کتابخانه تفاسیر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 30
و عاد إليه الملك، فعلى هذا الجسد صخر سمي به و هو جسم لا روح فيه لأنه كان متمثلا بما لم يكن كذلك، و الخطيئة تغافله عن حال أهله لأن اتخاذ التماثيل كان جائزا حينئذ، و سجود الصورة بغير علمه لا يضره.
[سورة ص (38): آية 35]
قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي لا يتسهل له و لا يكون ليكون معجزة لي مناسبة لحالي، أو لا ينبغي لأحد أن يسلبه مني بعد هذه السلبة، أو لا يصح لأحد من بعدي لعظمته كقولك:
لفلان ما ليس لأحد من الفضل و المال، على إرادة وصف الملك بالعظمة لا أن لا يعطى أحد مثله فيكون منافسة، و تقديم الاستغفار على الاستيهاب لمزيد اهتمامه بأمر الدين و وجوب تقديم ما يجعل الدعاء بصدد الإجابة. و قرأ نافع و أبو عمرو بفتح الياء. إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ المعطي ما تشاء لمن تشاء.
[سورة ص (38): الآيات 36 الى 38]
فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ فذللناها لطاعته إجابة لدعوته و قرئ «الرياح». تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً لينة من الرخاوة لا تزعزع، أو لا تخالف إرادته كالمأمور المنقاد. حَيْثُ أَصابَ أراد من قولهم أصاب الصواب فأخطأ الجواب.
وَ الشَّياطِينَ عطف على الرِّيحَ . كُلَّ بَنَّاءٍ وَ غَوَّاصٍ بدل منه.
وَ آخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ عطف على كُلَ كأنه فصل الشياطين إلى عملة استعملهم في الأعمال الشاقة كالبناء و الغوص، و مردة قرن بعضهم مع بعض في السلاسل ليكفوا عن الشر، و لعل أجسامهم شفافة صلبة فلا ترى و يمكن تقييدها، هذا و الأقرب أن المراد تمثيل كفهم عن الشرور بالإقران في الصفد و هو القيد، و سمي به العطاء لأنه يرتبط به المنعم عليه. و فرقوا بين فعليهما فقالوا صفده قيده و أصفده أعطاه عكس وعد و أوعد و في ذلك نكتة.
[سورة ص (38): الآيات 39 الى 40]
هذا عَطاؤُنا أي هذا الذي أعطيناك من الملك و البسطة و التسلط على ما لم يسلط به غيرك عطاؤنا.
فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ فأعط من شئت و امنع من شئت. بِغَيْرِ حِسابٍ حال من المستكن في الأمر، أي غير محاسب على منه و إمساكه لتفويض التصرف فيه إليك أو من العطاء أو صلة له و ما بينهما اعتراض. و المعنى أنه عطاء جم لا يكاد يمكن حصره، و قيل الإشارة إلى تسخير الشياطين، و المراد بالمن و الإمساك إطلاقهم و إبقاءهم في القيد.
وَ إِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى في الآخرة مع ما له من الملك العظيم في الدنيا. وَ حُسْنَ مَآبٍ هو الجنة.
[سورة ص (38): الآيات 41 الى 44]
وَ اذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ هو ابن عيص بن إسحاق و امرأته ليا بنت يعقوب صلوات اللّه عليه. إِذْ نادى رَبَّهُ بدل من عَبْدَنا و أَيُّوبَ عطف بيان له. أَنِّي مَسَّنِيَ بأني مسني، و قرأ حمزة بإسكان الياء و إسقاطها في الوصل. الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ بتعب. وَ عَذابٍ ألم و هي حكاية لكلامه الذي ناداه به و لولا هي
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 31
لقال إنه مسه، و الإسناد إلى الشَّيْطانُ إما لأن اللّه مسه بذلك لما فعل بوسوسته كما قيل إنه أعجب بكثرة ماله أو استغاثة مظلوم فلم يغثه، أو كانت مواشيه في ناحية ملك كافر فداهنه و لم يغزه، أو لسؤاله امتحانا لصبره فيكون اعترافا بالذنب أو مراعاة للأدب، أو لأنه وسوس إلى أتباعه حتى رفضوه و أخرجوه من ديارهم، أو لأن المراد بالنصب و العذاب ما كان يوسوس إليه في مرضه من عظم البلاء و القنوط من الرحمة و يغريه على الجزع، و قرأ يعقوب بفتح النون على المصدر، و قرئ بفتحتين و هو لغة كالرشد و الرشد و بضمتين للتثقيل.
