کتابخانه تفاسیر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 26
[سورة ص (38): الآيات 15 الى 16]
وَ ما يَنْظُرُ هؤُلاءِ و ما ينتظر قومك أو الأحزاب فإنهم كالحضور لاستحضارهم بالذكر، أو حضورهم في علم اللّه تعالى: إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً هي النفخة الأولى. ما لَها مِنْ فَواقٍ من توقف مقدار فواق و هو ما بين الحلبتين، أو رجوع و ترداد فإنه فيه يرجع اللبن إلى الضرع، و قرأ حمزة و الكسائي بالضم و هما لغتان.
وَ قالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قسطنا من العذاب الذي توعدنا به، أو الجنة التي تعدها للمؤمنين و هو من قطه إذا قطعه، و قيل لصحيفة الجائزة قط لأنها قطعة من القرطاس و قد فسر بها أي: عجل لنا صحيفة أعمالنا للنظر فيها. قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ استعجلوا ذلك استهزاء.
[سورة ص (38): الآيات 17 الى 18]
اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَ اذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ و اذكر لهم قصته تعظيما للمعصية في أعينهم، فإنه مع علو شأنه و اختصاصه بعظائم النعم و المكرمات لما أتى صغيرة نزل عن منزلته و وبخه الملائكة بالتمثيل و التعريض حتى تفطن فاستغفر ربه و أناب فما الظن بالكفرة و أهل الطغيان، أو تذكر قصته و صن نفسك أن تزل فيلقاك ما لقيه من المعاتبة على إهمال عنان نفسه أدنى إهمال. ذَا الْأَيْدِ ذا القوة يقال فلان أيد و ذو أيد و آد و أياد بمعنى. إِنَّهُ أَوَّابٌ رجاع إلى مرضاة اللّه تعالى، و هو تعليل ل الْأَيْدِ و دليل على أن المراد به القوة في الدين، و كان يصوم يوما و يفطر يوما و يقوم نصف الليل.
إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ قد مر تفسيره، و يُسَبِّحْنَ حال وضع موضع مسبحات لاستحضار الحال الماضية و الدلالة على تجدد التسبيح حالا بعد حال. بِالْعَشِيِّ وَ الْإِشْراقِ و وقت الإشراق و هو حين تشرق الشمس أي تضيء و يصفو شعاعها و هو وقت الضحى، و أما شروقها فطلوعها يقال شرقت الشمس و لما تشرق. و
عن أم هانئ رضى الله عنها: انه عليه الصلاة و السلام صلى صلاة الضحى و قال «هذه صلاة الإشراق».
و عن ابن عباس رضي اللّه عنهما: ما عرفت صلاة الضحى إلا بهذه الآية.
[سورة ص (38): الآيات 19 الى 20]
وَ الطَّيْرَ مَحْشُورَةً إليه من كل جانب، و إنما لم يراع المطابقة بين الحالين لأن الحشر جملة أدل على القدرة منه مدرجا، و قرئ «و الطير محشورة» بالمبتدأ و الخبر. كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ كل واحد من الجبال و الطير لأجل تسبيحه رجاع إلى التسبيح، و الفرق بينه و بين ما قبله أنه يدل على الموافقة في التسبيح و هذا على المداومة عليها، أو كل منهما و من داود عليه السلام مرجع للّه التسبيح.
وَ شَدَدْنا مُلْكَهُ و قويناه بالهيبة و النصرة و كثرة الجنود، و قرئ بالتشديد للمبالغة. قيل: إن رجلا ادعى بقرة على آخر و عجز عن البيان، فأوحى إليه أن اقتل المدعى عليه فأعلمه فقال: صدقت إني قتلت أباه و أخذت البقرة فعظمت بذلك هيبته. وَ آتَيْناهُ الْحِكْمَةَ النبوة أو كمال العلم و إتقان العمل. وَ فَصْلَ الْخِطابِ و فصل الخصام بتمييز الحق عن الباطل، أو الكلام المخلص الذي ينبه المخاطب على المقصود من غير التباس يراعى فيه مظان الفصل و الوصل و العطف و الاستئناف، و الإضمار و الإظهار و الحذف و التكرار و نحوها، و إنما سمي به أما بعد لأنه يفصل المقصود عما سبق مقدمة له من الحمد و الصلاة، و قيل هو الخطاب القصد الذي ليس فيه اختصار مخل و لا إشباع ممل كما جاء في وصف كلام الرسول عليه الصلاة و السلام «فصل لا نزر و لا هذر».
