلم تفاصيل المخلوقات بعلمه و كيفية خلقها، فيعلم أجزاء الأشخاص المتفتتة المتبددة أصولها و فصولها و مواقعها و طريق تمييزها، و ضم بعضها إلى بعض على النمط السابق و إعادة الأعراض و القوى الّتي كانت فيها أو إحداث مثلها.
الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ كالمرخ و العفار. ناراً بأن يسحق المرخ على العفار و هما خضراوان يقطر منهما الماء فتنقدح النار. فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ لا تشكون في أنها نار تخرج منه، فمن قدر على إحداث النار من الشجر الأخضر مع ما فيه من المائية المضادة لها بكيفيتها كان أقدر على إعادة الغضاضة فيما كان غضا فيبس و بلي، و قرئ «من الشجر الخضراء» على المعنى كقوله فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ* .
[سورة يس (36): الآيات 81 الى 82]
أَ وَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ مع كبر جرمهما و عظم شأنهما. بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ في الصغر و الحقارة بالإضافة إليهما، أو مثلهم في أصول الذات و صفاتها و هو المعاد، و عن يعقوب «يقدر».