کتابخانه تفاسیر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 66
(41) سورة فصلت
مكية و آيها ثلاث أو أربع و خمسون آية
[سورة فصلت (41): الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم إن جعلته مبتدأ فخبره:
تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ و إن جعلته تعديدا للحروف ف تَنْزِيلٌ خبر محذوف أو مبتدأ لتخصصه بالصفة و خبره:
كِتابٌ و هو على الأولين بدل منه أو خبر آخر أو خبر محذوف، و لعل افتتاح هذه السور السبع ب حم و تسميتها به لكونها مصدرة ببيان الكتاب متشاكلة في النظم و المعنى، و إضافة ال تَنْزِيلٌ إلى الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ للدلالة على أنه مناط المصالح الدينية و الدنيوية. فُصِّلَتْ آياتُهُ ميزت باعتبار اللفظ و المعنى. و قرئ «فصلت» أي فصل بعضها من بعض باختلاف الفواصل و المعاني، أو فصلت بين الحق و الباطل. قُرْآناً عَرَبِيًّا نصب على المدح أو الحال من فُصِّلَتْ ، و فيه امتنان بسهولة قراءته و فهمه. لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أي لقوم يعلمون العربية أو لأهل العلم و النظر، و هو صفة أخرى ل قُرْآناً أو صلة ل تَنْزِيلٌ ، أو ل فُصِّلَتْ ، و الأول أولى لوقوعه بين الصفات.
[سورة فصلت (41): الآيات 4 الى 5]
بَشِيراً وَ نَذِيراً للعاملين به و المخالفين له، و قرئا بالرفع على الصفة لل كِتابٌ أو الخبر لمحذوف.
فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ عن تدبره و قبوله. فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ سماع تأمل و طاعة.
وَ قالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ أغطية جمع كنان. مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَ فِي آذانِنا وَقْرٌ صمم، و أصله الثقل، و قرئ بالكسر. وَ مِنْ بَيْنِنا وَ بَيْنِكَ حِجابٌ يمنعنا عن التواصل، و من للدلالة على أن الحجاب مبتدأ منهم و منه بحيث استوعب المسافة المتوسطة و لم يبق فراغ. و هذه تمثيلات لنبو قلوبهم عن إدراك ما يدعوهم إليه و اعتقادهم و مج أسماعهم له، و امتناع مواصلتهم و موافقتهم للرسول صلّى اللّه عليه و سلم. فَاعْمَلْ على دينك أو في إبطال أمرنا. إِنَّنا عامِلُونَ على ديننا أو في إبطال أمرك.
[سورة فصلت (41): الآيات 6 الى 7]
قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لست ملكا و لا جنيا لا يمكنكم التلقي منه، و لا أدعوكم إلى ما تنبو عنه العقول و الأسماع، و إنما أدعوكم إلى التوحيد و الاستقامة في العمل، و قد يدل
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 67
عليهما دلائل العقل و شواهد النقل. فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ فاستقيموا في أفعالكم متوجهين إليه، أو فاستووا إليه بالتوحيد و الإخلاص في العمل. وَ اسْتَغْفِرُوهُ مما أنتم عليه من سوء العقيدة و العمل، ثم هددهم على ذلك فقال. وَ وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ من فرط جهالتهم و استخفافهم باللّه.
الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ لبخلهم و عدم إشفاقهم على الخلق، و ذلك من أعظم الرذائل، و فيه دليل على أن الكفار مخاطبون بالفروع. و قيل معناه لا يفعلون ما يزكي أنفسهم و هو الإيمان و الطاعة. وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ حال مشعرة بأن امتناعهم عن الزكاة لاستغراقهم في طلب الدنيا و إنكارهم للآخرة.
[سورة فصلت (41): آية 8]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ عظيم. غَيْرُ مَمْنُونٍ لا يمن به عليهم من المن و أصله الثقل، أو لا يقطع من مننت الحبل إذا قطعته. و قيل نزلت في المرضى و الهرمى إذا عجزوا عن الطاعة كتب لهم الأجر كأصح ما كانوا يعملون.
[سورة فصلت (41): الآيات 9 الى 10]
قُلْ أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ في مقدار يومين، أو نوبتين و خلق في كل نوبة ما خلق في أسرع ما يكون. و لعل المراد من الْأَرْضَ ما في جهة السفل من الأجرام البسيطة و من خلقها فِي يَوْمَيْنِ أنه خلق لها أصلا مشتركا ثم خلق لها صورا بها صارت أنواعا، و كفرهم به إلحادهم في ذاته و صفاته. وَ تَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً و لا يصح أن يكون له ند. ذلِكَ الذي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ . رَبُّ الْعالَمِينَ خالق جميع ما وجد من الممكنات و مربيها.
وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ استئناف غير معطوف على خَلَقَ للفصل بما هو خارج عن الصلة. مِنْ فَوْقِها مرتفعة عليها ليظهر للنظار ما فيها من وجوه الاستبصار و تكون منافعها معرضة للطلاب. وَ بارَكَ فِيها و أكثر خيرها بأن خلق فيها أنواع النبات و الحيوان. وَ قَدَّرَ فِيها أَقْواتَها أقوات أهلها بأن عين لكل نوع ما يصلحه و يعيش به، أو أقواتا تنشأ منها بأن خص حدوث كل قوت بقطر من أقطارها، و قرئ «و قسم فيها أقواتها». فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ في تتمة أربعة أيام كقولك: سرت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيام، و إلى الكوفة في خمسة عشر يوما. و لعله قال ذلك و لم يقل في يومين للإشعار باتصالهما باليومين الأولين.
و التصريح على الفذلكة. سَواءً أي استوت سواء بمعنى استواء، و الجملة صفة أيام و يدل عليه قراءة يعقوب بالجر. و قيل حال من الضمير في أقواتها أو في فيها، و قرئ بالرفع على هي سواء. لِلسَّائِلِينَ متعلق بمحذوف تقديره هذا الحصر للسائلين عن مدة خلق الأرض و ما فيها، أو بقدر أي قدر فيها الأقوات للطالبين لها.
[سورة فصلت (41): الآيات 11 الى 12]
ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ قصد نحوها من قولهم استوى إلى مكان كذا إذا توجه إليه توجها لا يلوي على غيره، و الظاهر أن ثم لتفاوت ما بين الخلقتين لا للتراخي في المدة لقوله: وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 68
و دحوها متقدم على خلق الجبال من فوقها. وَ هِيَ دُخانٌ أمر ظلماني، و لعله أراد به مادتها أو الأجزاء المتصغرة التي ركبت منها فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا بما خلقت فيكما من التأثير و التأثر و أبرزا ما أودعتكما من الأوضاع المختلفة و الكائنات المتنوعة. أو ائْتِيا في الوجود على أن الخلق السابق بمعنى التقدير أو الترتيب للرتبة، أو الإخبار أو إتيان السماء حدوثها و إتيان الأرض أن تصير مدحوة، و قد عرفت ما فيه أو لتأت كل منكما الأخرى في حدوث ما أريد توليده منكما و يؤيده قراءة و آتيا من المؤاتاة أي لتوافق كل واحدة أختها فيما أردت منكما. طَوْعاً أَوْ كَرْهاً شئتما ذلك أو أبيتما و المراد إظهار كمال قدرته و وجوب وقوع مراده لا إثبات الطوع و الكره لهما، و هما مصدران وقعا موقع الحال. قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ منقادين بالذات، و الأظهر أن المراد تصوير تأثير قدرته فيهما و تأثرهما بالذات عنها، و تمثيلهما بأمر المطاع و إجابة المطيع الطائع كقوله:
كُنْ فَيَكُونُ و ما قيل من أنه تعالى خاطبهما و أقدرهما على الجواب إنما يتصور على الوجه الأول و الأخير، و إنما قال طائعين على المعنى باعتبار كونهما مخاطبتين كقوله: ساجِدِينَ* .
فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فخلقهن خلقا إبداعيا و أتقن أمرهن، و الضمير ل السَّماءَ على المعنى أو مبهم، و سَبْعَ سَماواتٍ حال على الأول و تمييز على الثاني. فِي يَوْمَيْنِ قيل خلق السموات يوم الخميس و الشمس و القمر و النجوم يوم الجمعة. وَ أَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها شأنها و ما يتأتى منها بأن حملها عليه اختيارا أو طبعا. و قيل أوحى إلى أهلها بأوامره و نواهيه. وَ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ فإن الكواكب كلها ترى كأنها تتلألأ عليها. وَ حِفْظاً أي و حفظناها من الآفات، أو من المسترقة حفظا. و قيل مفعول له على المعنى كأنه قال: و خصصنا السماء الدنيا بمصابيح زينة و حفظا. ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ البالغ في القدرة و العلم.
