کتابخانه تفاسیر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 119
(47) سورة محمد صلّى اللّه عليه و سلم
و تسمه سورة القتال و هي مدينة و قيل مكية و آيها سبع أو ثمان و ثلاثون أو أربعون آية
[سورة محمد (47): الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ امتنعوا عن الدخول في الإسلام و سلوك طريقه، أو منعوا الناس عنه كالمطعمين يوم بدر، أو شياطين قريش أو المصريين من أهل الكتاب. أو عام في جميع من كفر و صد.
أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ جعل مكارمهم كصلة الرحم و فك الأسارى و حفظ الجوار ضالة أي ضائعة محبطة بالكفر، أو مغلوبة مغمورة فيه كما يضل الماء في اللبن، أو ضلال حيث لم يقصدوا به وجه اللّه، أو أبطل ما عملوه من الكيد لرسوله و الصد عن سبيله بنصر رسوله و إظهار دينه على الدين كله.
وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ يعم المهاجرين و الأنصار و الذين آمنوا من أهل الكتاب و غيرهم.
وَ آمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ تخصيص للمنزل عليه مما يجب الإيمان به تعظيما له و إشعارا بأن الإيمان لا يتم دونه، و أنه الأصل فيه و لذلك أكده بقوله: وَ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ اعتراضا على طريقة الحصر. و قيل حقيقته بكونه ناسخا لا ينسخ، و قرئ «نزل» على البناء للفاعل و «أنزل» على البناءين و «نزل» بالتخفيف. كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ سترها بالإيمان و عملهم الصالح. وَ أَصْلَحَ بالَهُمْ في الدين و الدنيا بالتوفيق و التأييد.
[سورة محمد (47): آية 3]
ذلِكَ إشارة إلى ما مر من الإضلال و التكفير و الإصلاح و هو مبتدأ خبره. بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَ أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ بسبب اتباع هؤلاء الباطل و اتباع هؤلاء الحق، و هذا تصريح بما أشعر به ما قبلها و لذلك سمي تفسيرا. كَذلِكَ مثل ذلك الضرب. يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ يبين لهم.
أَمْثالَهُمْ أحوال الفريقين أو أحوال الناس، أو يضرب أمثالهم بأن جعل اتباع الباطل مثلا لعمل الكفار و الإضلال مثلا لخيبتهم و اتباع الحق مثلا للمؤمنين، و تكفير السيئات مثلا لفوزهم.
[سورة محمد (47): الآيات 4 الى 6]
.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 120
فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا في المحاربة. فَضَرْبَ الرِّقابِ أصله فاضربوا الرقاب ضربا فحذف الفعل و قدم المصدر، و أنيب منابه مضافا إلى المفعول ضما إلى التأكيد و الاختصار. و التعبير به عن القتل إشعارا بأنه ينبغي أن يكون بضرب الرقاب حيث أمكن، و تصوير له بأشنع صورة. حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ أكثرتم قتلهم و أغلظتموه من الثخين و هو الغليظ. فَشُدُّوا الْوَثاقَ فأسروهم و احفظوهم، و الوثاق بالفتح و الكسر ما يوثق به. فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَ إِمَّا فِداءً أي فإما تمنون منا أو تفدون فداء، و المراد التخيير بعد الأسر بين المن و الإطلاق و بين أخذ الفداء، و هو ثابت عندنا فإن الذكر الحر المكلف إذا أسر تخير الإمام بين القتل و المن و الفداء، و الاسترقاق منسوخ عند الحنفية أو مخصوص بحرب بدر فإنهم قالوا يتعين القتل أو الاسترقاق. و قرئ «فدا» كعصا. حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها آلاتها و أثقالها التي لا تقوم إلا بها كالسلاح و الكراع، أي تنقضي الحرب و لم يبق إلا مسلم أو مسالم. و قيل آثامها و المعنى حتى يضع أهل الحرب شركهم و معاصيهم، و هو غاية للضرب أو الشد أو للمن و الفداء أو للمجموع بمعنى أن هذه الأحكام جارية فيها حتى لا يكون حرب مع المشركين بزوال شوكتهم. و قيل بنزول عيسى عليه الصلاة و السلام ذلِكَ أي الأمر ذلك، أو افعلوا بهم ذلك. وَ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ لا لانتقم منهم بالاستئصال. وَ لكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ و لكن أمركم بالقتال ليبلوا المؤمنين بالكافرين بأن يجاهدوهم فيستوجبوا الثواب العظيم و الكافرين بالمؤمنين بأن يعاجلهم على أيديهم ببعض عذابهم كي يرتدع بعضهم عن الكفر. وَ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي جاهدوا، و قرأ البصريان و حفص قُتِلُوا أي استشهدوا. فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ فلن يضيعها، و قرئ «يضل» من ضل و «يضل» على البناء للمفعول.
