کتابخانه تفاسیر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 44
مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ فإن خزي أعدائه دليل غلبته، و قد أخزاهم اللّه يوم بدر. وَ يَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ دائم و هو عذاب النار.
إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ لأجلهم فإنه مناط مصالحهم في معاشهم و معادهم. بِالْحَقِ متلبسا به. فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ إذ نفع به نفسه. وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها فإن وباله لا يتخطاها. وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ و ما وكلت عليهم لتجبرهم على الهدى و إنما أمرت بالبلاغ و قد بلغت.
[سورة الزمر (39): آية 42]
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها أي يقبضها عن الأبدان بأن يقطع تعلقها عنها و تصرفها فيها إما ظاهرا و باطنا و ذلك عند الموت، أو ظاهرا لا باطنا و هو في النوم. فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ و لا يردها إلى البدن، و قرأ حمزة و الكسائي قَضى بضم القاف و كسر الضاد و الموت بالرفع. وَ يُرْسِلُ الْأُخْرى أي النائمة إلى بدنها عند اليقظة. إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى هو الوقت المضروب لموته و هو غاية جنس الإرسال.
و ما روي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما: أن في ابن آدم نفسا و روحا بينهما مثل شعاع الشمس، فالنفس التي بها العقل و التمييز، و الروح التي بها النفس و الحياة، فيتوفيان عند الموت و تتوفى النفس وحدها عند النوم. قريب مما ذكرناه.
إِنَّ فِي ذلِكَ من التوفي و الإمساك و الإرسال. لَآياتٍ دالة على كمال قدرته و حكمته و شمول رحمته.
لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ في كيفية تعلقها بالأبدان و توفيها عنها بالكلية حين الموت، و إمساكها باقية لا تفنى بفنائها، و ما يعتريها من السعادة و الشقاوة و الحكمة في توفيها عن ظواهرها و إرسالها حينا بعد حين إلى توفي آجالها.
[سورة الزمر (39): الآيات 43 الى 44]
أَمِ اتَّخَذُوا بل اتخذ قريش. مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ تشفع لهم عند اللّه. قُلْ أَ وَ لَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَ لا يَعْقِلُونَ و لو كانوا على هذه الصفة كما تشاهدونهم جمادات لا تقدر و لا تعلم.
قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لعله رد لما عسى يجيبون به و هو أن الشفعاء أشخاص مقربون هي تماثيلهم، و المعنى أنه مالك الشفاعة كلها لا يستطيع أحد شفاعة إلا بإذنه و رضاه، و لا يستقل بها ثم قرر ذلك فقال:
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فإنه مالك الملك كله لا يملك أحد أن يتكلم في أمره دون إذنه و رضاه. ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ يوم القيامة فيكون الملك له أيضا حينئذ.
[سورة الزمر (39): آية 45]
وَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ دون آلهتهم. اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ انقبضت و نفرت. وَ إِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ يعني الأوثان. إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ لفرط افتتانهم بها و نسيانهم حق اللّه، و لقد بالغ في الأمرين حتى بلغ الغاية فيهما، فإن الاستبشار أن يمتلئ قلبه سرورا حتى تنبسط له بشرة وجهه، و الاشمئزاز أن يمتلئ غما حتى ينقبض أديم وجهه، و العامل في إِذا ذُكِرَ العامل في إذ المفاجأة.
[سورة الزمر (39): آية 46]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 45
قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ التجئ إلى اللّه بالدعاء لما تحيرت في أمرهم و ضجرت من عنادهم و شدة شكيمتهم، فإنه القادر على الأشياء و العالم بالأحوال كلها. أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ فأنت وحدك تقدر أن تحكم بيني و بينهم.
[سورة الزمر (39): الآيات 47 الى 48]
وَ لَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وعيد شديد و إقناط كلي لهم من الخلاص. وَ بَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ زيادة مبالغة فيه و هو نظير قوله:
فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ في الوعد.
وَ بَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا سيئات أعمالهم أو كسبهم حين تعرض صحائفهم. وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ و أحاط بهم جزاؤه.
