کتابخانه تفاسیر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 47
[سورة الزمر (39): الآيات 57 الى 59]
أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي بالإرشاد إلى الحق. لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ الشرك و المعاصي.
أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ في العقيدة و العمل، و أو للدلالة على أنها لا تخلوا من هذه الأقوال تحيرا و تعللا بما لا طائل تحته.
بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَ اسْتَكْبَرْتَ وَ كُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ رد من اللّه عليه لما تضمنه قوله لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي من معنى النفي و فصله عنه لأن تقديمه يفرق القرائن و تأخير المودود يخل بالنظم المطابق للوجود لأنه يتحسر بالتفريط ثم يتعلل بفقد الهداية ثم يتمنى الرجعة، و هو لا يمنع تأثير قدرة اللّه فعل العبد و لا ما فيه من إسناد الفعل إليه كما عرفت و تذكير الخطاب على المعنى، و قرئ بالتأنيث للنفس.
[سورة الزمر (39): الآيات 60 الى 61]
وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ بأن وصفوه بما لا يجوز كاتخاذ الولد. وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ بما ينالهم من الشدة أو بما يتخيل عليها من ظلمة الجهل، و الجملة حال إذ الظاهر أن ترى من رؤية البصر و اكتفى فيها بالضمير عن الواو. أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً مقام. لِلْمُتَكَبِّرِينَ عن الإيمان و الطاعة و هو تقرير لأنهم يرون كذلك.
وَ يُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا و قرئ «و ينجي». بِمَفازَتِهِمْ بفلاحهم مفعلة من الفوز و تفسيرها بالنجاة تخصيصها بأهم أقسامه و بالسعادة و العمل الصالح إطلاق لها على السبب، و قرأ الكوفيون غير حفص بالجمع تطبيقا له بالمضاف إليه و الباء فيها للسببية صلة لينجي أو لقوله: لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ و هو حال أو استئناف لبيان المفازة.
[سورة الزمر (39): الآيات 62 الى 63]
اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ من خير و شر و إيمان و كفر. وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ يتولى التصرف.
لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لا يملك أمرها و لا يتمكن من التصرف فيها غيره، و هو كناية عن قدرته و حفظه لها و فيها مزيد دلالة على الاختصاص، لأن الخزائن لا يدخلها و لا يتصرف فيها الا من بيده مفاتيحها، و هو جمع مقليد أو مقلاد من قلدته إذا ألزمته، و قيل جمع إقليد معرب إكليد على الشذوذ كمذاكير. و
عن عثمان رضي اللّه عنه: أنه سأل النبي صلّى اللّه عليه و سلم عن المقاليد فقال «تفسيرها لا إله إلا اللّه و اللّه أكبر، و سبحان اللّه و بحمده و أستغفر اللّه و لا حول و لا قوة إلا باللّه، هو الأول و الآخر و الظاهر و الباطن، بيده الخير يحيي و يميت و هو على كل شيء قدير».
و المعنى على هذا أن للّه هذه الكلمات يوحد بها و يمجد، و هي مفاتيح خير السموات و الأرض من تكلم بها أصابه. وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ متصل بقوله وَ يُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا و ما بينهما اعتراض للدلالة على أنه مهيمن على العباد مطلع على أفعالهم مجاز عليها، و تغيير
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 48
النظم للإشعار بأن العمدة في فلاح المؤمنين فضل اللّه و في هلاك الكافرين أن خسروا أنفسهم، و للتصريح بالوعد و التعريض بالوعيد قضية للكرم أو بما يليه، و المراد بآيات اللّه دلائل قدرته و استبداده بأمر السموات و الأرض، أو كلمات توحيده و تمجيده و تخصيص الخسار بهم لأن غيرهم ذو حظ من الرحمة و الثواب.
[سورة الزمر (39): الآيات 64 الى 65]
قُلْ أَ فَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ أي أ فغير اللّه أعبد بعد هذه الدلائل و المواعيد، و تَأْمُرُونِّي اعتراض للدلالة على أنهم أمروه به عقيب ذلك و قالوا استلم بعض آلهتنا و نؤمن بإلهك لفرط غباوتهم، و يجوز أن ينتصب غير بما دل عليه تأمروني أن أعبد لأنه بمعنى تعبدونني على أن أصله تأمرونني أن أعبد فحذف أن و رفع كقوله:
ألا أيّهذا الزّاجري أحضر الوغى و يؤيده قراءة أَعْبُدُ بالنصب، و قرأ ابن عامر «تأمرونني» بإظهار النونين على الأصل و نافع بحذف الثانية فإنها تحذف كثيرا.
