کتابخانه تفاسیر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 61
وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى ما يهتدى به في الدين من المعجزات و الصحف و الشرائع. وَ أَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ و تركنا عليهم بعده من ذلك التوراة.
هُدىً وَ ذِكْرى هداية و تذكرة أو هاديا و مذكرا. لِأُولِي الْأَلْبابِ لذوي العقول السليمة.
[سورة غافر (40): آية 55]
فَاصْبِرْ على أذى المشركين. إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌ بالنصر لا يخلفه، و استشهد بحال موسى و فرعون.
وَ اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ و أقبل على أمر دينك و تدارك فرطاتك بترك الأولى و الاهتمام بأمر العدا بالاستغفار، فإنه تعالى كافيك في النصر إظهار الأمر. وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِبْكارِ و دم على التسبيح و التحميد لربك.
و قيل صلّ لهذين الوقتين، إذ كان الواجب بمكة ركعتين بكرة و ركعتين عشيّا.
[سورة غافر (40): آية 56]
إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ عام في كل مجادل مبطل و إن نزل في مشركي مكة أو اليهود حين قالوا: لست صاحبنا بل هو المسيح بن داود يبلغ سلطانه البر و البحر و تسير معه الأنهار. إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ إلا تكبر عن الحق و تعظم عن التفكر و التعلم، أو إرادة الرياسة أو أن النبوة و الملك لا يكونان إلا لهم. ما هُمْ بِبالِغِيهِ ببالغي دفع الآيات أو المراد. فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ فالتجئ إليه. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ لأقوالكم و أفعالكم.
[سورة غافر (40): الآيات 57 الى 58]
لَخَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ فمن قدر على خلقها مع عظمها أولا من غير أصل قدر على خلق الإنسان ثانيا من أصل، و هو بيان لأشكل ما يجادلون فيه من أمر التوحيد. وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ لأنهم لا ينظرون و لا يتأملون لفرط غفلتهم و اتباعهم أهواءهم.
وَ ما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ الغافل و المستبصر. وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ لَا الْمُسِيءُ و المحسن و المسيء فينبغي أن يكون لهم حال يظهر فيها التفاوت، و هي فيما بعد البعث و زيادة لا في المسيء لأن المقصود نفي مساواته للمحسن فيما له من الفضل و الكرامة، و العاطف الثاني عطف الموصول بما عطف عليه على الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ لتغاير الوصفين في المقصود، أو الدلالة بالصراحة و التمثيل. قَلِيلًا ما تَتَذَكَّرُونَ أي تذكرا ما قليلا يتذكرون، و الضمير للناس أو الكفار. و قرأ الكوفيون بالتاء على تغليب المخاطب، أو الالتفات أو أمر الرسول بالمخاطبة.
[سورة غافر (40): الآيات 59 الى 60]
إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها في مجيئها لوضوح الدلالة على جوازها و إجماع الرسل على الوعد بوقوعها. وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ لا يصدقون بها لقصور نظرهم على ظاهر ما يحسون به.
وَ قالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي اعبدوني. أَسْتَجِبْ لَكُمْ أثبكم لقوله: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 62
سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ صاغرين، و إن فسر الدعاء بالسؤال كان الاستكبار الصارف عنه منزلا منزلته للمبالغة، أو المراد بالعبادة الدعاء فإنه من أبوابها. و قرأ ابن كثير و أبو بكر سَيَدْخُلُونَ بضم الياء و فتح الخاء.
[سورة غافر (40): آية 61]
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ لتستريحوا فيه بأن خلقه باردا مظلما ليؤدي إلى ضعف الحركات و هدوء الحواس. وَ النَّهارَ مُبْصِراً يبصر فيه أو به، و إسناد الإبصار إليه مجاز فيه مبالغة و لذلك عدل به عن التعليل إلى الحال: إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ لا يوازيه فضل، و للإشعار به لم يقل لمفضل. وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ لجهلهم بالمنعم و إغفالهم مواقع النعم، و تكرير الناس لتخصيص الكفران بهم.