سَيَهْدِيهِمْ إلى الثواب، أو سيثبت هدايتهم. وَ يُصْلِحُ بالَهُمْ .
وَ يُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ و قد عرفها لهم في الدنيا حتى اشتاقوا إليها فعملوا ما استحقوها به، أو بينها لهم بحيث يعلم كل واحد منزله و يهتدي إليه كأنه كان ساكنه منذ خلق، أو طيبها لهم من العرف و هو طيب الرائحة، أو حددها لهم بحيث يكون لكل جنة مفرزة.
[سورة محمد (47): الآيات 7 الى 9]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ إن تنصروا دينه و رسوله. يَنْصُرْكُمْ على عدوكم. وَ يُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ في القيام بحقوق الإسلام و المجاهدة مع الكفار.
وَ الَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ فعثورا لهم و انحطاطا و نقيضه لما قال الأعشى. فالتعس أولى بها من أن أقول لعا. و انتصابه بفعله الواجب إضماره سماعا، و الجملة خبر الَّذِينَ كَفَرُوا أو مفسرة لناصبه. وَ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ عطف عليه.
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ القرآن لما فيه من التوحيد و التكاليف المخالفة لما ألفوه و اشتهته أنفسهم، و هو تخصيص و تصريح بسببية الكفر بالقرآن للتعس و الإضلال. فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ كرره إشعارا بأنه يلزم الكفر بالقرآن و لا ينفك عنه بحال.
[سورة محمد (47): الآيات 10 الى 11]
أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ استأصل عليهم ما
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 121
اختص بهم من أنفسهم و أهليهم و أموالهم. وَ لِلْكافِرِينَ من وضع الظاهر موضع المضمر. أَمْثالُها أمثال تلك العاقبة أو العقوبة، أو الهلكة لأن التدمير يدل عليها، أو السنة لقوله تعالى: سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ .
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا ناصرهم على أعدائهم. وَ أَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ فيدفع العذاب عنهم و هو لا يخالف قوله: وَ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ فإن المولى فيه بمعنى المالك.
[سورة محمد (47): الآيات 12 الى 14]
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ ينتفعون بمتاع الدنيا. وَ يَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ حريصين غافلين عن العاقبة. وَ النَّارُ مَثْوىً لَهُمْ منزل و مقام.
وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ على حذف المضاف و إجراء أحكامه على المضاف إليه، و الإخراج باعتبار التسبب. أَهْلَكْناهُمْ بأنواع العذاب. فَلا ناصِرَ لَهُمْ يدفع عنهم العذاب و هو كالحال المحكية.
أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ حجة من عنده و هو القرآن، أو ما يعمه و الحجج العقلية كالنبي صلّى اللّه عليه و سلم و المؤمنين. كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ كالشرك و المعاصي. وَ اتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ في ذلك لا شبهة لهم عليه فضلا عن حجة.
[سورة محمد (47): آية 15]
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ أي فيما قصصنا عليك صفتها العجيبة. و قيل مبتدأ خبره: كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ ، و تقدير الكلام أمثل أهل الجنة كمثل من هو خالد، أو أمثل الجنة كمثل جزاء من هو خالد فعرى عن حرف الإنكار و حذف ما حذف استغناء يجري مثله تصويرا لمكابرة من يسوي بين المتمسك بالبينة و التابع للهوى، بمكابرة من يسوي بين الجنة و النار، و هو على الأول خبر محذوف تقديره: أ فمن هو خالد في هذه الجنة كمن هو خالد في النار، أو بدل من قوله: كَمَنْ زُيِّنَ و ما بينهما اعتراض لبيان ما يمتاز به من على بينة في الآخرة تقريرا لإنكار المساواة. فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ استئناف لشرح المثل أو حال من العائد المحذوف، أو خبر لمثل و آسِنٍ من أسن الماء بالفتح إذا تغير طعمه و ريحه، أو بالكسر على معنى الحدوث. و قرأ ابن كثير «أسن». وَ أَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ لم يصر قارصا و لا حازرا. وَ أَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ لذيذة لا يكون فيها كراهة طعم و ريح و لا غائلة سكر و خمار تأنيث لذ أو مصدر نعت به بإضمار ذات، أو تجوز و قرئت بالرفع على صفة الأنهار و النصب على العلة. وَ أَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى لم يخالطه الشمع و فضلات النحل و غيرها، و في ذلك تمثيل لما يقوم مقام الأشربة في الجنة بأنواع ما يستلذ منها في الدنيا بالتجريد عما ينقصها و ينغصها، و التوصيف بما يوجب غزارتها و استمرارها. وَ لَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ صنف على هذا القياس. وَ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ عطف على الصنف المحذوف، أو مبتدأ خبره محذوف أي لهم مغفرة. كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَ سُقُوا ماءً حَمِيماً مكان تلك الأشربة. فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 122
من فرط الحرارة.