وَ لَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَ إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ أي من الرسل. لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ كلام على سبيل الفرض و المراد به تهييج الرسل و إقناط الكفرة و الإشعار على حكم الأمة، و إفراد الخطاب باعتبار كل واحد و اللام الأولى موطئة للقسم و الأخريان للجواب، و إطلاق الإحباط يحتمل أن يكون من خصائصهم لأن شركهم أقبح، و أن يكون على التقييد بالموت كما صرح به في قوله وَ مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَ هُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ و عطف الخسران عليه من عطف المسبب على السبب.
[سورة الزمر (39): الآيات 66 الى 67]
بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ رد لما أمروه به و لولا دلالة التقديم على الاختصاص لم يكن كذلك. وَ كُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ إنعامه عليك و فيه إشارة الى موجب الاختصاص.
وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ما قدروا عظمته في أنفسهم حق تعظيمه حيث جعلوا له شركاء و وصفوه بما لا يليق به، و قرئ بالتشديد. وَ الْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ السَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ تنبيه على عظمته و حقارة الأفعال العظام التي تتحير فيها الأوهام بالإضافة إلى قدرته، و دلالة على أن تخريب العالم أهون شيء عليه على طريقة التمثيل و التخييل من غير اعتبار القبضة و اليمين حقيقة و لا مجازا كقولهم: شابت لمة الليل، و القبضة المرة من القبض أطلقت بمعنى القبضة و هي المقدار المقبوض بالكف تسمية بالمصدر أو بتقدير ذات قبضة. و قرئ بالنصب على الظرف تشبيها للمؤقت بالمبهم، و تأكيد الْأَرْضُ بالجميع لأن المراد بها الأرضون السبع أو جميع أبعاضها البادية و الغائرة. و قرئ «مطويات» على أنها حال و السَّماواتُ معطوفة على الْأَرْضُ منظومة في حكمها. سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ما أبعد و أعلى من هذه قدرته و عظمته عن إشراكهم، أو ما يضاف إليه من الشركاء.
[سورة الزمر (39): آية 68]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 49
وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ يعني المرة الأولى. فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ خر ميتا أو مغشيا عليه. إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ قيل جبريل و ميكائيل و إسرافيل فإنهم يموتون بعد، و قيل حملة العرش. ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى نفخة أخرى و هي تدل على أن المراد بالأولى و نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ كما صرح به في مواضع، و أخرى تحتمل النصب و الرفع. فَإِذا هُمْ قِيامٌ قائمون من قبورهم أو متوقفون، و قرئ بالنصب على أن الخبر. يَنْظُرُونَ و هو حال من ضميره و المعنى: يقلبون أبصارهم في الجوانب كالمبهوتين أو ينتظرون ما يفعل بهم.
[سورة الزمر (39): الآيات 69 الى 70]
وَ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها بما أقام فيها من العدل، سماه «نور» لأنه يزين البقاع و يظهر الحقوق كما سمى الظلم ظلمة. و
في الحديث «الظلم ظلمات يوم القيامة».
و لذلك أضاف اسمه إلى الْأَرْضُ أو بنور خلق فيها بلا واسطة أجسام مضيئة و لذلك أضافه الى نفسه. وَ وُضِعَ الْكِتابُ للحساب و الجزاء من وضع المحاسب كتاب المحاسبة بين يديه، أو صحائف الأعمال في أيدي العمال، و اكتفى باسم الجنس عن الجمع.
و قيل اللوح المحفوظ يقابل به الصحائف وَ جِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَ الشُّهَداءِ الذين يشهدون للأمم و عليهم من الملائكة و المؤمنين، و قيل المستشهدون. وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بين العباد. بِالْحَقِّ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ بنقص ثواب أو زيادة عقاب على ما جرى به الوعد.
وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ جزاءه. وَ هُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ فلا يفوته شيء من أفعالهم، ثم فصل التوفية فقال:
[سورة الزمر (39): الآيات 71 الى 72]
وَ سِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً أفواجا متفرقة بعضها في أثر بعض على تفاوت أقدامهم في الضلالة و الشرارة، جمع زمرة و اشتقاقها من الزمر و هو الصوت إذ الجماعة لا تخلو عنه، أو من قولهم شاة زمرة قليلة الشعر و رجل زمر قليل المروءة و هي الجمع القليل. حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها ليدخلوها و حَتَّى و هي التي تحكي بعدها الجملة، و قرأ الكوفيون فُتِحَتْ بتخفيف التاء. وَ قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها تقريعا و توبيخا. أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ من جنسكم. يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَ يُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وقتكم هذا و هو وقت دخولهم النار، و فيه دليل على أنه لا تكليف قبل الشرع من حيث إنهم عللوا توبيخهم بإتيان الرسل و تبليغ الكتب. قالُوا بَلى وَ لكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ كلمة اللّه بالعذاب علينا و هو الحكم عليهم بالشقاوة، و أنهم من أهل النار و وضع الظاهر فيه موضع الضمير للدلالة على اختصاص ذلك بالكفرة، و قيل هو قوله و قيل هو قوله لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ* .
قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أبهم القائل لتهويل ما يقال لهم. فَبِئْسَ مَثْوَى مكان.
الْمُتَكَبِّرِينَ اللام فيه للجنس و المخصوص بالذم سبق ذكره، و لا ينافي إشعاره بأن مثواهم في النار لتكبرهم عن الحق أن يكون دخولهم فيها لأن كلمة العذاب حقت عليهم، فإن تكبرهم و سائر مقابحهم مسببة عنه كما
قال عليه الصلاة و السلام «إن اللّه تعالى إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة، حتى يموت على عمل
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 50
من أعمال أهل الجنة فيدخل الجنة. و إذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخل به النار».
[سورة الزمر (39): الآيات 73 الى 74]
وَ سِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ إسراعا بهم إلى دار الكرامة، و قيل سيق مراكبهم إذ لا يذهب بهم إلا راكبين. زُمَراً على تفاوت مراتبهم في الشرف و علو الطبقة. حَتَّى إِذا جاؤُها وَ فُتِحَتْ أَبْوابُها حذف جواب إذا للدلالة على أن لهم حينئذ من الكرامة و التعظيم ما لا يحيط به الوصف، و أن أبواب الجنة تفتح لهم قبل مجيئهم غير منتظرين، و قرأ الكوفيون فُتِحَتْ بالتخفيف. وَ قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا يعتريكم بعد مكروه. طِبْتُمْ طهرتم من دنس المعاصي. فَادْخُلُوها خالِدِينَ مقدرين الخلود فيها، و الفاء للدلالة على أن طيبهم سبب لدخولهم و خلودهم، و هو لا يمنع دخول العاصي بعفوه لأنه مطهره.
وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ بالبعث و الثواب. وَ أَوْرَثَنَا الْأَرْضَ يريدون المكان الذي استقروا فيه على الاستعارة، و إيراثها تمليكها مخلفة عليهم من أعمالهم أو تمكينهم من التصرف فيها تمكين الوارث فيما يرثه. نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ أي يتبوأ كل منا في أي مقام أراده من جنته الواسعة، مع أن في الجنة مقامات معنوية لا يتمانع واردوها. فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ الجنة.
[سورة الزمر (39): آية 75]
وَ تَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ محدقين. مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ أي حوله و مِنْ مزيدة أو لابتداء الحفوف.
يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ملتبسين بحمده. و الجملة حال ثانية أو مقيدة للأولى، و المعنى ذاكرين له بوصفي جلاله و إكرامه تلذذا به، و فيه إشعار بأن منتهى درجات العليين و أعلى لذائذهم هو الاستغراق في صفات الحق. وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِ أي بين الخلق بإدخال بعضهم النار و بعضهم الجنة، أو بين الملائكة بإقامتهم في منازلهم على حسب تفاضلهم. وَ قِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أي على ما قضي بيننا بالحق. و القائلون هم المؤمنون من المقضي بينهم أو الملائكة و طي ذكرهم لتعينهم و تعظيمهم.
عن النبي صلّى اللّه عليه و سلم: «من قرأ سورة الزمر لم يقطع رجاءه يوم القيامة و أعطاه اللّه ثواب الخائفين».
عن عائشة رضي اللّه عنها: «أنه عليه الصلاة و السلام كان يقرأ كل ليلة بني إسرائيل و الزمر»
و اللّه أعلم.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 51
(40) سورة المؤمن
مكية و آيها خمس و ثمانون
[سورة غافر (40): الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم أماله ابن عامر و حمزة و الكسائي و أبو بكر صريحا، و نافع برواية ورش و أبو عمرو بين بين، و قرئ بفتح الميم على التحريك لالتقاء الساكنين، أو النصب بإضمار اقرأ و منع صرفه للتعريف و التأنيث، أو لأنها على زنة أعجمي كقابيل و هابيل.
تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ لعل تخصيص الوصفين لما في القرآن من الإعجاز و الحكم الدال على القدرة الكاملة و الحكمة البالغة.
غافِرِ الذَّنْبِ وَ قابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ صفات أخرى لتحقيق ما فيه من الترغيب و الترهيب و الحث على ما هو المقصود منه، و الإضافة فيها حقيقة على أنه لم يرد بها زمان مخصوص، و أريد ب شَدِيدِ الْعِقابِ مشددة أو الشديد عقابه فحذف اللام للازدواج و أمن الالتباس، أو إبدال و جعله وحده بدلا مشوش للنظم و توسيط الواو بين الأولين لإفادة الجمع بين محو الذنوب و قبول التوبة، أو تغاير الوصفين إذ ربما يتوهم الاتحاد، أو تغاير موقع الفعلين لأن الغفر هو الستر فيكون لذنب باق و ذلك لمن لم يتب فإن
«التائب من الذنب كمن لا ذنب له».
و التوب مصدر كالتوبة و قيل جمعها و الطول الفضل بترك العقاب المستحق، و في توحيد صفة العذاب مغمورة بصفات الرحمة دليل رجحانها. لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فيجب الإقبال الكلي على عبادته. إِلَيْهِ الْمَصِيرُ فيجازي المطيع و العاصي.
[سورة غافر (40): آية 4]
ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا لما حقق أمر التنزيل سجل بالكفر على المجادلين فيه بالطعن و إدحاض الحق لقوله: وَ جادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ و أما الجدال فيه لحل عقده و استنباط حقائقه و قطع تشبث أهل الزيغ به و قطع مطاعنهم فيه فمن أعظم الطاعات، و لذلك
قال عليه الصلاة و السلام «إن جدالا في القرآن كفر»
بالتنكير مع أنه ليس جدالا فيه على الحقيقة. فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ فلا يغررك إمهالهم و إقبالهم في دنياهم و تقلبهم في بلاد الشأم و اليمن بالتجارات المربحة فإنهم مأخوذون عما قريب بكفرهم أخذ من قبلهم كما قال:
[سورة غافر (40): الآيات 5 الى 6]
.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 52
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ الْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ و الذين تحزبوا على الرسل و ناصبوهم بعد قوم نوح كعاد و ثمود. وَ هَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ من هؤلاء. بِرَسُولِهِمْ و قرئ «برسولها». لِيَأْخُذُوهُ ليتمكنوا من إصابته بما أرادوا من تعذيب و قتل من الأخذ بمعنى الأسر. وَ جادَلُوا بِالْباطِلِ بما لا حقيقة له. لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ ليزيلوه به. فَأَخَذْتُهُمْ بالإهلاك جزاء لهم. فَكَيْفَ كانَ عِقابِ فإنكم تمرون على ديارهم و ترون أثره. و هو تقرير فيه تعجيب.
وَ كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ وعيده أو قضاؤه بالعذاب. عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا بكفرهم. أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ بدل من كلمة رَبِّكَ بدل الكل أو الاشتمال على إرادة اللفظ أو المعنى.
[سورة غافر (40): آية 7]
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ الكروبيون أعلى طبقات الملائكة و أولهم وجودا و حملهم إياه و حفيفهم حوله مجاز عن حفظهم و تدبيرهم له، أو كناية عن قربهم من ذي العرش و مكانتهم عنده و توسطهم في نفاذ أمره. يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ يذكرون اللّه بمجامع الثناء من صفات الجلال و الإكرام، و جعل التسبيح أصلا و الحمد حالا لأن الحمد مقتضى حالهم دون التسبيح. وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ أخبر عنهم بالإيمان إظهارا لفضله و تعظيما لأهله و مساق الآية لذلك كما صرح به بقوله: وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا و إشعارا بأن حملة العرش و سكان الفرش في معرفته سواء ردا على المجسمة و استغفارهم شفاعتهم و حملهم على التوبة و إلهامهم ما يوجب المغفرة، و فيه تنبيه على أن المشاركة في الإيمان توجب النصح و الشفقة و إن تخالفت الأجناس لأنها أقوى المناسبات كما قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ . رَبَّنا أي يقولون رَبَّنا و هو بيان ل يَسْتَغْفِرُونَ أو حال. وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَ عِلْماً أي وسعت رحمتك و علمك فأزيل عن أصله للإغراق في وصفه بالرحمة و العلم و المبالغة في عمومها، و تقديم الرحمة لأنها المقصودة بالذات ها هنا.
فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَ اتَّبَعُوا سَبِيلَكَ للذين علمت منهم التوبة و اتباع سبيل الحق. وَ قِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ و احفظهم عنه و هو تصريح بعد إشعار للتأكيد و الدلالة على شدة العذاب.
[سورة غافر (40): الآيات 8 الى 9]
رَبَّنا وَ أَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وعدتهم إياها. وَ مَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَ أَزْواجِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ عطف على هم الأول أي أدخلهم و معهم هؤلاء ليتم سرورهم، أو الثاني لبيان عموم الوعد، و قرئ «جنة عدن» و «صلح» بالضم و «ذريتهم» بالتوحيد. إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الذي لا يمتنع عليه مقدور. الْحَكِيمُ الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه حكمته و من ذلك الوفاء بالوعد. وَ قِهِمُ السَّيِّئاتِ العقوبات أو جزاء السيئات، و هو تعميم بعد تخصيص، أو تخصيص بمن صَلَحَ أو المعاصي في الدنيا لقوله: وَ مَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ أي و من تقها في الدنيا فقد رحمته في الآخرة كأنهم طلبوا السبب بعد ما سألوا المسبب. وَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ يعني الرحمة أو الوقاية أو مجموعهما.
[سورة غافر (40): الآيات 10 الى 11]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 53
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ يوم القيامة فيقال لهم: لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ أي لمقت اللّه إياكم أكبر من مقتكم أنفسكم الأمارة بالسوء. إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ ظرف لفعل دل عليه المقت الأول لا له لأنه أخبر عنه، و لا للثاني لأن مقتهم أنفسهم يوم القيامة حين عاينوا جزاء أعمالهم الخبيثة إلا أن يؤول بنحو: بالصّيف ضيّعت اللّبن. أو تعليل للحكم و زمان المقتين واحد.
قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ إماتتين بأن خلقتنا أمواتا أوّلا ثم صيرتنا أمواتا عند انقضاء آجالنا، فإن الإماتة جعل الشيء عادم الحياة ابتداء أو بتصيير كالتصغير و التكبير، و لذلك قيل سبحان من صغر البعوض و كبر الفيل، و إن خص بالتصيير فاختيار الفاعل المختار أحد مفعوليه تصيير و صرف له عن الآخر. وَ أَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ الإحياءة الأولى و إحياءة البعث. و قيل الإماتة الأولى عند انخرام الأجل و الثانية في القبر بعد الإحياء للسؤال و الإحياءان ما في القبر و البعث، إذ المقصود اعترافهم بعد المعاينة بما غفلوا عنه و لم يكترثوا به و لذلك تسبب بقوله: فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فإن اقترافهم لها من اغترارهم بالدنيا و إنكارهم البعث. فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ نوع خروج من النار. مِنْ سَبِيلٍ طريق فنسلكه و ذلك إنما يقولونه من فرط قنوطهم تعللا و تحيرا و لذلك أجيبوا بقوله:
[سورة غافر (40): الآيات 12 الى 13]
ذلِكُمْ الذي أنتم فيه. بِأَنَّهُ بسبب أنه. إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ متحدا أو توحد وحده فحذف الفعل و أقيم مقامه في الحالية. كَفَرْتُمْ بالتوحيد. وَ إِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا بالإشراك. فَالْحُكْمُ لِلَّهِ المستحق للعبادة حيث حكم عليكم بالعذاب السرمد الدائم. الْعَلِيِ عن أن يشرك به و يسوى بغيره. الْكَبِيرِ حيث حكم على من أشرك و سوى به بعض مخلوقاته في استحقاق العبادة بالعذاب السرمد.
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ الدالة على التوحيد و سائر ما يجب أن يعلم تكميلا لنفوسكم. وَ يُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً أسباب رزق كالمطر مراعاة لمعاشكم. وَ ما يَتَذَكَّرُ بالآيات التي هي كالمركوزة في العقول لظهورها المغفول عنها للانهماك في التقليد و اتباع الهوى. إِلَّا مَنْ يُنِيبُ يرجع عن الإنكار بالإقبال عليها و التفكر فيها، فإن الجازم بشيء لا ينظر فيما ينافيه.
[سورة غافر (40): الآيات 14 الى 15]
فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ من الشرك. وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ إخلاصكم و شق عليهم.