کتابخانه تفاسیر
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 132
وَ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً على أن ما وعده كائن أو على نبوته بإظهار المعجزات.
[سورة الفتح (48): آية 29]
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ جملة مبينة للمشهود به، و يجوز أن يكون رَسُولُ اللَّهِ صفة و مُحَمَّدٌ خبر محذوف أو مبتدأ: وَ الَّذِينَ مَعَهُ معطوف عليه و خبرهما. أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ و أَشِدَّاءُ جمع شديد و رُحَماءُ جمع رحيم، و المعنى أنهم يغلظون على من خالف دينهم و يتراحمون فيما بينهم كقوله: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ . تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً لأنهم مشتغلون بالصلاة في أكثر أوقاتهم. يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَ رِضْواناً الثواب و الرضا. سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ يريد السمة التي تحدث في جباههم من كثرة السجود، فعلى من سامه إذا أعلمه و قد قرئت ممدودة و مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ بيانها أو حال من المستكن في الجار. ذلِكَ إشارة إلى الوصف المذكور. أو إشارة مبهمة يفسرها كَزَرْعٍ . مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ صفتهم العجيبة الشأن المذكورة فيها. وَ مَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ عطف عليه أي ذلك مثلهم في الكتابين و قوله: كَزَرْعٍ تمثيل مستأنف أو تفسير أو مبتدأ و كَزَرْعٍ خبره.
أَخْرَجَ شَطْأَهُ فراخه يقال أشطأ الزرع إذا فرخ، و قرأ ابن كثير و ابن عامر برواية ابن ذكوان شَطْأَهُ بفتحات و هو لغة فيه، و قرئ «شطأه» بتخفيف الهمزة و «شطاءه» بالمد و «شطه» بنقل حركة الهمزة و حذفها و «شطوه» بقلبها واوا. فَآزَرَهُ فقواه من المؤازرة و هي المعاونة أو من الإيزار و هي الإعانة و قرأ ابن عامر برواية ابن ذكوان فَآزَرَهُ كأجره في آجره. فَاسْتَغْلَظَ فصار من الدقة إلى الغلط. فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ فاستقام على قصبه جمع ساق، و عن ابن كثير «سؤقه» بالهمزة. يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ بكثافته و قوته و غلظه و حسن منظره، و هو مثل ضربه اللّه تعالى للصحابة قلوا في بدء الإسلام ثم كثروا و استحكموا فترقى أمرهم بحيث أعجب الناس.
لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ علة لتشبيههم بالزرع في زكائه و استحكامه أو لقوله: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً فإن الكفار لما سمعوه غاظهم ذلك و منهم للبيان.
عن النبي صلّى اللّه عليه و سلم «من قرأ سورة الفتح فكأنما كان ممن شهد مع محمد عليه الصلاة و السلام فتح مكة».
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 133
(49) سورة الحجرات
مدينة و آيها ثماني عشرة آية
[سورة الحجرات (49): آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا أي لا تقدموا أمرا، فحذف المفعول ليذهب الوهم إلى كل ما يمكن، أو ترك لأن المقصود نفي التقديم رأسا أو لا تتقدموا و منه مقدمة الجيش لمتقدميهم، و يؤيده قراءة يعقوب لا تُقَدِّمُوا . و قرئ «لا تقدموا» من القدوم. بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ مستعار مما بين الجهتين المسامتتين ليدي الإنسان تهجينا لما نهوا عنه، و المعنى لا تقطعوا أمرا قبل أن يحكما به. و قيل المراد بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم و ذكر اللّه تعظيم له و إشعار بأنه من اللّه بمكان يوجب إجلاله. وَ اتَّقُوا اللَّهَ في التقديم أو مخالفة الحكم.
إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لأقوالكم. عَلِيمٌ بأفعالكم.
