کتابخانه تفاسیر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 78
العقلاء. فِيهِ في هذا التدبير و هو جعل الناس و الأنعام أزواجا يكون بينهم توالد، فإنه كالمنبع للبث و التكثير. لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ أي ليس مثله شيء يزاوجه و يناسبه، و المراد من مثله ذاته كما في قولهم:
مثلك لا يفعل كذا، على قصد المبالغة في نفيه عنه فإنه إذا نفى عمن يناسبه و يسد مسده كان نفيه عنه أولى، و نظيره قول رقيقة بنت صيفي في سقيا عبد المطلب: ألا و فيهم الطّيّب الطاهر لذاته. و من قال الكاف فيه زائدة لعله عنى أنه يعطى معنى ليس مثله غير أنه آكد لما ذكرناه. و قيل «مثله» صفته أي ليس كصفته صفة.
وَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ لكل ما يسمع و يبصر.
لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ خزائنها. يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ يوسع و يضيق على وفق مشيئته. إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فيفعله على ما ينبغي.
[سورة الشورى (42): الآيات 13 الى 14]
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسى أي شرع لكم من الدين دين نوح و محمد عليهما الصلاة و السلام و من بينهما من أرباب الشرائع، و هو الأصل المشترك فيما بينهم المفسر بقوله: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ و هو الإيمان بما يجب تصديقه و الطاعة في أحكام اللّه و محله النصب على البدل من مفعول شَرَعَ ، أو الرفع على الاستئناف كأنه جواب و ما ذلك المشروع أو الجر على البدل من هاء به. وَ لا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ و لا تختلفوا في هذا الأصل أما فروع الشرائع فمختلفة كما قال. لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً . كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ عظم عليهم. ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ من التوحيد. اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ يجتلب إليه و الضمير لما تدعوهم أو للدين. وَ يَهْدِي إِلَيْهِ بالإشارة و التوفيق. مَنْ يُنِيبُ يقبل إليه.
وَ ما تَفَرَّقُوا يعني الأمم السالفة. و قيل أهل الكتاب لقوله: وَ ما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ . إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ العلم بأن التفرق ضلال متوعد عليه، أو العلم بمبعث الرسل عليهم الصلاة و السلام، أو أسباب العلم من الرسل و الكتب و غيرهما فلم يلتفتوا إليها. بَغْياً بَيْنَهُمْ عداوة أو طلبا للدنيا. وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ بالإمهال. إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى هو يوم القيامة أو آخر أعمارهم المقدرة. لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ باستئصال المبطلين حين افترقوا لعظم ما اقترفوا. وَ إِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ يعني أهل الكتاب الذين كانوا في عهد الرسول صلّى اللّه عليه و سلم، أو المشركين الذين أورثوا القرآن من بعد أهل الكتاب. و قرئ «ورّثوا» و «و ورثوا». لَفِي شَكٍّ مِنْهُ من كتابهم لا يعلمونه كما هو أو لا يؤمنون به حق الإيمان، أو من القرآن.
مُرِيبٍ مقلق أو مدخل في الريبة.
[سورة الشورى (42): الآيات 15 الى 16]
فَلِذلِكَ فلأجل ذلك التفرق أو الكتاب، أو العلم الذي أوتيته. فَادْعُ إلى الاتفاق على الملة
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 79
الحنيفية أو الإتباع لما أوتيت، و على هذا يجوز أن تكون اللام في موضع إلى لإفادة الصلة و التعليل.
وَ اسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ و استقم على الدعوة كما أمرك اللّه تعالى. وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ الباطلة. وَ قُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ يعني جميع الكتب المنزلة لا كالكفار الذين آمنوا ببعض و كفروا ببعض. وَ أُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ في تبليغ الشرائع و الحكومات، و الأول إشارة إلى كمال القوة النظرية و هذا إشارة إلى كمال القوة العملية. اللَّهُ رَبُّنا وَ رَبُّكُمْ خالق الكل و متولي أمره. لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ و كل مجازى بعمله. لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمُ لا حجاج بمعنى لا خصومة إذ الحق قد ظهر و لم يبق للمحاجة مجال و لا للخلاف مبدأ سوى العناد. اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا يوم القيامة. وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ مرجع الكل لفصل القضاء، و ليس في الآية ما يدل على متاركة الكفار رأسا حتى تكون منسوخة بآية القتال.