ارْكُضْ بِرِجْلِكَ حكاية لما أجيب به أي اضرب برجلك الأرض. هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَ شَرابٌ أي فضربها فنبعت عين فقيل هذا مغتسل أي ماء تغتسل به و تشرب منه فيبرأ باطنك و ظاهرك، و قيل نبعت عينان حارة و باردة فاغتسل من الحارة و شرب من الأخرى.
وَ وَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ بأن جمعناهم عليه بعد تفرقهم أو أحييناهم بعد موتهم، و قيل وهبنا له مثلهم.
وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ حتى كان له ضعف ما كان. رَحْمَةً مِنَّا لرحمتنا عليه وَ ذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ و تذكيرا لهم لينتظروا الفرج بالصبر و اللجأ إلى اللّه فيما يحيق بهم.
وَ خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً عطف على اركض و الضغث الحزمة الصغيرة من الحشيش و نحوه. فَاضْرِبْ بِهِ وَ لا تَحْنَثْ روي أن زوجته ليا بنت يعقوب و قيل رحمة بنت افراثيم بن يوسف ذهبت لحاجة فأبطأت فحلف إن برىء ضربها مائة ضربة، فحلل اللّه يمينه بذلك و هي رخصة باقية في الحدود. إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً فيما أصابه في النفس و الأهل و المال، و لا يخل به شكواه إلى اللّه من الشيطان فإنه لا يسمى جزعا كتمني العافية و طلب الشفاء مع أنه قال ذلك خيفة أن يفتنه أو قومه في الدين. نِعْمَ الْعَبْدُ أيوب. إِنَّهُ أَوَّابٌ مقبل بشراشره على اللّه تعالى.
[سورة ص (38): الآيات 45 الى 47]
وَ اذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ و قرأ ابن كثير عبدنا وضع الجنس موضع الجمع، أو على أن إِبْراهِيمَ وحده لمزيد شرفه عطف بيان له، وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ عطف عليه. أُولِي الْأَيْدِي وَ الْأَبْصارِ أولي القوة في الطاعة و البصيرة في الدين، أو أولي الأعمال الجليلة و العلوم الشريفة، فعبر بالأيدي عن الأعمال لأن أكثرها بمباشرتها و بالأبصار عن المعارف لأنها أقوى مباديها، و فيه تعريض بالبطلة الجهال أنهم كالزمنى و العماة.
إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ جعلناهم خالصين لنا بخصلة خالصة لا شوب فيها هي: ذِكْرَى الدَّارِ تذكرهم الدار الآخرة دائما فإن خلوصهم في الطاعة بسببها، و ذلك لأن مطمح نظرهم فيما يأتون و يذرون جوار اللّه و الفوز بلقائه و ذلك في الآخرة، و إطلاق الدَّارِ للإشعار بأنها الدار الحقيقة و الدنيا معبر، و أضاف نافع و هشام بِخالِصَةٍ إلى ذِكْرَى للبيان أو لأنه مصدر بمعنى الخلوص فأضيف إلى فاعله.
وَ إِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ لمن المختارين من أمثالهم المصطفين عليهم في الخير جمع خير كشر و أشرار. و قيل جمع خير أو خير على تخفيفه كأموات في جمع ميت أو ميت.
