کتابخانه تفاسیر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 59
يصح إلا عن إيقان. وَ أَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ المستجمع لصفات الألوهية من كمال القدرة و الغلبة و ما يتوقف عليه من العلم و الإرادة، و التمكن من المجازاة و القدرة على التعذيب و الغفران.
[سورة غافر (40): الآيات 43 الى 44]
لا جَرَمَ لا رد لما دعوه إليه، و جَرَمَ فعل بمعنى حق و فاعله: أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَ لا فِي الْآخِرَةِ أي حق عدم دعوة آلهتكم إلى عبادتها أصلا لأنها جمادات ليس لها ما يقتضي ألوهيتها أو عدم دعوة مستجابة أو عدم استجابة دعوة لها. و قيل جَرَمَ بمعنى كسب و فاعله مستكن فيه أي كسب ذلك الدعاء إليه أن لا دعوة له بمعنى ما حصل من ذلك إلا ظهور بطلان دعوته، و قيل فعل من الجرم بمعنى القطع كما أن بدا من لا بد فعل من التبديد و هو التفريق، و المعنى لا قطع لبطلان دعوة ألوهية الأصنام أي لا ينقطع في وقت ما فتنقلب حقا، و يؤيده قولهم لا جرم أنه يفعل لغة فيه كالرشد و الرشد. وَ أَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ بالموت. وَ أَنَّ الْمُسْرِفِينَ في الضلالة و الطغيان كالإشراك و سفك الدماء. هُمْ أَصْحابُ النَّارِ ملازموها.
فَسَتَذْكُرُونَ و قرئ «فستذكرون» أي فسيذكر بعضكم بعضا عند معاينة العذاب. ما أَقُولُ لَكُمْ من النصيحة. وَ أُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ليعصمني من كل سوء. إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ فيحرسهم و كأنه جواب توعدهم المفهوم من قوله:
[سورة غافر (40): الآيات 45 الى 46]
فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا شدائد مكرهم. و قيل الضمير لموسى عليه الصلاة و السلام. وَ حاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ بفرعون و قومه فاستغنى بذكرهم عن ذكره للعلم بأنه أولى بذلك. و قيل بطلبة المؤمن من قومه فإنه فر إلى جبل فاتبعه طائفة فوجدوه يصلي و الوحوش حوله صفوفا فرجعوا رعبا فقتلهم. سُوءُ الْعَذابِ الغرق أو القتل أو النار.
النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَ عَشِيًّا جملة مستأنفة أو النَّارُ خبر محذوف و يُعْرَضُونَ استئناف للبيان، أو بدل و يُعْرَضُونَ حال منها، أو من الآل و قرئت منصوبة على الاختصاص أو بإضمار فعل يفسره يُعْرَضُونَ مثل يصلون، فإن عرضهم على النار إحراقهم بها من قولهم: عرض الأسارى على السيف إذا قتلوا به، و ذلك لأرواحهم كما روى ابن مسعود أن أرواحهم في أجواف طيور سود تعرض على النار بكرة و عشيا إلى يوم القيامة، و ذكر الوقتين تحتمل التخصيص و التأبيد، و فيه دليل على بقاء النفس و عذاب القبر.
وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أي هذا ما دامت الدنيا فإذا قامت الساعة قيل لهم: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ يا آل فرعون.
أَشَدَّ الْعَذابِ عذاب جهنم فإنه أشد مما كانوا فيه، أو أشد عذاب جهنم. و قرأ حمزة و الكسائي و نافع و يعقوب و حفص أَدْخِلُوا على أمر الملائكة بإدخالهم النار.
[سورة غافر (40): الآيات 47 الى 48]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 60
وَ إِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ و اذكر وقت تخاصمهم فيها و يحتمل العطف على غدوّا. فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا تفصيل له. إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً تباعا كخدم في جمع خادم أو ذوي تبع بمعنى أتباع على الإضمار أو التجوز. فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ بالدفع أو الحمل، و نَصِيباً مفعول به لما دل عليه مُغْنُونَ أوله بالتضمين أو مصدر كشيئا في قوله: لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً* .