[سورة فصلت (41): الآيات 13 الى 14]
فَإِنْ أَعْرَضُوا عن الإيمان بعد هذا البيان. فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً فحذرهم أن يصيبهم عذاب شديد الوقع كأنه صاعقة. مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَ ثَمُودَ و قرئ «صعقة مثل صعقة عاد و ثمود» و هي المرة من الصعق أو الصعق يقال صعقته الصاعقة صعقا فصعق صعقا.
إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ حال من صاعِقَةِ عادٍ ، و لا يجوز جعله صفة ل صاعِقَةً أو ظرفا ل أَنْذَرْتُكُمْ لفساد المعنى. مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ أتوهم من جميع جوانبهم و اجتهدوا بهم من كل جهة، أو من جهة الزمن الماضي بالإنذار عما جرى فيه على الكفار، و من جهة المستقبل بالتحذير عما أعد لهم في الآخرة، و كل من اللفظين يحتملهما، أو من قبلهم و من بعدهم إذ قد بلغتهم خبر المتقدمين و أخبرهم هود و صالح عن المتأخرين داعين إلى الإيمان بهم أجمعين، و يحتمل أن يكون عبارة عن الكثرة كقوله تعالى:
يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ . أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ بأن لا تعبدوا أو أي لا تعبدوا. قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا إرسال الرسل. لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً برسالته. فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ على زعمكم. كافِرُونَ إذ أنتم بشر مثلنا لا فضل لكم علينا.
[سورة فصلت (41): الآيات 15 الى 16]
.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 69
فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ فتعظموا فيها على أهلها من غير استحقاق. وَ قالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً اغترارا بقوتهم و شوكتهم. قيل كان من قوتهم أن الرجل منهم ينزع الصخرة فيقتلعها بيده. أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً قدرة فإنه قادر بالذات مقتدر على ما لا يتناهى، قوي على ما لا يقدر عليه أحد غيره. وَ كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ يعرفون أنها حق و ينكرونها و هو عطف على فَاسْتَكْبَرُوا .
فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً باردة تهلك بشدة بردها من الصر و هو البرد الذي يصر أي يجمع، أو شديدة الصوت في هبوبها من الصرير. فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ جمع نحسة من نحس نحسا نقيض سعد سعدا، و قرأ الحجازيان و البصريان بالسكون على التخفيف أو النعت على فعل، أو الوصف بالمصدر، قيل كن آخر شوال من الأربعاء إلى الأربعاء و ما عذب قوم إلا في يوم الأربعاء. لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أضاف ال عَذابَ إلى الْخِزْيِ و هو الذل على قصد وصفه به لقوله: وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى و هو في الأصل صفة المعذب و إنما وصف به العذاب على الإسناد المجازي للمبالغة. وَ هُمْ لا يُنْصَرُونَ بدفع العذاب عنهم.
[سورة فصلت (41): الآيات 17 الى 18]
وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فدللناهم على الحق بنصب الحجج و إرسال الرسل، و قرئ «ثمود» بالنصب بفعل مضمر يفسره ما بعده و منونا في الحالين و بضم الثاء. فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فاختاروا الضلالة على الهدى. فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ صاعقة من السماء فأهلكتهم، و إضافتها إلى الْعَذابِ و وصفه ب الْهُونِ للمبالغة. بِما كانُوا يَكْسِبُونَ من اختيار الضلالة.
وَ نَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ من تلك الصاعقة.
[سورة فصلت (41): الآيات 19 الى 20]
وَ يَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ و قرئ «يحشر» على البناء للفاعل و هو اللّه عز و جل. و قرأ نافع نحشر بالنون مفتوحة و ضم الشين و نصب أَعْداءُ . فَهُمْ يُوزَعُونَ يحبس أولهم على آخرهم لئلا يتفرقوا و هو عبارة عن كثرة أهل النار.
حَتَّى إِذا ما جاؤُها إذا حضروها و ما مزيدة لتأكيد اتصال الشهادة بالحضور. شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ بأن ينطقها اللّه تعالى، أو يظهر عليها آثارا تدل على ما اقترف بها فتنطق بلسان الحال.
[سورة فصلت (41): الآيات 21 الى 22]
وَ قالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا سؤال توبيخ أو تعجب، و لعل المراد به نفس التعجب. قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ أي ما نطقنا باختيارنا بل أنطقنا اللّه الذي أنطق كل شيء، أو ليس نطقنا بعجب من قدرة اللّه الذي أنطق كل حي، و لو أول الجواب و النطق بدلالة الحال بقي الشيء عاما في
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 70
الموجودات الممكنة. وَ هُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ يحتمل أن يكون تمام كلام الجلود و أن يكون استئنافا.