[سورة الحجرات (49): الآيات 2 الى 3]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ أي إذا كلمتموه فلا تجاوزوا أصواتكم عن صوته. وَ لا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ و لا تبلغوا به الجهر الدائر بينكم بل اجعلوا أصواتكم أخفض من صوته محاماة على الترحيب و مراعاة للأدب. و قيل معناه و لا تخاطبوه باسمه و كنيته كما يخاطب بعضكم بعضا و خاطبوه بالنبي و الرسول، و تكرير النداء لاستدعاء مزيد الاستبصار و المبالغة في الاتعاظ و الدلالة على استقلال المنادى له و زيادة الاهتمام به. أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ كراهة أن تحبط فيكون علة للنهي، أو لأن تحبط على أن النهي عن الفعل المعلل باعتبار التأدية لأن في الجهر و الرفع استخفافا قد يؤدي إلى الكفر المحبط، و ذلك إذ انضم إليه قصد الإهانة و عدم المبالاة. و
قد روي: أن ثابت بن قيس كان في أذنه وقر و كان جهوريا، فلما نزلت تخلف عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فتفقده و دعاه فقال: يا رسول اللّه لقد أنزلت إليك هذه الآية و إني رجل جهير الصوت فأخاف أن يكون عملي قد حبط، فقال عليه الصلاة و السلام: «لست هناك إنك تعيش بخير و تموت بخير و إنك من أهل الجنة».
وَ أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ أنها محبطة.
إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ يخفضونها. عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ مراعاة للأدب أو مخافة عن مخالفة النهي.
قيل كان أبو بكر و عمر بعد ذلك يسرانه حتى يستفهمهما. أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى جربها للتقوى و مرنها عليها، أو عرفها كائنة للتقوى خالصة لها، فإن الامتحان سبب المعرفة و اللام صلة محذوف أو للفعل باعتبار الأصل، أو ضرب اللّه قلوبهم بأنواع المحن و التكاليف الشاقة لأجل التقوى، فإنها لا تظهر إلا بالاصطبار عليها، أو أخلصها للتقوى من امتحن الذهب إذا أذابه و ميز إبريزه من خبثه. لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لذنوبهم. وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ لغضهم و سائر طاعاتهم، و التنكير للتعظيم و الجملة خبر ثان لإن، أو استئناف لبيان
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 134
ما هو جزاء الغاضبين إحمادا لحالهم كما أخبر عنهم بجملة مؤلفة من معرفتين، و المبتدأ اسم الإشارة المتضمن لما جعل عنوانا لهم، و الخبر الموصول بصلة دلت على بلوغهم أقصى الكمال مبالغة في الاعتداد بغضهم و الارتضاء له، و تعريضا بشناعة الرفع و الجهر و أن حال المرتكب لهما على خلاف ذلك.
[سورة الحجرات (49): الآيات 4 الى 5]
إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ من خارجها خلفها أو قدامها، و من ابتدائية فإن المناداة نشأت من جهة الوراء، و فائدتها الدلالة على أن المنادى داخل الحجرة إذ لا بد و أن يختلف المبتدأ و المنتهى بالجهة، و قرئ «الحجرات» بفتح الجيم، و سكونها و ثلاثتها جمع حجرة و هي القطعة من الأرض المحجورة بحائط، و لذلك يقال لحظيرة الإبل حجرة. و هي فعلة بمعنى مفعول كالغرفة و القبضة، و المراد حجرات نساء النبي عليه الصلاة و السلام و فيها كناية خلوته بالنساء و مناداتهم من ورائها إما بأنهم أتوها حجرة حجرة فنادوه من ورائها، أو بأنهم تفرقوا على الحجرات متطلبين له، فأسند فعل الأبعاض إلى الكل. و قيل إن الذي ناداه عيينة بن حصن و الأقرع بن حابس، و فدا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم في سبعين رجلا من بني تميم وقت الظهيرة و هو راقد فقالا يا محمد اخرج إلينا، و إنما أسند إلى جميعهم لأنهم رضوا بذلك أو أمروا به، أو لأنه وجد فيما بينهم.
أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ إذ العقل يقتضي حسن الأدب و مراعاة الحشمة سيما لمن كان بهذا المنصب.