[سورة ص (38): آية 48]
وَ اذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَ الْيَسَعَ وَ ذَا الْكِفْلِ وَ كُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (48)
وَ اذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَ الْيَسَعَ هو ابن أخطوب استخلفه إلياس على بني إسرائيل ثم استنبئ، و اللام فيه كما في قوله: رأيت الوليد بن اليزيد مباركا. و قرأ حمزة و الكسائي «و الليسع» تشبيها بالمنقول من ليسع من اللسع. وَ ذَا
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 32
الْكِفْلِ ابن عم يسع أو بشر بن أيوب. و اختلف في نبوته و لقبه فقيل فر إليه مائة نبي من بني إسرائيل من القتل فآواهم و كفلهم، و قيل كفل بعمل رجل صالح كان يصلي كل يوم مائة صلاة وَ كُلٌ أي و كلهم. مِنَ الْأَخْيارِ .
[سورة ص (38): الآيات 49 الى 51]
هذا إشارة إلى ما تقدم من أمورهم. ذِكْرٌ شرف لهم، أو نوع من الذكر و هو القرآن. ثم شرع في بيان ما أعد لهم و لأمثالهم فقال: وَ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ مرجع.
جَنَّاتِ عَدْنٍ عطف بيان لَحُسْنَ مَآبٍ و هو من الأعلام الغالبة لقوله جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ و انتصب عنها. مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ على الحال و العامل فيها ما في المتقين من معنى الفعل، و قرئتا مرفوعتين على الابتداء و الخبر أو أنهما خبران لمحذوف.
مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَ شَرابٍ حالان متعاقبان أو متداخلان من الضمير في لهم لا من المتقين للفصل، و الأظهر أن يدعون استئناف لبيان حالهم فيها و متكئين حال من ضميره، و الاقتصار على الفاكهة للإشعار بأن مطاعمهم لمحض التلذذ، فإن التغذي للتحلل و لا تحلل ثمة.
[سورة ص (38): الآيات 52 الى 54]
وَ عِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ لا ينظرون إلى غير أزواجهن. أَتْرابٌ لذات لهم فإن التحاب بين الأقران أثبت، أو بعضهن لبعض لا عجوز فيهن و لا صبية، و اشتقاقه من التراب فإنه يمسهن في وقت واحد.
هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ لأجله فإن الحساب علة الوصول إلى الجزاء، و قرأ ابن كثير و أبو عمرو بالياء ليوافق ما قبله.
إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ انقطاع.
[سورة ص (38): الآيات 55 الى 58]
هذا أي الأمر هذا أو هذا كما ذكر أو خذ هذا. وَ إِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ .
جَهَنَّمَ إعرابه ما سبق. يَصْلَوْنَها حال من جهنم. فَبِئْسَ الْمِهادُ المهد و المفترش، مستعار من فراش النائم و المخصوص بالذم محذوف و هو جَهَنَّمَ لقوله لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ .
هذا فَلْيَذُوقُوهُ ، أي ليذوقوا هذا فليذوقوه، أو العذاب هذا فليذوقوه، و يجوز أن يكون مبتدأ و خبره:
حَمِيمٌ وَ غَسَّاقٌ و هو على الأولين خبر محذوف أي هو حَمِيمٌ ، و الغساق ما يغسق من صديد أهل النار من غسقت العين إذا سال دمعها، و قرأ حفص و حمزة و الكسائي غَسَّاقٌ بتشديد السين.