[سورة الزمر (39): الآيات 49 الى 50]
فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا إخبار عن الجنس بما يغلب فيه، و العطف على قوله وَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ بالفاء لبيان مناقضتهم و تعكيسهم في التسبب بمعنى أنهم يشمئزون عن ذكر اللّه وحده و يستبشرون بذكر الآلهة، فإذا مسهم ضر دعوا من اشمأزوا من ذكره دون من استبشروا بذكره، و ما بينهما اعتراض مؤكد لإنكار ذلك عليهم. ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا أعطيناه إياه تفضلا فإن التخويل مختص به. قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ مني بوجوه كسبه، أو بأني سأعطاه لما لي من استحقاقه، أو من اللّه بي و استحقاقي، و الهاء فيه لما إن جعلت موصولة و إلا فللنعمة و التذكير لأن المراد شيء منها. بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ امتحان له أ يشكر أم يكفر، و هو رد لما قاله و تأنيث الضمير باعتبار الخير أو لفظ ال نِعْمَةً ، و قرئ بالتذكير. وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ذلك، و هو دليل على أن الإنسان للجنس.
قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ الهاء لقوله إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ لأنها كلمة أو جملة، و قرئ بالتذكير و الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قارون و قومه فإنه قال و رضي به قومه فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ من متاع الدنيا.
[سورة الزمر (39): الآيات 51 الى 52]
فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا جزاء سيئات أعمالهم أو جزاء أعمالهم، و سماه سيئة لأنه في مقابلة أعمالهم السيئة رمزا إلى أن جميع أعمالهم كذلك. وَ الَّذِينَ ظَلَمُوا بالعتو. مِنْ هؤُلاءِ المشركين و مِنْ للبيان أو للتبعيض. سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا كما أصاب أولئك، و قد أصابهم فإنهم قحطوا سبع سنين و قتل ببدر صناديدهم. وَ ما هُمْ بِمُعْجِزِينَ بفائتين.
أَ وَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ حيث حبس عنهم الرزق سبعا ثم بسط لهم سبعا.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 46
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ بأن الحوادث كلها من اللّه بوسط أو غيره.
[سورة الزمر (39): الآيات 53 الى 54]
قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أفرطوا في الجناية عليها بالإسراف في المعاصي، و إضافة العباد تخصصه بالمؤمنين على ما هو عرف القرآن. لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ لا تيأسوا من مغفرته أولا و تفضله ثانيا. إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً عفوا و لو بعد بعد و تقييده بالتوبة خلاف الظاهر و يدل على إطلاقه فيما عدا الشرك قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ* الآية، و التعليل بقوله: إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ على المبالغة و إفادة الحصر و الوعد بالرحمة بعد المغفرة، و تقديم ما يستدعي عموم المغفرة مما في عِبادِيَ من الدلالة على الذلة، و الإختصاص المقتضيين للترحم، و تخصيص ضرر الإسراف بأنفسهم و النهي عن القنوط مطلقا عن الرحمة فضلا عن المغفرة، و إطلاقها و تعليله بأن اللّه يغفر الذنوب جميعا، و وضع اسم اللَّهِ موضع الضمير لدلالته على أنه المستغني و المنعم على الإطلاق و التأكيد بالجميع. و ما
روي أنه عليه الصلاة و السلام قال «ما أحب أن تكون لي الدنيا و ما فيها بها، فقال رجل يا رسول اللّه و من أشرك فسكت ساعة ثم قال: ألا و من أشرك ثلاث مرات».
و ما
روي أن أهل مكة قالوا: يزعم محمد أن من عبد الوثن و قتل النفس بغير حق لم يغفر له فكيف و لم نهاجر و قد عبدنا الأوثان و قتلنا النفس فنزلت.
و قيل في عياش و الوليد بن الوليد في جماعة افتتنوا أو في الوحشي لا ينفي عمومها و كذا قوله:
وَ أَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَ أَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ فإنها لا تدل على حصول المغفرة لكل أحد من غير توبة و سبق تعذيب لتغني عن التوبة و الإخلاص في العمل و تنافي الوعيد بالعذاب.
[سورة الزمر (39): الآيات 55 الى 56]
وَ اتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ القرآن أو المأمور به دون المنهي عنه، أو العزائم دون الرخص أو الناسخ دون المنسوخ، و لعله ما هو أنجى و أسلم كالإنابة و المواظبة على الطاعة. مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَ أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ بمجيئه فتتداركوا.
أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ كراهة أن تقول و تنكير نَفْسٌ لأن القائل بعض الأنفس أو للتكثير كقول الأعشى:
و ربّ بقيع لو هتفت بجوّه
أتاني كريم ينفض الرّأس مغضبا
يا حَسْرَتى و قرئ بالياء على الأصل. عَلى ما فَرَّطْتُ بما قصرت. فِي جَنْبِ اللَّهِ في جانبه أي في حقه و هو طاعته. قال سابق البربري:
أما تتّقين اللّه في جنب وامق
له كبد حرّى عليك تقطّع
و هو كناية فيها مبالغة كقوله:
إنّ السّماحة و المروءة و النّدى
في قبّة ضربت على ابن الحشرج
و قيل ذاته على تقدير مضاف كالطاعة و قيل في قربه من قوله تعالى: وَ الصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ و قرئ «في ذكر اللّه». وَ إِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ المستهزئين بأهله و محل إِنْ كُنْتُ نصب على الحال كأنه قال فرطت و أنا ساخر.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 47
[سورة الزمر (39): الآيات 57 الى 59]
أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي بالإرشاد إلى الحق. لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ الشرك و المعاصي.
أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ في العقيدة و العمل، و أو للدلالة على أنها لا تخلوا من هذه الأقوال تحيرا و تعللا بما لا طائل تحته.
بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَ اسْتَكْبَرْتَ وَ كُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ رد من اللّه عليه لما تضمنه قوله لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي من معنى النفي و فصله عنه لأن تقديمه يفرق القرائن و تأخير المودود يخل بالنظم المطابق للوجود لأنه يتحسر بالتفريط ثم يتعلل بفقد الهداية ثم يتمنى الرجعة، و هو لا يمنع تأثير قدرة اللّه فعل العبد و لا ما فيه من إسناد الفعل إليه كما عرفت و تذكير الخطاب على المعنى، و قرئ بالتأنيث للنفس.
[سورة الزمر (39): الآيات 60 الى 61]
وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ بأن وصفوه بما لا يجوز كاتخاذ الولد. وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ بما ينالهم من الشدة أو بما يتخيل عليها من ظلمة الجهل، و الجملة حال إذ الظاهر أن ترى من رؤية البصر و اكتفى فيها بالضمير عن الواو. أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً مقام. لِلْمُتَكَبِّرِينَ عن الإيمان و الطاعة و هو تقرير لأنهم يرون كذلك.
وَ يُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا و قرئ «و ينجي». بِمَفازَتِهِمْ بفلاحهم مفعلة من الفوز و تفسيرها بالنجاة تخصيصها بأهم أقسامه و بالسعادة و العمل الصالح إطلاق لها على السبب، و قرأ الكوفيون غير حفص بالجمع تطبيقا له بالمضاف إليه و الباء فيها للسببية صلة لينجي أو لقوله: لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ و هو حال أو استئناف لبيان المفازة.
[سورة الزمر (39): الآيات 62 الى 63]
اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ من خير و شر و إيمان و كفر. وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ يتولى التصرف.
لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لا يملك أمرها و لا يتمكن من التصرف فيها غيره، و هو كناية عن قدرته و حفظه لها و فيها مزيد دلالة على الاختصاص، لأن الخزائن لا يدخلها و لا يتصرف فيها الا من بيده مفاتيحها، و هو جمع مقليد أو مقلاد من قلدته إذا ألزمته، و قيل جمع إقليد معرب إكليد على الشذوذ كمذاكير. و
عن عثمان رضي اللّه عنه: أنه سأل النبي صلّى اللّه عليه و سلم عن المقاليد فقال «تفسيرها لا إله إلا اللّه و اللّه أكبر، و سبحان اللّه و بحمده و أستغفر اللّه و لا حول و لا قوة إلا باللّه، هو الأول و الآخر و الظاهر و الباطن، بيده الخير يحيي و يميت و هو على كل شيء قدير».
و المعنى على هذا أن للّه هذه الكلمات يوحد بها و يمجد، و هي مفاتيح خير السموات و الأرض من تكلم بها أصابه. وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ متصل بقوله وَ يُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا و ما بينهما اعتراض للدلالة على أنه مهيمن على العباد مطلع على أفعالهم مجاز عليها، و تغيير
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 48
النظم للإشعار بأن العمدة في فلاح المؤمنين فضل اللّه و في هلاك الكافرين أن خسروا أنفسهم، و للتصريح بالوعد و التعريض بالوعيد قضية للكرم أو بما يليه، و المراد بآيات اللّه دلائل قدرته و استبداده بأمر السموات و الأرض، أو كلمات توحيده و تمجيده و تخصيص الخسار بهم لأن غيرهم ذو حظ من الرحمة و الثواب.