[سورة غافر (40): الآيات 62 الى 63]
ذلِكُمُ المخصوص بالأفعال المقتضية للألوهية و الربوبية. اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أخبار مترادفة تخصص اللاحقة السابقة و تقررها، و قرئ «خالق» بالنصب على الاختصاص فيكون لا إِلهَ إِلَّا هُوَ استئنافا بما هو كالنتيجة للأوصاف المذكورة. فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ فكيف و من أي وجه تصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره.
كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ أي كما أفكوا أفك عن الحق كل من جحد بآيات اللّه و لم يتأملها.
[سورة غافر (40): الآيات 64 الى 65]
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَ السَّماءَ بِناءً استدلال ثان بأفعال أخر مخصوصة. وَ صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ بأن خلقكم منتصب القامة بادي البشرة متناسب الأعضاء، و التخطيطات متهيأ لمزاولة الصنائع و اكتساب الكمالات. وَ رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ اللذائذ. ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ فإن كل ما سواه مربوب مفتقر بالذات معرض للزوال.
هُوَ الْحَيُ المتفرد بالحياة الذاتية. لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إذ لا موجد سواه و لا موجود يساويه أو يدانيه في ذاته و صفاته. فَادْعُوهُ فاعبدوه. مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي الطاعة من الشرك و الرياء. الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ قائلين له.
[سورة غافر (40): آية 66]
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي من الحجج و الآيات أو من الآيات فإنها مقوية لأدلة العقل منبهة عليها. وَ أُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ بأن أنقاد له أو أخلص له ديني.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 63
[سورة غافر (40): الآيات 67 الى 68]
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا أطفالا، و التوحيد لإرادة الجنس أو على تأويل كل واحد منكم. ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ اللام فيه متعلقة بمحذوف تقديره: ثم يبقيكم لتبلغوا و كذا في قوله: ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً و يجوز عطفه على لِتَبْلُغُوا و قرأ نافع و أبو عمرو و حفص و هشام شُيُوخاً بضم الشين. و قرئ «شيخا» كقوله طِفْلًا . وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ من قبل الشيخوخة أو بلوغ الأشد. وَ لِتَبْلُغُوا و يفعل ذلك لتبلغوا: أَجَلًا مُسَمًّى هو وقت الموت أو يوم القيامة. وَ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ما في ذلك من الحجج و العبر.
هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فإذا أراده. فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فلا يحتاج في تكوينه إلى عدة و تجشم كلفة، و الفاء الأولى للدلالة على أن ذلك نتيجة ما سبق من حيث إنه يقتضي قدرة ذاتية غير متوقفة على العدد و المواد.
[سورة غافر (40): الآيات 69 الى 70]
أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ عن التصديق به و تكرير ذم المجادلة لتعدد المجادل، أو المجادل فيه، أو للتأكيد.
الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ بالقرآن أو بجنس الكتب السماوية. وَ بِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا من سائر الكتب أو الوحي و الشرائع. فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ جزاء تكذيبهم.
[سورة غافر (40): الآيات 71 الى 74]
إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ ظرف ل يَعْلَمُونَ إذ المعنى على الاستقبال، و التعبير بلفظ المضي لتيقنه. وَ السَّلاسِلُ عطف على الْأَغْلالُ أو مبتدأ خبره. يُسْحَبُونَ .
فِي الْحَمِيمِ و العائد محذوف أي يسحبون بها، و هو على الأول حال. و قرئ «و السلاسل يسحبون» بالنصب و فتح الياء على تقديم المفعول و عطف الفعلية على الاسمية، وَ السَّلاسِلُ بالجر حملا على المعنى إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ بمعنى أعناقهم في الأغلال، أو إضمارا للباء و يدل عليه القراءة به. ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ يحرقون من سجر التنور إذا ملأه بالوقود، و منه السجير للصديق كأنه سجر بالحب أي ملئ.
و المراد أنهم يعذبون بأنواع من العذاب و ينقلون من بعضها إلى بعض.
ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ ، مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا غابوا عنا و ذلك قبل أن تقرن بهم آلهتهم، أو ضاعوا عنا فلم نجد ما كنا نتوقع منهم. بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً أي بل تبين لنا أنا لم نكن نعبد شيئا بعبادتهم فإنهم ليسوا شيئا يعتد به كقولك: حسبته شيئا فلم يكن. كَذلِكَ مثل ذلك الضلال. يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ حتى لا يهتدوا إلى شيء ينفعهم في الآخرة، أو يضلهم عن آلهتهم حتى لو
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 64
تطالبوا لم يتصادفوا.
[سورة غافر (40): الآيات 75 الى 76]
ذلِكُمْ الإضلال. بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ تبطرون و تتكبرون. بِغَيْرِ الْحَقِ و هو الشرك و الطغيان. وَ بِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ تتوسعون في الفرح، و العدول إلى الخطاب للمبالغة في التوبيخ.
ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ الأبواب السبعة المقسومة لكم. خالِدِينَ فِيها مقدرين الخلود. فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ عن الحق جهنم، و كان مقتضى النظم فبئس مدخل المتكبرين و لكن لما كان الدخول المقيد بالخلود بسبب الثواء عبر بالمثوى.
[سورة غافر (40): الآيات 77 الى 78]
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بهلاك الكافرين. حَقٌ كائن لا محالة. فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ فإن نرك، و ما مزيدة لتأكيد الشرطية و لذلك لحقت النون الفعل و لا تلحق مع إن وحدها. بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ و هو القتل و الأسر. أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبل أن تراه. فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ يوم القيامة فنجازيهم بأعمالهم، و هو جواب نَتَوَفَّيَنَّكَ ، و جواب نُرِيَنَّكَ محذوف مثل فذاك، و يجوز أن يكون جوابا لهما بمعنى إن نعذبهم في حياتك أو لم نعذبهم فإنا نعذبهم في الآخرة أشد العذاب، و يدل على شدته الاقتصار بذكر الرجوع في هذا المعرض.
وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ إذ قيل عدد الأنبياء مائة ألف و أربعة و عشرون ألفا، و المذكور قصصهم أشخاص معدودة. وَ ما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فإن المعجزات عطايا قسمها بينهم على ما اقتضته حكمته كسائر القسم، ليس لهم اختيار في إيثار بعضها و الاستبداد بإتيان المقترح بها. فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ بالعذاب في الدنيا أو الآخرة. قُضِيَ بِالْحَقِ بإنجاء المحق و تعذيب المبطل. وَ خَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ المعاندون باقتراح الآيات بعد ظهور ما يغنيهم عنها.
[سورة غافر (40): الآيات 79 الى 81]
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَ مِنْها تَأْكُلُونَ فإن من جنسها ما يؤكل كالغنم و منها ما يؤكل و يركب كالإبل و البقر.
وَ لَكُمْ فِيها مَنافِعُ كالألبان و الجلود و الأوبار. وَ لِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ بالمسافرة عليها.
وَ عَلَيْها في البر. وَ عَلَى الْفُلْكِ في البحر. تُحْمَلُونَ و إنما قال وَ عَلَى الْفُلْكِ و لم يقل في الفلك للمزاوجة، و تغيير النظم في الأكل لأنه في حيز الضرورة. و قيل لأنه يقصد به التعيش و هو من الضروريات و التلذذ و الركوب و المسافرة عليها قد تكون لأغراض دينية واجبة أو مندوبة، أو للفرق بين العين و المنفعة.
وَ يُرِيكُمْ آياتِهِ دلائله الدالة على كمال قدرته و فرط رحمته. فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ أي فأي آية من تلك
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 65
الآيات. تُنْكِرُونَ فإنها لظهورها لا تقبل الإنكار، و هو ناصب «أي» إذ لو قدرته متعلقا بضميره كان الأولى رفعه و التفرقة بالتاء في أي أغرب منها في الأسماء غير الصفات لإبهامه.
[سورة غافر (40): الآيات 82 الى 83]
أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَ أَشَدَّ قُوَّةً وَ آثاراً فِي الْأَرْضِ ما بقي منهم من القصور و المصانع و نحوهما، و قيل آثار أقدامهم في الأرض لعظم أجرامهم. فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ «ما» الأولى نافية أو استفهامية منصوبة ب أَغْنى ، و الثانية موصولة أو مصدرية مرفوعة به.
فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات أو الآيات الواضحات. فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ و استحقروا علم الرسل، و المراد بالعلم عقائدهم الزائغة و شبههم الداحضة كقوله: بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ و هو قولهم: لا نبعث و لا نعذب، و ما أظن الساعة قائمة و نحوها، و سماها علما على زعمهم تهكما بهم، أو علم الطبائع و التنجيم و الصنائع و نحو ذلك، أو علم الأنبياء، و فرحهم به ضحكهم منه و استهزاؤهم به و يؤيده: وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ و قيل الفرح أيضا للرسل فإنهم لما رأوا تمادي جهل الكفار و سوء عاقبتهم فرحوا بما أوتوا من العلم و شكروا اللّه عليه و حاق بالكافرين جزاء جهلهم و استهزائهم.
[سورة غافر (40): الآيات 84 الى 85]
فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا شدة عذابنا. قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَ كَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ يعنون الأصنام.
فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا لامتناع قبوله حينئذ و لذلك قال: فَلَمْ يَكُ بمعنى لم يصح و لم يستقم، و الفاء الأولى لأن قوله: فَما أَغْنى كالنتيجة لقوله: كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ ، و الثانية لأن قوله:
فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ كالتفسير لقوله: فَما أَغْنى و الباقيتان لأن رؤية البأس مسببة عن مجيء الرسل و امتناع نفي الإيمان مسبب عن الرؤية. سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ أي سن اللّه ذلك سنة ماضية في العباد و هي من المصادر المؤكدة. وَ خَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ أي وقت رؤيتهم البأس، اسم مكان استعير للزمان.
عن النبي صلّى اللّه عليه و سلم: «من قرأ سورة المؤمن لم يبق روح نبي و لا صديق و لا شهيد و لا مؤمن إلا صلّى عليه و استغفر له».
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 66
(41) سورة فصلت
مكية و آيها ثلاث أو أربع و خمسون آية
[سورة فصلت (41): الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم إن جعلته مبتدأ فخبره:
تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ و إن جعلته تعديدا للحروف ف تَنْزِيلٌ خبر محذوف أو مبتدأ لتخصصه بالصفة و خبره:
كِتابٌ و هو على الأولين بدل منه أو خبر آخر أو خبر محذوف، و لعل افتتاح هذه السور السبع ب حم و تسميتها به لكونها مصدرة ببيان الكتاب متشاكلة في النظم و المعنى، و إضافة ال تَنْزِيلٌ إلى الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ للدلالة على أنه مناط المصالح الدينية و الدنيوية. فُصِّلَتْ آياتُهُ ميزت باعتبار اللفظ و المعنى. و قرئ «فصلت» أي فصل بعضها من بعض باختلاف الفواصل و المعاني، أو فصلت بين الحق و الباطل. قُرْآناً عَرَبِيًّا نصب على المدح أو الحال من فُصِّلَتْ ، و فيه امتنان بسهولة قراءته و فهمه. لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أي لقوم يعلمون العربية أو لأهل العلم و النظر، و هو صفة أخرى ل قُرْآناً أو صلة ل تَنْزِيلٌ ، أو ل فُصِّلَتْ ، و الأول أولى لوقوعه بين الصفات.
[سورة فصلت (41): الآيات 4 الى 5]
بَشِيراً وَ نَذِيراً للعاملين به و المخالفين له، و قرئا بالرفع على الصفة لل كِتابٌ أو الخبر لمحذوف.
فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ عن تدبره و قبوله. فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ سماع تأمل و طاعة.