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 27
[سورة ص (38): الآيات 21 الى 23]
وَ هَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ استفهام معناه التعجيب و التشويق إلى استماعه، و الخصم في الأصل مصدر و لذلك أطلق على الجمع. إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ إذ تصعدوا سور الغرفة، تفعل من السور كتسنم من السنام، و إذ متعلق بمحذوف أي نبأ تحاكم الخصم إِذْ تَسَوَّرُوا ، أو بالنبإ على أن المراد به الواقع في عهد داود عليه السلام، و أن إسناد أتى إليه على حذف مضاف أي قصة نبأ الخصم لما فيه من معنى الفعل لا بأتى لأن إتيانه الرسول عليه الصلاة و السلام لم يكن حينئذ و إِذْ الثانية في إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ بدل من الأولى أو ظرف ل تَسَوَّرُوا . فَفَزِعَ مِنْهُمْ لأنهم نزلوا عليه من فوق في يوم الاحتجاب و الحرس على الباب لا يتركون من يدخل عليه، فإنه عليه الصلاة و السلام كان جزأ زمانه: يوما للعبادة، و يوما للقضاء، و يوما للوعظ، و يوما للاشتغال بخاصته، فتسور عليه ملائكة على صورة الإنسان في يوم الخلوة. قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ نحن فوجان متخاصمان على تسمية مصاحب الخصم خصما. بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ و هو على الفرض و قصد التعريض إن كانوا ملائكة و هو المشهور. فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَ لا تُشْطِطْ و لا تجر في الحكومة، و قرئ «و لا تشطط» أي و لا تبعد عن الحق و لا تشطط و لا تشاط، و الكل من معنى الشطط و هو مجاوزة الحد. وَ اهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ أي إلى وسطه و هو العدل.
إِنَّ هذا أَخِي بالدين أو بالصحبة. لَهُ تِسْعٌ وَ تِسْعُونَ نَعْجَةً وَ لِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ هي الأنثى من الضأن و قد يكنى بها عن المرأة، و الكناية و التمثيل فيما يساق للتعريض أبلغ في المقصود، و قرئ «تسع و تسعون» بفتح التاء و نعجة بكسر النون، و قرأ حفص بفتح ياء لِيَ نَعْجَةٌ . فَقالَ أَكْفِلْنِيها ملكنيها و حقيقته اجعلني أكفلها كما أكفل ما تحت يدي، و قيل اجعلها كفلي أي نصيبي. وَ عَزَّنِي فِي الْخِطابِ و غلبني في مخاطبته إياي محاجة بأن جاء بحجاج لم أقدر على رده، أو في مغالبته إياي في الخطبة يقال: خطبت المرأة و خطبها هو فخاطبني خطابا حيث زوجها دوني، و قرئ «و عازني» أي غالبني «و عزني» على تخفيف غريب.