فيكون من صلة ل مُغْنُونَ .
قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها نحن و أنتم فكيف نغني عنكم و لو قدرنا لأغنينا عن أنفسنا، و قرئ «كلّا» على التأكيد لأنه بمعنى كلنا و تنوينه عوض عن المضاف إليه، و لا يجوز جعله حالا من المستكن في الظرف فإنه لا يعمل في الحال المتقدمة كما يعمل في الظرف المتقدم كقولك كل يوم لك ثوب. إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ بأن أدخل أهل الجنة الجنة و أهل النار النار، و لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ .
[سورة غافر (40): الآيات 49 الى 50]
وَ قالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ أي لخزنتها، و وضع جَهَنَّمَ موضع الضمير للتهويل أو لبيان محلهم فيها، إذ يحتمل أن تكون جَهَنَّمَ أبعد دركاتها من قولهم: بئر جهنام بعيدة القعر. ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً قدر يوم. مِنَ الْعَذابِ شيئا من العذاب، و يجوز أن يكون المفعول «يوما» بحذف المضاف و مِنَ الْعَذابِ بيانه.
قالُوا أَ وَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ أرادوا به إلزامهم للحجة و توبيخهم على إضاعتهم أوقات الدعاء و تعطيلهم أسباب الإجابة. قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا فإنا لا نجترئ فيه إذ لم يؤذن لنا في الدعاء لأمثالكم، و فيه إقناط لهم عن الإجابة. وَ ما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ ضياع لا يجاب، و فيه إقناط لهم عن الإجابة.
[سورة غافر (40): الآيات 51 الى 52]
إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَ الَّذِينَ آمَنُوا بالحجة و الظفر و الانتقام لهم من الكفرة. فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ أي في الدارين و لا ينتقض ذلك بما كان لأعدائهم عليهم من الغلبة أحيانا إذ العبرة بالعواقب و غالب الأمر، و الْأَشْهادُ جمع شاهد كصاحب و أصحاب، و المراد بهم من يقوم يوم القيامة الشهادة على الناس من الملائكة و الأنبياء و المؤمنين.
يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ بدل من الأول و عدم نفع المعذرة لأنها باطلة، أو لأنه لم يؤذن لهم فيعتذروا. و قرأ غير الكوفيين و نافع بالتاء. وَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ البعد عن الرحمة. وَ لَهُمْ سُوءُ الدَّارِ جهنم.
[سورة غافر (40): الآيات 53 الى 54]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 61
وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى ما يهتدى به في الدين من المعجزات و الصحف و الشرائع. وَ أَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ و تركنا عليهم بعده من ذلك التوراة.
هُدىً وَ ذِكْرى هداية و تذكرة أو هاديا و مذكرا. لِأُولِي الْأَلْبابِ لذوي العقول السليمة.
[سورة غافر (40): آية 55]
فَاصْبِرْ على أذى المشركين. إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌ بالنصر لا يخلفه، و استشهد بحال موسى و فرعون.
وَ اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ و أقبل على أمر دينك و تدارك فرطاتك بترك الأولى و الاهتمام بأمر العدا بالاستغفار، فإنه تعالى كافيك في النصر إظهار الأمر. وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِبْكارِ و دم على التسبيح و التحميد لربك.
و قيل صلّ لهذين الوقتين، إذ كان الواجب بمكة ركعتين بكرة و ركعتين عشيّا.
[سورة غافر (40): آية 56]
إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ عام في كل مجادل مبطل و إن نزل في مشركي مكة أو اليهود حين قالوا: لست صاحبنا بل هو المسيح بن داود يبلغ سلطانه البر و البحر و تسير معه الأنهار. إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ إلا تكبر عن الحق و تعظم عن التفكر و التعلم، أو إرادة الرياسة أو أن النبوة و الملك لا يكونان إلا لهم. ما هُمْ بِبالِغِيهِ ببالغي دفع الآيات أو المراد. فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ فالتجئ إليه. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ لأقوالكم و أفعالكم.