[سورة محمد (47): آية 16]
وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ يعني المنافقين كانوا يحضرون مجلس الرسول صلّى اللّه عليه و سلم و يسمعون كلامه فإذا خرجوا. قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أي لعلماء الصحابة رضي اللّه تعالى عنهم. ما ذا قالَ آنِفاً ما الذي قال الساعة، استهزاء أو استعلاما إذ لم يلقوا له آذانهم تهاونا به، و آنِفاً من قولهم أنف الشيء لما تقدم منه مستعار من الجارحة، و منه استأنف و ائتنف و هو ظرف بمعنى وقتا مؤتنفا، أو حال من الضمير في قالَ و قرأ ابن كثير «أنفا».
أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ اتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ فلذلك استهزءوا و تهاونوا بكلامه.
[سورة محمد (47): الآيات 17 الى 18]
وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً أي زادهم اللّه بالتوفيق و الإلهام، أو قول الرسول عليه الصلاة و السلام.
وَ آتاهُمْ تَقْواهُمْ بين لهم ما يتقون أو أعانهم على تقواهم، أو أعطاهم جزاءها.
فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ فهل ينتظرون غيرها. أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً بدل اشتمال من السَّاعَةَ ، و قوله:
فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها كالعلة له، و قرئ «أن تأتهم» على أنه شرط مستأنف جزاؤه: فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ و المعنى أن تأتهم الساعة بغتة لأنه قد ظهر أماراتها كمبعث النبي عليه الصلاة و السلام، و انشقاق القمر فكيف لهم ذِكْراهُمْ أي تذكرهم إِذا جاءَتْهُمْ الساعة بغتة، و حينئذ لا يفرغ له و لا ينفع.
[سورة محمد (47): آية 19]
فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَ اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ أي إذا علمت سعادة المؤمنين و شقاوة الكافرين فاثبت على ما أنت عليه من العلم بالوحدانية و تكميل النفس بإصلاح أحوالها و أفعالها و هضمها بالاستغفار لِذَنْبِكَ .
وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ و لذنوبهم بالدعاء لهم و التحريض على ما يستدعي غفرانهم، و في إعادة الجار و حذف المضاف إشعار بفرط احتياجهم و كثرة ذنوبهم و أنها جنس آخر، فإن الذنب له ماله تبعة ما بترك الأولى. وَ اللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ في الدنيا فإنها مراحل لا بد من قطعها. وَ مَثْواكُمْ في العقبى فإنها دار إقامتكم فاتقوا اللّه و استغفروه و أعدوا لمعادكم.
[سورة محمد (47): الآيات 20 الى 24]
.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 123
وَ يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ أي هلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ في أمر الجهاد. فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ مبينة لا تشابه فيها. وَ ذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ أي الأمر به. رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ضعف في الدين و قيل نفاق. يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ جبنا و مخافة. فَأَوْلى لَهُمْ فويل لَهُمْ ، أفعل من الولي و هو القرب، أو فعلى من آل و معناه الدعاء عليهم بأن يليهم المكروه أو يؤول إليه أمرهم.