[سورة ص (38): آية 24]
قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ جواب قسم محذوف قصد به المبالغة في إنكار فعل خليطه و تهجين طمعه و لعله قال ذلك بعد اعترافه، أو على تقدير صدق المدعي و السؤال مصدر مضاف إلى مفعوله و تعديته إلى مفعول آخر بإلى لتضمنه معنى الإضافة. وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ الشركاء الذين خلطوا أموالهم جمع خليط لَيَبْغِي ليتعدى. بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ و قرئ بفتح الياء على تقدير النون الخفيفة و حذفها كقوله: اضرب عنك الهموم طارقها. و بحذف الياء اكتفاء بالكسرة. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ قَلِيلٌ ما هُمْ أي و هم قليل، و ما مزيدة للإبهام و التعجب من قلتهم. وَ ظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ ابتليناه بالذنب أو امتحناه بتلك الحكومة هل يتنبه بها. فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ لذنبه. وَ خَرَّ راكِعاً ساجدا على تسمية السجود ركوعا لأنه مبدؤه، أو خر للسجود راكعا أي مصليا كأنه أحرم بركعتي الاستغفار. وَ أَنابَ و رجع إلى اللّه بالتوبة، و أقصى ما في هذه القضية الإشعار بأنه عليه الصلاة و السلام ود أن يكون له ما لغيره، و كان له أمثاله فنبهه اللّه بهذه القصة فاستغفر و أناب عنه. و ما
روي أن بصره وقع على امرأة فعشقها و سعى حتى تزوجها و ولدت منه سليمان
، إن صح فلعله خطب مخطوبته أو استنزله عن زوجته، و كان ذلك معتادا فيما بينهم و قد واسى الأنصار المهاجرين بهذا المعنى. و ما قيل إنه أرسل أوريا إلى الجهاد مرارا و أمر أن يقدم حتى قتل فتزوجها هزء و افتراء، و لذلك
قال علي رضي اللّه عنه: من حدث بحديث داود عليه
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 28
السلام على ما يرويه القصاص جلدته مائة و ستين.
و قيل إن قوما قصدوا أن يقتلوه فتسوروا المحراب و دخلوا عليه فوجدوا عنده أقواما فتصنعوا بهذا التحاكم فعلم غرضهم و أراد أن ينتقم منهم، فظن أن ذلك ابتلاء من اللّه له فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ مما همّ به وَ أَنابَ .
[سورة ص (38): الآيات 25 الى 26]
فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ أي ما استغفر عنه. وَ إِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى لقربة بعد المغفرة. وَ حُسْنَ مَآبٍ مرجع في الجنة.
يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ استخلفناك على الملك فيها، أو جعلناك خليفة ممن قبلك من الأنبياء القائمين بالحق. فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ بحكم اللّه. وَ لا تَتَّبِعِ الْهَوى ما تهوى النفس، و هو يؤيد ما قيل إن ذنبه المبادرة إلى تصديق المدعي و تظليم الآخر قبل مسألته. فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ دلائله التي نصبها على الحق. إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ بسبب نسيانهم و هو ضلالهم عن السبيل، فإن تذكره يقتضي ملازمة الحق و مخالفة الهوى.
[سورة ص (38): الآيات 27 الى 29]
وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما باطِلًا خلقا باطلا لا حكمة فيه، أو ذوي باطل بمعنى مبطلين عابثين كقوله: وَ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما لاعِبِينَ أو للباطل الذي هو متابعة الهوى، بل للحق الذي هو مقتضى الدليل من التوحيد و التدرع بالشرع كقوله: وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ على وضعه موضع المصدر مثل هنيئا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا الإشارة إلى خلقها باطلا و الظن بمعنى المظنون.
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ بسبب هذا الظن.
أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ منقطعة و الاستفهام فيها لإنكار التسوية بين الحزبين التي هي من لوازم خلقها باطلا ليدل على نفيه و كذا التي في قوله: أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ كأنه أنكر التسوية أولا بين المؤمنين و الكافرين ثم بين المتقين من المؤمنين و المجرمين منهم، و يجوز أن يكون تكريرا للإنكار الأول باعتبار و صفين آخرين يمنعان التسوية من الحكيم الرحيم، و الآية تدل على صحة القول بالحشر، فإن التفاضل بينهما إما أن يكون في الدنيا و الغالب فيها عكس ما يقتضي الحكمة فيه، أو في غيرها و ذلك يستدعي أن يكون لهم حالة أخرى يجازون فيها.
كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ نفاع، و قرئ بالنصب على الحال. لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ ليتفكروا فيها فيعرفوا ما يدبر ظاهرها من التأويلات الصحيحة و المعاني المستنبطة. و قرئ «ليتدبروا» على الأصل و «لتدبروا» أي أنت و علماء أمتك. وَ لِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ و ليتعظ به ذوو العقول السليمة، أو ليستحضروا ما هو كالمركوز في عقولهم من فرط تمكنهم من معرفته بما نصب عليه من الدلائل، فإن الكتب الإلهية بيان لما لا يعرف إلا من الشرع، و إرشاد إلى ما يستقل به العقل، و لعل التدبر للمعلوم الأول و التذكر الثاني.
[سورة ص (38): الآيات 30 الى 31]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 29
وَ وَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ أي نعم العبد سليمان إذ ما بعده تعليل للمدح و هو من حاله. إِنَّهُ أَوَّابٌ رجاع إلى اللّه بالتوبة، أو إلى التسبيح مرجع له.
إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ ظرف ل أَوَّابٌ أو ل نِعْمَ ، و الضمير ل سُلَيْمانَ عند الجمهور بِالْعَشِيِ بعد الظهر الصَّافِناتُ الصافن من الخيل الذي يقوم على طرف سنبك يد أو رجل، و هو من الصفات المحمودة في الخيل الذي لا يكاد يكون إلا في العراب الخلص. الْجِيادُ جمع جواد أو جود، و هو الذي يسرع في جريه و قيل الذي يجود في الركض، و قيل جمع جيد.
روي أنه عليه الصلاة و السلام غزا دمشق و نصيبين و أصاب ألف فرس
، و قيل أصابها أبوه من العمالقة فورثها منه فاستعرضها فلم تزل تعرض عليه حتى غربت الشمس و غفل عن العصر، أو عن ورد كان له فاغتم لما فاته فاستردها فعقرها تقربا للّه.
[سورة ص (38): الآيات 32 الى 33]
فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي أصل أَحْبَبْتُ أن يعدى بعلى لأنه بمعنى آثرت لكن لما أنيب مناب أنبت عدي تعديته، و قيل هو بمعنى تقاعدت من قوله:
مثل بعير السّوء إذا أحبّا أي برك، و حُبَّ الْخَيْرِ مفعول له و الخير المال الكثير، و المراد به الخيل التي شغلته و يحتمل أنه سماها خيرا لتعلق الخير بها.
قال عليه الصلاة و السلام «الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة».
و قرأ ابن كثير و نافع و أبو عمرو بفتح الياء. حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ أي غربت الشمس، شبه غروبها بتواري المخبأة بحجابها و إضمارها من غير ذكر لدلالة العشي عليها.
رُدُّوها عَلَيَ الضمير ل الصَّافِناتُ . فَطَفِقَ مَسْحاً فأخذ بمسح السيف مسحا. بِالسُّوقِ وَ الْأَعْناقِ أي بسوقها و أعناقها يقطعها من قولهم مسح علاوته إذا ضرب عنقه، و قيل جعل يمسح بيده أعناقها و سوقها حبالها، و عن ابن كثير «بالسؤق» على همز الواو لضمة ما قبلها كمؤقن، و عن أبي عمرو «بالسؤوق» و قرئ «بالساق» اكتفاء بالواحد عن الجمع لأمن الإلباس.
[سورة ص (38): آية 34]
وَ لَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَ أَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (34)
وَ لَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَ أَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ و أظهر ما قيل فيه ما
روى مرفوعا «أنه قال:
لأطوفن الليلة على سبعين امرأة تأتي كل واحدة بفارس يجاهد في سبيل اللّه و لم يقل إن شاء اللّه، فطاف عليهن فلم تحمل إلا امرأة جاءت بشق رجل، فو الذي نفس محمد بيده لو قال إن شاء اللّه لجاهدوا فرسانا».