وَ قالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ أغطية جمع كنان. مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَ فِي آذانِنا وَقْرٌ صمم، و أصله الثقل، و قرئ بالكسر. وَ مِنْ بَيْنِنا وَ بَيْنِكَ حِجابٌ يمنعنا عن التواصل، و من للدلالة على أن الحجاب مبتدأ منهم و منه بحيث استوعب المسافة المتوسطة و لم يبق فراغ. و هذه تمثيلات لنبو قلوبهم عن إدراك ما يدعوهم إليه و اعتقادهم و مج أسماعهم له، و امتناع مواصلتهم و موافقتهم للرسول صلّى اللّه عليه و سلم. فَاعْمَلْ على دينك أو في إبطال أمرنا. إِنَّنا عامِلُونَ على ديننا أو في إبطال أمرك.
[سورة فصلت (41): الآيات 6 الى 7]
قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لست ملكا و لا جنيا لا يمكنكم التلقي منه، و لا أدعوكم إلى ما تنبو عنه العقول و الأسماع، و إنما أدعوكم إلى التوحيد و الاستقامة في العمل، و قد يدل
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 67
عليهما دلائل العقل و شواهد النقل. فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ فاستقيموا في أفعالكم متوجهين إليه، أو فاستووا إليه بالتوحيد و الإخلاص في العمل. وَ اسْتَغْفِرُوهُ مما أنتم عليه من سوء العقيدة و العمل، ثم هددهم على ذلك فقال. وَ وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ من فرط جهالتهم و استخفافهم باللّه.
الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ لبخلهم و عدم إشفاقهم على الخلق، و ذلك من أعظم الرذائل، و فيه دليل على أن الكفار مخاطبون بالفروع. و قيل معناه لا يفعلون ما يزكي أنفسهم و هو الإيمان و الطاعة. وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ حال مشعرة بأن امتناعهم عن الزكاة لاستغراقهم في طلب الدنيا و إنكارهم للآخرة.
[سورة فصلت (41): آية 8]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ عظيم. غَيْرُ مَمْنُونٍ لا يمن به عليهم من المن و أصله الثقل، أو لا يقطع من مننت الحبل إذا قطعته. و قيل نزلت في المرضى و الهرمى إذا عجزوا عن الطاعة كتب لهم الأجر كأصح ما كانوا يعملون.
[سورة فصلت (41): الآيات 9 الى 10]
قُلْ أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ في مقدار يومين، أو نوبتين و خلق في كل نوبة ما خلق في أسرع ما يكون. و لعل المراد من الْأَرْضَ ما في جهة السفل من الأجرام البسيطة و من خلقها فِي يَوْمَيْنِ أنه خلق لها أصلا مشتركا ثم خلق لها صورا بها صارت أنواعا، و كفرهم به إلحادهم في ذاته و صفاته. وَ تَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً و لا يصح أن يكون له ند. ذلِكَ الذي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ . رَبُّ الْعالَمِينَ خالق جميع ما وجد من الممكنات و مربيها.
وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ استئناف غير معطوف على خَلَقَ للفصل بما هو خارج عن الصلة. مِنْ فَوْقِها مرتفعة عليها ليظهر للنظار ما فيها من وجوه الاستبصار و تكون منافعها معرضة للطلاب. وَ بارَكَ فِيها و أكثر خيرها بأن خلق فيها أنواع النبات و الحيوان. وَ قَدَّرَ فِيها أَقْواتَها أقوات أهلها بأن عين لكل نوع ما يصلحه و يعيش به، أو أقواتا تنشأ منها بأن خص حدوث كل قوت بقطر من أقطارها، و قرئ «و قسم فيها أقواتها». فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ في تتمة أربعة أيام كقولك: سرت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيام، و إلى الكوفة في خمسة عشر يوما. و لعله قال ذلك و لم يقل في يومين للإشعار باتصالهما باليومين الأولين.
و التصريح على الفذلكة. سَواءً أي استوت سواء بمعنى استواء، و الجملة صفة أيام و يدل عليه قراءة يعقوب بالجر. و قيل حال من الضمير في أقواتها أو في فيها، و قرئ بالرفع على هي سواء. لِلسَّائِلِينَ متعلق بمحذوف تقديره هذا الحصر للسائلين عن مدة خلق الأرض و ما فيها، أو بقدر أي قدر فيها الأقوات للطالبين لها.
[سورة فصلت (41): الآيات 11 الى 12]