وَ الَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ في دينه. مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ من بعد ما استجاب له الناس و دخلوا فيه، أو من بعد ما استجاب اللّه لرسوله فأظهر دينه بنصره يوم بدر، أو من بعد ما استجاب له أهل الكتاب بأن أقروا بنبوته و استفتحوا به. حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ زائلة باطلة. وَ عَلَيْهِمْ غَضَبٌ لمعاندتهم. وَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ على كفرهم.
[سورة الشورى (42): الآيات 17 الى 18]
اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ جنس الكتاب. بِالْحَقِ ملتبسا بعيدا من الباطل، أو بما يحق إنزاله من العقائد و الأحكام. وَ الْمِيزانَ و الشرع الذي توزن به الحقوق و يسوي بين الناس، أو العدل بأن أنزل الأمر به أو آلة الوزن بأن أوحى بإعدادها. وَ ما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ إتيانها فاتبع الكتاب و اعمل بالشرع و واظب على العدل قبل أن يفاجئك اليوم الذي توزن فيه أعمالك و توفى جزاءك، و قيل تذكير القريب لأنه بمعنى ذات قرب، أو لأن الساعة بمعنى البعث.
يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها استهزاء. وَ الَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها خائفون منها مع اغتيابها لتوقع الثواب. وَ يَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُ أي الكائن لا محالة. أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ يجادلون فيها من المرية، أو من مريب الناقة إذا مسحت ضرعها بشدة للحلب لأن كلّا من المتجادلين يستخرج ما عند صاحبه بكلام فيه شدة. لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ عن الحق فإن البعث أشبه الغائبات إلى المحسوسات، فمن لم يهتد لتجويزه فهو أبعد عن الاهتداء إلى ما وراءه.
[سورة الشورى (42): الآيات 19 الى 20]
اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ برّ بهم بصنوف من البر لا تبلغها الأفهام. يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ أي يرزقه كما يشاء فيخص كلّا من عباده بنوع من البر على ما اقتضته حكمته. وَ هُوَ الْقَوِيُ الباهر القدرة. الْعَزِيزُ المنيع الذي لا يغلب.
مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ ثوابها شبهه بالزرع من حيث إنه فائدة تحصل بعمل الدنيا و لذلك قيل:
الدنيا مزرعة الآخرة، و الحرث في الأصل إلقاء البذر في الأرض و يقال للزرع الحاصل منه. نَزِدْ لَهُ فِي
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 80
حَرْثِهِ فنعطه بالواحد عشرا إلى سبعمائة فما فوقها. وَ مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها شيئا منها على ما قسمنا له. وَ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ إذ الأعمال بالنيات و لكل امرئ ما نوى.
[سورة الشورى (42): آية 21]
أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ بل ألهم شركاء، و الهمزة للتقرير و التقريع و شركاؤهم شياطينهم. شَرَعُوا لَهُمْ بالتزيين. مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ كالشرك و إنكار البعث و العمل للدنيا. و قيل شركاؤهم أوثانهم و إضافتها إليهم لأنهم متخذوها شركاء، و إسناد الشرع إليها لأنها سبب ضلالتهم و افتتانهم بما تدينوا به، أو صور من سنة لهم. وَ لَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ أي القضاء السابق بتأجيل الجزاء، أو العدة بأن الفصل يكون يوم القيامة. لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بين الكافرين و المؤمنين، أو المشركين و شركائهم. وَ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ و قرئ «أن» بالفتح عطفا على كلمة الْفَصْلِ أي وَ لَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ و تقدير عذاب الظالمين في الآخرة لقضي بينهم في الدنيا، فإن العذاب الأليم غالب في عذاب الآخرة.
[سورة الشورى (42): الآيات 22 الى 23]
تَرَى الظَّالِمِينَ في القيامة. مُشْفِقِينَ خائفين. مِمَّا كَسَبُوا من السيئات. وَ هُوَ واقِعٌ بِهِمْ أي و باله لاحق بهم أشفقوا أو لم يشفقوا. وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ في أطيب بقاعها و أنزهها. لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي ما يشتهونه ثابت لهم عند ربهم. ذلِكَ إشارة إلى المؤمنين. هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ الذي يصغر دونه ما لغيرهم في الدنيا.
ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ذلك الثواب الذي يبشرهم اللّه به فحذف الجار ثم العائد، أو ذلك التبشير الذي يبشره اللّه عباده. و قرأ ابن كثير و أبو عمرو و حمزة و الكسائي يُبَشِّرُ من بشره و قرئ «يبشر» من أبشره. قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ على ما أتعاطاه من التبليغ و البشارة. أَجْراً نفعا منكم. إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى أي تودوني لقرابتي منكم، أو تودوا قرابتي، و قيل الاستثناء منقطع و المعنى:
لا أسألكم أجرا قط و لكني أسألكم المودة، و فِي الْقُرْبى حال منها أي إِلَّا الْمَوَدَّةَ ثابتة في ذوي الْقُرْبى متمكنة في أهلها، أو في حق القرابة و من أجلها كما جاء
في الحديث «الحب في اللّه و البغض في اللّه».
روي: أنها لما نزلت قيل يا رسول اللّه من قرابتك هؤلاء الذين وجبت مودتهم علينا قال: «علي و فاطمة و ابناهما».
و قيل الْقُرْبى التقرب إلى اللّه أي إلا أن تودوا اللّه و رسوله في تقربكم إليه بالطاعة و العمل الصالح، و قرئ «إلا مودة في القربى». وَ مَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً و من يكتسب طاعة سيما حب آل رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم، و قيل نزلت في أبي بكر الصديق رضي اللّه عنه و مودته لهم. نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً في الحسنة بمضاعفة الثواب، و قرئ «يزد» أي يزد اللّه و حسنى. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لمن أذنب. شَكُورٌ لمن أطاع بتوفية الثواب و التفضل عليه بالزيادة.
[سورة الشورى (42): آية 24]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 81
أَمْ يَقُولُونَ بل أ يقولون. افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً افترى محمد بدعوى النبوة أو القرآن. فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ استبعاد للافتراء عن مثله بالإشعار على أنه إنما يجترئ عليه من كان مختوما على قلبه جاهلا بربه، فأما من كان ذا بصيرة و معرفة فلا، و كأنه قال: إن يشأ اللّه خذلانك يختم على قلبك لتجترئ بالافتراء عليه. و قيل يختم على قلبك يمسك القرآن أو الوحي عنه، أو يربط عليه بالصبر فلا يشق عليك أذاهم. وَ يَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَ يُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ استئناف لنفي الافتراء عما يقوله بأنه لو كان مفترى لمحقه إذ من عادته تعالى محو الباطل و إثبات الحق بوحيه أو بقضائه أو بوعده، بمحو باطلهم و إثبات حقه بالقرآن، أو بقضائه الذي لا مرد له، و سقوط الواو من يَمْحُ في بعض المصاحف لاتباع اللفظ كما في قوله: وَ يَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ .
[سورة الشورى (42): الآيات 25 الى 26]
وَ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ بالتجاوز عما تابوا عنه، و القبول يعدى إلى مفعول ثان بمن و عن لتضمنه معنى الأخذ و الإبانة، و قد عرفت حقيقة التوبة. و
عن علي رضي اللّه عنه: هي اسم يقع على ستة معان: على الماضي من الذنوب الندامة، و لتضييع الفرائض الإعادة، و رد المظالم و إذابة النفس في الطاعة كما ربيتها في المعصية و إذاقتها مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية، و البكاء بدل كل ضحك ضحكته.
وَ يَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ صغيرها و كبيرها لمن يشاء. و يعلم ما يفعلون فيجازي و يتجاوز عن إتقان و حكمة، و قرأ الكوفيون غير أبي بكر ما تَفْعَلُونَ بالتاء.
وَ يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي يستجيب اللّه لهم فحذف اللام كما حذف في وَ إِذا كالُوهُمْ و المراد إجابة الدعاء أو الإثابة على الطاعة، فإنها كدعاء و طلب لما يترتب عليها. و منه
قوله عليه الصلاة و السلام «أفضل الدعاء الحمد للّه»
، أو يستجيبون للّه بالطاعة إذا دعاهم إليها. وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ على ما سألوا و استحقوا و استوجبوا له بالاستجابة. وَ الْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بدل ما للمؤمنين من الثواب و التفضل.
[سورة الشورى (42): آية 27]
وَ لَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ لتكبروا و أفسدوا فيها بطرا، أو لبغى بعضهم على بعض استيلاء و استعلاء و هذا على الغالب، و أصل البغي طلب تجاوز الاقتصاد فيما يتحرى كمية أو كيفية. وَ لكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ بتقدير. ما يَشاءُ كما اقتضته مشيئته. إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ يعلم خفايا أمرهم و جلايا حالهم فيقدر لهم ما يناسب شأنهم.