[سورة غافر (40): الآيات 57 الى 58]
لَخَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ فمن قدر على خلقها مع عظمها أولا من غير أصل قدر على خلق الإنسان ثانيا من أصل، و هو بيان لأشكل ما يجادلون فيه من أمر التوحيد. وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ لأنهم لا ينظرون و لا يتأملون لفرط غفلتهم و اتباعهم أهواءهم.
وَ ما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ الغافل و المستبصر. وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ لَا الْمُسِيءُ و المحسن و المسيء فينبغي أن يكون لهم حال يظهر فيها التفاوت، و هي فيما بعد البعث و زيادة لا في المسيء لأن المقصود نفي مساواته للمحسن فيما له من الفضل و الكرامة، و العاطف الثاني عطف الموصول بما عطف عليه على الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ لتغاير الوصفين في المقصود، أو الدلالة بالصراحة و التمثيل. قَلِيلًا ما تَتَذَكَّرُونَ أي تذكرا ما قليلا يتذكرون، و الضمير للناس أو الكفار. و قرأ الكوفيون بالتاء على تغليب المخاطب، أو الالتفات أو أمر الرسول بالمخاطبة.
[سورة غافر (40): الآيات 59 الى 60]
إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها في مجيئها لوضوح الدلالة على جوازها و إجماع الرسل على الوعد بوقوعها. وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ لا يصدقون بها لقصور نظرهم على ظاهر ما يحسون به.
وَ قالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي اعبدوني. أَسْتَجِبْ لَكُمْ أثبكم لقوله: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 62
سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ صاغرين، و إن فسر الدعاء بالسؤال كان الاستكبار الصارف عنه منزلا منزلته للمبالغة، أو المراد بالعبادة الدعاء فإنه من أبوابها. و قرأ ابن كثير و أبو بكر سَيَدْخُلُونَ بضم الياء و فتح الخاء.
[سورة غافر (40): آية 61]
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ لتستريحوا فيه بأن خلقه باردا مظلما ليؤدي إلى ضعف الحركات و هدوء الحواس. وَ النَّهارَ مُبْصِراً يبصر فيه أو به، و إسناد الإبصار إليه مجاز فيه مبالغة و لذلك عدل به عن التعليل إلى الحال: إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ لا يوازيه فضل، و للإشعار به لم يقل لمفضل. وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ لجهلهم بالمنعم و إغفالهم مواقع النعم، و تكرير الناس لتخصيص الكفران بهم.
[سورة غافر (40): الآيات 62 الى 63]
ذلِكُمُ المخصوص بالأفعال المقتضية للألوهية و الربوبية. اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أخبار مترادفة تخصص اللاحقة السابقة و تقررها، و قرئ «خالق» بالنصب على الاختصاص فيكون لا إِلهَ إِلَّا هُوَ استئنافا بما هو كالنتيجة للأوصاف المذكورة. فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ فكيف و من أي وجه تصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره.
كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ أي كما أفكوا أفك عن الحق كل من جحد بآيات اللّه و لم يتأملها.
[سورة غافر (40): الآيات 64 الى 65]
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَ السَّماءَ بِناءً استدلال ثان بأفعال أخر مخصوصة. وَ صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ بأن خلقكم منتصب القامة بادي البشرة متناسب الأعضاء، و التخطيطات متهيأ لمزاولة الصنائع و اكتساب الكمالات. وَ رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ اللذائذ. ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ فإن كل ما سواه مربوب مفتقر بالذات معرض للزوال.
هُوَ الْحَيُ المتفرد بالحياة الذاتية. لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إذ لا موجد سواه و لا موجود يساويه أو يدانيه في ذاته و صفاته. فَادْعُوهُ فاعبدوه. مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي الطاعة من الشرك و الرياء. الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ قائلين له.
