کتابخانه تفاسیر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 11
بعض الملائكة يقول لهم: هل تحبون أن تطلعوا على أهل النار لأريكم ذلك القرين فتعلموا أين منزلتكم من منزلتهم؟ و عن أبي عمرو مُطَّلِعُونَ، فَاطَّلَعَ بالتخفيف و كسر النون و ضم الألف على أنه جعل اطلاعهم سبب اطلاعه من حيث أن أدب المجالسة يمنع الاستبداد به، أو خاطب الملائكة على وضع المتصل موضع المنفصل كقوله:
هم الآمرون الخير و الفاعلونه أو شبه اسم الفاعل بالمضارع.
فَاطَّلَعَ عليهم. فَرَآهُ أي قرينه. فِي سَواءِ الْجَحِيمِ وسطه.
[سورة الصافات (37): الآيات 56 الى 59]
قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ لتهلكني بالإغواء، و قرئ «لتغوين» و إِنْ هي المخففة و اللام هي الفارقة.
وَ لَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي بالهداية و العصمة. لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ معك فيها.
أَ فَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ عطف على محذوف أي أ نحن مخلدون منعمون فما نحن بميتين، أي بمن شأنه الموت و قرئ «بمائتين».
إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى التي كانت في الدنيا و هي متناولة لما في القبر بعد الإحياء للسؤال، و نصبها على المصدر من اسم الفاعل. و قيل على الاستثناء المنقطع. وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ كالكفار، و ذلك تمام كلامه لقرينه تقريعا له أو معاودة إلى مكالمة جلسائه تحدثا بنعمة اللّه، أو تبجحا بها و تعجبا منها و تعريضا للقرين بالتوبيخ.
[سورة الصافات (37): الآيات 60 الى 61]
إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (61)
إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ يحتمل أن يكون من كلامهم و أن يكون كلام اللّه لتقرير قوله و الإشارة إلى ما هم عليه من النعمة و الخلود و الأمن من العذاب.
لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ أي لنيل مثل هذا يجب أن يعمل العاملون لا للحظوظ الدنيوية المشوبة بالآلام السريعة الانصرام، و هو أيضا يحتمل الأمرين.
[سورة الصافات (37): الآيات 62 الى 66]
أَ ذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ شجرة ثمرها نزل أهل النار، و انتصاب نُزُلًا على التمييز أو الحال و في ذكره دلالة على أن ما ذكر من النعيم لأهل الجنة بمنزلة ما يقام للنازل و لهم وراء ذلك ما تقصر عنه الأفهام، و كذلك الزقوم لأهل النار، و هو: اسم شجرة صغيرة الورق دفر مرة تكون بتهامة سميت به الشجرة الموصوفة.
إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ محنة و عذابا لهم في الآخرة، أو ابتلاء في الدنيا فإنهم لما سمعوا أنها في النار قالوا كيف ذلك و النار تحرق الشجر، و لم يعلموا أن من قدر على خلق حيوان يعيش في النار و يلتذ بها فهو أقدر على خلق الشجر في النار و حفظه من الإحراق.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 12
إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ منبتها في قعر جهنم و أغصانها ترتفع إلى دركاتها.
طَلْعُها حملها مستعار من طلع التمر لمشاركته إياه في الشكل، أو الطلوع من الشجر. كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ في تناهي القبح و الهول، و هو تشبيه بالمتخيل كتشبيه الفائق الحسن بالملك. و قيل الشَّياطِينِ حيات هائلة قبيحة المنظر لها أعراف، و لعلها سميت بها لذلك.
فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها من الشجرة أو من طلعها. فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ لغلبة الجوع أو الجبر على أكلها.
[سورة الصافات (37): الآيات 67 الى 68]
ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها أي بعد ما شبعوا منها و غلبهم العطش و طال استسقاؤهم، و يجوز أن يكون ثم لما في شرابهم من مزيد الكراهة و البشاعة. لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ لشرابا من غساق، أو صديد مشوبا بماء حميم يقطع أمعاءهم، و قرئ بالضم و هو اسم ما يشاب به و الأوّل مصدر سمي به.
ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ مصيرهم. لَإِلَى الْجَحِيمِ إلى دركاتها أو إلى نفسها، فإن الزقوم و الحميم نزل يقدم إليهم قبل دخولهم، و قيل الحميم خارج عنها لقوله تعالى: هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَها وَ بَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ يوردون إليه كما تورد الإبل إلى الماء ثم يردون إلى الجحيم، و يؤيده أنه قرئ «ثم إن منقلبهم».
[سورة الصافات (37): الآيات 69 الى 74]
إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)
إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ تعليل لاستحقاقهم تلك الشدائد بتقليد الآباء في الضلال، و الإهراع: الإسراع الشديد كأنهم يزعجون على الإسراع على آثارِهِمْ ، و فيه إشعار بأنهم بادروا إلى ذلك من غير توقف على نظر و بحث.
وَ لَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ قبل قومك. أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ .
وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ أنبياء أنذروهم من العواقب.
فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ من الشدة و الفظاعة.
إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ إلا الذين تنبهوا بإنذارهم فأخلصوا دينهم للّه، و قرئ بالفتح أي الذين أخلصهم اللّه لدينه و الخطاب مع الرسول صلّى اللّه عليه و سلم، و المقصود خطاب قومه فإنهم أيضا سمعوا أخبارهم و رأوا آثارهم.
[سورة الصافات (37): الآيات 75 الى 78]
وَ لَقَدْ نادانا نُوحٌ شروع في تفصيل القصص بعد إجمالها، أي و لقد دعانا حين أيس من قومه. فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ أي فأجبناه أحسن الإجابة فو اللّه لنعم المجيبون نحن، فحذف منها ما حذف لقيام ما يدل عليه.
وَ نَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ من الغرق أو أذى قومه.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 13
وَ جَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ إذ هلك من عداهم و بقوا متناسلين إلى يوم القيامة، إذ
روي أنه مات كل من كان معه في السفينة غير بنيه و أزواجهم.
وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ من الأمم.
[سورة الصافات (37): الآيات 79 الى 82]
سَلامٌ عَلى نُوحٍ هذا الكلام جيء به على الحكاية و المعنى يسلمون عليه تسليما. و قيل هو سلام من اللّه عليه و مفعول تَرَكْنا محذوف مثل الثناء. فِي الْعالَمِينَ متعلق بالجار و المجرور و معناه الدعاء بثبوت هذه التحية في الملائكة و الثقلين جميعا.
إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ تعليل لما فعل بنوح من التكرمة بأنه مجازاة له على إحسانه.
إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ تعليل لإحسانه بالإيمان إظهارا لجلالة قدره و أصالة أمره.
ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ يعني كفار قومه.
[سورة الصافات (37): الآيات 83 الى 87]
وَ إِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ ممن شايعه في الإيمان و أصول الشريعة. لَإِبْراهِيمَ و لا يبعد اتفاق شرعهما في الفروع أو غالبا، و كان بينهما ألفان و ستمائة و أربعون سنة، و كان بينهما نبيان هود و صالح.
إِذْ جاءَ رَبَّهُ متعلق بما في الشيعة من معنى المشايعة أو بمحذوف هو اذكر. بِقَلْبٍ سَلِيمٍ من آفات القلوب أو من العلائق خالص للّه أو مخلص له، و قيل حزين من السليم بمعنى اللديغ. و معنى المجيء به ربه: إخلاصه له كأنه جاء به متحفا إياه.
إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ بدل من الأولى أو ظرف ل جاءَ أو سَلِيمٍ .
أَ إِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ أي تريدون آلهة دون اللّه إفكا مقدم المفعول للعناية ثم المفعول له لأن الأهم أن يقرر أنهم على الباطل و مبنى أمرهم على الإفك، و يجوز أن يكون إفكا مفعولا به و آلِهَةً بدل منه على أنها إفك في نفسها للمبالغة، أو المراد بها عبادتها بحذف المضاف أو حالا بمعنى آفكين.
فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ بمن هو حقيق بالعبادة لكونه ربا للعالمين حتى تركتم عبادته، أو أشركتم به غيره أو أمنتم من عذابه، و المعنى إنكار ما يوجب ظنا فضلا عن قطع يصد عن عبادته، أو يجوز الإشراك به أو يقتضي الأمن من عقابه على طريقة الإلزام و هو كالحجة على ما قبله.
[سورة الصافات (37): الآيات 88 الى 90]
فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فرأى مواقعها و اتصالاتها، أو في علمها أو في كتابها، و لا منع منه مع أن قصده إيهامهم و ذلك حين سألوه أن يعبد معهم.
فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ أراهم أنه استدل بها لأنهم كانوا منجمين على أنه مشارف للسقم لئلا يخرجوه إلى معبدهم، فإنه كان أغلب أسقامهم الطاعون و كانوا يخافون العدوى، أو أراد إني سقيم القلب لكفركم، أو خارج المزاج عن الاعتدال خروجا قل من يخلو منه أو بصدد الموت و منه المثل: كفى بالسلامة داء، و قول لبيد:
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 14
فدعوت ربّي بالسّلامة جاهدا
ليصحّني فإذا السّلامة داء
فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ هاربين مخافة العدوى.
[سورة الصافات (37): الآيات 91 الى 93]
فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فذهب إليها في خفية من روغة الثعلب و أصله الميل بحيلة. فَقالَ أي للأصنام استهزاء. أَ لا تَأْكُلُونَ يعني الطعام الذي كان عندهم.
ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ بجوابي.
فَراغَ عَلَيْهِمْ فمال عليهم مستخفيا، و التعدية بعلى للاستعلاء و إن الميل لمكروه. ضَرْباً بِالْيَمِينِ مصدر «لراغ عليهم» لأنه في معنى ضربهم، أو لمضمر تقديره فراغ عليهم يضربهم و تقييده باليمين للدلالة على قوته فإن قوة الآلة تستدعي قوة الفعل، و قيل بِالْيَمِينِ بسبب الحلف و هو قوله: تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ .
[سورة الصافات (37): الآيات 94 الى 96]
فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ إلى إبراهيم عليه الصلاة و السلام بعد ما رجعوا فرأوا أصنامهم مكسرة و بحثوا عن كاسرها فظنوا أنه هو كما شرحه في قوله: مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا الآية. يَزِفُّونَ يسرعون من زفيف النعام. و قرى حمزة على بناء المفعول من أزفه أي يحملون على الزفيف. و قرئ «يزفون» أي يزف بعضهم بعضا، و «يزفون» من وزف يزف إذا أسرع و «يزفون» من زفاه إذا حداه كأن بعضهم يزفو بعضا لتسارعهم إليه قالَ أَ تَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ ما تنحتونه من الأصنام.
وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ وَ ما تَعْمَلُونَ أي و ما تعملونه فإن جوهرها بخلقه و شكلها و إن كان بفعلهم، و لذلك جعل من أعمالهم فبإقداره إياهم عليه و خلقه ما يتوقف عليه فعلهم من الدواعي و العدد، أو عملكم بمعنى معمولكم ليطابق ما تنحتون، أو أنه بمعنى الحدث فإن فعلهم إذا كان بخلق اللّه تعالى فيهم كان مفعولهم المتوقف على فعلهم أولى بذلك، و بهذا المعنى تمسك أصحابنا على خلق الأعمال و لهم أن يرجحوه على الأولين لما فيهما من حذف أو مجاز.
[سورة الصافات (37): الآيات 97 الى 98]
قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ في النار الشديدة من الجحمة و هي شدة التأجج، و اللام بدل الإضافة أي جحيم ذلك البنيان.
فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فإنه لما قهرهم بالحجة قصدوا تعذيبه بذلك لئلا يظهر للعامة عجزهم. فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ الأذلين بإبطال كيدهم و جعله برهانا نيرا على علو شأنه، حيث جعل النار عليه بردا و سلاما.
[سورة الصافات (37): الآيات 99 الى 101]
وَ قالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي إلى حيث أمرني ربي و هو الشام، أو حيث أتجرد فيه لعبادته. سَيَهْدِينِ إلى ما فيه صلاح ديني أو إلى مقصدي، و إنما بت القول لسبق وعده أو لفرط توكله، أو البناء على عادته معه و لم يكن كذلك حال موسى عليه الصلاة و السلام حين قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ فلذلك ذكر بصيغة التوقع.
رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ بعض الصالحين يعينني على الدعوة و الطاعة و يؤنسني في الغربة، يعني الولد لأن لفظ الهبة غالب فيه و لقوله:
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 15
فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ بشره بالولد و بأنه ذكر يبلغ أوان الحلم، فإن الصبي لا يوصف بالحلم و يكون حليما و أي حلم مثل حلمه حين عرض عليه أبوه الذبح و هو مراهق فقال سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ . و قيل ما نعت اللّه نبيا بالحلم لعزة وجوده غير إبراهيم و ابنه عليهما الصلاة و السلام، و حالهما المذكورة بعد تشهد عليه.
[سورة الصافات (37): الآيات 102 الى 103]
فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ أي فلما وجد و بلغ أن يسعى معه في أعماله، و مَعَهُ متعلق بمحذوف دل عليه السَّعْيَ لا به لأن صلة المصدر لا تتقدمه و لا ب بَلَغَ فإن بلوغهما لم يكن معا كأنه لمّا قال: فلما بلغ السعي فقيل مع من فقيل معه، و تخصيصه لأن الأب أكمل في الرفق و الاستصلاح له فلا يستسعيه قبل أوانه، أو لأنه استوهبه لذلك و كان له يومئذ ثلاث عشرة سنة. قالَ يا بُنَيَ و قرأ حفص بفتح الياء.
إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ يحتمل أنه رأى ذلك و أنه رأى ما هو تعبيره، و قيل إنه رأى ليلة التروية أن قائلا يقول له: إن اللّه يأمرك بذبح ابنك، فلما أصبح روى أنه من اللّه أو من الشيطان، فلما أمسى رأى مثل ذلك فعرف أنه من اللّه، ثم رأى مثله في الليلة الثالثة فهم بنحره و قال له ذلك، و لهذا سميت الأيام الثلاثة بالتروية و عرفة و النحر، و الأظهر أن المخاطب إسماعيل عليه السلام لأنه الذي وهب له أثر الهجرة و لأن البشارة بإسحاق بعد معطوفة على البشارة بهذا الغلام، و
لقوله عليه الصلاة و السلام «أنا ابن الذبيحين».
فأحدهما جده إسماعيل و الآخر أبوه عبد اللّه، فإن جده عبد المطلب نذر أن يذبح ولدا إن سهل اللّه له حفر زمزم أو بلغ بنوه عشرة، فلما سهل أقرع فخرج السهم على عبد الله ففداه بمائة من الإبل، و لذلك سنت الدية مائة و لأن ذلك كان بمكة و كان قرنا الكبش معلقين بالكعبة حتى احترقا معها في أيام ابن الزبير، و لم يكن إسحاق ثمة و لأن البشارة بإسحاق كانت مقرونة بولادة يعقوب منه فلا يناسبها الأمر بذبحه مراهقا، و ما
روي أنه عليه الصلاة و السلام سئل أي النسب أشرف فقال: يوسف صديق اللّه بن يعقوب إسرائيل اللّه بن إسحاق ذبيح اللّه بن خليل اللّه؛ فالصحيح أنه قال: «يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم»
و الزوائد من الراوي.
و ما روي أن يعقوب كتب إلى يوسف مثل ذلك لم يثبت. و قرأ ابن كثير و نافع و أبو عمرو بفتح الياء فيهما.