وَ آخَرُ أي مذوق أو عذاب آخر، و قرأ البصريان «و أخرى» أي و مذوقات أو أنواع عذاب أخر. مِنْ شَكْلِهِ من مثل هذا المذوق أو العذاب في الشدة، و توحيد الضمير على أنه لما ذكر أو للشراب الشامل للحميم و الغساق أو للغساق. و قرئ بالكسر و هو لغة. أَزْواجٌ أجناس خبر ل آخَرُ أو صفة له أو للثلاثة، أو مرتفع بالجار و الخبر محذوف مثل لهم.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 33
[سورة ص (38): الآيات 59 الى 61]
هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ حكاية ما يقال للرؤساء الطاغين إذا دخلوا النار و اقتحمها معهم فوج تبعهم في الضلال، و الاقتحام ركوب الشدة و الدخول فيها. لا مَرْحَباً بِهِمْ دعاء من المتبوعين على أتباعهم أو صفة ل فَوْجٌ ، أو حال أي مقولا فيهم لا مرحبا أي ما أتوا بهم رحبا وسعة. إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ داخلون النار بأعمالهم مثلنا.
قالُوا أي الأتباع للرؤساء. بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ بل أنتم أحق بما قلتم، أو قيل لنا لضلالكم و إضلالكم كما قالوا: أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا قدمتم العذاب أو الصلي لنا بإغوائنا و إغرائنا على ما قدمتموه من العقائد الزائغة و الأعمال القبيحة. فَبِئْسَ الْقَرارُ فبئس المقر جهنم.
قالُوا أي الأتباع أيضا. رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ مضاعفا أي ذا ضعف و ذلك أن يزيد على عذابه مثله فيصير ضعفين كقوله رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ .
[سورة ص (38): الآيات 62 الى 64]
وَ قالُوا أي الطاغوت. ما لَنا لا نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ يعنون فقراء المسلمين الذين يسترذلونهم و يسخرون بهم.
أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا صفة أخرى ل رِجالًا ، و قرأ الحجازيان و ابن عامر و عاصم بهمزة الاستفهام على أنه إنكار على أنفسهم و تأنيب لها في الاستسخار منهم، و قرأ نافع و حمزة و الكسائي سِخْرِيًّا بالضم و قد سبق مثله في «المؤمنين». أَمْ زاغَتْ مالت. عَنْهُمُ الْأَبْصارُ فلا نراهم و أَمْ معادلة ل ما لَنا لا نَرى على أن المراد نفي رؤيتهم لغيبتهم كأنهم قالوا: أ ليسوا ها هنا أم زاغت عنهم أبصارنا، أو لاتخذناهم على القراءة الثانية بمعنى أي الأمرين فعلنا بهم الاستسخار منهم أم تحقيرهم، فإن زيغ الأبصار كناية عنه على معنى إنكارهما على أنفسهم، أو منقطعة و المراد الدلالة على أن استرذالهم و الاستسخار منهم كان لزيغ أبصارهم و قصور أنظارهم على رثاثة حالهم.
إِنَّ ذلِكَ الذي حكيناه عنهم. لَحَقٌ لا بد أن يتكلموا به ثم بين ما هو فقال: تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ و هو بدل من لحق أو خبر محذوف، و قرئ بالنصب على البدل من ذلك.
[سورة ص (38): الآيات 65 الى 66]
قُلْ يا محمد للمشركين. إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ أنذركم عذاب اللّه. وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ الذي لا يقبل الشركة و الكثرة في ذاته. الْقَهَّارُ لكل شيء يريد قهره.
رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا منه خلقها و إليه أمرها. الْعَزِيزُ الذي لا يغلب إذا عاقب.
الْغَفَّارُ الذي يغفر ما يشاء من الذنوب لمن يشاء، و في هذه الأوصاف تقرير للتوحيد و وعد و وعيد للموحدين و المشركين، و تثنية ما يشعر بالوعيد و تقديمه لأن المدعو به هو الإنذار.
[سورة ص (38): الآيات 67 الى 70]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 34
قُلْ هُوَ أي ما أنبأتكم به من أني نذير من عقوبة من هذه صفته و أنه واحد في ألوهيته، و قيل ما بعده من نبأ آدم. نَبَأٌ عَظِيمٌ .
أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ لتمادي غفلتكم فإن العاقل لا يعرض عن مثله كيف و قد قامت عليه الحجج الواضحة، أما على التوحيد فما مرّ و أما على النبوة فقوله:
ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ فإن إخباره عن تقاول الملائكة و ما جرى بينهم على ما ورد في الكتب المتقدمة من غير سماع و مطالعة كتاب لا يتصوّر إلا بالوحي، و إِذْ متعلق ب عِلْمٍ أو بمحذوف إذ التقدير من علم بكلام الملأ الأعلى.
إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أي لأنما كأنه لما جوز أن الوحي يأتيه بين بذلك ما هو المقصود به تحقيقا لقوله إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ و يجوز أن يرتفع بإسناد يوحى إليه، و قرئ إنما بالكسر على الحكاية.
[سورة ص (38): الآيات 71 الى 74]
إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ بدل من إِذْ يَخْتَصِمُونَ مبين له فإن القصة التي دخلت إذ عليها مشتملة على تقاول الملائكة و إبليس في خلق آدم عليه السلام، و استحقاقه للخلافة و السجود على ما مر في «البقرة»، غير أنها اختصرت اكتفاء بذلك و اقتصارا على ما هو المقصود منها، و هو إنذار المشركين على استكبارهم على النبي عليه الصلاة و السلام بمثل ما حاق بإبليس على استكباره على آدم عليه السلام، هذا و من الجائز أن يكون مقاولة اللّه تعالى إياهم بواسطة ملك، و أن يفسر «الملأ الأعلى» بما يعم اللّه تعالى و الملائكة.
فَإِذا سَوَّيْتُهُ عدلت خلقته. وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي و أحييته بنفخ الروح فيه، و إضافته الى نفسه لشرفه و طهارته. فَقَعُوا لَهُ فخروا له. ساجِدِينَ تكرمة و تبجيلا له و قد مر الكلام فيه في «البقرة».
فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ .
إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ تعظم. وَ كانَ و صار. مِنَ الْكافِرِينَ باستنكاره أمر اللّه تعالى و استكباره عن المطاوعة، أو كان منهم في علم اللّه تعالى.
[سورة ص (38): الآيات 75 الى 76]
قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ خلقته بنفسي من غير توسط كأب و أم، و التثنية لما في خلقه من مزيد القدرة و اختلاف الفعل، و قرئ على التوحيد و ترتيب الإنكار عليه للإشعار بأنه المستدعي للتعظيم، أو بأنه الذي تشبث به في تركه و هو لا يصلح مانعا إذ للسيد أن يستخدم بعض عبيده لبعض سيما و له مزيد اختصاص. أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ تكبرت من غير استحقاق أو كنت ممن علا و استحق التفوق، و قيل استكبرت الآن أم لم تزل منذ كنت من المستكبرين، و قرئ «استكبرت» بحذف الهمزة لدلالة أَمْ عليها أو بمعنى الإخبار.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 35
قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ إبداء للمانع و قوله: خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ دليل عليه و قد سبق الكلام فيه.
[سورة ص (38): الآيات 77 الى 81]
قالَ فَاخْرُجْ مِنْها من الجنة أو من السماء، أو من الصورة الملكية. فَإِنَّكَ رَجِيمٌ مطرود من الرحمة و محل الكرامة.
وَ إِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ مر بيانه في «الحجر».
[سورة ص (38): الآيات 82 الى 85]
قالَ فَبِعِزَّتِكَ فبسلطانك و قهرك. لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ الذين أخلصهم اللّه لطاعته و عصمهم من الضلالة، أو أخلصوا قلوبهم للّه على اختلاف القراءتين.
قالَ فَالْحَقُّ وَ الْحَقَّ أَقُولُ أي فأحق الحق و أقوله، و قيل «الحق» الأول اسم اللّه نصبه بحذف حرف القسم كقوله: إنّ عليك اللّه أن تبايعا.