طاعَةٌ وَ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ استئناف أي أمرهم طاعَةٌ أو طاعَةٌ وَ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ خير لهم، أو حكاية قولهم لقراءة أبيّ «يقولون طاعة». فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ أي جد و هو لأصحاب الأمر، و إسناده إليه مجاز و عامل الظرف محذوف، و قيل فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ أي فيما زعموا من الحرص على الجهاد أو الإيمان. لَكانَ الصدق. خَيْراً لَهُمْ فَهَلْ عَسَيْتُمْ فهل يتوقع منكم. إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أمور الناس و تأمرتم عليهم، أو أعرضتم و توليتم عن الإسلام. أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَ تُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ تناحرا على الولاية و تجاذبا لها، أو رجوعا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية من التغاور و مقاتلة الأقارب، و المعنى أنهم لضعفهم في الدين و حرصهم على الدنيا أحقاء بأن يتوقع ذلك منهم من عرف حالهم و يقول لهم: هل عسيتم، و هذا على لغة الحجاز فإن بني تميم لا يلحقون الضمير به و خبره أَنْ تُفْسِدُوا و إِنْ تَوَلَّيْتُمْ اعتراض، و عن يعقوب تَوَلَّيْتُمْ أي إن تولاكم ظلمة خرجتم معهم و ساعدتموهم في الإفساد و قطيعة الرحم وَ تُقَطِّعُوا من القطع، و قرئ تقطعوا من التقطع.
أُولئِكَ إشارة إلى المذكورين. الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ لإفسادهم و قطعهم الأرحام. فَأَصَمَّهُمْ عن استماع الحق. وَ أَعْمى أَبْصارَهُمْ فلا يهتدون سبيله.
أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ يتصفحونه و ما فيه من المواعظ و الزواجر حتى لا يجسروا على المعاصي. أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها لا يصل إليها ذكر و لا ينكشف لها أمر، و قيل أَمْ منقطعة و معنى الهمزة فيها التقرير، و تنكير القلوب لأن المراد قلوب بعض منهم أو للإشعار بأنها لإبهام أمرها في القساوة، أو لفرط جهالتها و نكرها كأنها مبهمة منكورة و إضافة الأقفال إليها للدلالة على أقفال مناسبة لها مختصة بها لا تجانس الأقفال المعهودة. و قرئ «إقفالها» على المصدر.
[سورة محمد (47): الآيات 25 الى 26]
إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ أي إلى ما كانوا عليه من الكفر. مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى بالدلائل الواضحة و المعجزات الظاهرة. الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ سهل لهم اقتراف الكبائر من السول و هو الاسترخاء.
و قيل حملهم على الشهوات من السول و هو التمني، و فيه أن السول مهموز قلبت همزته واوا لضم ما قبلها و لا كذلك التسويل، و يمكن رده بقولهم هما يتساولان و قرئ «سول» على تقدير مضاف أي كيد الشيطان سَوَّلَ لَهُمْ . وَ أَمْلى لَهُمْ و مد لهم في الآمال و الأماني، أو أمهلهم اللّه تعالى و لم يعاجلهم بالعقوبة لقراءة يعقوب وَ أَمْلى لَهُمْ ، أي و أنا أملي لهم فتكون الواو للحال أو الاستئناف، و قرأ أبو عمرو وَ أَمْلى لَهُمْ على البناء للمفعول و هو ضمير الشَّيْطانُ أو لَهُمُ .
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ أي قال اليهود للذين كفروا بالنبي عليه الصلاة و السلام بعد ما تبين لهم نعته للمنافقين، أو المنافقون لهم أو أحد الفريقين للمشركين. سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ في بعض أموركم أو في بعض ما تأمرون به كالقعود عن الجهاد و الموافقة في الخروج معهم إن أخرجوا، و التظافر على الرسول صلّى اللّه عليه و سلم. وَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ و منها قولهم هذا الذي أفشاه اللّه عليهم، و قرأ حمزة و الكسائي و حفص إِسْرارَهُمْ على المصدر.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 124
[سورة محمد (47): الآيات 27 الى 29]
فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ فكيف يعملون و يحتالون حينئذ، و قرئ «توفاهم» و هو يحتمل الماضي و المضارع المحذوف إحدى تاءيه. يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَ أَدْبارَهُمْ تصوير لتوفيهم بما يخافون منه و يجبنون عن القتال له.
ذلِكَ إشارة إلى التوفي الموصوف. بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ من الكفر ككتمان نعت الرسول عليه الصلاة و السلام و عصيان الأمر. وَ كَرِهُوا رِضْوانَهُ ما يرضاه من الإيمان و الجهاد و غيرهما من الطاعات.
فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ لذلك.
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أن لن يبرز اللّه لرسوله صلّى اللّه عليه و سلم و المؤمنين.
أَضْغانَهُمْ أحقادهم.