فَانْظُرْ ما ذا تَرى من الرأي، و إنما شاوره فيه و هو حتم ليعلم ما عنده فيما نزل من بلاء اللّه فيثبت قدمه إن جزع، و يأمن عليه إن سلم و ليوطن نفسه عليه فيهون و يكتسب المثوبة بالانقياد له قبل نزوله، و قرأ حمزة و الكسائي ما ذا تَرى بضم التاء و كسر الراء خالصة، و الباقون بفتحهما و أبو عمرو يميل فتحة الراء و ورش بين بين و الباقون بإخلاص فتحها. قالَ يا أَبَتِ و قرأ ابن عامر بفتح التاء. افْعَلْ ما تُؤْمَرُ أي ما تؤمر به فحذفا دفعة، أو على الترتيب كما عرفت أو أمرك على إرادة المأمور به و الإضافة إلى المأمور، أو لعله فهم من كلامه أنه رأى أنه يذبحه مأمورا به، أو علم أن رؤيا الأنبياء حق و أن مثل ذلك لا يقدمون عليه إلا بأمر، و لعل الأمر به في المنام دون اليقظة لتكون مبادرتهما إلى الامتثال أدل على كمال الانقياد و الإخلاص، و إنما ذكر بلفظ المضارع لتكرر الرؤيا. سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ على الذبح أو على قضاء اللّه، و قرأ نافع بفتح الياء.
فَلَمَّا أَسْلَما استسلما لأمر اللّه أو سلما الذبيح نفسه و إبراهيم ابنه، و قد قرئ بهما و أصلها سلم هذا لفلان إذا خلص له فإنه سلم من أن ينازع فيه. وَ تَلَّهُ لِلْجَبِينِ صرعه على شقه فوقع جبينه على الأرض و هو أحد جانبي الجبهة. و قيل كبه على وجهه بإشارته لئلا يرى فيه تغيرا يرق له فلا يذبحه، و كان ذلك عند الصخرة بمنى أو في الموضع المشرف على مسجده، أو المنحر الذي ينحر فيه اليوم.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 16
[سورة الصافات (37): الآيات 104 الى 106]
وَ نادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا بالعزم و الإتيان بالمقدمات. و
قد روي أنه أمر السكين بقوته على حلقه مرارا فلم تقطع
، و جواب «لما» محذوف تقديره كان ما كان مما ينطق به الحال و لا يحيط به المقال، من استبشارهما و شكرهما للّه تعالى على ما أنعم عليهما من دفع البلاء بعد حلوله و التوفيق بما لم يوفق غيرهما لمثله، و إظهار فضلهما به على العالمين مع إحراز الثواب العظيم إلى غير ذلك. إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ تعليل لإفراج تلك الشدة عنهما بإحسانهما، و احتج به من جوز النسخ قبل وقوعه فإنه عليه الصلاة و السلام كان مأمورا بالذبح لقوله يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ و لم يحصل.
إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ الابتلاء البين الذي يتميز فيه المخلص من غيره، أو المحنة البينة الصعوبة فإنه لا أصعب منها.
[سورة الصافات (37): الآيات 107 الى 110]
وَ فَدَيْناهُ بِذِبْحٍ بما يذبح بدله فيتم به الفعل. عَظِيمٍ عظيم الجثة سمين، أو عظيم القدر لأنه يفدي به اللّه نبيا ابن نبي و أي نبي من نسله سيد المرسلين. قيل كان كبشا من الجنة. و قيل و علا أهبط عليه من ثبير. و
روي أنه هرب منه عند الجمرة فرماه بسبع حصيات حتى أخذه فصارت سنة
، و الفادي على الحقيقة إبراهيم عليه الصلاة و السلام و إنما قال و فديناه لأن اللّه المعطي له و الآمر به على التجوز في الفداء أو الإسناد، و استدل به الحنفية على أن من نذر ذبح ولده لزمه ذبح شاة و ليس فيه ما يدل عليه.
وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ سبق بيانه في قصة نوح عليه السلام. كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ لعله طرح عنه إنا اكتفاء بذكره مرة في هذه القصة.
[سورة الصافات (37): الآيات 111 الى 113]
إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وَ بَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ مقضيا نبوته مقدرا كونه من الصالحين و بهذا الاعتبار وقعا حالين و لا حاجة إلى وجود المبشر به وقت البشارة، فإن وجود ذي الحال غير شرط بل الشرط مقارنة تعلق الفعل به لاعتبار المعنى بالحال، فلا حاجة إلى تقدير مضاف يجعل عاملا فيهما مثلا و بَشَّرْناهُ بوجود إسحاق أي بأن يوجد إسحاق نبيا من الصالحين، و مع ذلك لا يصير نظير قوله: فَادْخُلُوها خالِدِينَ فإن الداخلين مقدرون خلودهم وقت الدخول و إسحاق لم يكن مقدرا نبوة نفسه و صلاحها حينما يوجد، و من فسر الذبيح بإسحاق جعل المقصود من البشارة نبوته، و في ذكر الصلاح بعد النبوة تعظيم لشأنه و إيماء بأنه الغاية لها لتضمنها معنى الكمال و التكميل بالفعل على الإطلاق.
وَ بارَكْنا عَلَيْهِ على إبراهيم في أولاده. وَ عَلى إِسْحاقَ بأن أخرجنا من صلبه أنبياء بني إسرائيل و غيرهم كأيوب و شعيب، أو أفضنا عليهما بركات الدين و الدنيا، و قرئ «و بركنا». وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ في عمله أو إلى نفسه بالإيمان و الطاعة. وَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ بالكفر و المعاصي. مُبِينٌ ظاهر ظلمه، و في ذلك تنبيه على أن النسب لا أثر له في الهدى و الضلال و أن الظلم في أعقابهما لا يعود عليهما بنقيصة و عيب.
[سورة الصافات (37): الآيات 114 الى 118]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 17
وَ لَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَ هارُونَ أنعمنا عليهما بالنبوة و غيرها من المنافع الدينية و الدنيوية.
وَ نَجَّيْناهُما وَ قَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ من تغلب فرعون أو الغرق.
وَ نَصَرْناهُمْ ثم الضمير لهما مع القوم. فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ على فرعون و قومه.
وَ آتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ البليغ في بيانه و هو التوراة.
وَ هَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ الطريق الموصل إلى الحق و الصواب.
[سورة الصافات (37): الآيات 119 الى 122]
إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ سبق مثل ذلك.
[سورة الصافات (37): الآيات 123 الى 126]
وَ إِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ هو إلياس بن ياسين سبط هارون أخي موسى بعث بعده. و قيل إدريس لأنه قرئ إدريس و إدراس مكانه و في حرف أبي رضي اللّه عنه. «و إن إبليس» و قرأ ابن ذكوان مع خلاف عنه بحذف همزة إلياس.
إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَ لا تَتَّقُونَ عذاب اللّه.
أَ تَدْعُونَ بَعْلًا أ تعبدونه أو أ تطلبون الخير منه، و هو اسم صنم كان لأهل بكّ من الشام و هو البلد الذي يقال له الآن بعلبك و قيل البعل الرب بلغة اليمن، و المعنى أ تدعون بعض البعول. وَ تَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ و تتركون عبادته، و قد أشار فيه إلى المقتضى للإنكار المعني بالهمزة ثم صرح به بقوله:
اللَّهَ رَبَّكُمْ وَ رَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ و قرأ حمزة و الكسائي و يعقوب و حفص بالنصب على البدل.
[سورة الصافات (37): الآيات 127 الى 128]
فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128)
فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ أي في العذاب، و إنما أطلقه اكتفاء منه بالقرينة، أو لأن الإحضار المطلق مخصوص بالشر عرفا.
إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ مستثنى من الواو لا من المحضرين لفساد المعنى.
[سورة الصافات (37): الآيات 129 الى 132]