و جوابه لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ و ما بينهما اعتراض و هو على الأول جواب محذوف و الجملة تفسير ل الْحَقَ المقول، و قرأ عاصم و حمزة برفع الأول على الابتداء أي الحق يميني أو قسمي، أو الخبر أي أنا الْحَقَ ، و قرئا مرفوعين على حذف الضمير من أقول كقوله: كله لم أصنع.
و مجرورين على إضمار حرف القسم في الأول و حكاية لفظ المقسم به في الثاني للتأكيد، و هو سائغ فيه إذا شارك الأول و برفع الأول و جره و نصب الثاني و تخريجه على ما ذكرناه، و الضمير في منهم للناس إذ الكلام فيهم و المراد بمنك من جنسك ليتناول الشياطين، و قيل للثقلين و أجمعين تأكيد له أو للضميرين.
[سورة ص (38): الآيات 86 الى 88]
قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ أي على القرآن أو تبليغ الوحي. وَ ما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ المتصفين بما ليسوا من أهله على ما عرفتم من حالي فأنتحل النبوة، و أتقول القرآن.
إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ عظة. لِلْعالَمِينَ للثقلين. وَ لَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ و هو ما فيه من الوعد و الوعيد، أو صدقه بإتيان ذلك. بَعْدَ حِينٍ بعد الموت أو يوم القيامة أو عند ظهور الإسلام و فيه تهديد.
و
عن النبي صلّى اللّه عليه و سلم «من قرأ سورة (ص) كان له بوزن كل جبل سخره اللّه لداود عشر حسنات، و عصمه اللّه أن يصر على ذنب صغير أو كبير».
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 36
(39) سورة الزمر
مكية إلا قوله: (قُلْ يا عِبادِيَ) الآية و آيها خمس و سبعون أو اثنتان و سبعون آية
[سورة الزمر (39): الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَنْزِيلُ الْكِتابِ خبر محذوف مثل هذا أو مبتدأ خبره. مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ و هو على الأول صلة ل تَنْزِيلُ ، أو خبر ثان أو حال عمل فيها معنى الإشارة أو ال تَنْزِيلُ ، و الظاهر أن الْكِتابِ على الأول السورة و على الثاني القرآن، و قرئ «تنزيل» بالنصب على إضمار فعل نحو اقرأ أو الزم.
إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ ملتبسا بالحق أو بسبب إثبات الحق و إظهاره و تفصيله. فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ ممحضا له الدين من الشرك و الرياء، و قرئ برفع «الدين» على الاستئناف لتعليل الأمر و تقديم الخبر لتأكيد الاختصاص المستفاد من اللام كما صرح به مؤكدا و إجراؤه مجرى المعلوم المقرر لكثرة حججه و ظهور براهينه فقال:
[سورة الزمر (39): آية 3]
أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ أي ألا هو الذي وجب اختصاصه بأن يخلص له الطاعة، فإنه المتفرد بصفات الألوهية و الاطلاع على الأسرار و الضمائر. وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ يحتمل المتخذين من الكفرة و المتخذين من الملائكة و عيسى و الأصنام على حذف الراجع و إضمار المشركين من غير ذكر لدلالة المساق عليهم، و هو مبتدأ خبره على الأول. ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى بإضمار القول. إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ و هو متعين على الثاني، و على هذا يكون القول المضمر بما في حيزه حالا أو بدلا من الصلة و زُلْفى مصدر أو حال، و قرئ «قالوا ما نعبدهم» و «ما نعبدكم إلا لتقربونا إلى اللّه» حكاية لما خاطبوا به آلهتهم و «نعبدهم» بضم النون اتباعا. فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من الدين بإدخال المحق الجنة و المبطل النار و الضمير للكفرة و مقابليهم، و قيل لهم و لمعبوديهم فإنهم يرجون شفاعتهم و هم يلعنونها. إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي لا يوفق للاهتداء إلى الحق. مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ فإنهما فاقدا البصيرة.
[سورة الزمر (39): الآيات 4 الى 5]