[سورة محمد (47): الآيات 30 الى 31]
وَ لَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ لعرفناكهم بدلائل تعرفهم بأعيانهم. فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ بعلاماتهم التي نسمهم بها، و اللام لام الجواب كررت في المعطوف. وَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ جواب قسم محذوف و لَحْنِ الْقَوْلِ أسلوبه، أو إمالته إلى جهة تعريض و تورية، و منه قيل للمخطئ لاحن لأنه يعدل بالكلام عن الصواب. وَ اللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ فيجازيكم على حسب قصدكم إذ الأعمال بالنيات.
وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ بالأمر بالجهاد و سائر التكاليف الشاقة. حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَ الصَّابِرِينَ على مشاقه. وَ نَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ ما يخبر به عن أعمالكم فيظهر حسنها و قبحها، أو أخبارهم عن إيمانهم و موالاتهم المؤمنين في صدقها و كذبها. و قرأ أبو بكر الأفعال الثلاثة بالياء لتوافق ما قبلها، و عن يعقوب وَ نَبْلُوَا بسكون الواو على تقدير و نحن نبلو.
[سورة محمد (47): الآيات 32 الى 33]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ شَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى هم قريظة و النضير أو المطعمون يوم بدر. لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً بكفرهم و صدهم، أو لن يضروا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم بمشاقته و حذف المضاف لتعظيمه و تفظيع مشاقته. وَ سَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ ثواب حسنات أعمالهم بذلك، أو مكايدهم التي نصبوها في مشاقته فلا يصلون بها إلى مقاصدهم و لا تثمر لهم إلا القتل و الجلاء عن أوطانهم.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ لا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ بما أبطل به هؤلاء كالكفر و النفاق و العجب و الرياء و المن و الأذى و نحوها، و ليس فيه دليل على إحباط الطاعات بالكبائر.
[سورة محمد (47): الآيات 34 الى 35]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 125
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ عام في كل من مات على كفره و إن صح نزوله في أصحاب القليب، و يدل بمفهومه على أنه قد يغفر لمن لم يمت على كفره سائر ذنوبه.
فَلا تَهِنُوا فلا تضعفوا. وَ تَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ و لا تدعوا إلى الصلح خورا و تذللا، و يجوز نصبه بإضمار إن و قرئ «و لا تدعوا» من ادعى بمعنى دعا، و قرئ أبو بكر و حمزة بكسر السين. وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ الأغلبون. وَ اللَّهُ مَعَكُمْ ناصركم. وَ لَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ و لن يضيع أعمالكم، من وترت الرجل إذا قتلت متعلقا به من قريب أو حميم فأفردته منه من الوتر، شبه به تعطيل ثواب العمل و إفراده منه.
[سورة محمد (47): الآيات 36 الى 37]
إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ لا ثبات لها. وَ إِنْ تُؤْمِنُوا وَ تَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ ثواب إيمانكم و تقواكم. وَ لا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ جميع أموالكم بل يقتصر على جزء يسير كربع العشر و العشر.
إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ فيجهدكم بطلب الكل و الإحفاء و الإلحاف المبالغة و بلوغ الغاية يقال: أحفى شاربه إذ استأصله. تَبْخَلُوا فلا تعطوا. وَ يُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ و يضغنكم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و الضمير في يخرج للّه تعالى، و يؤيده القراءة بالنون أو البخل لأنه سبب الإضغان، و قرئ «و تخرج» بالتاء و الياء و رفع «أضغانكم».
[سورة محمد (47): آية 38]
ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ أي أنتم يا مخاطبون هؤلاء الموصوفون و قوله: تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ استئناف مقرر لذلك، أو صلة ل هؤُلاءِ على أنه بمعنى الذين و هو يعم نفقة الغزو و الزكاة و غيرهما.
فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ ناس يبخلون و هو كالدليل على الآية المتقدمة. وَ مَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ فإن نفع الإنفاق و ضر البخل عائدان إليه، و البخل يعدى بعن و على لتضمنه معنى الإمساك و التعدي فإنه إمساك عن مستحق. وَ اللَّهُ الْغَنِيُّ وَ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ فما يأمركم به فهو لاحتياجكم إليه فإن امتثلتم فلكم و إن توليتم فعليكم.
وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا عطف على إِنْ تُؤْمِنُوا . يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ يقم مقامكم قوما آخرين. ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ في التولي و الزهد في الإيمان، و هم الفرس
لأنه سئل عليه الصلاة و السلام عنه و كان سلمان إلى جنبه فضرب فخذه و قال: «هذا و قومه»: أو الأنصار أو اليمن أو الملائكة.