روي أن أهل الصفة تمنوا الغنى فنزلت.
و قيل في العرب كانوا إذا أخصبوا تحاربوا و إذا أجدبوا انتجعوا.
[سورة الشورى (42): الآيات 28 الى 29]
وَ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ المطر الذي يغيثهم من الجدب و لذلك خص بالنافع، و قرأ نافع و ابن عامر و عاصم يُنَزِّلُ بالتشديد. مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا أيسوا منه، و قرئ بكسر النون. وَ يَنْشُرُ رَحْمَتَهُ في كل شيء من السهل و الجبل و النبات و الحيوان. وَ هُوَ الْوَلِيُ الذي يتولى عباده بإحسانه و نشر رحمته.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 82
الْحَمِيدُ المستحق للحمد على ذلك.
وَ مِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فإنها بذاتها و صفاتها تدل على وجود صانع قادر حكيم. وَ ما بَثَّ فِيهِما عطف على السَّماواتِ أو ال خَلْقُ . مِنْ دابَّةٍ من حي على إطلاق اسم المسبب على السبب، أو مما يدب على الأرض و ما يكون في أحد الشيئين يصدق أن فيهما في الجملة. وَ هُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ أي في أي وقت يشاء. قَدِيرٌ متمكن منه و إِذا كما تدخل على الماضي تدخل على المضارع.
[سورة الشورى (42): الآيات 30 الى 31]
وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ فبسبب معاصيكم، و الفاء لأن ما شرطية أو متضمنة معناه، و لم يذكرها نافع و ابن عامر استغناء بما في الباء من معنى السببية. وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ من الذنوب فلا يعاقب عليها. و الآية مخصوصة بالمجرمين، فإن ما أصاب غيرهم فلأسباب أخر منها تعريضه للأجر العظيم بالصبر عليه.
وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ فائتين ما قضى عليكم من المصائب. وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍ يحرسكم عنها. وَ لا نَصِيرٍ يدفعها عنكم.
[سورة الشورى (42): الآيات 32 الى 34]
وَ مِنْ آياتِهِ الْجَوارِ السفن الجارية. فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ كالجبال. قالت الخنساء:
و إنّ صخرا لتأتمّ الهداة به
كأنّه علم في رأسه نار
إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ و قرئ «الرياح». فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ فيبقين ثوابت على ظهر البحر.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ لكل من و كل همته و حبس نفسه على النظر في آيات اللّه و التفكر في آلائه، أو لكل مؤمن كامل الإيمان فإن الإيمان نصفان نصف صبر و نصف شكر.
أَوْ يُوبِقْهُنَ أو يهلكهن بإرسال الريح العاصفة المغرقة، و المراد إهلاك أهلها لقوله: بِما كَسَبُوا و أصله أو يرسلها فيوبقهن لأنه قسيم يسكن فاقتصر فيه على المقصود كما في قوله: وَ يَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ إذ المعنى أو يرسلها فيوبق ناسا بذنوبهم و ينج ناسا على العفو منهم، و قرئ «و يعفو» على الاستئناف.
[سورة الشورى (42): الآيات 35 الى 36]
وَ يَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا عطف على علة مقدرة مثل لينتقم منهم وَ يَعْلَمَ ، أو على الجزاء و نصب نصب الواقع جوابا للأشياء الستة لأنه أيضا غير واجب، و قرأ نافع و ابن عامر بالرفع على الاستئناف، و قرئ بالجزم عطفا على يَعْفُ فيكون المعنى و يجمع بين إهلاك قوم و إنجاء قوم و تحذير آخرين. ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ محيد من العذاب و الجملة معلق عنها الفعل.
فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا تمتعون به مدة حياتكم. وَ ما عِنْدَ اللَّهِ من ثواب الآخرة.
خَيْرٌ وَ أَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ لخلوص نفعه و دوامه و ما الأولى موصولة تضمنت معنى الشرط من حيث أن إيتاء ما أوتوا سبب للتمتع بها في الحياة الدنيا فجاءت الفاء في جوابها بخلاف الثانية.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 83
و عن علي رضي اللّه عنه: تصدق أبو بكر رضي اللّه تعالى عنه بماله كله فلامه جمع فنزلت.
[سورة الشورى (42): الآيات 37 الى 38]
وَ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَواحِشَ وَ إِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ وَ الَّذِينَ بما بعده عطف على لِلَّذِينَ آمَنُوا أو مدح منصوب أو مرفوع، و بناء يَغْفِرُونَ على ضميرهم خبرا للدلالة على أنهم الأخصاء بالمغفرة حال الغضب، و قرأ حمزة و الكسائي «كبير الإثم».