[سورة غافر (40): آية 66]
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي من الحجج و الآيات أو من الآيات فإنها مقوية لأدلة العقل منبهة عليها. وَ أُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ بأن أنقاد له أو أخلص له ديني.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 63
[سورة غافر (40): الآيات 67 الى 68]
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا أطفالا، و التوحيد لإرادة الجنس أو على تأويل كل واحد منكم. ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ اللام فيه متعلقة بمحذوف تقديره: ثم يبقيكم لتبلغوا و كذا في قوله: ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً و يجوز عطفه على لِتَبْلُغُوا و قرأ نافع و أبو عمرو و حفص و هشام شُيُوخاً بضم الشين. و قرئ «شيخا» كقوله طِفْلًا . وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ من قبل الشيخوخة أو بلوغ الأشد. وَ لِتَبْلُغُوا و يفعل ذلك لتبلغوا: أَجَلًا مُسَمًّى هو وقت الموت أو يوم القيامة. وَ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ما في ذلك من الحجج و العبر.
هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فإذا أراده. فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فلا يحتاج في تكوينه إلى عدة و تجشم كلفة، و الفاء الأولى للدلالة على أن ذلك نتيجة ما سبق من حيث إنه يقتضي قدرة ذاتية غير متوقفة على العدد و المواد.
[سورة غافر (40): الآيات 69 الى 70]
أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ عن التصديق به و تكرير ذم المجادلة لتعدد المجادل، أو المجادل فيه، أو للتأكيد.
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ بالقرآن أو بجنس الكتب السماوية. وَ بِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا من سائر الكتب أو الوحي و الشرائع. فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ جزاء تكذيبهم.
[سورة غافر (40): الآيات 71 الى 74]
إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ ظرف ل يَعْلَمُونَ إذ المعنى على الاستقبال، و التعبير بلفظ المضي لتيقنه. وَ السَّلاسِلُ عطف على الْأَغْلالُ أو مبتدأ خبره. يُسْحَبُونَ .
فِي الْحَمِيمِ و العائد محذوف أي يسحبون بها، و هو على الأول حال. و قرئ «و السلاسل يسحبون» بالنصب و فتح الياء على تقديم المفعول و عطف الفعلية على الاسمية، وَ السَّلاسِلُ بالجر حملا على المعنى إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ بمعنى أعناقهم في الأغلال، أو إضمارا للباء و يدل عليه القراءة به. ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ يحرقون من سجر التنور إذا ملأه بالوقود، و منه السجير للصديق كأنه سجر بالحب أي ملئ.
و المراد أنهم يعذبون بأنواع من العذاب و ينقلون من بعضها إلى بعض.
ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ ، مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا غابوا عنا و ذلك قبل أن تقرن بهم آلهتهم، أو ضاعوا عنا فلم نجد ما كنا نتوقع منهم. بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً أي بل تبين لنا أنا لم نكن نعبد شيئا بعبادتهم فإنهم ليسوا شيئا يعتد به كقولك: حسبته شيئا فلم يكن. كَذلِكَ مثل ذلك الضلال. يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ حتى لا يهتدوا إلى شيء ينفعهم في الآخرة، أو يضلهم عن آلهتهم حتى لو
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 64
تطالبوا لم يتصادفوا.
[سورة غافر (40): الآيات 75 الى 76]
ذلِكُمْ الإضلال. بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ تبطرون و تتكبرون. بِغَيْرِ الْحَقِ و هو الشرك و الطغيان. وَ بِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ تتوسعون في الفرح، و العدول إلى الخطاب للمبالغة في التوبيخ.
ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ الأبواب السبعة المقسومة لكم. خالِدِينَ فِيها مقدرين الخلود. فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ عن الحق جهنم، و كان مقتضى النظم فبئس مدخل المتكبرين و لكن لما كان الدخول المقيد بالخلود بسبب الثواء عبر بالمثوى.
[سورة غافر (40): الآيات 77 الى 78]
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بهلاك الكافرين. حَقٌ كائن لا محالة. فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ فإن نرك، و ما مزيدة لتأكيد الشرطية و لذلك لحقت النون الفعل و لا تلحق مع إن وحدها. بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ و هو القتل و الأسر. أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبل أن تراه. فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ يوم القيامة فنجازيهم بأعمالهم، و هو جواب نَتَوَفَّيَنَّكَ ، و جواب نُرِيَنَّكَ محذوف مثل فذاك، و يجوز أن يكون جوابا لهما بمعنى إن نعذبهم في حياتك أو لم نعذبهم فإنا نعذبهم في الآخرة أشد العذاب، و يدل على شدته الاقتصار بذكر الرجوع في هذا المعرض.
وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ إذ قيل عدد الأنبياء مائة ألف و أربعة و عشرون ألفا، و المذكور قصصهم أشخاص معدودة. وَ ما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فإن المعجزات عطايا قسمها بينهم على ما اقتضته حكمته كسائر القسم، ليس لهم اختيار في إيثار بعضها و الاستبداد بإتيان المقترح بها. فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ بالعذاب في الدنيا أو الآخرة. قُضِيَ بِالْحَقِ بإنجاء المحق و تعذيب المبطل. وَ خَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ المعاندون باقتراح الآيات بعد ظهور ما يغنيهم عنها.
[سورة غافر (40): الآيات 79 الى 81]
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَ مِنْها تَأْكُلُونَ فإن من جنسها ما يؤكل كالغنم و منها ما يؤكل و يركب كالإبل و البقر.
وَ لَكُمْ فِيها مَنافِعُ كالألبان و الجلود و الأوبار. وَ لِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ بالمسافرة عليها.
وَ عَلَيْها في البر. وَ عَلَى الْفُلْكِ في البحر. تُحْمَلُونَ و إنما قال وَ عَلَى الْفُلْكِ و لم يقل في الفلك للمزاوجة، و تغيير النظم في الأكل لأنه في حيز الضرورة. و قيل لأنه يقصد به التعيش و هو من الضروريات و التلذذ و الركوب و المسافرة عليها قد تكون لأغراض دينية واجبة أو مندوبة، أو للفرق بين العين و المنفعة.
وَ يُرِيكُمْ آياتِهِ دلائله الدالة على كمال قدرته و فرط رحمته. فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ أي فأي آية من تلك
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 65
الآيات. تُنْكِرُونَ فإنها لظهورها لا تقبل الإنكار، و هو ناصب «أي» إذ لو قدرته متعلقا بضميره كان الأولى رفعه و التفرقة بالتاء في أي أغرب منها في الأسماء غير الصفات لإبهامه.
[سورة غافر (40): الآيات 82 الى 83]
أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَ أَشَدَّ قُوَّةً وَ آثاراً فِي الْأَرْضِ ما بقي منهم من القصور و المصانع و نحوهما، و قيل آثار أقدامهم في الأرض لعظم أجرامهم. فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ «ما» الأولى نافية أو استفهامية منصوبة ب أَغْنى ، و الثانية موصولة أو مصدرية مرفوعة به.
فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات أو الآيات الواضحات. فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ و استحقروا علم الرسل، و المراد بالعلم عقائدهم الزائغة و شبههم الداحضة كقوله: بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ و هو قولهم: لا نبعث و لا نعذب، و ما أظن الساعة قائمة و نحوها، و سماها علما على زعمهم تهكما بهم، أو علم الطبائع و التنجيم و الصنائع و نحو ذلك، أو علم الأنبياء، و فرحهم به ضحكهم منه و استهزاؤهم به و يؤيده: وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ و قيل الفرح أيضا للرسل فإنهم لما رأوا تمادي جهل الكفار و سوء عاقبتهم فرحوا بما أوتوا من العلم و شكروا اللّه عليه و حاق بالكافرين جزاء جهلهم و استهزائهم.
[سورة غافر (40): الآيات 84 الى 85]
فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا شدة عذابنا. قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَ كَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ يعنون الأصنام.
فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا لامتناع قبوله حينئذ و لذلك قال: فَلَمْ يَكُ بمعنى لم يصح و لم يستقم، و الفاء الأولى لأن قوله: فَما أَغْنى كالنتيجة لقوله: كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ ، و الثانية لأن قوله:
فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ كالتفسير لقوله: فَما أَغْنى و الباقيتان لأن رؤية البأس مسببة عن مجيء الرسل و امتناع نفي الإيمان مسبب عن الرؤية. سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ أي سن اللّه ذلك سنة ماضية في العباد و هي من المصادر المؤكدة. وَ خَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ أي وقت رؤيتهم البأس، اسم مكان استعير للزمان.