وَ لَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ أي و لو ثبت صبرهم و انتظارهم حتى تخرج إليهم، فإن أن و إن دلت بما في حيزها على المصدر دلت بنفسها على الثبوت، و لذلك وجب إضمار الفعل و حتى تفيد أن الصبر ينبغي أن يكون مغيا بخروجه، فإن حتى مختصة بغاية الشيء في نفسه و لذلك تقول: أكلت السمكة حتى رأسها، و لا تقول حتى نصفها، بخلاف إلى فإنها عامة، و في إِلَيْهِمْ إشعار بأنه لو خرج لا لأجلهم ينبغي أن يصبروا حتى يفاتحهم بالكلام أو يتوجه إليهم. لَكانَ خَيْراً لَهُمْ لكان الصبر خيرا لهم من الاستعجال لما فيه من حفظ الأدب و تعظيم الرسول الموجبين للثناء و الثواب، و الإسعاف بالمسؤول إذ روي أنهم وفدوا شافعين في أساري بني العنبر فأطلق النصف و فادى النصف. وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ حيث اقتصر على النصح و التقريع لهؤلاء المسيئين الأدب التاركين تعظيم الرسول عليه الصلاة و السلام.
[سورة الحجرات (49): آية 6]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا فتعرفوا و تصفحوا،
روي أنه عليه الصلاة و السلام بعث الوليد بن عقبة مصدقا إلى بني المصطلق و كان بينه و بينهم إحنة، فلما سمعوا به استقبلوه فحسبهم مقاتليه فرجع و قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قد ارتدوا و منعوا الزكاة فهم بقتالهم فنزلت.
و قيل بعث إليهم خالد بن الوليد فوجدهم منادين بالصلاة متهجدين فسلموا إليه الصدقات فرجع، و تنكير الفاسق و النبأ للتعميم، و تعليق الأمر بالتبين على فسق المخبر يقتضي جواز قبول خبر العدل من حيث إن المعلق على شيء بكلمة إن عدم عند عدمه، و أن خبر الواحد لو وجب تبينه من حيث هو كذلك لما رتب على الفسق، إذ الترتيب يفيد التعليل و ما بالذات لا يعلل بالغير. و قرأ حمزة و الكسائي فتثبتوا أي فتوقفوا إلى أن يتبين لكم الحال. أَنْ تُصِيبُوا كراهة إصابتكم. قَوْماً بِجَهالَةٍ جاهلين بحالهم. فَتُصْبِحُوا فتصيروا. عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ مغتمين غما لازما متمنين أنه لم يقع، و تركيب هذه الأحرف الثلاثة دائر مع الدوام.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 135
[سورة الحجرات (49): الآيات 7 الى 8]
وَ اعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ أن بما في حيزه ساد مسد مفعولي اعلموا باعتبار ما قيد به من الحال و هو قوله: لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ فإنه حال من أحد ضميري فيكم، و لو جعل استئنافا لم يظهر للأمر فائدة. و المعنى أن فيكم رسول اللّه على حال يجب تغييرها و هي أنكم تريدون أن يتبع رأيكم في الحوادث، و لو فعل ذلك لَعَنِتُّمْ أي لوقعتم في الجهد من العنت، و فيه إشعار بأن بعضهم أشار إليه بالإيقاع ببني المصطلق و قوله: وَ لكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَ كَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَ الْفُسُوقَ وَ الْعِصْيانَ استدراك ببيان عذرهم، و هو أنه من فرط حبهم للإيمان و كراهتهم للكفر حملهم على ذلك لما سمعوا قول الوليد، أو بصفة من لم يفعل ذلك منهم إحمادا لفعلهم و تعريضا بذم من فعل و يؤيده قوله: أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ أي أولئك المستثنون هم الذين أصابوا الطريق السوي، وَ كَرَّهَ يتعدى بنفسه إلى مفعول واحد فإذا شدد زاد له آخر، لكنه لما تضمن معنى التبغيض نزل كره منزلة بغض فعدي إلى آخر بإلى، أو نزل إليكم منزلة مفعول آخر. و الْكُفْرَ : تغطية نعم اللّه بالجحود. وَ الْفُسُوقَ : الخروج عن القصد وَ الْعِصْيانَ :
الامتناع عن الانقياد.
فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَ نِعْمَةً تعليل ل كَرَّهَ أو حَبَّبَ ، و ما بينهما اعتراض لا ل الرَّاشِدُونَ فإن الفضل فعل اللّه، و الرشد و إن كان مسببا عن فعله مسند إلى ضميرهم أو مصدر لغير فعله فإن التحبيب و الرشد فضل من اللّه و إنعام. وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بأحوال المؤمنين و ما بينهم من التفاضل حَكِيمٌ حيث يفضل و ينعم بالتوفيق عليهم.
[سورة الحجرات (49): الآيات 9 الى 10]
وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا تقاتلوا و الجمع باعتبار المعنى فإن كل طائفة جمع. فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بالنصح و الدعاء إلى حكم اللّه تعالى. فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى تعدت عليها. فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ ترجع إلى حكمه أو ما أمر به، و إنما أطلق الفيء على الظل لرجوعه بعد نسخ الشمس، و الغنيمة لرجوعها من الكفار إلى المسلمين. فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ بفصل ما بينهما على ما حكم اللّه، و تقييد الإصلاح بالعدل ها هنا لأنه مظنة الحيف من حيث إنه بعد المقاتلة. وَ أَقْسِطُوا و اعدلوا في كل الأمور. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ يحمد فعلهم بحسن الجزاء. و الآية نزلت في قتال حدث بين الأوس و الخزرج في عهده عليه الصلاة و السلام بالسعف و النعال، و هي تدل على أن الباغي مؤمن و أنه إذا قبض عن الحرب ترك كما جاء في الحديث لأنه فيء إلى أمر اللّه تعالى، و أنه يجب معاونة من بغي عليه بعد تقديم النصح و السعي في المصالحة.
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ من حيث إنهم منتسبون إلى أصل واحد و هو الإيمان الموجب للحياة الأبدية، و هو تعليل و تقرير للأمر بالإصلاح و لذلك كرره مرتبا عليه بالفاء فقال: فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ و وضع الظاهر موضع الضمير مضافا إلى المأمورين للمبالغة في التقرير و التخصيص، و خص الإثنين بالذكر لأنهما أقل من يقع بينهم الشقاق. و قيل المراد بالأخوين الأوس و الخزرج. و قرئ «بين إخوتكم» و «إخوانكم». وَ اتَّقُوا
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 136
اللَّهَ في مخالفة حكمه و الإهمال فيه. لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ على تقواكم.
[سورة الحجرات (49): الآيات 11 الى 12]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَ لا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَ أي لا يسخر بعض المؤمنين و المؤمنات من بعض إذ قد يكون المسخور منه خيرا عند اللّه من الساخر، و القوم مختص بالرجال لأنه إما مصدر نعت به فشاع في الجمع أو جمع لقائم كزائر و زور، و القيام بالأمور وظيفة الرجال كما قال تعالى: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ و حيث فسر بالقبيلين كقوم عاد و فرعون، فإما على التغليب أو الاكتفاء بذكر الرجال على ذكرهن لأنهن توابع، و اختيار الجمع لأن السخرية تغلب في المجامع و عَسى باسمها استئناف بالعلة الموجبة للنهي و لا خبر لها لإغناء الإسم عنه. و قرئ «عسوا أن يكونوا» و «عسين أن يكن» فهي على هذا ذات خبر. وَ لا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ أي و لا يغتب بعضكم بعضا فإن المؤمنين كنفس واحدة، أو لا تفعلوا ما تلمزون به فإن من فعل ما يستحق به اللمز فقد لمز نفسه. و اللمز الطعن باللسان. و قرأ يعقوب بالضم. وَ لا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ و لا يدع بعضكم بعضا بلقب السوء، فإن النبز مختص بلقب السوء عرفا. بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ أي بئس الذكر المرتفع للمؤمنين أن يذكروا بالفسوق بعد دخولهم الإيمان و اشتهارهم به، و المراد به إما تهجين نسبة الكفر و الفسق إلى المؤمنين خصوصا إذ
روي أن الآية نزلت في صفية بنت حيي رضي اللّه عنها، أتت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم فقالت: إن النساء يقلن لي يا يهودية بنت يهوديين، فقال لها «هلا قلت إن أبي هارون و عمي موسى و زوجي محمد عليهم السلام».
أو الدلالة على أن التنابز فسق و الجمع بينه و بين الإيمان مستقبح. وَ مَنْ لَمْ يَتُبْ عما نهي عنه. فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ بوضع العصيان موضع الطاعة و تعريض النفس للعذاب.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِ كونوا منه على جانب، و إبهام الكثير ليحتاط في كل ظن و يتأمل حتى يعلم أنه من أي القبيل، فإن من الظن ما يجب اتباعه كالظن حيث لا قاطع فيه من العمليات و حسن الظن باللّه سبحانه و تعالى، و ما يحرم كالظن في الإلهيات و النبوات و حيث يخالفه قاطع و ظن السوء بالمؤمنين، و ما يباح كالظن في الأمور المعاشية. إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ مستأنف للأمر، و الإثم الذنب الذي يستحق العقوبة عليه. و الهمزة فيه بدل من الواو كأنه يثم الأعمال أي يكسرها. وَ لا تَجَسَّسُوا و لا تبحثوا عن عورات المسلمين، تفعل من الجس باعتبار ما فيه من معنى الطلب كالتلمس، و قرئ بالحاء من الحس الذي هو أثر الجس و غايته و لذلك قيل للحواس الخمس الجواس. و
في الحديث «لا تتبعوا عورات المسلمين، فإن من تتبع عوراتهم تتبع اللّه عورته حتى يفضحه و لو في جوف بيته».
وَ لا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً و لا يذكر بعضكم بعضا بالسوء في غيبته. و
سئل عليه الصلاة و السلام عن الغيبة فقال: «أن تذكر أخاك بما يكرهه، فإن كان فيه فقد اغتبته، و إن لم يكن فيه فقد بهته».
أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً تمثيل لما يناله المغتاب من عرض المغتاب على أفحش وجه مع مبالغات الاستفهام المقرر، و إسناد الفعل إلى أحد للتعميم و تعليق المحبة بما هو في غاية الكراهة، و تمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان و جعل المأكول أخا و ميتا و تعقيب ذلك بقوله: فَكَرِهْتُمُوهُ تقريرا و تحقيقا لذلك. و المعنى إن صح ذلك أو عرض عليكم هذا فقد كرهتموه و لا يمكنكم إنكار كراهته، و انتصاب مَيْتاً على الحال من اللحم أو الأخ و شدده نافع. وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ لمن اتقى ما نهي عنه و تاب مما فرط منه، و المبالغة في ال تَوَّابٌ لأنه بليغ في قبول التوبة إذ
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 137
يجعل صاحبها كمن لم يذنب، أو لكثرة المتوب عليهم أو لكثرة ذنوبهم،
روي: أن رجلين من الصحابة بعثا سلمان إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم يبغي لهما إداما، و كان أسامة على طعامه فقال: ما عندي شيء فأخبرهما سلمان فقالا: لو بعثناه إلى بئر سميحة لغار ماؤها، فلما راحا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم قال لهما: «ما لي أرى حضرة اللحم في أفواهكما»، فقالا: ما تناولنا لحما، فقال: «إنكما قد اغتبتما» فنزلت.
[سورة الحجرات (49): آية 13]
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى من آدم و حواء عليهما السلام، أو خلقنا كل واحد منكم من أب و أم فالكل سواء في ذلك فلا وجه للتفاخر بالنسب. و يجوز أن يكون تقريرا للأخوة المانعة عن الاغتياب.
وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ الشعب الجمع العظيم المنتسبون إلى أصل واحد و هو يجمع القبائل. و القبيلة تجمع العمائر. و العمارة تجمع البطون. و البطن تجمع الأفخاذ. و الفخذ يجمع الفضائل، فخزيمة شعب، و كنانة قبيلة، و قريش عمارة، و قصي بطن، و هاشم فخذ، و عباس فصيلة. و قيل الشعوب بطون العجم و القبائل بطون العرب. لِتَعارَفُوا ليعرف بعضكم بعضا لا للتفاخر بالآباء و القبائل. و قرئ «لتعارفوا» بالإدغام و «لتتعارفوا» و «لتعرفوا». إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ فإن التقوى بها تكمل النفوس و تتفاضل بها الأشخاص، فمن أراد شرفا فليلتمسه منها كما
قال عليه الصلاة و السلام «من سره أن يكون أكرم الناس فليتق اللّه»
و
قال عليه السلام «يا أيها الناس إنما الناس رجلان مؤمن تقي كريم على اللّه، و فاجر شقي هين على اللّه».
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بكم خَبِيرٌ ببواطنكم.
[سورة الحجرات (49): آية 14]
قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا نزلت في نفر من بني أسد قدموا المدينة في سنة جدبة و أظهروا الشهادتين، و كانوا يقولون لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلم أتيناك بالأثقال و العيال، و لم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان يريدون الصدقة و يمنون. قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا إذ الإيمان تصديق مع ثقة و طمأنينة قلب، و لم يحصل لكم و إلا لما مننتم على الرسول عليه الصلاة و السلام بالإسلام و ترك المقاتلة كما دل عليه آخر السورة. وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا فإن الإسلام انقياد و دخول في السلم و إظهار الشهادتين و ترك المحاربة، يشعر به و كان نظم الكلام أن يقول لا تقولوا آمنا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا ، أو لم تؤمنوا و لكن أسلمتم فعدل منه إلى هذا النظم احترازا من النهي عن القول بالإيمان و الجزم بإسلامهم، و قد فقد شرط اعتباره شرعا. وَ لَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ توقيت ل قُولُوا فإنه حال من ضميره أي: وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا و لم تواطئ قلوبكم ألسنتكم بعد. وَ إِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ بالإخلاص و ترك النفاق. لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ لا ينقصكم من أجورها. شَيْئاً من لات يليت ليتا إذا نقص، و قرأ البصريان «لا يألتكم» من الألت و هو لغة غطفان. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لما فرط من المطيعين.
رَحِيمٌ بالتفضل عليهم.
[سورة الحجرات (49): الآيات 15 الى 16]
.
أنوار التنزيل و أسرار التأويل، ج5، ص: 138
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا لم يشكوا من ارتاب مطاوع رابه إذا أوقعه في الشك مع التهمة، و فيه إشارة إلى ما أوجب نفي الإيمان عنهم، و ثُمَ للإشعار بأن اشتراط عدم الارتياب في اعتبار الإيمان ليس حال الإيمان فقط بل فيه و فيما يستقبل فهي كما في قوله: ثُمَّ اسْتَقامُوا* . وَ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ في طاعته و المجاهدة بالأموال و الأنفس تصلح للعبادات المالية و البدنية بأسرها. أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ الذين صدقوا في ادعاء الإيمان.
قُلْ أَ تُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ أ تخبرونه به بقولكم آمَنَّا . وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ لا يخفى عليه خافية، و هو تجهيل لهم و توبيخ.
روي أنه لما نزلت الآية المتقدمة جاءوا و حلفوا أنهم مؤمنون معتقدون فنزلت هذه الآية.
[سورة الحجرات (49): الآيات 17 الى 18]
يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا يعدون إسلامهم عليك منة و هي النعمة التي لا يستثيب موليها ممن بذلها إليه، من المن بمعنى القطع لأن المقصود بها قطع حاجته. و قيل النعمة الثقيلة من المن. قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ أي بإسلامكم، فنصب بنزع الخافض أو تضمين الفعل معنى الاعتدال. بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ على ما زعمتم مع أن الهداية لا تستلزم الاهتداء، و قرئ «إن هداكم» بالكسر و «إذ هداكم».
إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في ادعاء الإيمان، و جوابه محذوف يدل عليه ما قبله أي فللّه المنة عليكم، و في سياق الآية لطف و هو أنهم لما سموا ما صدر عنهم إيمانا و منوا به فنفى أنه إيمان و سماه إسلاما بأن قال يمنون عليكم بما هو في الحقيقة إسلام و ليس بجدير أن يمن به عليك، بل لو صح ادعاؤهم للإيمان فلله المنة عليهم بالهداية له لا لهم.
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ما غاب فيهما. وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ في سركم و علانيتكم فكيف يخفى عليه ما في ضمائركم، و قرأ ابن كثير بالياء لما في الآية من الغيبة.