کتابخانه تفاسیر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 88
[سورة الزخرف (43): آية 15]
وَ جَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15)
وَ جَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً متصل بقوله: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ أي و قد جعلوا له بعد ذلك الاعتراف من عباده ولدا فقالوا الملائكة بنات اللّه، و لعله سماه جزءا كما سمي بعضا لأنه بضعة من الوالد دلالة على استحالته على الواحد الحق في ذاته، و قرأ أبو بكر «جزءوا» بضمتين. إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ ظاهر الكفران و من ذلك نسبة الولد إلى اللّه لأنها من فرط الجهل به و التحقير لشأنه.
[سورة الزخرف (43): الآيات 16 الى 17]
أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَ أَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ معنى الهمزة في أَمِ للإنكار و التعجب من شأنهم حيث لم يقنعوا بأن جعلوا له جزءا حتى جعلوا له من مخلوقاته أجزاء أخس مما اختير لهم و أبغض الأشياء إليهم، بحيث إذا بشر أحدهم بها اشتد غمه به كما قال:
وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا بالجنس الذي جعله له مثلا إذ الولد لا بد و أن يماثل الوالد. ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا صار وجهه أسود في الغاية لما يعتريه من الكآبة. وَ هُوَ كَظِيمٌ مملوء قلبه من الكرب، و في ذلك دلالات على فساد ما قالوه، و تعريف البنين بما مر في الذكور، و قرئ «مسودّ» و «مسوادّ» على أن في ظَلَ ضمير المبشر و «وجهه مسود» جملة وقعت خبرا.
[سورة الزخرف (43): الآيات 18 الى 19]
أَ وَ مَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ أي أو جعلوا له، أو اتخذ من يتربى في الزينة يعني البنات. وَ هُوَ فِي الْخِصامِ في المجادلة. غَيْرُ مُبِينٍ مقرر لما يدعيه من نقصان العقل و ضعف الرأي، و يجوز أن يكون من مبتدأ محذوف الخبر أي أو من هذا حالة ولده و فِي الْخِصامِ متعلق ب مُبِينٍ ، و إضافة غَيْرُ إليه لا يمنعه لما عرفت. و قرأ حمزة و الكسائي و حفص ينشّأ أي يربي. و قرئ «ينشأ» و «يناشأ» بمعناه و نظير ذلك أعلاه و علاه و عالاه بمعنى.
وَ جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً كفر آخر تضمنه مقالهم شنع به عليهم، و هو جعلهم أكمل العباد و أكرمهم على اللّه تعالى أنقصهم رأيا و أخسهم صنفا. و قرئ عبيد و قرأ الحجازيان و ابن عامر و يعقوب «عند» على تمثيل زلفاهم. و قرئ «أنثا» و هو جمع الجمع. أَ شَهِدُوا خَلْقَهُمْ أحضروا خلق اللّه إياهم فشاهدوهم إناثا، فإن ذلك مما يعلم بالمشاهدة و هو تجهيل و تهكم بهم. و قرأ نافع أشهدوا بهمزة الاستفهام و همزة مضمومة بين بين، و «ءاأشهدوا» بمدة بينهما. سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ التي شهدوا بها على الملائكة. وَ يُسْئَلُونَ أي عنها يوم القيامة، و هو وعيد شديد. و قرئ «سيكتب» و «سنكتب» بالياء و النون.
و «شهاداتهم» و هي أن للّه جزءا أو أن له بنات و هن الملائكة و يساءلون من المساءلة.
[سورة الزخرف (43): الآيات 20 الى 21]
وَ قالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ أي لو شاء عدم عبادة الملائكة ما عبدناهم فاستدلوا بنفي مشيئة عدم العبادة على امتناع النهي عنها أو على حسنها، و ذلك باطل لأن المشيئة ترجح بعض الممكنات على
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 89
بعض مأمورا كان أو منهيا حسنا كان أو غيره، و لذلك جهلهم فقال: ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ يتمحلون تمحلا باطلا، و يجوز أن تكون الإشارة إلى أصل الدعوى كأنه لما أبدى وجوه فسادها و حكى شبهتهم المزيفة نفى أن يكون لهم بها علم من طريق العقل، ثم أضرب عنه إلى إنكار أن يكون لهم سند من جهة النقل فقال:
أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ من قبل القرآن أو ادعائهم ينطق على صحة ما قالوه. فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ بذلك الكتاب متمسكون.
[سورة الزخرف (43): الآيات 22 الى 23]
بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ أي لا حجة لهم على ذلك عقلية و لا نقلية، و إنما جنحوا فيه إلى تقليد آبائهم الجهلة، و ال أُمَّةٍ الطريقة التي تؤم كالراحلة للمرحول إليه، و قرئت بالكسر و هي الحالة التي يكون عليها الآم أي القاصد و منها الدين.
وَ كَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ تسلية لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و دلالة على أن التقليد في نحو ذلك ضلال قديم، و أن مقدميهم أيضا لم يكن لهم سند منظور إليه، و تخصيص المترفين إشعار بأن التنعم و حب البطالة صرفهم عن النظر إلى التقليد.
[سورة الزخرف (43): الآيات 24 الى 25]
قالَ أَ وَ لَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا أي أ تتبعون آبائكم و لو جئتكم بدين أهدى من دين آبائكم، و هي حكاية أمر ماض أوحي إلى النذير، أو خطاب لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، و يؤيد الأول أنه قرأ ابن عامر و حفص قالَ و قوله: قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ أي و إن كان أهدى إقناطا للنذير من أن ينظروا أو يتفكروا فيه.
فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ بالاستئصال. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ و لا تكترث بتكذيبهم.
[سورة الزخرف (43): الآيات 26 الى 28]
وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ و اذكر وقت قوله هذا ليروا كيف تبرأ عن التقليد و تمسك بالدليل، أو ليقلدوه إن لم يكن لهم بد من التقليد فإنه أشرف آبائهم. لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ بريء من عبادتكم أو معبودكم، مصدر نعت به و لذلك استوى فيه الواحد و المتعدد و المذكر و المؤنث، و قرئ «بريء» و «براء» ككريم و كرام.
إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي استثناء منقطع أو متصل على أن «ما» يعم أولي العلم و غيرهم، و أنهم كانوا يعبدون اللّه و الأصنام و الأوثان، أو صفة على أن «ما» موصوفة أي إنني بريء من آلهة تعبدونها غير الذي فطرني.
فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ سيثبتني على الهداية، أو سيهديني إلى ما وراء ما هداني إليه.
وَ جَعَلَها و جعل إبراهيم عليه الصلاة و السلام أو اللّه كلمة التوحيد. كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ في ذريته فيكون فيهم أبدا من يوحد اللّه و يدعو إلى توحيده، و قرئ «كلمة» و «في عقبه» على التخفيف و «في عاقبه»
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 90
أي فيمن عقبه. لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ يرجع من أشرك بدعاء من وحد.
[سورة الزخرف (43): الآيات 29 الى 30]
بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَ آباءَهُمْ هؤلاء المعاصرين للرسول صلّى اللّه عليه و سلم من قريش و آباءهم بالمد في العمر و النعمة، فاغتروا لذلك و انهمكوا في الشهوات. و قرئ «متعت» بالفتح على أنه تعالى اعترض به على ذاته في قوله:
وَ جَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً مبالغة في تعييرهم. حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُ دعوة التوحيد أو القرآن. وَ رَسُولٌ مُبِينٌ ظاهر الرسالة بما له من المعجزات، أو مُبِينٌ للتوحيد بالحجج و الآيات.
وَ لَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُ لينبههم عن غفلتهم قالُوا هذا سِحْرٌ وَ إِنَّا بِهِ كافِرُونَ زادوا شرارة فضموا إلى شركهم معاندة الحق و الاستخفاف به، فسموا القرآن سحرا و كفروا به و استحقروا الرسول.
[سورة الزخرف (43): الآيات 31 الى 32]
وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ من إحدى القريتين مكة و الطائف. عَظِيمٍ بالجاه و المال كالوليد بن المغيرة و عروة بن مسعود الثقفي، فإن الرسالة منصب عظيم لا يليق إلا بعظيم، و لم يعلموا أنها رتبة روحانية تستدعي عظم النفس بالتحلي بالفضائل و الكمالات القدسية، لا التزخرف بالزخارف الدنيوية.
أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ إنكار فيه تجهيل و تعجيب من تحكمهم، و المراد بالرحمة النبوة. نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا و هم عاجزون عن تدبيرها و هي خويصة أمرهم في دنياهم، فمن أين لهم أن يدبروا أمر النبوة التي هي أعلى المراتب الإنسية، و إطلاق المعيشة يقتضي أن يكون حلالها و حرامها من اللّه. وَ رَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ و أوقعنا بينهم التفاوت في الرزق و غيره. لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا ليستعمل بعضهم بعضا في حوائجهم فيحصل بينهم تآلف و تضام ينتظم بذلك نظام العالم، لا لكمال في الموسع و لا لنقص في المقتر، ثم إنه لا اعتراض لهم علينا في ذلك و لا تصرف فكيف يكون فيما هو أعلى منه. وَ رَحْمَتُ رَبِّكَ يعني هذه النبوة و ما يتبعها. خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ من حطام الدنيا و العظيم من رزق منها لا منه.
[سورة الزخرف (43): الآيات 33 الى 35]
وَ لَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لولا أن يرغبوا في الكفر إذا رأوا الكفار في سعة و تنعم لحبهم الدنيا فيجتمعوا عليه. لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَ مَعارِجَ و مصاعد جمع معرج، و قرئ «و معاريج» جمع معراج. عَلَيْها يَظْهَرُونَ يعلون السطوح لحقارة الدنيا، وَ لِبُيُوتِهِمْ بدل من لِمَنْ بدل الاشتمال أو على كقولك: وهبت له ثوبا لقميصه، و قرأ ابن كثير و أبو عمرو «و سقفا» اكتفاء بجمع البيوت، و قرئ «سقفا» بالتخفيف و «سقوفا» و «سقفا» و هي لغة في سقف. وَ لِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَ سُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ أي أبوابا و سررا من فضة.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 91
وَ زُخْرُفاً و زينة عطف على سُقُفاً أو ذهبا عطف على محل من فضة وَ إِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا إن هي المخففة و اللام هي الفارقة. و قرأ عاصم و حمزة و هشام بخلاف عنه لما بالتشديد بمعنى إلا و إن نافية، و قرئ به مع أن و ما وَ الْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ عن الكفر و المعاصي، و فيه دلالة على أن العظيم هو العظيم في الآخرة لا في الدنيا، و إشعار بما لأجله لم يجعل ذلك للمؤمنين حتى يجتمع الناس على الإيمان، و هو أنه تمتع قليل بالإضافة إلى ما لهم في الآخرة مخل به في الأغلب لما فيه من الآفات قل من يتخلص عنها كما أشار إليه بقوله:
[سورة الزخرف (43): الآيات 36 الى 37]
وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ يتعام و يعرض عنه لفرط اشتغاله بالمحسوسات و انهماكه في الشهوات، و قرئ «يعش» بالفتح أي يعم يقال عشى إذا كان في بصره آفة و عشى إذا تعشى بلا آفة كعرج و عرج، و قرئ «يعشو» على أن مَنْ موصولة. نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ يوسوسه و يغويه دائما، و قرأ يعقوب بالياء على إسناده إلى ضمير الرَّحْمنِ ، و من رفع «يعشو» ينبغي أن يرفع نُقَيِّضْ .
وَ إِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ عن الطريق الذي من حقه أن يسبل، و جمع الضميرين للمعنى إذ المراد جنس العاشي و الشيطان المقيض له. وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ الضمائر الثلاثة الأول له و الباقيان للشيطان.
[سورة الزخرف (43): الآيات 38 الى 39]
حَتَّى إِذا جاءَنا أي العاشي، و قرأ الحجازيان و ابن عامر و أبو بكر «جاآنا» أي العاشي و الشيطان.
قالَ أي العاشي للشيطان. يا لَيْتَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ بعد المشرق من المغرب، فغلب المشرق و ثنى و أضيف البعد إليهما. فَبِئْسَ الْقَرِينُ أنت.
وَ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ أي ما أنتم عليه من التمني. إِذْ ظَلَمْتُمْ إذ صح أنكم ظلمتم أنفسكم في الدنيا بدل من الْيَوْمَ . أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ لأن حقكم أن تشتركوا أنتم و شياطينكم في العذاب كما كنتم مشتركين في سببه، و يجوز أن يسند الفعل إليه بمعنى. و لن ينفعكم اشتراككم في العذاب كما ينفع الواقعين في أمر صعب معاونتهم في تحمل أعبائه و تقسمهم لمكابدة عنائه، إذ لكل منكم ما لا تسعه طاقته. و قرئ «إنّكم» بالكسر و هو يقوي الأول.
[سورة الزخرف (43): الآيات 40 الى 42]
أَ فَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ إنكار و تعجب من أن يكون هو الذي يقدر على هدايتهم بعد تمرنهم على الكفر و استغراقهم في الضلال بحيث صار عشاهم عمى مقرونا بالصمم. كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يتعب نفسه في دعاء قومه و هم لا يزيدون إلا غيا فنزلت. وَ مَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ عطف على الْعُمْيَ باعتبار تغاير الوصفين، و فيه إشعار بأن الموجب لذلك تمكنهم في ضلال لا يخفى.
فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ أي فإن قبضناك قبل أن نبصرك عذابهم، و «ما» مزيدة مؤكدة بمنزلة لام القسم في استجلاب النون المؤكدة فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ بعذاب في الدنيا و الآخرة.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 92
أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ أو إن أردنا أن نريك ما وعدناهم من العذاب، و قرأ يعقوب برواية رويس أو نُرِيَنَّكَ بإسكان النون و كذا نَذْهَبَنَ . فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ لا يفوتوننا.
[سورة الزخرف (43): الآيات 43 الى 44]
فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ من الآيات و الشرائع، و قرئ «أوحي» على البناء للفاعل و هو اللّه تعالى. إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ لا عوج له.
وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ لشرف لك. وَ لِقَوْمِكَ وَ سَوْفَ تُسْئَلُونَ أي عنه يوم القيامة و عن قيامكم بحقه.
[سورة الزخرف (43): آية 45]
وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أي و اسأل أممهم و علماء دينهم، و قرأ ابن كثير و الكسائي بتخفيف الهمزة. أَ جَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ هل حكمنا بعبادة الأوثان و هل جاءت في ملة من مللهم، و المراد به الاستشهاد بإجماع الأنبياء على التوحيد و الدلالة على أنه ليس ببدع ابتدعه فيكذب و يعادى له، فإنه كان أقوى ما حملهم على التكذيب و المخالفة.
[سورة الزخرف (43): الآيات 46 الى 47]
وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ يريد باقتصاصه تسلية رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و مناقضة قولهم لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ و الاستشهاد بدعوة موسى عليه السلام إلى التوحيد ليتأملوا فيها.
فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ فاجؤوا وقت ضحكهم منها، أي استهزءوا بها أول ما رأوها و لم يتأملوا فيها.
[سورة الزخرف (43): آية 48]
وَ ما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها إلا هي بالغة أقصى درجات الإعجاز بحيث يحسب الناظر فيها أنها أكبر مما يقاس إليها من الآيات، و المراد وصف الكل بالكبر كقولك: رأيت رجالا بعضهم أفضل من بعض، و كقوله:
من تلق منهم تقل لاقيت سيّدهم
مثل النّجوم الّتي يسري بها السّاري
أو إِلَّا و هي مختصة بنوع من الإعجاز مفضلة على غيرها بذلك الاعتبار. وَ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ كالسنين و الطوفان و الجراد. لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ على وجه يرجى رجوعهم.