وَ ما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَ لا أَبْصارُكُمْ وَ لا جُلُودُكُمْ أي كنتم تستترون عن الناس عند ارتكاب الفواحش مخافة الفضاحة، و ما ظننتم أن أعضاءكم تشهد عليكم بها فما استترتم عنها. و فيه تنبيه على أن المؤمن ينبغي أن يتحقق أنه لا يمر عليه حال إلا و هو عليه رقيب. وَ لكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ فلذلك اجترأتم على ما فعلتم.
[سورة فصلت (41): الآيات 23 الى 24]
وَ ذلِكُمْ إشارة إلى ظنهم هذا، و هو مبتدأ و قوله: ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ خبران له و يجوز أن يكون ظَنُّكُمُ بدلا و أَرْداكُمْ خبرا. فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ إذ صار ما منحوا للاستسعاد به في الدارين سببا لشقاء المنزلين.
فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ لا خلاص لهم عنها. وَ إِنْ يَسْتَعْتِبُوا يسألوا العتبى و هي الرجوع إلى ما يحبون. فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ المجابين إليها و نظيره قوله تعالى حكاية أَ جَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ و قرئ «و إن يستعتبوا فما هم من المعتبين»، أي إن يسألوا أن يرضوا ربهم فما هم فاعلون لفوات المكنة.
[سورة فصلت (41): آية 25]
وَ قَيَّضْنا و قدرنا. لَهُمْ للكفرة. قُرَناءَ أخدانا من الشياطين يستولون عليهم استيلاء القبض على البيض و هو القشر. و قيل أصل القيض البدل و منه المقايضة للمعاوضة. فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ من أمر الدنيا و اتباع الشهوات. وَ ما خَلْفَهُمْ من أمر الآخرة و إنكاره. وَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ أي كلمة العذاب. فِي أُمَمٍ في جملة أمم كقوله:
إن تك عن أحسن الصّنيعة مأ
فوكا ففي آخرين قد أفكوا
و هو حال من الضمير المجرور. قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ و قد عملوا مثل أعمالهم.
إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ تعليل لاستحقاقهم العذاب، و الضمير لَهُمْ و لل أُمَمٍ .
[سورة فصلت (41): الآيات 26 الى 27]
وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَ الْغَوْا فِيهِ و عارضوه بالخرافات أو ارفعوا أصواتكم بها لتشوشوه على القارئ، و قرئ بضم الغين و المعنى واحد يقال لغى يلغي و لغا يلغو إذا هذى. لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ أي تغلبونه على قراءته.
فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً المراد بهم هؤلاء القائلون، أو عامة الكفار. وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ سيئات أعمالهم و قد سبق مثله.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 71
[سورة فصلت (41): الآيات 28 الى 29]
ذلِكَ : إشارة إلى الأسوأ. جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ خبره. النَّارُ عطف بيان لل جَزاءُ أو خبر محذوف. لَهُمْ فِيها في النار. دارُ الْخُلْدِ فإنها دار إقامتهم، و هو كقولك: في هذه الدار دار سرور، و تعني بالدار عينها على أن المقصود هو الصفة. جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ ينكرون الحق أو يلغون، و ذكر الجحود الذي هو سبب اللغو.
وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ يعني شيطاني النوعين الحاملين على الضلالة و العصيان. و قيل هما إبليس و قابيل فإنهما سنا الكفر و القتل، و قرأ ابن كثير و ابن عامر و يعقوب و أبو بكر و السوسي أَرِنَا بالتخفيف كفخذ في فخذ، و قرأ الدوري باختلاس كسرة الراء. نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا ندسهما انتقاما منهما، و قيل نجعلهما في الدرك الأسفل. لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ مكانا أو ذلا.
[سورة فصلت (41): آية 30]
إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ اعترافا بربوبيته و إقرارا بوحدانيته. ثُمَّ اسْتَقامُوا في العمل و ثُمَ لتراخيه عن الإقرار في الرتبة من حيث أنه مبدأ الاستقامة، أو لأنها عسر قلما تتبع الإقرار، و ما روي عن الخلفاء الراشدين في معنى الاستقامة من الثبات على الإيمان و إخلاص العمل و أداء الفرائض فجزئياتها. تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ فيما يعن لهم بما يشرح صدورهم و يدفع عنهم الخوف و الحزن، أو عند الموت أو الخروج من القبر. أَلَّا تَخافُوا ما تقدمون عليه. وَ لا تَحْزَنُوا على ما خلفتم و أن مصدرية أو مخففة مقدرة بالباء أو مفسرة. وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ في الدنيا على لسان الرسل.