وَ الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ نزلت في الأنصار دعاهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم إلى الإيمان فاستجابوا له. وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ أَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ ذو شورى بينهم لا ينفردون برأي حتى يتشاوروا و يجتمعوا عليه، و ذلك من فرط تدبرهم و تيقظهم في الأمور، و هي مصدر كالفتيا بمعنى التشاور. وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ في سبيل اللّه الخير.
[سورة الشورى (42): الآيات 39 الى 40]
وَ الَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ على ما جعله اللّه لهم كراهة التذلل، و هو وصفهم بالشجاعة بعد وصفهم بسائر أمهات الفضائل و هو لا يخالف وصفهم بالغفران، فإنه ينبئ عن عجز المغفور و الانتصار عن مقاومة الخصم، و الحلم عن العاجز محمود و عن المتغلب مذموم لأنه إجراء و إغراء على البغي، ثم عقب وصفهم بالانتصار للمنع عن التعدي.
وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها و سمى الثانية سَيِّئَةٍ للازدواج، أو لأنها تسوء من تنزل به. فَمَنْ عَفا وَ أَصْلَحَ بينه و بين عدوه. فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ عدة مبهمة تدل على عظم الموعود. إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ المبتدئين بالسيئة و المتجاوزين في الانتقام.
[سورة الشورى (42): الآيات 41 الى 42]
وَ لَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ بعد ما ظلم، و قد قرئ به. فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ بالمعاتبة و المعاقبة.
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ يبتدئونهم بالإضرار و يطلبون ما لا يستحقونه تجبرا عليهم.
وَ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ على ظلمهم و بغيهم.
[سورة الشورى (42): الآيات 43 الى 44]
وَ لَمَنْ صَبَرَ على الأذى. وَ غَفَرَ و لم ينتصر. إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ أي إن ذلك منه فحذف كما حذف في قولهم: السمن منوان بدرهم، للعلم به.
وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ من ناصر يتولاه من بعد خذلان اللّه إياه. وَ تَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ حين يرونه فذكر بلفظ الماضي تحقيقا. يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ هل إلى رجعة إلى
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 84
الدنيا.
[سورة الشورى (42): الآيات 45 الى 46]
وَ تَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها على النار، و يدل عليه الْعَذابَ . خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِ متذللين متقاصرين مما يلحقهم من الذل. يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ أي يبتدئ نظرهم إلى النار من تحريك لأجفانهم ضعيف كالمصبور ينظر إلى السيف. وَ قالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ أَهْلِيهِمْ بالتعريض للعذاب المخلد. يَوْمَ الْقِيامَةِ ظرف ل خَسِرُوا و القول في الدنيا، أو لقال أي يقولون إذا رأوهم على تلك الحال. أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ تمام كلامهم أو تصديق من اللّه لهم.
وَ ما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ إلى الهدى أو النجاة.
[سورة الشورى (42): الآيات 47 الى 48]
اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ لا يرده اللّه بعد ما حكم به و مِنْ صلة ل مَرَدَّ . و قيل صلة يَأْتِيَ أي من قبل أن يأتي يوم من اللّه لا يمكن رده. ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ مفر.
يَوْمَئِذٍ وَ ما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ إنكار لما اقترفتموه لأنه مدوّن في صحائف أعمالكم تشهد عليه ألسنتكم و جوارحكم.
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً رقيبا أو محاسبا. إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ و قد بلغت. وَ إِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها أراد بالإنسان الجنس لقوله: وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ بليغ الكفران ينسى النعمة رأسا و يذكر البلية و يعظمها و لا يتأمل سببها، و هذا و إن اختص بالمجرمين جاز إسناده إلى الجنس لغلبتهم و اندراجهم فيه. و تصدير الشرطية الأولى ب إِذا و الثانية ب إِنْ لأن إذاقة النعمة محققة من حيث إنها عادة مقتضاة بالذات بخلاف إصابة البلية، و إقامة علة الجزاء مقامه و وضع الظاهر موضع المضمر في الثانية للدلالة على أن هذا الجنس موسوم بكفران النعمة.
[سورة الشورى (42): الآيات 49 الى 50]
لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فله أن يقسم النعمة و البلية كيف يشاء. يَخْلُقُ ما يَشاءُ من غير لزوم و مجال اعتراض. يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ .