کتابخانه تفاسیر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 123
وَ يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ أي هلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ في أمر الجهاد. فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ مبينة لا تشابه فيها. وَ ذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ أي الأمر به. رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ضعف في الدين و قيل نفاق. يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ جبنا و مخافة. فَأَوْلى لَهُمْ فويل لَهُمْ ، أفعل من الولي و هو القرب، أو فعلى من آل و معناه الدعاء عليهم بأن يليهم المكروه أو يؤول إليه أمرهم.
طاعَةٌ وَ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ استئناف أي أمرهم طاعَةٌ أو طاعَةٌ وَ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ خير لهم، أو حكاية قولهم لقراءة أبيّ «يقولون طاعة». فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ أي جد و هو لأصحاب الأمر، و إسناده إليه مجاز و عامل الظرف محذوف، و قيل فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ أي فيما زعموا من الحرص على الجهاد أو الإيمان. لَكانَ الصدق. خَيْراً لَهُمْ فَهَلْ عَسَيْتُمْ فهل يتوقع منكم. إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أمور الناس و تأمرتم عليهم، أو أعرضتم و توليتم عن الإسلام. أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَ تُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ تناحرا على الولاية و تجاذبا لها، أو رجوعا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية من التغاور و مقاتلة الأقارب، و المعنى أنهم لضعفهم في الدين و حرصهم على الدنيا أحقاء بأن يتوقع ذلك منهم من عرف حالهم و يقول لهم: هل عسيتم، و هذا على لغة الحجاز فإن بني تميم لا يلحقون الضمير به و خبره أَنْ تُفْسِدُوا و إِنْ تَوَلَّيْتُمْ اعتراض، و عن يعقوب تَوَلَّيْتُمْ أي إن تولاكم ظلمة خرجتم معهم و ساعدتموهم في الإفساد و قطيعة الرحم وَ تُقَطِّعُوا من القطع، و قرئ تقطعوا من التقطع.
أُولئِكَ إشارة إلى المذكورين. الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ لإفسادهم و قطعهم الأرحام. فَأَصَمَّهُمْ عن استماع الحق. وَ أَعْمى أَبْصارَهُمْ فلا يهتدون سبيله.
أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ يتصفحونه و ما فيه من المواعظ و الزواجر حتى لا يجسروا على المعاصي. أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها لا يصل إليها ذكر و لا ينكشف لها أمر، و قيل أَمْ منقطعة و معنى الهمزة فيها التقرير، و تنكير القلوب لأن المراد قلوب بعض منهم أو للإشعار بأنها لإبهام أمرها في القساوة، أو لفرط جهالتها و نكرها كأنها مبهمة منكورة و إضافة الأقفال إليها للدلالة على أقفال مناسبة لها مختصة بها لا تجانس الأقفال المعهودة. و قرئ «إقفالها» على المصدر.
[سورة محمد (47): الآيات 25 الى 26]
إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ أي إلى ما كانوا عليه من الكفر. مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى بالدلائل الواضحة و المعجزات الظاهرة. الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ سهل لهم اقتراف الكبائر من السول و هو الاسترخاء.
و قيل حملهم على الشهوات من السول و هو التمني، و فيه أن السول مهموز قلبت همزته واوا لضم ما قبلها و لا كذلك التسويل، و يمكن رده بقولهم هما يتساولان و قرئ «سول» على تقدير مضاف أي كيد الشيطان سَوَّلَ لَهُمْ . وَ أَمْلى لَهُمْ و مد لهم في الآمال و الأماني، أو أمهلهم اللّه تعالى و لم يعاجلهم بالعقوبة لقراءة يعقوب وَ أَمْلى لَهُمْ ، أي و أنا أملي لهم فتكون الواو للحال أو الاستئناف، و قرأ أبو عمرو وَ أَمْلى لَهُمْ على البناء للمفعول و هو ضمير الشَّيْطانُ أو لَهُمُ .
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ أي قال اليهود للذين كفروا بالنبي عليه الصلاة و السلام بعد ما تبين لهم نعته للمنافقين، أو المنافقون لهم أو أحد الفريقين للمشركين. سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ في بعض أموركم أو في بعض ما تأمرون به كالقعود عن الجهاد و الموافقة في الخروج معهم إن أخرجوا، و التظافر على الرسول صلّى اللّه عليه و سلم. وَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ و منها قولهم هذا الذي أفشاه اللّه عليهم، و قرأ حمزة و الكسائي و حفص إِسْرارَهُمْ على المصدر.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 124
[سورة محمد (47): الآيات 27 الى 29]
فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ فكيف يعملون و يحتالون حينئذ، و قرئ «توفاهم» و هو يحتمل الماضي و المضارع المحذوف إحدى تاءيه. يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَ أَدْبارَهُمْ تصوير لتوفيهم بما يخافون منه و يجبنون عن القتال له.
ذلِكَ إشارة إلى التوفي الموصوف. بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ من الكفر ككتمان نعت الرسول عليه الصلاة و السلام و عصيان الأمر. وَ كَرِهُوا رِضْوانَهُ ما يرضاه من الإيمان و الجهاد و غيرهما من الطاعات.
فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ لذلك.
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أن لن يبرز اللّه لرسوله صلّى اللّه عليه و سلم و المؤمنين.
أَضْغانَهُمْ أحقادهم.
[سورة محمد (47): الآيات 30 الى 31]
وَ لَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ لعرفناكهم بدلائل تعرفهم بأعيانهم. فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ بعلاماتهم التي نسمهم بها، و اللام لام الجواب كررت في المعطوف. وَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ جواب قسم محذوف و لَحْنِ الْقَوْلِ أسلوبه، أو إمالته إلى جهة تعريض و تورية، و منه قيل للمخطئ لاحن لأنه يعدل بالكلام عن الصواب. وَ اللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ فيجازيكم على حسب قصدكم إذ الأعمال بالنيات.
وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ بالأمر بالجهاد و سائر التكاليف الشاقة. حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَ الصَّابِرِينَ على مشاقه. وَ نَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ ما يخبر به عن أعمالكم فيظهر حسنها و قبحها، أو أخبارهم عن إيمانهم و موالاتهم المؤمنين في صدقها و كذبها. و قرأ أبو بكر الأفعال الثلاثة بالياء لتوافق ما قبلها، و عن يعقوب وَ نَبْلُوَا بسكون الواو على تقدير و نحن نبلو.
[سورة محمد (47): الآيات 32 الى 33]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ شَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى هم قريظة و النضير أو المطعمون يوم بدر. لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً بكفرهم و صدهم، أو لن يضروا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم بمشاقته و حذف المضاف لتعظيمه و تفظيع مشاقته. وَ سَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ ثواب حسنات أعمالهم بذلك، أو مكايدهم التي نصبوها في مشاقته فلا يصلون بها إلى مقاصدهم و لا تثمر لهم إلا القتل و الجلاء عن أوطانهم.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ لا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ بما أبطل به هؤلاء كالكفر و النفاق و العجب و الرياء و المن و الأذى و نحوها، و ليس فيه دليل على إحباط الطاعات بالكبائر.
[سورة محمد (47): الآيات 34 الى 35]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 125
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ عام في كل من مات على كفره و إن صح نزوله في أصحاب القليب، و يدل بمفهومه على أنه قد يغفر لمن لم يمت على كفره سائر ذنوبه.
فَلا تَهِنُوا فلا تضعفوا. وَ تَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ و لا تدعوا إلى الصلح خورا و تذللا، و يجوز نصبه بإضمار إن و قرئ «و لا تدعوا» من ادعى بمعنى دعا، و قرئ أبو بكر و حمزة بكسر السين. وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ الأغلبون. وَ اللَّهُ مَعَكُمْ ناصركم. وَ لَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ و لن يضيع أعمالكم، من وترت الرجل إذا قتلت متعلقا به من قريب أو حميم فأفردته منه من الوتر، شبه به تعطيل ثواب العمل و إفراده منه.
[سورة محمد (47): الآيات 36 الى 37]
إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ لا ثبات لها. وَ إِنْ تُؤْمِنُوا وَ تَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ ثواب إيمانكم و تقواكم. وَ لا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ جميع أموالكم بل يقتصر على جزء يسير كربع العشر و العشر.
إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ فيجهدكم بطلب الكل و الإحفاء و الإلحاف المبالغة و بلوغ الغاية يقال: أحفى شاربه إذ استأصله. تَبْخَلُوا فلا تعطوا. وَ يُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ و يضغنكم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و الضمير في يخرج للّه تعالى، و يؤيده القراءة بالنون أو البخل لأنه سبب الإضغان، و قرئ «و تخرج» بالتاء و الياء و رفع «أضغانكم».
[سورة محمد (47): آية 38]
ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ أي أنتم يا مخاطبون هؤلاء الموصوفون و قوله: تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ استئناف مقرر لذلك، أو صلة ل هؤُلاءِ على أنه بمعنى الذين و هو يعم نفقة الغزو و الزكاة و غيرهما.
فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ ناس يبخلون و هو كالدليل على الآية المتقدمة. وَ مَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ فإن نفع الإنفاق و ضر البخل عائدان إليه، و البخل يعدى بعن و على لتضمنه معنى الإمساك و التعدي فإنه إمساك عن مستحق. وَ اللَّهُ الْغَنِيُّ وَ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ فما يأمركم به فهو لاحتياجكم إليه فإن امتثلتم فلكم و إن توليتم فعليكم.
وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا عطف على إِنْ تُؤْمِنُوا . يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ يقم مقامكم قوما آخرين. ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ في التولي و الزهد في الإيمان، و هم الفرس
لأنه سئل عليه الصلاة و السلام عنه و كان سلمان إلى جنبه فضرب فخذه و قال: «هذا و قومه»: أو الأنصار أو اليمن أو الملائكة.
عن النبي صلّى اللّه عليه و سلم «من قرأ سورة محمد كان حقا على اللّه أن يسقيه من أنهار الجنة».
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 126
(48) سورة الفتح
مدنية نزلت في مرجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم من الحديبية و آيها تسع و عشرون
[سورة الفتح (48): آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1)
إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً وعد بفتح مكة، و التعبير عنه بالماضي لتحققه أو بما اتفق له في تلك السنة كفتح خيبر و فدك، أو إخبار عن صلح الحديبية و إنما سماه فتحا لأنه كان بعد ظهوره على المشركين حتى سألوا الصلح و تسبب لفتح مكة، و فرغ به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم لسائر العرب فغزاهم و فتح مواضع و أدخل في الإسلام خلقا عظيما، و ظهر له في الحديبية آية عظيمة و هي أنه نزح ماؤها بالكلية فتمضمض ثم مجه فيها فدرت بالماء حتى شرب جميع من كان معه، أو فتح الروم فإنهم غلبوا الفرس في تلك السنة. و قد عرفت كونه فتحا للرسول عليه الصلاة و السلام في سورة «الروم». و قيل الفتح بمعنى القضاء أي قضينا لك أن تدخل مكة من قابل.
[سورة الفتح (48): الآيات 2 الى 3]
لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ علة للفتح من حيث إنه مسبب عن جهاد الكفار و السعي في إزاحة الشرك و إعلاء الدين و تكميل النفوس الناقصة قهرا ليصير ذلك بالتدريج اختيارا، و تخليص الضعفة عن أيدي الظلمة. ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ جميع ما فرط منك مما يصح أن تعاتب عليه. وَ يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ بإعلاء الدين و ضم الملك إلى النبوة. وَ يَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً في تبليغ الرسالة و إقامة مراسم الرئاسة.
وَ يَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً نصرا فيه عز و منعة، أو يعز به المنصور فوصف بوصفه مبالغة.
[سورة الفتح (48): آية 4]
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ الثبات و الطمأنينة. فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ حتى ثبتوا حيث تقلق النفوس و تدحض الأقدام. لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ يقينا مع يقينهم برسوخ العقيدة و اطمئنان النفس عليها، أو أنزل فيها السكون إلى ما جاء به الرسول صلّى اللّه عليه و سلم ليزدادوا إيمانا بالشرائع مع إيمانهم باللّه و اليوم الآخر. وَ لِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يدبر أمرها فيسلط بعضها على بعض تارة و يوقع فيما بينهم السلم أخرى كما تقتضيه حكمته. وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً بالمصالح. حَكِيماً فيما يقدر و يدبر.
[سورة الفتح (48): الآيات 5 الى 7]
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 127
لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها علة بما بعده لما دل عليه قوله:
وَ لِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ من معنى التدبير، أي دبر ما دبر من تسليط المؤمنين ليعرفوا نعمة اللّه فيه و يشكروها فيدخلهم الجنة و يعذب الكفار و المنافقين لما غاظهم من ذلك، أو فَتَحْنا أو أَنْزَلَ أو جميع ما ذكر أو لِيَزْدادُوا ، و قيل إنه بدل منه بدل الاشتمال. وَ يُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ يغطيها و لا يظهرها. وَ كانَ ذلِكَ أي الإدخال و التكفير. عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً لأنه منتهى ما يطلب من جلب نفع أو دفع ضر، و عند حال من الفوز.
وَ يُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَ الْمُنافِقاتِ وَ الْمُشْرِكِينَ وَ الْمُشْرِكاتِ عطف على «يدخل» إلا إذا جعلته بدلا فيكون عطفا على المبدل منه. الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ ظن الأمر السوء و هو أن لا ينصر رسوله و المؤمنين.
عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ دائرة ما يظنونه و يتربصونه بالمؤمنين لا يتخطاهم، و قرأ ابن كثير و أبو عمرو دائِرَةُ السَّوْءِ بالضم و هما لغتان، غير أن المفتوح غلب في أن يضاف إليه ما يراد ذمه و المضموم جرى مجرى الشر و كلاهما في الأصل مصدر وَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ لَعَنَهُمْ وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ عطف لما استحقوه في الآخرة على ما استوجبوه في الدنيا، و الواو في الأخيرين و الموضع موضع الفاء إذ اللعن سبب للإعداد، و الغضب سبب له لاستقلال الكل في الوعيد بلا اعتبار السببية. وَ ساءَتْ مَصِيراً جهنم. وَ لِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً .
[سورة الفتح (48): الآيات 8 الى 9]
إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً على أمتك. وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً على الطاعة و المعصية.
لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ الخطاب للنبي صلّى اللّه عليه و سلم و الأمة، أو لهم على أن خطابه منزل منزلة خطابهم.
وَ تُعَزِّرُوهُ و تقووه بتقوية دينه و رسوله وَ تُوَقِّرُوهُ و تعظموه. وَ تُسَبِّحُوهُ و تنزهوه أو تصلوا له. بُكْرَةً وَ أَصِيلًا غدوة و عشيا أو دائما. و قرأ ابن كثير و أبو عمرو الأفعال الأربعة بالياء، و قرئ «تعزروه» بسكون العين و «تعزروه» بفتح التاء و ضم الزاي و كسرها و «تعززوه» بالزاءين «و توقروه» من أوقره بمعنى وقره.
[سورة الفتح (48): آية 10]
إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ لأنه المقصود ببيعته. يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ حال أو استئناف مؤكد له على سبيل التخييل. فَمَنْ نَكَثَ نقض العهد. فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ فلا يعود ضرر نكثه إلا عليه. وَ مَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ في مبايعته فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً هو الجنة، و قرئ «عهد» و قرأ حفص عَلَيْهُ بضم الهاء و ابن كثير و نافع و ابن عامر و روح فسنؤتيه بالنون. و الآية نزلت في بيعة الرضوان.
[سورة الفتح (48): آية 11]
سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ هم أسلم و جهينة و مزينة و غفار استنفرهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم عام
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 128
الحديبية فتخلفوا و اعتلوا بالشغل بأموالهم و أهاليهم، و إنما خلفهم الخذلان و ضعف العقيدة و الخوف من مقاتلة قريش إن صدوهم. شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَ أَهْلُونا إذ لم يكن لنا من يقوم بأشغالهم، و قرئ بالتشديد للتكثير.
فَاسْتَغْفِرْ لَنا من اللّه على التخلف. يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ تكذيب لهم في الاعتذار و الاستغفار. قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً فمن يمنعكم من مشيئته و قضائه. إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا ما يضركم كقتل أو هزيمة أو خلل في المال و الأهل عقوبة على التخلف، و قرأ حمزة و الكسائي بالضم. أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً ما يضاد ذلك، و هو تعريض بالرد. بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً فيعلم تخلفكم و قصدكم فيه.
[سورة الفتح (48): آية 12]
بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَ الْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً لظنكم أن المشركين يستأصلونهم، و أهلون جمع أهل و قد يجمع على أهلات كأرضات على أن أصله أهلة و أما أهال فاسم جمع كليال. وَ زُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ فتمكن فيها، و قرئ على البناء للفاعل و هو اللّه أو الشيطان. وَ ظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ الظن المذكور، و المراد التسجيل عليه ب السَّوْءِ أو هو و سائر ما يظنون باللّه و رسوله من الأمور الزائغة. وَ كُنْتُمْ قَوْماً بُوراً هالكين عند اللّه لفساد عقيدتكم و سوء نيتكم.
[سورة الفتح (48): الآيات 13 الى 14]
وَ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً وضع الكافرين موضع الضمير إيذانا بأن من لم يجمع بين الإيمان باللّه و رسوله فهو كافر و أنه مستوجب للسعير بكفره، و تنكير سعيرا للتهويل أو لأنها نار مخصوصة.
وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يدبره كيف يشاء. يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ إذ لا وجوب عليه. وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً فإن الغفران و الرحمة من ذاته و التعذيب داخل تحت قضائه بالعرض، و لذلك جاء
في الحديث الإلهي «سبقت رحمتي غضبي».
[سورة الفتح (48): آية 15]
سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ يعني المذكورين. إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها يعني مغانم خيبر فإنه عليه السلام رجع من الحديبية في ذي الحجة من سنة ست و أقام بالمدينة بقيتها و أوائل المحرم، ثم غزا خيبر بمن شهد الحديبية ففتحها و غنم أموالا كثيرة فخصها بهم. ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ أن يغيروه و هو وعده لأهل الحديبية أن يعوضهم من مغانم مكة مغانم خيبر، و قيل قوله: لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً و الظاهر أنه في تبوك. و الكلام اسم للتكليم غلب في الجملة المفيدة و قرأ حمزة و الكسائي «كلم اللّه» و هو جمع كلمة. قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا نفي في معنى النهي. كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ . من قبل تهيئهم للخروج إلى خيبر. فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا أن يشارككم في الغنائم، و قرئ بالكسر. بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ لا يفهمون. إِلَّا قَلِيلًا إلا فهما قليلا و هو فطنتهم لأمور الدنيا، و معنى الإضراب الأول رد منهم أن يكون
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 129
حكم اللّه أن لا يتبعوهم و إثبات للحسد، و الثاني رد من اللّه لذلك و إثبات لجهلهم بأمور الدين.
[سورة الفتح (48): الآيات 16 الى 17]
قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ كرر ذكرهم بهذا الاسم مبالغة في الذم و إشعارا بشناعة التخلف.
سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ بني حنيفة أو غيرهم ممن ارتدوا بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم، أو المشركين فإنه قال: تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ أي يكون أحد الأمرين إما المقاتلة أو الإسلام لا غير كما دل عليه قراءة «أو يسلموا»، و من عداهم يقاتل حتى يسلم أو يعطي الجزية. و هو يدل على إمامة أبي بكر رضي اللّه عنه إذا لم تتفق هذه الدعوة لغيره إلا إذا صح أنهم ثقيف و هوازن فإن ذلك كان في عهد النبوة. و قيل فارس و الروم و معنى يُسْلِمُونَ ينقادون ليتناول تقبلهم الجزية. فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً هو الغنيمة في الدنيا و الجنة في الآخرة. وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ عن الحديبية. يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً لتضاعف جرمكم.
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ لما أوعد على التخلف نفى الحرج عن هؤلاء المعذورين استثناء لهم عن الوعيد. وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فصل الوعد و أجمل الوعيد مبالغة في الوعد لسبق رحمته، ثم جبر ذلك بالتكرير على سبيل التعميم فقال: وَ مَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً إذ الترهيب ها هنا أنفع من الترغيب، و قرأ نافع و ابن عامر ندخله و نعذبه بالنون.
[سورة الفتح (48): الآيات 18 الى 19]
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ
روي: أنه صلّى اللّه عليه و سلم لما نزل الحديبية بعث جوّاس ابن أمية الخزاعي إلى أهل مكة، فهموا به فمنعه الأحابيش فرجع، فبعث عثمان بن عفان رضي اللّه عنه فحبسوه فأرجف بقتله، فدعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم أصحابه و كانوا ألفا و ثلاثمائة أو أربعمائة أو خمسمائة، و بايعهم على أن يقاتلوا قريشا و لا يفروا عنهم و كان جالسا تحت سمرة أو سدرة.
فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ من الإخلاص. فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ الطمأنينة و سكون النفس بالتشجيع أو الصلح. وَ أَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً فتح خيبر غب انصرافهم، و قيل مكة أو هجر.
وَ مَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها يعني مغانم خيبر. وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً غالبا مراعيا مقتضى الحكمة.
[سورة الفتح (48): الآيات 20 الى 21]