[سورة فصلت (41): الآيات 31 الى 32]
نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا نلهمكم الحق و نحملكم على الخير بدل ما كانت الشياطين تفعل بالكفرة. وَ فِي الْآخِرَةِ بالشفاعة و الكرامة حيثما يتعادى الكفرة و قرناؤهم. وَ لَكُمْ فِيها في الآخرة ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ من اللذائذ وَ لَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ ما تتمنون من الدعاء بمعنى الطلب و هو أعم من الأول.
نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ حال من ما تدعون للإشعار بأن ما يتمنون بالنسبة إلى ما يعطون مما لا يخطر ببالهم كالنزل للضيف.
[سورة فصلت (41): الآيات 33 الى 34]
وَ مَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ إلى عبادته. وَ عَمِلَ صالِحاً فيما بينه و بين ربه. وَ قالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ تفاخرا به و اتخاذا للإسلام دينا و مذهبا من قولهم: هذا قول فلان لمذهبه. و الآية عامة لمن استجمع تلك الصفات. و قيل نزلت في النبي صلّى اللّه عليه و سلم و قيل في المؤذنين.
وَ لا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَ لَا السَّيِّئَةُ في الجزاء و حسن العاقبة و لا الثانية مزيدة لتأكيد النفي. ادْفَعْ
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 72
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ادفع السيئة حيث اعترضتك بالتي هي أحسن منها و هي الحسنة على أن المراد بالأحسن الزائد مطلقا، أو بأحسن ما يمكن دفعها به من الحسنات، و إنما أخرجه مخرج الاستئناف على أنه جواب من قال؛ كيف أصنع؟ للمبالغة و لذلك وضع أَحْسَنُ موضع الحسنة. فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ أي إذا فعلت ذلك صار عدوك المشاق مثل الولي الشفيق.
[سورة فصلت (41): الآيات 35 الى 36]
وَ ما يُلَقَّاها و ما يلقى هذه السجية و هي مقابلته الإساءة بالإحسان. إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا فإنها تحبس النفس عن الانتقام. وَ ما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ من الخير و كمال النفس و قيل الحظ العظيم الجنة.
وَ إِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ نخس شبه به وسوسته لأنها تبعث الإنسان على ما لا ينبغي كالدفع بما هو أسوأ، و جعل النزغ نازغا على طريقة جديدة، أو أريد به نازغ وصفا للشيطان بالمصدر. فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ من شره و لا تطعه. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لاستعاذتك. الْعَلِيمُ بنيتك أو بصلاحك.
[سورة فصلت (41): الآيات 37 الى 38]
وَ مِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَ النَّهارُ وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَ لا لِلْقَمَرِ لأنهما مخلوقان مأموران مثلكم. وَ اسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَ الضمير للأربعة المذكورة، و المقصود تعليق الفعل بهما إشعارا بأنهما من عداد ما لا يعلم و لا يختار. إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ فإن السجود أخص العبادات و هو موضع السجود عندنا لاقتران الأمر به، و عند أبي حنيفة آخر الآية الأخرى لأنه تمام المعنى.
فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا عن الامتثال. فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ من الملائكة. يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ أي دائما لقوله: وَ هُمْ لا يَسْأَمُونَ أي لا يملون.
[سورة فصلت (41): الآيات 39 الى 40]
وَ مِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً يابسة متطامنة مستعار من الخشوع بمعنى التذلل. فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ تزخرفت و انتفخت بالنبات، و قرئ «ربأت» أي زادت. إِنَّ الَّذِي أَحْياها بعد موتها. لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ من الإحياء و الإماتة.
إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ يميلون عن الاستقامة. فِي آياتِنا بالطعن و التحريف و التأويل الباطل و الإلغاء فيها. لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا فنجازيهم على إلحادهم. أَ فَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ قابل الإلقاء في النار بالإتيان آمنا مبالغة في إحماد حال المؤمنين. اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ تهديد شديد. إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وعيد بالمجازاة.
[سورة فصلت (41): الآيات 41 الى 42]