و قيل ولد له ابن فاجتمعت الشياطين على قتله فعلم ذلك، فكان يغدوه في السحاب فما شعر به إلا أن ألقي على كرسيه ميتا فتنبه على خطئه بأن لم يتوكل على اللّه. و قيل إنه غزا صيدون من الجزائر فقتل ملكها و أصاب ابنته جرادة، فأحبها و كان لا يرقأ دمعها جزعا على أبيها، فأمر الشياطين فمثلوا لها صورته فكانت تغدو إليها و تروح مع ولائدها يسجدن لها كعادتهن في ملكه، فأخبره آصف فكسر الصورة و ضرب المرأة و خرج إلى الفلاة باكيا متضرعا، و كانت له أم ولد اسمها أمينة إذا دخل للطهارة أعطاها خاتمه و كان ملكه فيه، فأعطاها يوما فتمثل لها بصورته شيطان اسمه صخر و أخذ الخاتم و تختم به و جلس على كرسيه، فاجتمع عليه الخلق و نفذ حكمه في كل شيء إلا في نسائه و غير سليمان عن هيئته، فأتاها لطلب الخاتم فطردته فعرف أن الخطيئة قد أدركته، فكان يدور على البيوت يتكفف حتى مضى أربعون يوما عدد ما عبدت الصورة في بيته، فطار الشيطان و قذف الخاتم في البحر فابتلعته سمكة فوقعت في يده فبقر بطنها فوجد الخاتم فتختم به و خر ساجدا
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 30
و عاد إليه الملك، فعلى هذا الجسد صخر سمي به و هو جسم لا روح فيه لأنه كان متمثلا بما لم يكن كذلك، و الخطيئة تغافله عن حال أهله لأن اتخاذ التماثيل كان جائزا حينئذ، و سجود الصورة بغير علمه لا يضره.
[سورة ص (38): آية 35]
قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي لا يتسهل له و لا يكون ليكون معجزة لي مناسبة لحالي، أو لا ينبغي لأحد أن يسلبه مني بعد هذه السلبة، أو لا يصح لأحد من بعدي لعظمته كقولك:
لفلان ما ليس لأحد من الفضل و المال، على إرادة وصف الملك بالعظمة لا أن لا يعطى أحد مثله فيكون منافسة، و تقديم الاستغفار على الاستيهاب لمزيد اهتمامه بأمر الدين و وجوب تقديم ما يجعل الدعاء بصدد الإجابة. و قرأ نافع و أبو عمرو بفتح الياء. إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ المعطي ما تشاء لمن تشاء.
[سورة ص (38): الآيات 36 الى 38]
فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ فذللناها لطاعته إجابة لدعوته و قرئ «الرياح». تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً لينة من الرخاوة لا تزعزع، أو لا تخالف إرادته كالمأمور المنقاد. حَيْثُ أَصابَ أراد من قولهم أصاب الصواب فأخطأ الجواب.
وَ الشَّياطِينَ عطف على الرِّيحَ . كُلَّ بَنَّاءٍ وَ غَوَّاصٍ بدل منه.
وَ آخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ عطف على كُلَ كأنه فصل الشياطين إلى عملة استعملهم في الأعمال الشاقة كالبناء و الغوص، و مردة قرن بعضهم مع بعض في السلاسل ليكفوا عن الشر، و لعل أجسامهم شفافة صلبة فلا ترى و يمكن تقييدها، هذا و الأقرب أن المراد تمثيل كفهم عن الشرور بالإقران في الصفد و هو القيد، و سمي به العطاء لأنه يرتبط به المنعم عليه. و فرقوا بين فعليهما فقالوا صفده قيده و أصفده أعطاه عكس وعد و أوعد و في ذلك نكتة.
[سورة ص (38): الآيات 39 الى 40]
هذا عَطاؤُنا أي هذا الذي أعطيناك من الملك و البسطة و التسلط على ما لم يسلط به غيرك عطاؤنا.
فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ فأعط من شئت و امنع من شئت. بِغَيْرِ حِسابٍ حال من المستكن في الأمر، أي غير محاسب على منه و إمساكه لتفويض التصرف فيه إليك أو من العطاء أو صلة له و ما بينهما اعتراض. و المعنى أنه عطاء جم لا يكاد يمكن حصره، و قيل الإشارة إلى تسخير الشياطين، و المراد بالمن و الإمساك إطلاقهم و إبقاءهم في القيد.
وَ إِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى في الآخرة مع ما له من الملك العظيم في الدنيا. وَ حُسْنَ مَآبٍ هو الجنة.