[سورة الزمر (39): الآيات 64 الى 65]
قُلْ أَ فَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ أي أ فغير اللّه أعبد بعد هذه الدلائل و المواعيد، و تَأْمُرُونِّي اعتراض للدلالة على أنهم أمروه به عقيب ذلك و قالوا استلم بعض آلهتنا و نؤمن بإلهك لفرط غباوتهم، و يجوز أن ينتصب غير بما دل عليه تأمروني أن أعبد لأنه بمعنى تعبدونني على أن أصله تأمرونني أن أعبد فحذف أن و رفع كقوله:
ألا أيّهذا الزّاجري أحضر الوغى و يؤيده قراءة أَعْبُدُ بالنصب، و قرأ ابن عامر «تأمرونني» بإظهار النونين على الأصل و نافع بحذف الثانية فإنها تحذف كثيرا.
وَ لَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَ إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ أي من الرسل. لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ كلام على سبيل الفرض و المراد به تهييج الرسل و إقناط الكفرة و الإشعار على حكم الأمة، و إفراد الخطاب باعتبار كل واحد و اللام الأولى موطئة للقسم و الأخريان للجواب، و إطلاق الإحباط يحتمل أن يكون من خصائصهم لأن شركهم أقبح، و أن يكون على التقييد بالموت كما صرح به في قوله وَ مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَ هُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ و عطف الخسران عليه من عطف المسبب على السبب.
[سورة الزمر (39): الآيات 66 الى 67]
بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ رد لما أمروه به و لولا دلالة التقديم على الاختصاص لم يكن كذلك. وَ كُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ إنعامه عليك و فيه إشارة الى موجب الاختصاص.
وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ما قدروا عظمته في أنفسهم حق تعظيمه حيث جعلوا له شركاء و وصفوه بما لا يليق به، و قرئ بالتشديد. وَ الْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ السَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ تنبيه على عظمته و حقارة الأفعال العظام التي تتحير فيها الأوهام بالإضافة إلى قدرته، و دلالة على أن تخريب العالم أهون شيء عليه على طريقة التمثيل و التخييل من غير اعتبار القبضة و اليمين حقيقة و لا مجازا كقولهم: شابت لمة الليل، و القبضة المرة من القبض أطلقت بمعنى القبضة و هي المقدار المقبوض بالكف تسمية بالمصدر أو بتقدير ذات قبضة. و قرئ بالنصب على الظرف تشبيها للمؤقت بالمبهم، و تأكيد الْأَرْضُ بالجميع لأن المراد بها الأرضون السبع أو جميع أبعاضها البادية و الغائرة. و قرئ «مطويات» على أنها حال و السَّماواتُ معطوفة على الْأَرْضُ منظومة في حكمها. سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ما أبعد و أعلى من هذه قدرته و عظمته عن إشراكهم، أو ما يضاف إليه من الشركاء.
[سورة الزمر (39): آية 68]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 49
وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ يعني المرة الأولى. فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ خر ميتا أو مغشيا عليه. إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ قيل جبريل و ميكائيل و إسرافيل فإنهم يموتون بعد، و قيل حملة العرش. ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى نفخة أخرى و هي تدل على أن المراد بالأولى و نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ كما صرح به في مواضع، و أخرى تحتمل النصب و الرفع. فَإِذا هُمْ قِيامٌ قائمون من قبورهم أو متوقفون، و قرئ بالنصب على أن الخبر. يَنْظُرُونَ و هو حال من ضميره و المعنى: يقلبون أبصارهم في الجوانب كالمبهوتين أو ينتظرون ما يفعل بهم.
[سورة الزمر (39): الآيات 69 الى 70]
وَ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها بما أقام فيها من العدل، سماه «نور» لأنه يزين البقاع و يظهر الحقوق كما سمى الظلم ظلمة. و
في الحديث «الظلم ظلمات يوم القيامة».
و لذلك أضاف اسمه إلى الْأَرْضُ أو بنور خلق فيها بلا واسطة أجسام مضيئة و لذلك أضافه الى نفسه. وَ وُضِعَ الْكِتابُ للحساب و الجزاء من وضع المحاسب كتاب المحاسبة بين يديه، أو صحائف الأعمال في أيدي العمال، و اكتفى باسم الجنس عن الجمع.
و قيل اللوح المحفوظ يقابل به الصحائف وَ جِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَ الشُّهَداءِ الذين يشهدون للأمم و عليهم من الملائكة و المؤمنين، و قيل المستشهدون. وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بين العباد. بِالْحَقِّ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ بنقص ثواب أو زيادة عقاب على ما جرى به الوعد.
وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ جزاءه. وَ هُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ فلا يفوته شيء من أفعالهم، ثم فصل التوفية فقال:
[سورة الزمر (39): الآيات 71 الى 72]
وَ سِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً أفواجا متفرقة بعضها في أثر بعض على تفاوت أقدامهم في الضلالة و الشرارة، جمع زمرة و اشتقاقها من الزمر و هو الصوت إذ الجماعة لا تخلو عنه، أو من قولهم شاة زمرة قليلة الشعر و رجل زمر قليل المروءة و هي الجمع القليل. حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها ليدخلوها و حَتَّى و هي التي تحكي بعدها الجملة، و قرأ الكوفيون فُتِحَتْ بتخفيف التاء. وَ قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها تقريعا و توبيخا. أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ من جنسكم. يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَ يُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وقتكم هذا و هو وقت دخولهم النار، و فيه دليل على أنه لا تكليف قبل الشرع من حيث إنهم عللوا توبيخهم بإتيان الرسل و تبليغ الكتب. قالُوا بَلى وَ لكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ كلمة اللّه بالعذاب علينا و هو الحكم عليهم بالشقاوة، و أنهم من أهل النار و وضع الظاهر فيه موضع الضمير للدلالة على اختصاص ذلك بالكفرة، و قيل هو قوله و قيل هو قوله لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ* .
قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أبهم القائل لتهويل ما يقال لهم. فَبِئْسَ مَثْوَى مكان.
الْمُتَكَبِّرِينَ اللام فيه للجنس و المخصوص بالذم سبق ذكره، و لا ينافي إشعاره بأن مثواهم في النار لتكبرهم عن الحق أن يكون دخولهم فيها لأن كلمة العذاب حقت عليهم، فإن تكبرهم و سائر مقابحهم مسببة عنه كما
قال عليه الصلاة و السلام «إن اللّه تعالى إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة، حتى يموت على عمل
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 50
من أعمال أهل الجنة فيدخل الجنة. و إذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخل به النار».
[سورة الزمر (39): الآيات 73 الى 74]
وَ سِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ إسراعا بهم إلى دار الكرامة، و قيل سيق مراكبهم إذ لا يذهب بهم إلا راكبين. زُمَراً على تفاوت مراتبهم في الشرف و علو الطبقة. حَتَّى إِذا جاؤُها وَ فُتِحَتْ أَبْوابُها حذف جواب إذا للدلالة على أن لهم حينئذ من الكرامة و التعظيم ما لا يحيط به الوصف، و أن أبواب الجنة تفتح لهم قبل مجيئهم غير منتظرين، و قرأ الكوفيون فُتِحَتْ بالتخفيف. وَ قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا يعتريكم بعد مكروه. طِبْتُمْ طهرتم من دنس المعاصي. فَادْخُلُوها خالِدِينَ مقدرين الخلود فيها، و الفاء للدلالة على أن طيبهم سبب لدخولهم و خلودهم، و هو لا يمنع دخول العاصي بعفوه لأنه مطهره.
وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ بالبعث و الثواب. وَ أَوْرَثَنَا الْأَرْضَ يريدون المكان الذي استقروا فيه على الاستعارة، و إيراثها تمليكها مخلفة عليهم من أعمالهم أو تمكينهم من التصرف فيها تمكين الوارث فيما يرثه. نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ أي يتبوأ كل منا في أي مقام أراده من جنته الواسعة، مع أن في الجنة مقامات معنوية لا يتمانع واردوها. فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ الجنة.
[سورة الزمر (39): آية 75]
وَ تَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ محدقين. مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ أي حوله و مِنْ مزيدة أو لابتداء الحفوف.
يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ملتبسين بحمده. و الجملة حال ثانية أو مقيدة للأولى، و المعنى ذاكرين له بوصفي جلاله و إكرامه تلذذا به، و فيه إشعار بأن منتهى درجات العليين و أعلى لذائذهم هو الاستغراق في صفات الحق. وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِ أي بين الخلق بإدخال بعضهم النار و بعضهم الجنة، أو بين الملائكة بإقامتهم في منازلهم على حسب تفاضلهم. وَ قِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أي على ما قضي بيننا بالحق. و القائلون هم المؤمنون من المقضي بينهم أو الملائكة و طي ذكرهم لتعينهم و تعظيمهم.
عن النبي صلّى اللّه عليه و سلم: «من قرأ سورة الزمر لم يقطع رجاءه يوم القيامة و أعطاه اللّه ثواب الخائفين».
عن عائشة رضي اللّه عنها: «أنه عليه الصلاة و السلام كان يقرأ كل ليلة بني إسرائيل و الزمر»