[سورة الزخرف (43): الآيات 49 الى 50]
وَ قالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ نادوه بذلك في تلك الحال لشدة شكيمتهم و فرط حماقتهم، أو لأنهم كانوا يسمون العالم الماهر ساحرا. و قرأ ابن عامر بضم الهاء ادْعُ لَنا رَبَّكَ فيكشف عنا العذاب. بِما عَهِدَ
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 93
عِنْدَكَ بعهده عندك من النبوة، أو من أن يستجيب دعوتك، أو أن يكشف العذاب عمن اهتدى، أو بِما عَهِدَ عِنْدَكَ فوفيت به و هو الإيمان و الطاعة. إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ .
فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ فاجؤوا نكث عهدهم بالاهتداء.
[سورة الزخرف (43): الآيات 51 الى 52]
وَ نادى فِرْعَوْنُ بنفسه أو بمناديه. فِي قَوْمِهِ في مجمعهم أو فيما بينهم بعد كشف العذاب عنهم مخافة أن يؤمن بعضهم. قالَ يا قَوْمِ أَ لَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَ هذِهِ الْأَنْهارُ أنهار النيل و معظمها أربعة أنهر: نهر الملك، و نهر طولون، و نهر دمياط، و نهر تنيس. تَجْرِي مِنْ تَحْتِي تحت قصري أو أمري، أو بين يدي في جناني و الواو إما عاطفة لهذه الْأَنْهارُ على الملك و تَجْرِي حال منها. أو واو حال و هذه مبتدأ و الْأَنْهارُ صفتها و تَجْرِي خبرها. أَ فَلا تُبْصِرُونَ ذلك.
أَمْ أَنَا خَيْرٌ مع هذه المملكة و البسطة. مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ ضعيف حقير لا يستعد للرئاسة، من المهانة و هي القلة. وَ لا يَكادُ يُبِينُ الكلام لما به من الرتة فكيف يصلح للرسالة، و أَمْ إما منقطعة و الهمزة فيها للتقرير إذ قدم من أسباب فضله، أو متصلة على إقامة المسبب مقام السبب. و المعنى أفلا تبصرون أم تبصرون فتعلمون أني خير منه.
[سورة الزخرف (43): الآيات 53 الى 54]
فلو لا ألقي عليه أساورة من ذهب أي فهلا ألقي عليه مقاليد الملك إن كان صادقا، إذ كانوا إذا سودوا رجلا سوروه و طوقوه بسوار و طوق من ذهب، و أساورة جمع إسوار بمعنى السوار على تعويض التاء من ياء أساوير. و قد قرئ به و قرأ يعقوب و حفص «أَسْوِرَةٌ» و هي جمع سوار. و قرئ «أساور» جمع «أسورة» و «ألقى عليه أسورة» و «أساور» على البناء للفاعل و هو اللّه تعالى. أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ مقرونين يعينونه أو يصدقونه من قرنته به فاقترن، أو متقارنين من اقترن بمعنى تقارن.
فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فطلب منهم الخفة في مطاوعته أو فاستخف أحلامهم. فَأَطاعُوهُ فيما أمرهم به إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ فلذلك أطاعوا ذلك الفاسق.
[سورة الزخرف (43): الآيات 55 الى 56]
فَلَمَّا آسَفُونا أغضبونا بالإفراط في العناد و العصيان منقول من أسف إذا اشتد غضبه. انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ في اليم.
فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً قدوة لمن بعدهم من الكفار يقتدون به في استحقاق مثل عقابهم، مصدر نعت به أو جمع سالف كخدم و خادم، و قرأ حمزة و الكسائي بضم السين و اللام جمع سليف كرغف و رغيف، أو سالف كصبر جمع صابر أو سلف كخشب. و قرئ «سلفا» بإبدال ضمة اللام فتحة أو على أنه جمع سلفة أي ثلة قد سلفت. وَ مَثَلًا لِلْآخِرِينَ و عظة لهم أو قصة عجيبة تسير مسير الأمثال لهم فيقال: مثلكم مثل قوم فرعون.