[سورة ص (38): الآيات 41 الى 44]
وَ اذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ هو ابن عيص بن إسحاق و امرأته ليا بنت يعقوب صلوات اللّه عليه. إِذْ نادى رَبَّهُ بدل من عَبْدَنا و أَيُّوبَ عطف بيان له. أَنِّي مَسَّنِيَ بأني مسني، و قرأ حمزة بإسكان الياء و إسقاطها في الوصل. الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ بتعب. وَ عَذابٍ ألم و هي حكاية لكلامه الذي ناداه به و لولا هي
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 31
لقال إنه مسه، و الإسناد إلى الشَّيْطانُ إما لأن اللّه مسه بذلك لما فعل بوسوسته كما قيل إنه أعجب بكثرة ماله أو استغاثة مظلوم فلم يغثه، أو كانت مواشيه في ناحية ملك كافر فداهنه و لم يغزه، أو لسؤاله امتحانا لصبره فيكون اعترافا بالذنب أو مراعاة للأدب، أو لأنه وسوس إلى أتباعه حتى رفضوه و أخرجوه من ديارهم، أو لأن المراد بالنصب و العذاب ما كان يوسوس إليه في مرضه من عظم البلاء و القنوط من الرحمة و يغريه على الجزع، و قرأ يعقوب بفتح النون على المصدر، و قرئ بفتحتين و هو لغة كالرشد و الرشد و بضمتين للتثقيل.
ارْكُضْ بِرِجْلِكَ حكاية لما أجيب به أي اضرب برجلك الأرض. هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَ شَرابٌ أي فضربها فنبعت عين فقيل هذا مغتسل أي ماء تغتسل به و تشرب منه فيبرأ باطنك و ظاهرك، و قيل نبعت عينان حارة و باردة فاغتسل من الحارة و شرب من الأخرى.
وَ وَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ بأن جمعناهم عليه بعد تفرقهم أو أحييناهم بعد موتهم، و قيل وهبنا له مثلهم.
وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ حتى كان له ضعف ما كان. رَحْمَةً مِنَّا لرحمتنا عليه وَ ذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ و تذكيرا لهم لينتظروا الفرج بالصبر و اللجأ إلى اللّه فيما يحيق بهم.
وَ خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً عطف على اركض و الضغث الحزمة الصغيرة من الحشيش و نحوه. فَاضْرِبْ بِهِ وَ لا تَحْنَثْ روي أن زوجته ليا بنت يعقوب و قيل رحمة بنت افراثيم بن يوسف ذهبت لحاجة فأبطأت فحلف إن برىء ضربها مائة ضربة، فحلل اللّه يمينه بذلك و هي رخصة باقية في الحدود. إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً فيما أصابه في النفس و الأهل و المال، و لا يخل به شكواه إلى اللّه من الشيطان فإنه لا يسمى جزعا كتمني العافية و طلب الشفاء مع أنه قال ذلك خيفة أن يفتنه أو قومه في الدين. نِعْمَ الْعَبْدُ أيوب. إِنَّهُ أَوَّابٌ مقبل بشراشره على اللّه تعالى.
[سورة ص (38): الآيات 45 الى 47]
وَ اذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ و قرأ ابن كثير عبدنا وضع الجنس موضع الجمع، أو على أن إِبْراهِيمَ وحده لمزيد شرفه عطف بيان له، وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ عطف عليه. أُولِي الْأَيْدِي وَ الْأَبْصارِ أولي القوة في الطاعة و البصيرة في الدين، أو أولي الأعمال الجليلة و العلوم الشريفة، فعبر بالأيدي عن الأعمال لأن أكثرها بمباشرتها و بالأبصار عن المعارف لأنها أقوى مباديها، و فيه تعريض بالبطلة الجهال أنهم كالزمنى و العماة.
إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ جعلناهم خالصين لنا بخصلة خالصة لا شوب فيها هي: ذِكْرَى الدَّارِ تذكرهم الدار الآخرة دائما فإن خلوصهم في الطاعة بسببها، و ذلك لأن مطمح نظرهم فيما يأتون و يذرون جوار اللّه و الفوز بلقائه و ذلك في الآخرة، و إطلاق الدَّارِ للإشعار بأنها الدار الحقيقة و الدنيا معبر، و أضاف نافع و هشام بِخالِصَةٍ إلى ذِكْرَى للبيان أو لأنه مصدر بمعنى الخلوص فأضيف إلى فاعله.
وَ إِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ لمن المختارين من أمثالهم المصطفين عليهم في الخير جمع خير كشر و أشرار. و قيل جمع خير أو خير على تخفيفه كأموات في جمع ميت أو ميت.
[سورة ص (38): آية 48]
وَ اذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَ الْيَسَعَ وَ ذَا الْكِفْلِ وَ كُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (48)
وَ اذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَ الْيَسَعَ هو ابن أخطوب استخلفه إلياس على بني إسرائيل ثم استنبئ، و اللام فيه كما في قوله: رأيت الوليد بن اليزيد مباركا. و قرأ حمزة و الكسائي «و الليسع» تشبيها بالمنقول من ليسع من اللسع. وَ ذَا
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 32
الْكِفْلِ ابن عم يسع أو بشر بن أيوب. و اختلف في نبوته و لقبه فقيل فر إليه مائة نبي من بني إسرائيل من القتل فآواهم و كفلهم، و قيل كفل بعمل رجل صالح كان يصلي كل يوم مائة صلاة وَ كُلٌ أي و كلهم. مِنَ الْأَخْيارِ .
[سورة ص (38): الآيات 49 الى 51]
هذا إشارة إلى ما تقدم من أمورهم. ذِكْرٌ شرف لهم، أو نوع من الذكر و هو القرآن. ثم شرع في بيان ما أعد لهم و لأمثالهم فقال: وَ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ مرجع.
جَنَّاتِ عَدْنٍ عطف بيان لَحُسْنَ مَآبٍ و هو من الأعلام الغالبة لقوله جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ و انتصب عنها. مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ على الحال و العامل فيها ما في المتقين من معنى الفعل، و قرئتا مرفوعتين على الابتداء و الخبر أو أنهما خبران لمحذوف.
مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَ شَرابٍ حالان متعاقبان أو متداخلان من الضمير في لهم لا من المتقين للفصل، و الأظهر أن يدعون استئناف لبيان حالهم فيها و متكئين حال من ضميره، و الاقتصار على الفاكهة للإشعار بأن مطاعمهم لمحض التلذذ، فإن التغذي للتحلل و لا تحلل ثمة.
[سورة ص (38): الآيات 52 الى 54]
وَ عِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ لا ينظرون إلى غير أزواجهن. أَتْرابٌ لذات لهم فإن التحاب بين الأقران أثبت، أو بعضهن لبعض لا عجوز فيهن و لا صبية، و اشتقاقه من التراب فإنه يمسهن في وقت واحد.
هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ لأجله فإن الحساب علة الوصول إلى الجزاء، و قرأ ابن كثير و أبو عمرو بالياء ليوافق ما قبله.
إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ انقطاع.
[سورة ص (38): الآيات 55 الى 58]
هذا أي الأمر هذا أو هذا كما ذكر أو خذ هذا. وَ إِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ .
جَهَنَّمَ إعرابه ما سبق. يَصْلَوْنَها حال من جهنم. فَبِئْسَ الْمِهادُ المهد و المفترش، مستعار من فراش النائم و المخصوص بالذم محذوف و هو جَهَنَّمَ لقوله لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ .
هذا فَلْيَذُوقُوهُ ، أي ليذوقوا هذا فليذوقوه، أو العذاب هذا فليذوقوه، و يجوز أن يكون مبتدأ و خبره:
حَمِيمٌ وَ غَسَّاقٌ و هو على الأولين خبر محذوف أي هو حَمِيمٌ ، و الغساق ما يغسق من صديد أهل النار من غسقت العين إذا سال دمعها، و قرأ حفص و حمزة و الكسائي غَسَّاقٌ بتشديد السين.