[سورة الزخرف (43): الآيات 57 الى 58]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 94
وَ لَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا أي ضربه ابن الزبعري لما جادل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم في قوله تعالى: إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أو غيره بأن قال النصارى أهل كتاب و هم يعبدون عيسى عليه السلام و يزعمون أنه ابن اللّه و الملائكة أولى بذلك، أو على قوله تعالى: وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أو أن محمدا يريد أن نعبده كما عبد المسيح. إِذا قَوْمُكَ قريش مِنْهُ من هذا المثل. يَصِدُّونَ يضجون فرحا لظنهم أن الرسول صلّى اللّه عليه و سلم صار ملزما به. و قرأ نافع و ابن عامر و الكسائي بالضم من الصدود أي يصدون عن الحق و يعرضون عنه. و قيل هما لغتان نحو يعكف و يعكف.
وَ قالُوا أَ آلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ أي آلهتنا خير عندك أم عيسى عليه السلام فإن يكن في النار فلتكن آلهتنا معه، أو آلهتنا الملائكة خير أم عيسى عليه السلام فإذا جاز أن يعبد و يكون ابن اللّه كانت آلهتنا أولى بذلك، أو آلهتنا خير أم محمد صلّى اللّه عليه و سلم فنعبده و ندع آلهتنا. و قرأ الكوفيون «أ آلهتنا» بتحقيق الهمزتين و ألف بعدهما. ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا ما ضربوا هذا المثل إلا لأجل الجدل و الخصومة لا لتمييز الحق من الباطل. بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ شداد الخصومة حراص على اللجاج.
[سورة الزخرف (43): الآيات 59 الى 60]
إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ بالنبوة. وَ جَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ أمرا عجيبا كالمثل السائر لبني إسرائيل، و هو كالجواب المزيح لتلك الشبهة.
وَ لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ لولدنا منكم يا رجال كما ولدنا عيسى من غير أب، أو لجعلنا بدلكم.
مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ ملائكة يخلفونكم في الأرض، و المعنى أن حال عيسى عليه السلام و إن كانت عجيبة فإنه تعالى قادر على ما هو أعجب من ذلك، و أن الملائكة مثلكم من حيث إنها ذوات ممكنة يحتمل خلقها توليدا كما جاز خلقها إبداعا، فمن أين لهم استحقاق الألوهية و الانتساب إلى اللّه سبحانه و تعالى.
[سورة الزخرف (43): الآيات 61 الى 62]
وَ إِنَّهُ و إن عيسى عليه السلام. لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ لأن حدوثه أو نزوله من أشراط الساعة يعلم به دنوها، أو لأن احياء الموتى يدل على قدرة اللّه تعالى عليه. و قرئ «لعلم» أي لعلامة و لذكر على تسمية ما يذكر به ذكرا، و
في الحديث ينزل عيسى عليه السلام على ثنية بالأرض المقدسة يقال لها أفيق و بيده حربة يقتل بها الدجال، فيأتي بيت المقدس و الناس في صلاة الصبح فيتأخر الإمام فيقدمه عيسى عليه السلام و يصلي خلفه على شريعة محمد عليه الصلاة و السلام، ثم يقتل الخنازير و يكسر الصليب، و يخرب البيع و الكنائس، و يقتل النصارى إلا من آمن به.
و قيل الضمير للقرآن فإن فيه الإعلام بالساعة و الدلالة عليها. فَلا تَمْتَرُنَّ بِها فلا تشكن فيها. وَ اتَّبِعُونِ و اتبعوا هداي أو شرعي أو رسولي. و قيل هو قول الرسول صلّى اللّه عليه و سلم أمر أن يقوله.
هذا الذي أدعوكم إليه. صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ لا يضل سالكه.